كل المقالات بواسطة Mohammed Allam

ماذا فعلتُ يوم الأحد؟

كيم مونثو – إسبانيا *
ترجمة: رفعت عطفة


كان الأحد يوماً مشمساً وذهبت لأتنزّه مع أمّي وأبي، كانت أمي ترتدي فستاناً طحينيَّ اللون وسترةً صوفية عاجيّةَ اللون، وكان أبي يرتدي كنزة زرقاء وبنطلوناً رمادياً وقميصاً أبيض مفتوحاً. وأنا كنتُ أرتدي كنزةً عاليةَ القبّة، زرقاءَ مثل كنزة أبي، لكنّها أفتحُ، وسترة بنيّةً وبنطلوناً بنياً أفتح قليلاً من لون السترة وخفّاً أحمر. كانت أمّي تنتعلُ حذاءً فاتحَ اللون وأبي ينتعل حذاءً أسود. تنزهنا في الصباح وعند الحادية عشرة ذهبنا إلى بالمورال لنتناول إفطارنا. طلبنا إنسايمادا محشوة وخبزاً سويسرياً وأنا طلبتُ كرواسان. ذهبنا بعدها لنرى الأزهار، كان هناك أزهار حمراء وصفراء وبيضاء وزهرية، بل وزرقاء أيضاً، قال أبي إنّها مصبوغة، ونباتات خضراء وبنفسجية وعصافير كبيرة وصغيرة واشترى أبي الصحيفة من كشكٍ. أيضاً ذهبنا لنرى واجهات المحلات ومرّةً كان قد مضى أمضينا أمام إحداها فيها كنزات مدة طويلة، طلب أبي من أمّي أن تُسرع. بعدها جلسنا في ساحةٍ على مقعدٍ أخضرَ.

استمر في القراءة ماذا فعلتُ يوم الأحد؟

….هديةُ ليليت ….قصة: عصام حسن / سوريا

أسمعُ صوتَ دعساتٍ على الدَّرج.

إنّها ليليت.

أفتحُ الباب. فتغمرني موجةٌ من العطر، مع ابتسامة مشرقة كشمس الصباح.

– لقد أتيتِ، أقول، فاسحًا لها المجال كي تدخُل.

– أكان عندكَ شكّ في قدومي؟ تسألني، وهي تُعلّقُ جزدانَها على ظهر الكرسيّ القريب، ثم تقدّم إليّ كيسًا ورقيًّا سميكًا فيه عدّةُ ثقوب. أفتحُ الكيسَ بحذرٍ لأجدَ في داخله كومةً صغيرةً من الشّعر الأبيض، بعينين دائريتين، وذيلٍ صغير.

– ما هذا؟ قطّة؟!

– قُلْ مرحبًا لباستيت.   

– مرحبًا باستيت، قلتُ بطريقة آليّة.

– إنّها هديّتي لكَ.

استمر في القراءة ….هديةُ ليليت ….قصة: عصام حسن / سوريا

العين والزلزال…قصة: أحمد بوزفور

1- خرج من السينما في زحمة الخارجين، واشترى الجريدة الصباحية وطواها في يده دون أن يلقي عليها نظرة، وسار في الشارع المضيء وفي ذهنه تموج الصور العارية مختلطة بضجيج السيارات، وقال لنفسه: الليلة باردة، ونظر إلى ساعته فوجدها في منتصف الواحدة. ضاع ضجيج السيارات في الفضاء ،وبقي الشارع مقفرا وباردا وطويلا، لم يكن ينتظره أحد في غرفته ولذلك كان يسير على مهل، وسبابته تنفض عن السيجارة القصيرة رمادا لم يتكون بعد، وقال لنفسه: يجب أن أفكر في شراء معطف وقبل أن يصل إلى باب العمارة كان قد قلب ذهنه طرقا متعددة للحصول على معطف شتوي، فكر في التقتير وفكر في القرض، وسمح لنفسه بترف التفكير في السرقة، وحين كان يتخيل الواجهات الزجاجية المضاءة تحوطها أعين العسس، فكر في أنه قد يعثر فجأة على حقيبة نقود في الطريق، وسخر من نفسه وهو يمسح بعينيه زوايا الشارع.

استمر في القراءة العين والزلزال…قصة: أحمد بوزفور

محمد علام: نهايات صغيرة

محمد علام

الحصول على مقعد في قطار العاشرة صباحًا المتجه إلى العاصمة، يُعدُّ أعجوبة الأعاجيب، خاصة إذا ما كان قطارَ الدرجة المميزة، الذي تتدفق إليه الجلاليب الصعيدية في تدافع مع قمصان شباب المدن والبنطلونات الجينز، وتتداخل هذه الفوضى الأزيائية مع جونلات الفتيات الملفوفات في عباءات واسعة أو في خمارات وأحجبة بأربطة مختلفة، أما الفتيات الجبارات، اللواتي يقتحمن هذا العالم بشعورهن، يأخذن رُكنًا وحدهن، يكفي أن تصعد واحدة منهن القطار لتلمح شبيهاتها فتنضم إلى ركنهن، غالبا ما يكونا من طلبة الجامعات، وغالبًا ما يكون ركنهن حديث الشباب المتكدس وراء باب العربة، أو باب الحمام.

الحصول على مقعد في هذا الزحام منعدم التنسيق؛ يُعدُّ أعجوبة الأعاجيب، والأعاجيب لن تتركني طويلًا لأهنأ بالجلوس وحدي في مقعد، أمدد قدمي على المقعد الذي أمامي بكل أريحية، فالقطار حينما يبدأ سيره ينطلق من بلدتي، وأكون أول الركاب، لكن سرعان ما تتدافع الجموع من كل بلدة نمر بها، وما هي إلا دقائق حتى كان الناس يتوزعون في الممرات بين العربات وبين المقاعد ووراء المقاعد، وفوق المقاعد أيضًا، حيث كان اثنان ينامان فوقي على حاملة الحقائب.

يجلسُ أمامي شابان يبدو عليهما أنهما حديثي التجنيد، الرأس حليقة، الذقن ملتهبة، سمراوان بلسعة على الجبهة، يتحادثان في صوت منزعج عن أمور كثيرة لا أهتم لها.

في هاتفي أخبارٌ عديدة عن أصدقاء عرفتهم في أرض الواقع، وأصدقاء أكثر لم ألتقيهم من قبل، ولا أعرف شيئًا عنهم سوى ما يشاركونه علنًا. لا رسائل جديدة في صندوق رسائلي، آخر رسالة أرسلتُها كتبتُ فيها:

أنا الآن في الطريق، وقد تحرك القطار منذ قليل، وحسب قوانين المسافة والسرعة فإن أمامي ساعتين وأكون في المحطة.

الآن يرتمي رجلٌ بجواري، كأن فيلًا ألقى بجسده، فشعرت بهزة مضاعفة في المقاعد بالإضافة لاهتزاز القطار نفسه. روائحُ عديدة جاءة معه، تجشأ ثم مسح فمه بظهر يده، ويبدو أنه من الأفضل لي ألا أفكر فيما تكون هذه الروائح.. التفت إلي وسألني:  ماذا تفعل؟

سؤال وجيه في الحقيقة وهو يكشفُ عن مدى ضعف موقفي، فأنا لا أعرف ما أفعله الآن، كل ما أفعله أنني أستقبل أخبار أناس لا أنتظرها، وهذا شيء لن يقنع ذي الجلباب الصعيدي والشعر الباهت السواد، قلتُ له: لا شيء. وأغلقت هاتفي وانتبهت له. قطب حاجبيه، ثم أخرجَ عُلبة سجائره وامتدت يده لي بسيجارة، قلتُ له:

  • لا شكرًا.
  • لكنك تُدخن.

حسنًا كيف أشرحُ له أنني عاهدتُ فتاة أحبها على أنني سأقلع عن التدخين، إن الصعايدة لن يستوعبوا مثل هذه الأمور. قلت له أنني أحاول أن أتخلّص منها. لكن يده مازالت ممدودة بالسيجارة وهو يحدجني بنظرة، يبدو أنه انزعج، قال: لكنك غير جاد. أخذتها منه وأشعلتها، نفث دخانه بكثافة في سقف العربة ثم قال:

  • لي ابن في مثل سنك.. أنت في الجامعة أليس كذلك؟

لم أرد، دخان السيجارة يعتملُ في حلقي بصورة لا آدمية..

  • كان من المفترض على ولدي أن يكون في آخر سنة في الجامعة، لكنه لم يحترم نفسه، اشترى جيتارًا وأخذ يجوب الأفراح هنا وهناك..

هؤلاء الريفيون لديهم تصورات صارمة حول المهن التي يجب أن يشتغلها المرء..

  • يعتمدُ على ما شيدته من ثروة بشق الأنفس..

أود لو أسأله من أين أتيت بهذه السجائر القذرة؟ أخرجتُ هاتفي وأخذتُ أمرُّ سريعًا على صفحات الأصدقاء، وفجأة اختطفني خبرٌ من حديث الرجل تماما، لم أعد أسمعه، خبر وفاة شاب في منتصف العشرينيات، أشعر بقلبي يعمل كمطرقة بالكهرباء، صحيح أنني لم ألتقه من قبل، لكن كان بيننا حديث واحدٌ تقريبًا، فتحت رسائله لأحاول أن أتذكر آخر ما تراسلنا بشأنه، كان يطلب مني في آخر ما كتب لي أن أحادثه فور نزولي للعاصمة، كان ذلك منذ مدة طويلة، صحيح أنني زرتُ العاصمة أكثر من مرة، لكنني لم أحادثه أبدًا، لا أعرفُ لماذا، لكن أعتقد أنني لم أعد في حالة تسمح باكتساب صداقات جديدة..

إنني في الطريق إلى العاصمة الآن، ولم يكن في نيتي أن أحادثه أيضًا، إنه لم يكن في تفكيري بأي حال، لكنني أشعر بالعار الآن.. تُرى كيف يمكن للمرء أن يستقبلَ خبر وفاة شخص في عربة قطار؟ أين يمكنني أن أختبئ وأبكي؟ الجدران المعدنية تحاوطني من كل جانب، فجأة انتبهت للضجيج من حولي مما يعبر عن تزايد الزحام والفوضى، ولاحظتُ غياب صوت الرجل، وثِقلًا على كتفي، انتبهتُ فوجدته قد أراح رأسه على كتفي وراح في النعاس، الجنديان أمامي أيضًا نائمان وكل منهم يفتح فمه للشخير الطالع في تناغم، أنظر للرجل وهو ينام على كتفي كأنه ينام على مخدة في سريره، أود لو أصفعه بيدي على قفاه المخطط بتعاريج الجلد، هاتفي ينبهني لرسالة:

سأنتظرك على طريقة الأفلام القديمة التي تحبها،
على رصيف المحطة،
أحبك.

لم أستطع أن أكتب شيئًا، زاد الثقل على كتفي للغاية، وتضاعف الشخير المتصاعد إلى أذني، نظرتُ للرجل كان قد توقف شخيره وسال لعابه على قميصي، انتفضتُ وأنا أزعق فإذا به يسقط على المقعد الآخر دون أن يُحرك ساكنًا. أنظار ما يقرب من مئتي شخص تحدق نحو البؤرة التي أقفُ فيها، الهدوء الذي احتل المكان كان مخيفًا جدًا..

عندما وصل القطار إلى المحطة، كان الرجل قد لُفَّ وجهه في شال أبيض، يحمله بضعة ركاب ويهبطون به القطار متقدمين الجميع، هي واقفة وعيونها تلمحني وأنا أطأ الرصيفَ، الأرضُ تميد بي، ترفع يدها، وأشعر أن ما بيننا أبعد بكثير مما قطعه القطار..

كورت فونيغوت: دعينا نتمشى قليلاً إلى الأبد

كورت فونيغوت – أمريكا
ترجمة : عمرو محمود السيد

 

كبرا كجارين على حدود أحد المدن وبالقرب من الحقول والغابات والبساتين, وتحت عيون أجراس جميلة اعتلت برجاً لمدرسة للمكفوفين. هم الآن في العشرين من عمرهما ولم يريا بعضهما الآخر منذ عام تقريباً. كان دفء مريح لطيف يسود علاقتهما, لكن لم يكن بينهما كلام المحبين. 


كان اسمه نيوت.. وكان اسمها كاثرين. مع بداية الظهيرة, طرق نيوت على الباب الأمامي لبيت كاثرين. جاءت إلى الباب وهي تحمل مجلة براقة كثيرة الورق كانت تقرأ فيها. كانت المجلة موجهة بالكامل للعرائس. قالت وهي مندهشة لرؤيته: 
– “نيوت!” 
قال: 
– “هل يمكن أن نتمشى قليلاً ؟ 

استمر في القراءة كورت فونيغوت: دعينا نتمشى قليلاً إلى الأبد

خديجة يكن: سقف بيت دوشكو

خديجة يكن – المغرب
من مجموعة «أيام بوسنية» الفائزة بجائزة الطيب صالح

 

هذه الليلة هادئة، كل شئ فيها هادئ. ستار من ضباب شفاف انزاح، لتشع النجوم على الأرض، وتلمع الكواكب في الملكوت البعيد. فجأة, يختفي كل شئ.تذوي النجوم ,تأفل الكواكب، حتى المزارع والسواقي تختفي، وتسمع من بعيد ضحكات رنانة, مبتهجة, أحيانا ساخرة، تضحك في أرجاء السماء، في أرجاء العالم٠في وثبة سريعة منزعجة، ينهض دوشكو من فراشه، يتخبط باحثا عن المصباح على طرف السرير، أضاءه، ٱنسحبت عيناه إلى السقف، حفيف الرياح يرعش أغصان الشجرة المحاذية لنافذة غرفته، لن يستطيع الإغفاء مرة أخرى.

استمر في القراءة خديجة يكن: سقف بيت دوشكو

إرنستو ساباتو: حلم

إ0514-ernesto-sabatoرنستو ساباتو – الأرجنتين

ترجمة: عبد السلام عقيل

استيقظت فوجدتني أحاول الصراخ وأنا أقف وسط المرسم، رأيت في الحلم أنه كان يتعين عليَّ أن أذهب مع عدة أشخاص ، إلى منزل سيد كنا معه على موعد. عندما وصلت المنزل بدا لي من الخارج كأي منزل آخر، ولما دخلت، سرعان ما تأكدت أنه لم يكن كذلك ، بل يختلف عن سواه، بادرني صاحبه القول:– كنت أنتظركَ.خالجني شعور بأنني وقعت في مأزق، وأردتُ أن أهرب، بذلت جهداً هائلاً، لكن بعد فوات الأوان: أحسست أن جسدي لم يعد يطاوعني فاستسلمت لأشاهد ما سيحدث وكأن الأمر لا يعنيني، بدأ ذلك الرجل يمسخني طيراً، طيراً بحجم إنسان. ابتدأ برجلي: رأيت كيف كانت تستحيل شيئاً فشيئاً إلى قائمتي ديك أو ما شابه ذلك. ثم ثابر يمسخ جميع أجزاء جسمي صعوداً مثلما يرتفع الماء وهو يملأ صهريجاً. كان أملي الوحيد عندئذٍ معلقاً على أصدقائي الذين تأخروا في الوصول بلا مبرر. عندما دخلوا، حدث ما ملأني رعباً: لم يلاحظوا أني تحولت إلى طير وعاملوني كعهدي بهم، مما يدلّ على أنهم كانوا يروني كما كنت من قبل. فكرتُ في أن الساحر قد استولى على عقولهم، مما جعلهم يروني كإنسان عادي، لذا قررت أن أتطرق إلى ما فعله بي. ومع أن مبتغاي كان استرعاء الانتباه إلى الظاهرة العجيبة بكل هدوء، وتلافي تعقد الأمور وإثارة الساحر، وما قد ينجم عن ذلك من ردود فعل عنيفة (تجره إلى القيام بما هو أسوأ)، بدأت أروي ما حدث بصوت مرتفع. لكنني لاحظت أمرين عجيبين: فالجملة التي أردتُ أن ألفظها، تحولت عند خروجها من فمي إلى نعيق طائر أجش الصوت، نعيق يائس غريب، لعله كان كذلك بسبب انطوائه على عنصر إنساني، وما كان أسوأ من ذلك، أن أصدقائي لم يسمعوا ذلك النعيق، مثلما لم يروا من قبل جسمي وقد تحول إلى طائر كبير، بل كان الأمر عكس ذلك تماماً، إذ بدا لي أنهم يسمعون صوتي المألوف، أقول أشياء مألوفة، ولم تبدر منهم في أية لحظة أدنى بادرة استغراب، لذتُ بالصمت مذعوراً، ونظرت إلى صاحب المنزل وعيناه تلمعان ببريق ساخر خفي لم يلاحظه على أي حال سواي. وادركت عندئذ أن أحداً لن يتعرف البتة أني مسخت طيراً. كان يلفني ضياع أبدي، واحساس بأن ذلك السر سيرافقني إلى القبر.

 

وائل ضياء الدين: طنين العدم

وائل ضياء الدين – الجزائر

بعد نزولِ القهوة إلى المعدة، وصعودِ النيكوتين إلى الرأس، بدأ يومٌ آخر من الألم الذي يسبِّب لوليد، أحيانًا، طنينًا تحت الأذن، ومغصًا في المعدة. ربّما كان مرضَ القلب، أو أعراضَ سرطانٍ قاتل؛ هكذا كان يحدِّث نفسَه. لكنْ، مع تقدّم ساعات اليوم الطويلة، كان الألمُ يخفّ تدريجيًّا.

بعد السيجارة الثانية كان وليد يترك مكانَه في المقهى ويتّجه إلى عمله في مركز الموارد المائيّة. كان عملُه بسيطًا كأجره: أوراق معاملات إداريّة روتينيّة. ثماني ساعات من الانحناء فوق المكتب، يختفي فيها وجودُه. حضورُه أو غيابُه سيّان؛ لا أثرَ يتركه في الآخرين، باستثناء عاملة النظافة، التي كان يعينها بمبلغٍ زهيدٍ يضمن لها، ولأخيها الذي يعاني إعاقةً ذهنيّة، بعضَ البيض والخبز كي لا يموتا جوعًا. ولم تكن إعانةُ وليد لها سوى تمثّلٍ لفكرةٍ ماركسيّةٍ مبتورة، سبق أن قرأها عرضًا في إحدى المجلّات اليساريّة الصغيرة التي كانت ما تزال تَصْدر ردًّا على ظلم العالم وعبثه.

بعد انتهاء دوام العمل، كان يحلو لوليد التجوّلُ قليلًا في وسط المدينة، مارًّا بالأحياء الشعبيّة التي كانت توقظ فيه شعورًا بالانتماء الذي يفتقده في حياته. كان يحلم أنْ يشتري منزلًا في أحد هاته الأحياء، أنْ يتزوّج، وأن يكون له أولاد. ولكنّ هذه الأفكار لم تتعدَّ الأحلام، إذ كانت حياتُه تمضي من غير أنْ يبذل جهدًا كبيرًا؛ وكان ذلك يكفيه. وقد قرأ مرّةً لأحد الشعراء أنّ الحياة تصير متحمّلةً “عندما نحلم بالمستحيل،” أمّا هو فلم يحتملها إلّا حين يحلم بالممكن. وأحيانًا كان يتساءل: “ماذا يمكن أنْ أحقّق؟” أو “بمَ أرغب؟” وكانت أسئلتُه الوجوديّة تنحسر عن رأسه عند قدوم طنين الأذن مجدّدًا.

في هذا اليوم لم تخفَّ درجةُ الألم كثيرًا. كان يجلس في غرفته وحيدًا. أحيانًا، كان يُغمض عينيه ويتنفّس بعمق، علّ الألمَ يزول. كان الألم يختفي بضعَ لحظات، ثمّ يعود أقوى ممّا كان، كأنّما ليعوّضَ من اختفائه. حاول وليد الانغماسَ عبثًا في قراءة روايةٍ أهدتْه إيّاها جارتُه الطالبة الجامعيّة. جارتُه هذه نصحتُه أيضًا بالذهاب إلى الطبيب، لكنّه كان مقتنعًا أنّ ألمَه ليس بسبب مرضٍ عضويٍّ أو نفسيّ. والحقيقة أنّ هذا الألم لم يكن يزعجه كثيرًا في ذاته؛ ما يزعجه هو قدومُه المفاجئ وذهابُه المفاجئ. فعلى الرغم من أنّ حياة وليد لم تكن “مهمّة،” فقد كان كلُّ شيء لديه مضبوطًا زمنيًّا.

بعد أيّام، فقد وليد، لأوّل مرّةٍ في حياته، الإحساسَ بالزمن. فقد طرأتْ أسئلةٌ ملحّةٌ على ذهنه: هل ثمّة آخرون يحسّون بألمٍ مثلِ ألمي؟ وأين هم؟ وهل يمكن التواصلُ معهم؟ ناقش هذه الأسئلة في إحدى الليالي مع جارته الطالبة، إلّا أنّها لم تستطع أنْ تجيبَه. وربّما أحسّت بالانزعاج، إذ لاحظ سكوتَها المفاجئ وإجاباتِها المقتضبة على غير عادتها. في تلك الليلة، عندما بات وحده مع طنين أذنه الذي بلغ الذروةَ في صخبه، تمدّد على سريره، ووضع رأسَه تحت الوسادة شادًّا عليه بقوّة. حاول أنْ يَشْغلَ ذهنَه بأيّ فكرة. وفجأةً، حضرتْ له فكرةٌ شديدةُ الغرابة:

تخيّلَ العالمَ فارغًا من كلّ شيء، حتّى منه. وتخيّلَ وعيَه وألمَه عدمًا. كان حضورُ الفكرة قويًّا جدًّا إلى درجة توقّف الألم. حين توقّف وليد عن التفكير بهذه الفكرة، عاد الألمُ مجدّدًا. عندها، استحضر ذهنَه وذكاءه، وبدأ يفكّر في العدم مرّةً أخرى، فاختفى الألم.

في صباح اليوم التالي، كان وليد يجلس في مكانه المعتاد في المقهى يدخّن سيجارتَه وتظهر عليه علاماتُ الفخر والمرح. لاحظ ذلك أحدُ روّاد المقهى الفضوليين، فاقترب منه وسأله: “أنت مرحٌ على غير عادتك، ما السبب؟” نهض وليد، وأطفأ سيجارتَه، وأجاب: “نعم أنا مرح اليوم على غير العادة لأنّ خواء العالم لم يعد يسبِّب لي طنينًا في الأذن.”

وائل ضياء الدين*
كاتب من الجزائر. حائز شهادة الماجستير في اللغة العربيّة والدراسات القرآنيّة.

إيف تريولت: العملاق

إيف تريولت –
ترجمة: عبد الحميد الغرباوي

كان لزاما على “دُرمايون لو غران”، و هو رجل فارع الطول، قامته تتجاوز المترين و نصف المتر، أن يترك السهل حيث يقيم أمثاله، و يزور قرانا الجبلية حيث الرجال قصار القامة ، ليقف على حقيقة مفادها: إنه عملاق.
و توصله لهذه الحقيقة، أشعره طبعا بضيق و كدر ، فقد ترك مكان مولده، و لا يستطيع العودة إليه إلا بعد أن تهدأ النفوس، و يزول غضبها.
و لكن انظر إلى رجالنا! انظر إلى نسائنا؟
( و “درمايون”، لن يستطيع العيش طبعا بسهولة و يسر، دون زوجة، إذ بلغ سن الزواج و تكونت لديه عادات معينة..)
لكننا لا نملك من النساء سوى نسائنا المتلائمة مع قياساتنا. و مهما كنا كرماء خيرين، فإن طيبوبتنا يجب ألا تصل إلى حد الغباء…
و إليكم ما فاه به “فرنال”:
ـ بالنسبة إلي، أنا شديد التعاطف مع “دُرمايون”، لكننا لا نملك شيئا نفعله لأجله.
لم يكن يعني بـ (الشيء) العمل طبعا. إنها هبة و نعمة من الله أن تنال ماردا ذا ذراعين أطول و أقوى من أذرعنا مرتين. حقيقة ، نحن عمال مجدون، لكن قصرنا يعيقنا دون القيام بأعمالنا على أحسن وجه و في الوقت المناسب، نخطو ببطء، و نصل إلى مبتغانا بجهد جهيد، نذري كميات صغيرة من الحبوب، و تتضافر جهود اثنين منا لجز الصوف و أحيانا جهود ثلاثة إن كان المجزوز كبشا.
و إليكم هذه الواقعة:
يملك ” بارنو” كرما جبليا، معطاء. لكن المرض ألزم ” بارنو” الفراش في أحد مستشفيات المدينة، فانشغلنا بإزالة كتل الجليد الهائلة جراء انهيارين ثلجيين، و بأمطار طوفانية قاسية، جعلت الأوحال تتراكم فوق طرقاتنا، و تتلف نصف محصولنا من الغلال، و كل هذا من أجل القول إن كرم ” بارنو” يشمخ نحو الأعالي، متجاوزا الصخرة و مستقرا هناك بين السماء و الأرض، تنفيسا لنا و تخفيفا من عقدة قاماتنا القصيرة.
إذن، ما الذي فعله “درمايون” منذ اليوم الأول لمجيئه؟…
ذهب إلى الأعلى، حاملا سلما، و مد ذراعيه المديدتين، و قلّم، و قصّر، و شذّب الكرم، بحيث صار يبدو في أبهى زينته، و شموخه.
ـ يجب أن نعثر له على امرأة في طوله، (قال ” بريتون مورغان” ذات مساء)، فنحن مدينون له بهذا و بأكثر من هذا ألف مرة. ألا تعترفون أن حقولنا صارت معطاء أكثر، و أعمالنا تنجز بجودة و في وقت أسرع؟ فبينما يقوم ” درمايون” بكل الأعمال في الأعالي، نحن نجد المتسع من الوقت للقيام بأعمالنا في الأسفل على أحسن وجه…
كان هذا القول يحمل في طياته حكمة عميقة…
في هذا المساء، و في هذا النزل، و بعد نقاش طويل حول مائدة كبيرة، كما العادة كل مساء، منذ أن حل بيننا ” درمايون”، في هذا المساء، كما قلت لكم، كلفنا “مورغان” بأن يذهب صباح اليوم التالي، إلى السهل بحثا عن امرأة تناسب طول ” درمايون “، و يدفع مهرها المطلوب، و إن اقتضى الأمر دفعه غاليا، و ذلك كي يعود بالفتاة و تقيم بيننا.
ـ موافق..قال ” مورغان “…سوف أحضر كيسا مملوءا ذهبا، إذا اقتضى الأمر ذلك، و لن يقضي عملاقنا أمسياته، بعد الآن، منزويا وحيدا في مسكن خرب دون امرأة.
و في اليوم التالي، سرى الخبر بين البيوت كلها،… “مورغان ” يبحث عن أنثى ساقاها تتناسبان و ساقي ” درمايون “…
ما الدافع لكل هذه الابتسامات الغريبة ! ؟…
” آديل “، ” آديل ” الطيبة، التي ترفع ساقيها عند الحاجة و دون كلفة، قهقهت عاليا…
ـ أنتم حمقى..قالت …و مغفلون…سيروح ذهبكم هباء. فبينما كنتم،أنتم تتناقشون، طوال الأمسيات في النزل، لم يكن ضيفكم “درمايون” ينام البتة. كان يزور أسركم، و يثبت على الرغم من عملقته، أن الجماع المضبوط يتم في العري و دون جهد.
و الدليل على ما أقول، أن لدينا الآن، في قريتنا، منذ أن حل بيننا “درمايون”، أي منذ سنة و أكثر، أربعة من الأزواج التوائم الأقوياء، و ستة أطفال، على الأقل بسيقان طويلة، و دزينتان بل أكثر من النساء اللواتي ما عاد يرهبهن العمالقة ، و حتى الغيلان.

أحمد بوزفور : العين الزركَا

أحمد بوزفور – المغرب


ولكن ( نانا ) لم تكن جرة عسل فقط، كانت جرة حكايات أيضا، كنت أسمع من أعمامي الشيوخ حكاياتهم عن شبابهم ورجولتهم وصراعاتهم على الأرض مع الجيران القدامى، وبلائهم في حروب ” بوحمارة ” و ” عبد الملك ” ” وعبد الكريم “. كنت أنظر مبهورا إلى اللحية البيضاء وهي تهتز كشاشة، وأقرأ فوقها صور البطولة والشهامة والإباء، وأنا خلال ذلك أتسع وأكبر، والعالم يصغر ويتكور، حتى يصبح حبة حلوى في كفي الصغيرة المرتعشة، من الحماس لا من الخوف، من القوة النابتة لا من البرد.


وحين أخلو إلى ( نانا ) كانت تعيد الحكايات نفسها، الأحداث نفسها، الحروب نفسها، ولكن بإخراج أفظع وأقسى، يجعل من أبي وأعمامي الأبطال عصابة من القتلة والسفاحين المتوحشين، لا تهتز لهم شعرة أمام الطفل والمرأة والشيخ المسن. يقتلون ويغتصبون، ويستولون، وشعارهم الدائم: ” حفنة تراب ولاحفنة نمل “
لم تكن ترحم أحدا، أو تحترم أحدا، كلهم قلبهم” كافر” وعينهم (زركَا ) والعالم يتسع ويُظلم ويتوحش، وأنا أصغر وأنكمش، وأندس في ” قشابة ” ( نانا ) الباهتة، ولحمها الأسمر المجعد.


” نانا “
لم تكن الفظاعة في الأحداث أساسا، بل في طريقة حكيها : القتل والدم والخديعة والوحشية تُسرد بنغمة رتيبة مستوية لا تعطي أية أهمية للمعنى وظلاله. كمن يقرأ قصيدة عمودية قديمة قراءة عروضية محضة تحافظ على البحر، وتلغي الدلالة.
كانت عين العالم الكبير تزرورق شيئا فشيئا، وضمنها عين ( نانا ) نفسها.

نغم داؤد: زهر الأوهام

نغم داؤد – سوريا

في الماضي كنتُ أتذمّر كثيرًا من عملي اليوميّ في محلّ الزهور، من التاسعة صباحًا حتّى الثامنة مساءً، بفواصلَ قصيرةٍ لا تكفي إلّا لتناولِ الطعام في المنزل والعودةِ إلى العمل من جديد.

ولكنّني أصبحتُ أحبُّ كلَّ هذه المنغِّصات منذ أن قصدْتَ المحلَّ لأوّل مرّة الشّهرَ الماضي. قلبي يُخبرني بأنّكَ ستأتي اليوم أيضًا. أُسرعُ إلى مرآتي حالما أستيقظ. أرتدي ثوبي الليلكيّ. أصفّف شعري بعناية. لا تعجبني تسريحتُه. أجرّبُ تسريحةً أخرى. حتّى أستقرَّ على واحدة.

أنقِّلُ عينيَّ بين أركان حُجرتي التي تعمُّها الفوضى، مفتّشةً عن حقيبتي. ماذا لو وضعتَ لي رسالةً صغيرةً في الحقيبة من دون أن أنتبه؟ ولكنْ كيف لك أن تفعلَ ذلك وأنا أضعُها دائمًا قربَ الباب؟ حسنًا إذًا، لا ضيرَ في أن أضعَها اليومَ على الكرسيّ في الداخل، أو قربَ الورودِ الحمراء، أو خلفَ واجهةِ المحلّ.

تقعُ عينايَ على حقيبتي المستقرّة على الأريكة أمامي تمامًا. عجبًا كيفَ لم أنتبِه لها! أفتحُها، فلا أجدُ شيئًا جديدًا. أهمسُ لنفسي: “ربّما أجدُ اليومَ أو غدًا.” أحملُها و أمضي.

***

أبدأُ يومي – كالمعتاد – بشئٍ من الرّتابة. أرتّبُ المكان، ثم أرشُّ الورودَ بالماء، فيعبق الهواء برائحتها. يُشعرني مزيجُ العطور هذا بالرّغبةِ في الرّقص، ولكنّني أكتفي بوضع شريطٍ لإديث بياف في المسجِّلة. أسترخي على الكرسيّ.

مراقبةُ المارّة من خلف الزجاج أكبرُ مؤشِّرٍ على بلوغ أعلى درجات الملل. تُحزنني رؤيةُ العالم يتحرّكُ وأنا ساكنةٌ أفكّر في السنوات الأربع  التي هدرتُها من حياتي وأنا أتمُّ دراستي الجامعيّة وأفكّر في مدينتي التي لا يتجدّد فيها شيء إلّا المشكلات، خصوصًا البطالة.

عندما دخلتُ الجامعة كانت أحلامي تتراقص حولي. تعبتُ كثيرًا لأعيلَ أمّي وأختيَ الصّغرى. كنتُ أعدهما بأنّ أحوالنا ستتحسّن بعد أن أتخرّج. لم أكن أعلم أنّني سأكونُ ضحيّةً أخرى لكذبةٍ كبيرةٍ انساقَ خلفَها الكثيرون قبلي.

يدخل المحلَّ رجلٌ أربعينيّ. أساعده في إعداد باقةِ زهورٍ جميلة لزوجتِه في ذكرى زواجهما. يخرج، فتأخذني أفكاري نحوَكَ مرّةً أخرى: هل ستأتي اليومَ أيضًا عند السادسة؟ سأتعمّدُ البطءَ في إعداد الباقة بينما نتجاذبُ أطرافَ الحديث كما فعلنا يومَ الثلاثاء عندما سلّمتُكَ الباقةَ فقلتَ لي معتذرًا: “إنّها السادسة و النصف! يا لي من زبونٍ ثقيلٍ لا يكفّ عن الثرثرة.” ولكنّني لم أعرف بماذا أجيبك فبقيتُ صامتةً. تعمّدتَ المغادرةَ سريعًا في اليومين التّاليين رغمَ أنّني بدوتُ مهتمّةً بحديثِكَ وكنتُ كذلك فعلًا.

آملُ ألّا تغادرَ اليومَ قبلَ السادسة والنّصف ولكنَّ جلوسي في هذا المكان علّمني أن أقلّلَ احترامَ الوقت وأن أحترفَ إضاعتَه.

نصفُ ساعة أو خمسُ دقائق… هذا غيرُ مهمٍّ بالنّسبة إليّ. المهمّ أن تأتي!                                                             

***

إنّها السادسةُ إلّا ربعًا. أنهضُ من مكاني لأرشَّ الزُّهورَ بالماء من جديد، فتتجدّدُ رائحةُ العطر وتتغلغلُ في الهواء. أصبحَ صوتُ بياف مُضجِرًا بعد أن قضت كلَّ هذه السّاعات تغنّي. أسحبُ الشريط من المسجِّل، وأضع “فالس الربيع” لشوبّان.

أضعُ حقيبتي قرب الورود، وأراقب الساعةَ المدوّرةَ تتثاءب وتنقسمُ إلى نصفيْن متناظريْن. أنظر ناحيةَ الباب، لأجدَكَ تجتاز الشارع. يرتعش ظلُّكَ الملتصق بكَ على ضوءِ مصباح الليل، ثمّ تمتزجُ رائحةُ عطرِكَ برائحةِ المكان.

بدا عليكَ السّرور وأنا أخبرُكَ بأنّكَ الوحيد الذي نجح في تغييرِ رأيي في هذا الحيّ منذ أن انتقلتَ إليه، بعد أن كنتُ مقتنعةً بأنّ فكرة افتتاح محلّ الزّهور هنا هي أفشلُ فكرةٍ أتت بها صاحبةُ المحلّ. سررتُ بدوري وأنا أصغي إليكَ تتحدّثُ عن حيِّكَ القديم وبعضٍ من ذكريات طفولتِك.

انتهيتُ من إعداد الباقة عندما دقّت الساعة السادسة والرّبع وشعرتُ بالحزن وأنا أحيطُها بالشريطة وأقدّمها إليك. حاولتُ أن أسألكَ: “إلى أين تذهبُ أيّها الغريب حاملًا باقتَكَ وعطرَكَ؟” لكنّني خبّأتُ سؤالي، الذي يطاردُني في كلِّ مرّة من السادسة إلى ما بعدَ السادسة بكثير، في ابتسامةٍ خفيفةٍ وأنا أقول لكَ عند الباب: “وداعًا.”

عُدتُ إلى الزّهور أرشّها بالماء من جديد. وأخذتُ أفكّر: لعلّه سيعود صديقَه المريض. وماذا لو أنّه يحبُّ الزّهور، لا أكثر ولا أقلّ؟ ليس من الضروريّ أن تكونَ الباقةُ لفتاة!

***

إنّها السابعة صباحًا. أنهضُ من نومي. أُسرِعُ إلى المرآة لأغيّر تسريحةَ شعري. أفتحُ حقيبتي، فلا أجد جديدًا فيها. أهمس لنفسي: “سأضعُها على الكرسيّ هذه المرّة.”

أفتحُ البابَ و أمضي.

نغم داؤد*
وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.

عمر العسري: الغريب

عمر العسري – المغرب

أنهت كل المحادثات والترتيبات الإعلامية، وبينما تستقل سيارتها ذات اللون الأزرق الملكي، تداعت لها سيرة كل الشخصيات التي صادفتها باختيارها حينا وبالحظ والقدر أحيانا أخرى؛ عبر ضجيج اليومي ودراما الحياة العائلية، وعلاقات بعضها البعض… بينما شخص غريب ينتظرها في المطار وبين أحضانه رماد في جرة. 
فمن يكون هذا الغريب إذا؟ هل هو جزء من تلك القوة التي تنتظرها حتى تسندها؟ 
بإحساسها الغريب، وبتوجسها الحاد، كانت تقترف سلوكات معينة…تهرع من الأستوديو إلى كشك قصديريمطلي بألوان مختلفة كتب على لوح معلق أعلاه بخط مضغوط: جرائد ودخان…ألقت نظرة خاطفة على عناوين الجرائد… 
ينبغي الإشارة إلى وجهها الجاف في هذا المساء قبل أن تستقل سيارتها، وعند مخرج العمارة الزجاجية وفي الممشى الموازي لشارع “الغراب” وفي تلك الساعة، كانت الشمس مغللة في منتهاها بضباب جاف، وكأنه سقف بناية هرمة يكاد يهوي على رأسها…لم ترقها عناوين الجرائد كالعادة، ولسبب ما شعرت بقرف و استياء. 
استقلت سيارتها… نفثت رذاذا من بخاخ إيطالي ففاحت رائحة طيبة في السيارة…


بدأ قلبها يخفق… 
في هذه اللحظة تكثّف الهواء القائظ على سيارتها… فزادت من السرعة على نحو غير معتاد، السرعة ذاتها زادت من امتقاع وجهها.
عند وصولها إلى بهو المطار، لم تعلم أن الغريب الذي كان ينتظرها قد غادر…وكان أملها أن تراه لتسحب إبرة الشغف من صدرها…
عُرف لاحقا أن الغريب توفي في مرحاض المطار، وإلى جانبه جرة مهشمة، ورماد ممتزج بماء مندلق على الأرضية.

آنا عكاش: لا رمّان في الجنّة

آنا عكاش – سوريا

بعد أن انتهى من صنع الجحيم قَرَر أن يَصْنع الجنَّة.نفخ الغيومَ، فأحبّ بياضَها وهضباتِها الطريّة. تمعّن فيها حين انتهى؛ فبدت مُضجرةً بلون نورِها الساطع. شيء ما كان ينقصُها، فكّر.أمسك بحفنةٍ من رمل البحر. عَجنها بجبروتِه، ثم سخّنها في أتون الجحيم القريب، وصيّرها زجاجًا شفّافًا. وبأصابعه، مدّ فروعَها وامتداداتها، فتحوّلتْ إلى شجرةٍ رقيقةٍ ومذهلة، خضراء كلون أمِّها الموجة.مع تحرّك يده وكُمّ عباءته الأثيريّة الطويلة، خُلقت الريح.

حرّكت الريحُ الورقاتِ، فكان حفيفُها كتساقط قطرات ماء. وهنا حصلت المعجزة: وردةٌ وحيدة بلون النار اختبأتْ في أحد الفروع. ذُهل حين رآها؛ فهو لم يكن يقصد خلقها. لقد خُلقتْ وحدها من عَدَمِ النار.قال: “ستكون هذه شجرةَ الجنة، لا شجرة سواها.”***آدم، المصنوع من طين الأرض، أحّب العبثَ والقفزَ على هَضبات الغيم الطريّة. كان غرًّا.لم يستغرق صنعُه سوى بضعة أيّام سماويّة، خلافًا لحوّاء، التي صُمِمَتْ لتكون وعاءً لماء الخلق.

مرّت الأيام السماويّة رتيبةً إلّا من ضحكات حوّاء وهي تتابع، بفرحٍ، زهرةَ النار وهي تتحوّل إلى ثمرة مستديرة، شفّافةٍ كبط في رحَمها.شعر آدم بالغيرة؛ فحوّاء ما عادت تلعب معه كالسابق. ما عادت تسايره في الركض بين الغيوم والاختباء عن عين الله. فقد انشغلتْ ببذرتها، وبتلك الثمرةِ الغريبة.

غضب آدم.فكَر: “الله يحبُّهما أكثرَ منّي، هي وتلك الثمرةَ الشفّافةَ ذاتَ الياقوت داخلها. سأحرّك عباءتي، وسأخلق الريحَ كما يفعل، وسأُسقط ثمرةَ النار الملعونة تلك. وإنْ سألني عن سبب سقوطها فسأقول له إنّها ريحُ العباءة.”لكنه نسي أنّه عارٍ، لا عباءةَ لديه.

***

نضجت الثمرة وراحت قشرتُها تتشقّق. فرحتْ حوّاءُ باقتراب اليوم الموعود، يوم تزرع الياقوتَ المتناثرَ على هضبات الغيم، ليُنبت شجرًا يُخرج ثمرًا حلوًا يلوِّن هذا البياضَ المضجر، ويملأ الجنّة أصواتًا جديدة لا تُشبه صوتَ الريح.وفعلًا استيقظ الله على صوتٍ لم يسمع مثيلًا له.نظر إلى الأعلى فرأى الغيمَ مثقوبًا. وفي الأسفل كانت كسراتُ زجاج الثمرة تغطّي أديمَ الأرض بالأحمر القاني، كذاك السائلِ الجاري في عروق مخلوقات الطين التي صنعتها يداه.رأى حوّاء تبكي قرب الشجرة السماويّة وبطنها خاوٍ. بحثَ عن آدم فلم يجده.ومنذ ذاك اليوم، لا رمّان في الجنَّة.

ميا كوتو: حرب المُهرجين



مياو كوتو – موزمبيق
ترجمة: راضي النماصي

 

نشب جدال بين مهرجَين ذات مرة، وتوقف الناس متفكهين لمشاهدتهما.

سألوا: “ما الأمر؟”

“لم (السؤال)؟ إنهما مهرجان يتجادلان فقط.

من سيأخذ أمرهما بجدية؟ تبادل الكوميديان الردود بينهما بسرعة وبشكل سخيف، وكان جدالهما لا يستند إلى منطق. كان الموقف برمته حماقة، ومضى يومٌ بأكمله.

استمر في القراءة ميا كوتو: حرب المُهرجين

رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاتة

محمد صالح البحر*

   لم تتسع مخيلتي لأكثر من هذا، أن أفرد ذراعيّ عن آخرهما، وأن تثب قدماي لأعلي حتى أقف علي أطراف أصابعي فوق سور السطح، ومع الارتفاع الشاهق للعمارة التي أقطن بها ستبدو نظرتي أكثر عمقا، بحيث تظهر الأشياء صغيرة جدا، وفي حجمها الطبيعي.

استمر في القراءة رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاتة