صباح الخير
صباح الفل
صباحك أبيض يا عم
تلك الصباحات التي تدفقت حول (ثريا) اغتصبت من عضلات وجهها ابتسامة، وصفها بعض السادة المبدعين من الأدباء- في أعمالهم- بأنها صفراء.
المدهش أنها ظلت هكذا تبتسم ، حاول وجهها أن يتماسك مرة أخرى، لكنه لم يستطع التحكم في عضلاته، شعر بالغيظ الشديد وهو يلمح انعكاس صورته في زجاج النافذة التي أمامه، توتر أكثر وهو يفقد السيطرة على حاجبيه، ترفعهما ثريا في بلاهة!
تساءل الوجه في استياء ( ألا تكفيها الابتسامة العبيطة؟ )!
ثم أضاف ( حسبنا الله ونعم الوكيل)!
-الحمد لله
– الحال تمام؟
-ربك ستار رحيم
تقلصت أذناها ، أشارت اليمنى ، استجاب رأسها وهو ينظر…
حدقت جيدا …..
كهل يتكئ أرضا وشاب نحيف يحتضن بشده كتيب التأمين الصحي بلونه الأخضر الباهت، انخرط الاثنان في حوار خفيض.
تقلصت أذناها أكثر، لكنها لم تفلح في التقاط شيء من هذا الحوار، لكن تجاعيد الألم التي برزت واضحة في وجه الكهل أصبغت على منظرهما مزيدا من اللون الأخضر!
عادت رأس ثريا تنظر للأمام، تستعرض عيناها هذه الشخوص التي تكدس بها المكان، لاحظت وجود بعض الأطفال يلتصقون بأمهاتهن، حاولت أن تستكشف المرضى بينهم ، لم تستطع!، عادت تدقق في ملامحهم ، وفشلت للمرة الثانية.. (أف .. نفس الملامح )!
التقطت أذناها عبارة مبتهجة أطلقها رجل مسن، وهو يستند برأسه إلى الحائط، ويواجه أحد موظفي المكان، ردد ما اخبره به الموظف في سعادة ( الطبيب وصل يا ولدى ..وصل فعلا …الحمد لله)
تسارعت العبارات في لهفة
- ممكن تدخلني أولا وحياة والدك
- أنا هنا منذ الصباح يا بني
- بالدور يا جماعة ، كلنا وراءنا مصالح
- الصبر حلو يا إخواننا
شعرت ثريا أن قدرتها على استيعاب كل هذه الأحاديث والشخوص بدأت تتضاءل………
تعجبت في حنق ( كل هذه قدرة على الاحتمال!!!!!).
ضمت شفتيها ليعودا إلى وضعهما الطبيعي، لم تستطع مواصلة الابتسام ، ثمة تحركات عنيفة ، موجات غضب قوية تجتاح كيانها، الألم الذي يتصاعد من أعماقها ، رغبنها القوية في الصراخ، تمنت أن تصفعهم جميعا ، تغيظها ملامحهم المستسلمة، دعواتهم المستكينة لبعضهم البعض بالشفاء .
قسوة شديدة تتملكها…(هم لا يستحقون ذلك الشفاء)!!
ثلاث ساعات!!!
فترة من الزمن توقف فيها كل شيء، تسابق الجميع طمعا في تلك المقاعد، وقد انتظمت وراء بعضها في ترتيب جنائزي، ومن تخلى عنه الحظ – كعادته – افترش الأرض، الجميع ينتظر وينتظر …………………………………….
انتبهت عينا ثريا على ذلك اللون الأخضر ، يلقى بظلاله على وجوه الجميع، مدت يدها سريعا ، تعبث بمحتويات حقيبتها، رقصت يداها في سعادة ،واستكان قلبها بين ضلوعها وقد احتواها – هي أيضا – ذلك الاخضرار العجيب!
داعبتها الابتسامة… (ربما اختلف كل شيء لو كان لونا برتقاليا!).
لكن تقلصا جديدا يدب في خلاياها، تغذيه الغيمة البيضاء القادمة من بعيد، تتهادى، تنتفخ مثل بالون كبير، تعلو فوق المحيطين بها، تطير فوق كل الابتسامات المغتصبة، والأدعية المتملقة لسيادته وقد من علينا- أخيرا- بطلعته البهية!
بدأت الجموع تتجمهر أمام حجرة الكشف ، وتواصلت الأسئلة..!
- هو تخصص باطنه؟
- لا
- متى يأتي؟
- حرام والله كل هذه العطلة
أراحتها قليلا هذه العبارة رغم ذلك الخنوع الذي سيطر على حروفها، فكر رأسها وهو يهتز عموديا ..( ربما هناك أمل).
صراخ من الأعماق
لم اعد قادرا على احتمال ثوراتك، ترهقني نبضاتي المتسارعة بعنف ، وأنت لا تهتمين!!
لا تريدين أن ينتهي الأمر؟!
تعتصرينني وتضخين فيّ كل دماءك التي تغلي، أراقب بقلق شديد جسدك، وهو يرتجف، أحاول تحذيرك، لكن صوت سيادته القادم من بعيد يصرخ في ذلك المسن، وهو يدوي مختلطا مع ارتعاشة يد تقبض بكل قوة على كتيب التأمين الصحي ذو اللون الأخضر، و بعض من حروف متكسرة تتصاعد مستكينة في الهواء، فأوقن لحظتها أن كل محاولاتي معك لن تفيد!