أرشيف الأوسمة: لمح البصر

روحانيات تحلق في سماوات الإبداع: قراءة في (لمح البصر) لسيد الوكيل، بقلم : محمد حجازي

لا أكون مبالغًا لو قلت أن الولوج إلى متاهة كتابة أدب الأحلام شرك عظيم، شرك قد يقع فيه الكاتب، فيهوي به إلى مهاوي السطحية والعبثية وطلاسم الكلم، فيفقد بذلك كثيرًا من صدقه لدى المتلقي، لاسيما إن كان كاتبًا في قامة الأستاذ سيد الوكيل له ما له من تاريخ حافل كأديب وناقد، غير أن الخلاص من هذا الشرك والوصول لمكنونات نفس المتلقي بصدق وحرفية يرفع من شأن الكاتب أضعافًا كثيرة، وهذا لأسباب عدة أسوقها لحضراتكم تباعًا:

أولًا: إن كان الأدب في مجمله وعلى اختلاف قوالبه يخاطب النفس البشرية قلبًا وعقلاً، مشاعر وأفكار، فإن أدب الأحلام بتعقيداته وتأويلاته وكما أنه نابعًا في الأساس من اللاشعور وبواطن العقل المعقدة التي لا يعلمها إلاّ الله، فإنه كذلك يخاطب بشكل أعمق ذات اللاشعور وبواطن النفس لدى المتلقي، في عملية معقدة للغاية تحتاج إلى صدق جارف وحرفية قصوى، وهذا لا يمنع من تدخل العقل في نهاية العملية أي في مرحلة الإفاقة، للتأويل والتأمل والتحليل والوقوف على مدى صدق التجربة.

ثانيًا: في منظوري أن كاتب أدب الأحلام ينبغي له بشكل أو بآخر أن يكون مطلعًا على التأويلات التى ساقها أساطين تأويل الرؤى كابن سيرين والنابلسي وميلنر، لم أقول هذا؟ لأن كثيرًا مما نرى في مناماتنا إنما هى أضغاث أحلام لا معنى لها، ولو نقلت إلى التجربة الأدبية الفنية لسقطت التجربة وأضحت محض هراء لا يصح، وإطلاع الكاتب على تأويل رؤياه ينأى به عن هذا تمامًا، إذ حينها ينتقي بحرفية ما ينقل ولا يخلط بين الغث والثمين، ذلك الخلط الذي قد يقع فيه الكاتب مهما كانت قيمته، وقد قرأت تجارب لكتاب كثر، وعرضتها على التأويل فوجدتها طلاسم لا صدق فيها ولا شعور وإنما هي ملأ لفراغ الأوراق فحسب.

استمر في القراءة روحانيات تحلق في سماوات الإبداع: قراءة في (لمح البصر) لسيد الوكيل، بقلم : محمد حجازي

سيد الوكيل يقودنا إلى الطريق في «لمح البصر». بقلم: د. ممدوح النابي.

كتب:ممدوح فراّج النابي

          سيد الوكيل كاتب وناقد مصري يُعتبر من أَغزر أبناء جيله إنتاجًا على مستوى الكم والكيف معًا. في نصوص الوكيل ثمّة مراوحة بين أنواع مُختلفة وإن كانت قريبة، وهو ما يشير إلى انحيازه وولائه للكتابة بغض النظر عن مسألة الهوية التجنيسيّة التي يكتب تحت إهابها. وهو ما يعني أن مرحلة التجريب التي تلازم نصوصه هي نِتاج وعي بمرونة النظرية النقدية، وقدرتها على خلق أنواع بديلة قد تكون هجينة بعض الأحيان، وبعضًا تكون مُستقلة، كما هي الأحلام التي ينثر فيها أفكاره في هذا العمل الجديد. فتنوّعت كتاباته ما بين القصة والرواية والنقد، وأحيانًا يمزج بين السيرة والرواية والنقد معًا كما فعل في «الحالة دايت».نشر الوكيل من قبل «أيام هند» ١٩٩٠، و«للروح غناها» ١٩٩٧،و«مثل واحدآخر»٢٠٠٤ في مجال القصة القصيرة. و«فوق الحياةقليلاً»١٩٩٧، و«شارع بسادة»٢٠٠٨، و«الحالةدايت:متتالية فى سيرةالموت والكتابة» ٢٠١١، في  مجال الرواية. أما في النقد فأصدر«مداراتفىالأدبوالنقد » ٢٠٠٢، و«أفضيةالذات:قراءةفىاتجاهاتالسّردالقصصى» 2006.

          نصوص “لمح البصر”الصّادرة مؤخّرًا، عن روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة، تمثِّل نموذجًا حيًّا لحالة التجريب والتمرد على المألوف في الكتابة التي خبرها الكاتب في نصوص سابقة، وفي هذا العمل الجديد لا يني يمارس غوايته في التجريب والتعامّل مع نصه كمادّة مرنة طيِّعة قابلة للتشكيل والتغيير حتى داخل النص نفسه، فتتماسمعالقصة القصيرة في شكلها، ومع الأحلام في رؤاها ودلاتها، كما أن بنتيها تنهل من ذات بنية اللاوعي التي هي مصدر الأحلام. لذا ليس من المبالغة إذا وصفنا هذه النصوص بأنها تنتمي إلى ما بعد الحداثة، حيث التركيز على العوالم الصغيرة التي ينفتح بها على العالم الأكبر، والاتكاء على الإيجاز في تلخيص العالم، والهروب بالحلم من فداحة الواقع الراهن، والانفصال عنه بالعودة إلى مواطن الطفولة، وانشغالاتها وبراءتها، وأحلامها البسيطة التي تُعادل العالم لحظتها.

استمر في القراءة سيد الوكيل يقودنا إلى الطريق في «لمح البصر». بقلم: د. ممدوح النابي.

عن (لمح البصر،وشارع بسادة)، بقلم: هبة فاروق.

قراءة في (لمح البصر وشارع بسادة) لسيد الوكيل. بقلم: هبة فاروق

أولا: لمح البصر

هذا العمل هو مشروع أدبي مكتمل تظهر فيه خبرة الكاتب الكبير، وسيطرته على المادة المقدمة بما يتناسب مع الأفكار التي أراد عرضها، نبدأ بالغلاف حيث جاء معبرا عن تلك الحالة الغائمة التي يصنعها الخيال، فلا أنت هنا كلك ولا أنت هناك كلك في هذا الخيال.

وسأعترف أني ظللت أقاوم حقيقة أن الكتاب كله ما هو إلا مجموعة من أحلام النوم؛ حتى وصلت للحلم 13 وعدد حكايات الأحلام في الكتاب 39 حكاية، فجو الحلم يفرض نفسه على الكتاب؛ مثلا في تغير الأماكن بسرعة وكذلك الشخوص واختلاف الزمن أيضا في الحكاية الواحدة، وللحق لقد صدمت من جرأة الفكرة والتجربة في أن يضع الكاتب بكل بساطة مكنون نفسه على الورق، ومن ثم أعدت القراءة من الأول مرة أخرى لأكون وجها لوجه مع دخيلة نفس الكاتب، ولأجد أن الصفحات تحمل مقومات البيئة من أماكن مألوفة للكاتب مثل شوارع القاهرة وميادينها والمساجد والأضرحة، وشاطئ الإسكندرية، وشخوص من العائلة والأصدقاء، ووسائل تنقل من الحنطور والترام والقطار، كل ذلك يظهر في الأحلام وسط غرائبية الأحداث، فيخصنا الكاتب بمشاركة الحلم الذي حمل عنوان الكتاب، ليأتي مقطع منه في مفتتح الكتاب؛ لنتساءل أي أحلام يسردها نجيب محفوظ، وكأن الكاتب يعبر عن سبب كتابته لهذا الكتاب، فما الكتابة إلا حالة من حالات الحلم التي يعيشها كل كاتب…

استمر في القراءة عن (لمح البصر،وشارع بسادة)، بقلم: هبة فاروق.

لمح البصر..شهادة الوكيل على عصر من القلق. بقلم: محمود الحلواني

موقع الكتابة

سبتمبر 5, 2015

محمود الحلواني

“انتهيت إلى طرقتين متقابلتين، كانتا غارقتين فى الظلام،

وكان لا بد من الاختيار .. إلى أى ظلام أمضى ؟ “

حافة الموت

تمثل مجموعة سيد الوكيل ” لمح البصر “(1) ما هو أكثر من كونها عملا أدبيا، أراه مدهشا ومثيرا للمتعة والتأمل الجماليين، كما تتعدى قيمتها ـ عندي ـ مجال اشتغالها الأدبي، كنص سردي، جمالي، فردى، إلى صلاحيتها لأن يُنظر إليها بوصفها وثيقة، أحسبها أكثر صدقا وحساسية في التعبير عن عصر من الخوف والقلق، لم يكفه أن يثير فزع الناس في وضح النهار، فراح يفترش حدائقهم الخلفية ليلا، يعبث بأحلامهم، ويسممها، ويحيلها إلى كوابيس .

استمر في القراءة لمح البصر..شهادة الوكيل على عصر من القلق. بقلم: محمود الحلواني

سيد الوكيل، يرسم عالمه في “لمح البصر “. د. مصطفى الضبع

د. مصطفى الضبع

أبريل 30, 2019

د. مصطفى الضبع ، أستاذ  ورئيس قسم النقد الأدبي بجامعة الفيوم

سيد الوكيل قاص وروائي وناقد مصري  تضعه تجربته في الطبقة الأولى من كتاب الرواية خاصة والمبدعين عامة (الطبقة التي يقرأ مبدعوها أكثر مما يبدعون فتأتي أعمالها متميزة، خلافا لطبقة تقرأ قدر ما تكتب فتاتي أعمالها مذبذبة المستوى، وطبقة أخرى تكتب أكثر مما تقرأ فتأتي أعمالها ضعيفة لا يعول عليها ولا تحقق حياة )، يجمع سيد الوكيل بين وعيين أساسيين تقوم عليهما تجربته: وعي المبدع صاحب التجربة، ووعي الناقد صاحب الرؤية وهو ما تؤكده قائمة أعماله التي جاءت استجابة لتجربة عميقة تقوم على أساس من الفن الجميل وليس مجرد البحث عن كتابة سهلة إعلامية الطابع، سطحية المستوى، ضعيفة التأثير:

له أربع مجموعات قصصية تضعه في مكانة تليق به بين كتاب القصة القصيرة ممن حرصوا على كتابتها :

– أيام هند – نصوص 90 – القاهرة 1990.

–  للروح غناها – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1997.

–  مثل واحد آخر – طبعة خاصة – القاهرة 2004.

– لمح البصر – روافد للنشر والتوزيع  – القاهرة 2014.

وله روايتان ضمنتا له موقعا متميزا بين كتاب الرواية من أبناء جيله :

فوق الحياة قليلا – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1997.

شارع بسادة – الدار للنشر – القاهرة 2008.

وله كتابان نقديان تحددان رؤيته النقدية وتكشفان عن مجال عمله في مقاربة النصوص:

مدارات في الأدب والنقد – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2002.

أفضية الذات، قراءة في اتجاهات السرد القصصي – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2006.

وله عمل يجمع بين السرد القصصي والسيرة الذاتية:

الحالة دايت (متتالية في سيرة الموت والكتابة – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2011.

ينتمي الوكيل للكتاب الذين وقفت أعمالهم الأولى أعتاب الألفية الثالثة، بدأ الكتابة في الثمانينيات وتحقق له الانتشار في التسعينيات وتأكد نضج مشروعه بداية الألفية الثالثة، والذين ينتمون لهذه المرحلة ومرت أعمالهم بالمراحل نفسها يمثلون جيلا يحقق تفرده من تجاوزه أيديولجية الجيل السابق ومشكلاتها فلا هو جيل اليسار الذي عاني من تعقيداته ولا هو جيل الانفتاح الذي عانى مشكلاته، ولأن الوكيل يعد نموذجا لهذا الجيل  الذي  قرأ السابقين بعمق واستوعب تجربة المشهد الروائي مخلصا لتلمذته لنجيب محفوظ محتفظا بمسافة تخص الكتابة وتتحقق عبر قراءة محفوظ لا ادعاء تلمذته بالاقتراب منه أو منح النفس صك الحديث عنه أو باسمه.

يقول تعبيرا عن رؤيته للكتابة “فالكتابة هكذا، ليست تعبيرا عن الحياة.. بل هى طريقة من طرائق عيشها. ليست ردا لفعل ما، بل هي الفعل نفسه”(سيد الوكيل: الحالة دايت )، وهو ما يجعل من نصوصه مجالا للحياة.

إذا كانت مجموعته القصصية الأولى ” أيام هند ” تكشف عن  موهبة الكاتب، فإن المجموعة الثانية ” للروح غناها ” تكشف عن نضج الموهبة، وظهور طاقات دلالية تتناسب ونضج الكاتب، فيما تؤكد المجموعة الثالثة “مثل واحد آخر ” عمق التجربة وقدرتها على تقديم كاتب حريص على خدمة مشروعه عبر العناية بتفاصيل التجربة ومن قبلها العناية بالخلفية المعرفية للتجربة عبر مشروع قراءة واسع المجال يقوم على عمادين أساسيين: قراءة السرد ومكاشفة نماذجه العليا، وقراءة السينما عبر مقاربة نماذجها ومتابعة مراحل تطورها ، وتأتي المجموعة الرابعة لتقف بمشروع الكاتب عند منعطف تجربة جديدة لا تشي بالقدرة على التشكيل فحسب وإنما تقدم نموذجها الخاصة بالقدرة على التخييل عبر التقاط تفاصيل يدرك المتلقي واقعيتها غير أنه لا يخطئ التعامل معها فنيا ممررة بوعي كاتب يعرف كيف يشكل نصه معتمدا طرائق خاصة في رسم النص.

تتآلف إلى حد كبير نصوص المجموعة القصصية عند سيد الوكيل مما يجعلها مجموعة من التوائم المتقاربة،   تبدو للوهلة الأولى متبعة طريقة / طرائق محدودة فى إنتاج دلالتها ، ولكن سيد الوكيل يعمد للتنويع فى مجالات القص عبر المجموعة الواحدة، وهى أولى علامات الحرص على إبقاء المتلقي على درجة اهتمامه إلى ما بعد نهاية القراءة التي ليس معناها نهاية التلقي بالطبع، وهو ما يتكشف عبر نصوص المجموعة الرابعة ذات الطابع الخاص من بين مجموعات الكاتب.

تضم مجموعته الجامعة بين تقنيات السرد القصصي وطريقة سرد الأحلام ” لمح البصر ” تسعة وثلاثين نصا قصصيا تميل جميعها للقصر(كثير منها لا يتجاوز نصف الصفحة ) ، معبرة عن عنوانها الأخير الذي تصدر المجموعة ” لمح البصر “، ذلك التعبير الذي يجعلها تقارب مساحات مكانية في لحظات زمنية سريعة تناسب سياق الحلم وطرائقه وتجعل من النصوص لحظات تتجاوز الوعي بالزمن إلى الوعي بالحدث من حيث هو مخزن استراتيجي للرمز أولا ولإنتاج الدلالة النصية ثانيا ودليلا على منجز السارد وقدرته على تقديم حدث شيق، جذاب، دال ثالثا.

فعناوين النصوص بوصفها عتبات لا تحيل إلى النص بقدر ما يحيل إلى العالم خارجه وخاصة تلك العناوين التي تتشكل من معان مجردة في معظمها : لمح البصر – اللعبة – شغف الطريق – قلق الأربعين – ساعة العمر – حق العودة – الدليل.

في قصته “خالص العزاء ” رغم أن النص يقوم على مشهد عزاء “زوجة وزير الداخلية ” فإن صيغة العنوان لا تقف عند حصار النص فيها أو لا تكون مجرد نقطة عبور إلى المتن بقدر ماهي عبور للعالم الذي جاء العزاء تمثيلا (رامزا) له، فخالص العزاء ليس للفقيدة أو فيها وغنما لعالم تكاد تفاصيله تكون مبثوثة في النصوص جميعها، حيث العالم يتشكل من شخصيتين (السارد وصديقه ) بوصفهما شاهدين على العالم غير مشاركين في صنعه أحيانا كثيرة، وبوصفهما نموذجا للعلاقة القائمة بين اثنين في مواجهة العالم المضاد:

لذا تأتي القصة عابرة للمشهد المرسوم وقافزة عليه: ” انتصب سرادق العزاء مهيباً أمام مسجد عمر مكرم، وفي مقدمته صورة كبيرة للمرحومة زوجة وزير الداخلية، كان وكيل الوزارة يتلقى العزاء في مقدمة صف طويل من موظفي الوزارة، فيما وقف مدير مكتبه يوزع بطاقات خضراء على المعزين، إذ عليهم أن يسجلوا فيها اسم السورة التى يرغبون سماعها من المقريء.

رأيت المقريء في نهاية السرادق، يتربع على كرسي مذهّب مكسو بالحرير الأخضر، وأمامه عدد من تلك البطاقات الخضراء، ثم رأيتُ خادم السرادق في قفطان أبيض نظيف يتجه ناحيتى، أخذ بطاقتي وأشار لي أن اتبعه، فمضيتُ خلفه صامتاً بما يليق بجلال الموت.

قادني إلى المقعد المخصص لي وأمرني بالجلوس فقلت له أننى لم اكتب في بطاقتي شيئاً بعد.

يبدو أنه لم يسمعني فكررت كلامي بصوت أعلى، لكنه لم يرد، فقط مضى في اتجاه المقريء ووضع بطاقتي بجوار البطاقات الأخرى.

وقفتُ لحظة مندهشاً ومحتجاً، حتى أحاطتني نظرات المعزين مستنكرة ارتفاع صوتي، فجلست صاغراً على المقعد المخصص لي، عندئذ التفت إليّ جاري وهمس:

ـ ألم تلاحظ أن المقرئ كفيف؟؟”

النصوص في مجملها تمثل مجموعة من الروافد التي تغذي نهرا متدفقا ليس من صنع السارد وإنما هو من صنع القدر ويكون دور كل سارد أن يقدم روافده لخدمة هذا النهر الكبير

سرد الأحلام..(ملف خاص): إعداد: مرفت يس

عن الأحلام سألوني..سيد الوكيل

لا أدرى إذا كانت الأحلام غريزة من غرائز الكائن الحي؟ صحيح أن بعض التجارب العلمية أكدت أن الحيوانات يمكنها أن تحلم أيضا، غير أن أحدا منها لم يخبرنا بما حلم، وربما لم يفكر فيما حلم عندما يستيقظ.. لهذا فثم اعتقاد أن طبيعة الحلم عند البشر ثرية ومتنوعة بثراء وتنوع الوجود البشري. الأحلام هكذا، أشبه بملفات مخفية نسيناها في غمار الحياة، تظهر فجأة على سطح المكتب، وفق آلية عمل ذاتية للجهاز العصبي.. لهذا هي وجود حي بداخلنا، ضاغط وملح، بما يجعلها أقرب ما يكون إلى الغريزة. لكن الفرق بين أحلام الحيوانات وأحلامنا، هي طبيعة إدراكنا لها. وهذا الإدراك هو عمل الوعي البشري، إنه في تطور دائم، متفاعل مع الخبرات والمعارف التي مرت بها رحلة الوجود الإنساني منذ خلقه الأول.

الإنسان البدائي عرف الأحلام، لكنه خلط بينها وبين الحقيقة، لدرجة أن بعض القبائل البدائية كانت تعاقب رجلا يحلم بمضاجعة امرأة جاره، بل ويمتد العقاب إلى المرأة كونها ذهبت إليه في الحلم.

مع إدراك الإنسان بوجود قوى إلهية عليا، أخذ الحلم بعدا ميتافيزيقيا. وتحكي لنا الأساطير، عن ملوك سارعوا بقتل أطفالهم، بعد رؤية في حلم بأن هذا الطفل سيقتل أباه يوما، أو بعد فتوى من عرافه بأن ( أوديب ) سيقتل أباه ويضاجع أمه.

لقد رسخت الكتب السماوية هذا المعنى عن الحلم بوصفه نبوءة، فثم أنبياء ألهمتهم الآلهة بنبوءات وحملتهم رسائل، صارت حقائق. هكذا ظل ارتباط الحلم بالحقيقة سعيا بشريا حتى الآن، وكأن الحلم، أداة من أدوات المعرفة.

لقد أفضى هذا الاعتقاد الراسخ بواقعية الأحلام، إلى علوم متخصصة في تفسير الأحلام.. إذ كان اليقين بواقعية الأحلام الذي كتب به ( ابن سيرين)  تفسيره، هو الذي منحه حق الوجود حتى الآن،  وبعد مضى ثلاثة قرون على ثورة العلم، الذي نقل الحلم من فضاء الميتافيزيقا إلى فضاء علم النفس، ثم علم الدماغ، حيث تمكن ( سيجموند فرويد )  من ربط الحلم بالواقع الداخلي للحالم، فبدلا من السعي إلى تفسير الحلم نفسه، أصبح الحلم وسيلة لتفسير السلوك الإنسانية، والظواهر والأعراض النفسية التي يعانيها الحالم. وهكذا لم تعد الأحلام مجرد نبوءة ترغب في التحقق، بل حقيقة ترغب في التعبير عن نفسها.

والآن.. إذا كان الإبداع الأدبي هو حراك داخلي، قلق ومتوتر، يرغب في التعبير عن نفسه، وإعلان وجوده في صيغة من صيغ التعبير التخيلي، فما الفرق بين الحلم والإبداع إذن؟؟

الحلم كما يقول ( إيريك فروم ) هو إبداع الحالم.  الحلم هكذا مادة إبداعية نفرض نفسها علينا في النوم، ولا يمكننا تجاهلها في اليقظة.. تلك آلية عمل قريبة من آلية عمل الكتابة الأدبية، فتجاربنا الواقعية التي حفرت عميقا فينا، نكتبها في قصصنا ورواياتنا، عبر منظومة من الأخيلة والرموز والعلامات، فتصبح شيئا محاكيا لما حدث في الواقع، ولكنها ليست الواقع بالتأكيد.

 لهذا.. فكما سكنت الأحلام أساطير الأولين، سكنت روايتنا، وقصصنا، ومسرحياتنا، وأفلامنا، ولوحاتنا التشكيلية… بل سكنت ( بوستاتنا ) على شبكات التواصل الاجتماعي. فمطلقو الإشاعات ضد الأنظمة السياسية، والمروجون لها، يعبرون فقط عن أحلام مجهضة عجزوا عن تحقيقها.

***

نخصص هذا الملف عن علاقة الأحلام بالإبداع الأدبي. وهي علاقة قديمة، تبدأ كما أسلفنا مع الأسطورة، بوصفها كيانات حكائية، كما نجدها في أشكال السرد الفني القديمة ( ألف ليلة وليلة ) على سبيل المثال. ثم نجدها في الرواية الحديثة منذ ديكاميرون  ودون كيخوته، وها هي، في القصة القصيرة، تصبح فنا أدبيا مستقلا على نحو ما يستهدفه هذا الملف.

هل يعني هذا أن ثمة فارق بين الحلم في الرواية والحلم في القص؟

هذا ما نعتقد.. فالحلم في الرواية له وظيفة في خدمة الفضاء الروائي، وتوسيع أفقها الدلالي، ومن ثم يظل أثره محدودا بتحقيق وظيفته، وبعدها يذوب داخل الفضاء الروائي، بوصفه عنصرا من عناصره.. أما في القصة القصيرة، ونظرا لطبيعة الوحدة الموضوعية لها، وكثافتها، فالحلم ليس عنصرا فيها بل هو القصة نفسها. إنه يطمح إلى إبراز أخيلته، ورموزه، وآليات إنتاجه، بل وقدرته على تشكيل الأبعاد الزمكانية  والشخصيات بما يكسبها أبعادا متجاوزة للواقع.  

عندما كتب نجيب محفوظ ( أحلام الفترة الانتقالية ) أعطانا مشروعية، أن يكون الحلم فنا سرديا مستقلا، يقف إلى جوار القصة القصيرة، يمكن أن نسميه حتى الآن ( سرد الأحلام ).. لكن المغامرة الأولى – عند محفوظ – لكتابة الأحلام في ذاتها، كانت عام 1982 م تحت عنوان ( رأيت فيما يرى النائم ) ويمكن ملاحظة رغبة الراوي في الإخبار ( اللغة الإخبارية) التي تشابه لغتنا عندما نستيقظ من النوم ونخبر شخصا ما بما حلمنا كأن نقول ( رأيت في منامي أنني أفعل كذا وكذا.. إلخ) ومن ثم فهي مجرد حكي للحلم يستسلم للطابع الإخباري، محدود الأثر الدلالي على نحو ما نجد في رواية ( حديث الصباح والمساء) حين يرى (يزيد المصري) في المنام  شيخه القليوبي جالسا في المقابر، يدعوه لأن  يقيم خلوته له في المقبرة المجاورة لمقبرته. بسهولة ندرك إن الحلم هو عتبة لموت يزيد المصري. تلك هي وظيفة الحلم في الرواية. أما في (أحلام فترة النقاهة ) فلم يكن لقاء الراوي ( بالست عين)  في ( أفراح القبة) خبرا يخدم دلالة مغايرة، بقد ما كان تجسيدا لحضور حقيقي، هو موضوع النص. إنه حضور نلمسه شكلا وموضوعا وشعورا. نقرأه وكأننا نراه، أو وكأننا نشارك الراوي حلمه. فلا شيء قبله، ولا شيء بعده، ولا مُدخلات خارجية فيه، تسعى لتفسيره،  أو التعليق عليه.إنه حضور فحسب. هكذا يظل الحلم مكتنزا بطبيعته التي نراه عليها،  بلا معقوليته، وألغازه، وشطحاته الغرائبية المفارقة للواقع. بما يعطي للقارئ وحده، حق اقتناص الدلالة، من بين براثن اللاوعي الجمعي الذي يسكننا نحن البشر. إن الحلم مقصود لذاته في ( أحلام فترة النقاهة) على نحو ما يفصح العنوان، بوصفه نصا قصصيا مكتملا بذاته، وليس مجرد تقنيه في خدمة فضاء سردي أكبر منه. هكذا أدرك نجيب محفوظ أن القالب القصصي، مؤهل بطبيعته لسرد الأحلام.

خلافا للسرد القصصي والروائي، فإن أحلام نومنا  بلا عتبات ولا مقدمات، نجد أنفسنا داخلها فجأة، ونخرج منه كما دخلناها بلا نهايات حاسمة، دونما تحصيل لأي معنى. وعندما نستيقظ نحاول تذكرها ربما يمكننا أن نقف على بعض المعاني، لكن علماء الدماغ يؤكدون أننا لا نتذكر منها سوى نسبه ضئيلة جدا. فالحلم هو نشاط عصبي وظيفته التخلص من بعض الذكريات والصور المخزنة في الذاكرة بما تحمله من مشاعر معطلة مثل مشاعر الذنب، أو الدونية.. الأحلام إذن عملية تطهير للوعي يقوم بها اللاوعي . أي أن القول بأن نجيب محفوظ كان يكتب أحلاما رآها فارغ من المعنى. فلا أحد يمكنه أن يتذكر الحلم، وما نحكيه بعد يقظتنا عن أحلامنا، هو تصورنا الواعي عن نشاط اللاوعي،  والمسافة بينهما واسعة وغير مأمونة، لهذا فإن كتابة الحلم هو خلق إبداعي تماما، ينتجه وعينا الجمالي، وليس توثيقا أو تدويرا لأحلام رأيناها.

لكن.. ما لو أردنا كتابة حلم رأيناه بالفعل؟

تخيل أنك تمشي في شارع مظلم تماما، وفجأة ومض ضوء خاطف واختفى، فإن كل مار رأيته هو انطباع عام عن شارع ما، أما إذا طلب منك أن تصفه، فإن خبراتك السابقة بالشوارع  ووعيك بمحتوياتها، هي التي ستكون أدواتك في الوصف. لهذا فإن ما تصفه سيكون من إبداعك أنت، ويخصك أنت وحدك. كذلك ما نكتبه بوصفه أحلاما، هو إبداعنا الذي يخصنا.

أما إذا كانت فكرتنا عن آليات كتابة الأحلام غير واضحة، فعليك أن تقرأ هذا الملف، ففيه وجهات نظر، وطرائق مختلفة في فن كتابة الأحلام، وكعادتنا ندرك أن الاختلاف ليس خصومة، بقدر ما هو سمة تفاعلية، توسع فضاء الإبداع.

 

الجزء الأول

: مقالات عن الأحلام

فدوى العبود

الحــــلم والشيــــفرة الســريّـــة للمعرفــة والــوجود

سيد الوكيل

فن كتابة الأحلام ..تأسيس نظري : سيد الوكيل

الجزء الثاني:

نماذج من سرد الأحلام

نجيب محفوظ

الحلم 16..من المجموعة القصصية : رأيت فيما يرى النائم

حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدًا..طارق إمام

رغم الظلمة …رغم النوم..طارق إمام

كنت أضحك في حلمي….قصة : رءوف مسعد

الجمعية …قصة: حلمي محمد القاعود

برج الحمار: قصة: عبدالقهار الحجاري

نصوص في لمح البصر…سيد الوكيل

رجل وحيد يخشى الأحلام…قصة :أحمد أبو خنيجر

الحلم الذي لن أرويه لجدتي…قصة: صفاء النجار

قصر الأموات قصة : شريف صالح

علاء الدّين وامرأة تحلم..قصة: روعة سنبل

كشوفات مصطفى يونس

الحلم ..قصة : مصطفى لغتيري

أطياف محفوظية…عبير سليمان

الجزء الثالث

قراءات نقــدية في نصـــوص الأحــــــلام

دمحمود الضبع

البنية والتجريب في أحلام نجيب محفوظ

 

اعتبرني حلما فدوى العبود

اعتبرني حلما :مقولة كافكا الشهيرة عندما قضى ليلة في بيت صديقه ماكس برود، ودخل بالخطأ غرفة والد ماكس ، وفزع الرجل ، فما كان من كافكا إلا أن انسحب بهدوء معتذرا وهو يقول له تلك الجملة التي استلهمتها الكاتبة فدوى العبود عنوانا لقراءتها في نصوص الأحلام و نشرت في كتاب الديكاميرون  2020الذي أعدته الكاتبة السورية روعة سنبل وقدمت له قراءات نقدية فدوى العبود.  اقتبس الكتاب اسمه  من عنوان رواية (الدّيكاميرون) للكاتب “جيوفاني بوكاشيو”؛  التي تسرد قصّة مجموعة أشخاص هربوا من الطاعون، واختاروا -وهم في خلوتهم في منطقة ريفية- أن يسردوا في كلّ ليلة قصصًا تخفّف عنهم عناء الوجع، فتكون الحصيلة كلّ صباح عشر حكايات،ومن هنا جاءت فكرة الكتاب عن جدوى الحكاية وهل هي مجدية؟ “فكانت  هذه النصوص  إجابة   صريحة  عن دور الحكي  في المقاومة .احتوى على  خمسين نصاً قصصياً اندرجت  تحت ثيمات خمس هي “المرايا” و”القطارات” و”الحبال” و”الفقاعة” ويختتم الكتاب بثيمة “الأحلام وتحتوي على تسعة نصوص لمجموعة من الكتاب  هم زهير كريم ، هبة شريقي، مهند الخيكاني ، غفران طحان، نبأ حسن مسلم ، صلاح حيثاني، حنان الحلبوني، زوران جيكوفيتش، سيد الوكيل. تبقى  الأحلام كثيمة هي الأمل في الخلاص وتوقع الأفضل عن طريق الحكي ؛ “نحكي لننجو ” “.

كُتاب الديكاميرون

المدد المحفوظي في كتابة الأحلام …ومشروعية الحلم كنص أدبي

نماذج تطبيقية لشريف صالح ومحمود عبدالوهاب

مدد الأحلام …سيد الوكيل

د. خالد عبد الغني

العودة لأحلام نجيب محفوظ آخر أشكال السرد في الأدب ([1])

قراءة في لمح البصر بقلم فردوس عبدالرحمن

الغوص في اللاوعي والبحث عن أسطورة الذات الخاصة

أحمد رجب شلتوت وقراءة في نصوص” أضغاث أنفاس

أحلام نسوة يعانين القهر والاستلاب

مرفت يس .. قراءة في مشاهد عابرة لرجل وحيد للكاتب أحمد أبو خنيجر

المزج بين الأسطورة والحلم في ” مشاهد عابرة لرجل وحيد”

الحلم فى القصة المغربية….الطيب هلو

الإيقاع السردي وحداثة القصة القصيرة ـ إيقاع الحلم نموذجاً

الجزء الرابع

قراءات عـن بنية الحـلم في الرواية

علي كاظم داود

السرد بالأحلام في رواية ” لاريب فيه” لطاهرة علوي

منير فوزي

قراءة في نص (أحلام سرية) للروائي مصطفى بيومي

الحلم في النص السردي بين التخييل والتفنين:

تأويل الحلم عبر الذاكرة في رواية كيميا للكاتب وليد علاء الدين

الجزء الخامس:

قــــراءات

الحلم كهندسة عقلية..عمرو عزت وفن تعبير الرؤيا: محمد عبدالنبي

أدب الأحلام ..قراءة في كتاب عبده وازن “غيمة أربطها بخيط” بقلم حسن عبدالله

” كتاب النوم”هيثم الورداني …عندما تستيقظ الغفوة : طارق إمام

لغة الروح والنفس المنسية ..مرفت يس

كتاب الأحلام بين العقيدة والعلم للدكتور علي الوري ..قراءة صالح البلوشي

الغوص في اللاوعي والبحث عن أسطورة الذات الخاصة

فردوس عبدالرحمن

قراءة …في لمح البصر ل سيد الوكيل

آسرة تلك الأعمال الإبداعية التي تبحث في خفايا الروح عن الأساطير الشخصية للإنسان المعاصر، لذلك ما إن وقع بين يديَّ (لمح البصر) لكاتبه المصري سيد الوكيل، حتى انفتحت لي أسرار الشبق الوجودي، وتعرفت على جذوره، وتعلمت أيضًا أن شعور الذنب الذي أحاربه داخل نفسي باستمرار، لمعرفتي أنه العدو الأكبر للإنسان، هو الشرط الأساسي لبلوغ الكينونة، المرحلة الثالثة والأخيرة في تطورها.

في تلك المجموعة، يفتح سيد الوكيل صندوقه الأسود، ليرى حقيقته الداخلية، ويبصر أسطورته الشخصية، لكن من يقرأ تلك المجموعة، يعرف أن الكاتب لم يستطع بلوغ أعماقه إلا عن طريق الكدح النفسي، وكانت الأحلام التي كتبها هي الباب الملكي لذلك. فالحلم ليس فقط تعبيرًا عن رغبة ما، وإنما يمثل شتى ضروب العمل النفسي.

“قلت: ما الحلم

قالت: أن تنظر بداخلك

قلت: وما الرؤية

قالت: أن تحدق في النار

قلت: يالها من وحشة، ياله من ألم

قالت: ها أنت في الحقيقة تعيش”

الآن يستسلم الكاتب لكماشة الروح التي لا ترحم، والتي سوف تريه ظله رغمًا عنه، ذلك الجانب الخفي والمعتم في نفسه، والذي ظل يتعقبه ليقبض على عنقه، دون أن يدري أي ذنب جنى، لكن التعرف على خفايا الروح والولوج إلى الطبقات التحتية منها، أمر صعب المراس، بل وعديم الجدوى، إن لم يتم الصعود بتلك الرؤى الداخلية وتمديدها على سطح الوعي، ذلك ما يعطي الشخصية القدرة على إدراك كليتها وضخها بقوة خلاقة جديدة .وهذا بالتحديد هو ما يسمى بالولاف الأعلى، والذي يسميه (سلفانو أريتي) العملية الثالثية، حيث إن العملية الأولية، هي المعرفة البدائية، المغفلة، اللامتميزة، الأسطورية، والمعرفة الثانوية هي المعرفة العقلية المحضة، والمعرفة الثالثية هي الولاف بينهما،  وهذا ما سوف نراه بوضوح في هذا العمل الإبداعي  (لمح البصر) والذي نكتشف بداخله هذا الولاف، بين ما هو ساذج وبدائي وأسطوري، وبين ما هو مُدرَك عقلي واعي.

استمر في القراءة الغوص في اللاوعي والبحث عن أسطورة الذات الخاصة

مؤامرة

قصة: سيدالوكيل

اجتمعت العائلة كلها.

جاءوا من قراهم وبلدانهم ومقابرهم.

اختاروا حجرتي مكانًا لجلسة الصلح بيني وبين المرحوم جدي، قالوا إنني لم أحمل من صفاته غير الاسم، ودون ذلك لا أشبهه في شيء.

ضايقني أنهم اختاروا حجرتي رغم ضيقها وسوء حالها، لكنهم غمروها بأضواء قوية، فبدوا في ملابسهم البيضاء ناصعين حتى لم أعد قادرًا على تمييز ملامحهم، فيما أنا وجدي نجلس متواجهين على الأرض في انتظار الحُكم.

استمر في القراءة مؤامرة

نصوص في لمح البصر…سيد الوكيل

لمح البصر

أمر هدد

وجدته هنا في شقتي، ممسكاً بإنذار المحكمة، وفي الخارج سمعتُ صوت عمال الهدد، يحتشدون على السلم ومعاولهم فوق أكتافهم.

قال: نريد إنقاذ المكتبة، فالمبني آيل للسقوط.

 صرختُ: هذه شقتي.

استمر في القراءة نصوص في لمح البصر…سيد الوكيل

فن كتابة الأحلام ..تأسيس نظري : سيد الوكيل

إذا نظرنا إلى أحلام فترة النقاهة، سنرى أن الرغبة في سبر الواقع الداخلي للإنسان، الذي يتجاوب مع المعنى الواسع للواقعية الإنسانية. يتشكل في صور مختلفة، تومض على نحو غامض في ثنايا النص الإبداعي سردًا وشعرًا، وتصوفًا، وفلسفة.. إلخ. لكنه ينتهي إلى شكل أدبي جديد ومستقل، بل ومتفرد بذاته في نهاية رحلة الجمال المباركة عند نجيب محفوظ” إن النشاط الحلمي المتميز، يمكن أن يعتبر نوعًا من الإبداع في ذاته، إذا وسعنا تعريف الإبداع بما يستحق”[1](1). كما أن الحلم من إبداع الحالم، وهو الذي يحدد حبكته كما يذهب إريك فورم.

استمر في القراءة فن كتابة الأحلام ..تأسيس نظري : سيد الوكيل

مدد الأحلام …سيد الوكيل

إن كتابة الأحلام ليست شكلاً  مغلقا على نجيب محفوظ صاحب ( أحلام فترة النقاهة ) بقدر ما هو فضاء سردي واسع، طالما مارسناه بين صفحات قصصنا ورواياتنا، بل وفي حياتنا اليومية. غير أن  نجيب محفوظ أعطى لسرد الأحلام مشروعية أن يكون فنًا أدبيًا مقصودًا لذاته، حيث يمكن لأي منا أن يدلي فيه بدلوه، كل على قدر استطاعته وإمكاناته. فشأن كتابة الأحلام، شأن كتابة القصة، أو الرواية، أو السيرة الذاتية التي أعطاها محفوظ سمت الأصداء، فتجاوزت الطابع السير ذاتي، لتنتهي إلى شظايًا، أو ومضات ورشفات مكثفة، ومستقلة عن بعضها البعض، لا تستسلم لتراتبية زمنية ممتدة. وتنزع إلى التجريد، وتتاخم حدود الرؤى والتأملات والخيالات.

 في هذا السياق، يكتب محمود عبد الوهاب (أحلام الفترة الانتقالية) ويكتب شريف صالح (دفتر النائم) وكتبت أنا (لمح البصر ).. إلخ

استمر في القراءة مدد الأحلام …سيد الوكيل

سيد الوكيل يَعُبُر للطرف الآخر في «لمح البصر»

شوقي عبدالحميد يحيى

وسط ضوضاء ما يسمي بالـ (ق. ق. ج.) أو القصة القصيرة جدًا، الخالية من القصة، بزعم أنها لون أدبي جديد، يثبت سيد الوكيل أن علي من يريد خلق نوع أدبي، أو يطور نوعًا أدبيًا، بحجة مناسبة ومسايرة العصر، عليه أن يفعل ذلك من داخله، لا أن يهبط عليه من الخارج، فيما يشبه الاختطاف، أو السطو. فينحت لنفسه منهجًا، مسايرًا ما درج عليه في كل عمل إبداعي قدمه، من التجريب والتطوير، حتي أمكن أن نطلق عليه المبدع المطور، بفتح الطاء، وبكسرها. فيقدم تجربة ثرية جديدة في مجموعته “لمح البصر” التي تثبت أن مجال التطوير والمسايرة، لن يتوقف، إذا ما توافرت الموهبة الحقيقية، والرغبة في عدم الركون للسائد والقائم. معتمدًا علي تقنية الحلم، وإن لم يغفل رد الفضل لأصحابه، معترفا بأن الرؤية جاءته من خلال “أحلام فترة النقاهة” لأستاذه وأستاذ الأجيال في السرد العربي – الرواية خاصة -نجيب محفوظ، فقدم المجموعة متصدرة بإهدائه إليه، مستخدمًا –حتي– في هذا الإهداء بذات التقنية المعتمدة علي الحلم. حيث نقرأ:

( إلى نجيب محفوظ

سارد الأحلام العظيم

الذي جاءني في المنام

وأعطيته حجرًاً، فقبله).

حيث تدخلنا الكلمة الأخيرة في الإهداء، في باب الحيرة، فلم يشأ الكاتب أن يشكلها لتقبل القراءة بفتح القاف وكسر الباء لتكون من (القبول). أو أن تكون بفتح القاف وتشديد الباء، لتكون من التقبيل، وكلا القراءتين يمكن أن تعطي صورة الحلم، الذي قد يكون من التعنت في الكثير من حالاته، محاولة البحث عن معني محدد. ويتركنا الكاتب نتخبط في كلا القراءتين، إلي نهاية المجموعة، وفي القصة الأخيرة، المانحة اسمها للمجموعة “لمح البصر” يمنحنا الطريق حين نجد صاحبنا قد دخل علي نجيب محفوظ: ( فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسمًاً، فلم أدر ماذا أفعل، غير أني ناولته الحجر الذي طرقتُ به الباب، فأخذه مني، ووضعه في خُرْج بجواره، وعاد ينكَبُ على كتابه) فنعرف أنه أخذ الحجر، ذلك الحجر الذي استخدمه في الطرق علي الأبواب الصاخبة، ولنعلم أنه نجيب محفوظ قد جمع الكثير من هذه الحجرات، التي استخدمت للطرق، والتنبيه من الصخب، وأن لا جدوي من الآذان في مالطة. ليؤيد ذلك الرؤية الثالثة في مجموع رؤي المجموعة والتي نتعرف عليها لاحقًا.

استمر في القراءة

قراءة في قصص ( لمح البصر) لسيد الوكيل. بقلم: محمود الحلواني

محمود الحلواني

“انتهيت إلى طرقتين متقابلتين، كانتا غارقتين فى الظلام،

وكان لا بد من الاختيار .. إلى أى ظلام أمضى ؟ “

حافة الموت

تمثل مجموعة سيد الوكيل ” لمح البصر “(1) ما هو أكثر من كونها عملا أدبيا، أراه مدهشا ومثيرا للمتعة والتأمل الجماليين، كما تتعدى قيمتها ـ عندي ـ مجال اشتغالها الأدبي، كنص سردي، جمالي، فردى، إلى صلاحيتها لأن يُنظر إليها بوصفها وثيقة، أحسبها أكثر صدقا وحساسية في التعبير عن عصر من الخوف والقلق، لم يكفه أن يثير فزع الناس في وضح النهار، فراح يفترش حدائقهم الخلفية ليلا، يعبث بأحلامهم، ويسممها، ويحيلها إلى كوابيس .

لعل ما يمنح نصوص ” لمح البصر” مانعتبره صدقية الوثيقة، هو أنها اختارت أن تسلك في التعبير عن حساسيتها لخطاب العنف المعاصر،   أن تتدفق   رأسا من منطقة اللاوعي، متيحة للأحلام الفرصة كاملة لأن تشغل مساحة السرد، كلها، وتنطلق بمخزونها من التجارب والخبرات النفسية الأعمق، والأكثر مباشرة وصراحة في التعبير عن ذلك الجانب المعتم من الذات، وإفشاء صور معاناته الوجود في العالم . ذلك الجانب الذي يقدمه الكاتب بوصفه أرض الحقيقة، وهو ما يمكن أن نقرأه في ذلك الحوار المتخيل الذي يصدر به الكاتب مجموعته :

استمر في القراءة قراءة في قصص ( لمح البصر) لسيد الوكيل. بقلم: محمود الحلواني

قراءة في ( لمح البصر) بقلم: عادل العدوي

10406525_860944620623519_1683526736850264366_n

بعد رحلة طويلة مع التجريب في الكتابة القصصية، بداية من «أيام هند»، ومرورا بـ«فوق الحياة قليلا»، وصولا إلى «الحالة دايت»، يقدم لنا الروائي والناقد سيد الوكيل مجموعته القصصية «لمح البصر»، التي جاءت ممهورة بإهداء مراوغ منه للكاتب العالمي الراحل نجيب محفوظ، إذ يقول: «إلى نجيب محفوظ.. سارد الأحلام العظيم.. الذي جاءني في المنام.. وأعطيته حجرا، فقبله». يوحي إلينا الوكيل عبر هذا المنام كيف جاءته فكرة كتابة مجموعته القصصية التي سردها على صورة أحلام، كما يقول، وكما يقول بعض النقاد، إذ يربط البعض بين «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ و«لمح البصر» لسيد الوكيل، على اعتبار أن كليهما استخدم تقنية الحلم في البناء السردي. لكن هذا الربط، رغم معقوليته، قد يحول بين النص وعملية القراءة، ويدخلنا في مدارات شائكة ومثيرة، وقد تكون ممتعة، لكنها في النهاية لن تقدم قراءة نقدية واعية لمحتوى النص القصصي عند الوكيل، كما أن حصر النظرة النقدية في منجز التحليل النفسي فقط قد يضيق الرؤية حول النص ويحول بينه وبين ما يكتنزه من دلالات قد تضعه في صدارة المشهد القصصي.

يتكوّن كتاب «لمح البصر» من 39 قصة قصيرة، بعضها لا يتجاوز الصفحة الواحدة،، كما أن ترتيب القصص لا يشكّل تراتبا زمنيا؛ يفضي إلى غرض دلالي محدد، من حيث تاريخ الكتاب، مما يتيح لنا تقديم وتأخير بعض القصص دون الإخلال بالمضمون الكلي للنص، الأمر الذي يمنح النصوص حيوية الانفتاح على البدايات والنهايات معا.


فلو حاولنا إعادة ترتيب القصص بشكل آخر ربما نحصل على قراءة قد تكون أقرب إلى الروح التي كتب بها النص، فمجموع النصوص يرصد مراحل النمو الإنساني في حياة الفرد، بما يمتلك من تاريخ نفسي وجسدي يفرض نفسه على حالة الكتابة، والكتابة نفسها تشكّل سلطة باطشة تفرض إرادتها على الوكيل، لذا فإنه دائم التجريب بشكل مستمر، فلا تستنسخ الكتابة ذاتها ولا تتكرر، إنما هي مستمرة في تجددها، ودائما في حالة تعبير عن النفس، تغير ملبسها من آنٍ لآخر في رحلة البحث عن كنهها: متسائلة.. مضطربة.. قلقة.. مقاومة حتى لا تقع فيما هو سائد.
يسرد الوكيل تاريخه الشخصي عبر نصوصه القصيرة، إذ ينهل حدثه القصصي من منطقة اللاوعي، فتبدو الصور والرغبات المكبوتة حقيقة ملموسة في منطقة الوعي محققة ذاتها بقوة الكتابة وقدرة الإبداع، خاصة في ما يتعلق بالجنس، الذي يعد – حسب مجموع النصوص لدى الوكيل – أساسا لكل رغبات الفرد، إذ ترتبط الدوافع والأفعال عنده به، وذلك منذ ولادته وحتى مماته، لتشكّل في النهاية سيرة ذاتية لا تتكئ على الواقع المادي، رغم كونها تمثل اليومي والمعيش من زاوية المتخيل. لكن اللافت هنا أن الروحي والمتخيل يتساوى مع الواقعي والملموس عند الوكيل، ولكي يحقق تلك المعادلة نجده ينتهج بنية سردية تبتعد عن البناء الدرامي الهرمي، ويلجأ إلى عدة تقنيات تتضافر جميعا في إخفاء وغموض التعبير عن الرغبة، خاصة في لحظات البوح عن الرغبة نفسها ومحاولة عبورها من اللاوعي إلى الوعي.
يعتمد الكاتب ضمير المتكلم (الأنا) اعتمادا أساسيا ليؤكد على الشخصي والذاتي، كما يعتمد أيضا على الفعل الماضي ليؤكد على التاريخي، ولأن الشخصي والتاريخي قابعان في اللاوعي، فإنه يخضع لسيطرة سلطة مؤسسية تتمثل في تابو ثلاثي: اجتماعي وسياسي وأخلاقي، يمارس نوعا من القهر على الفعل، فيظل ثمرة نيئة في منطقة اللاوعي، في صورة رغبات ومشاعر، تومض وتتخفّى في نسيج النص، وكأنها حرية مكبوتة تحاول التعبير عن نفسها من آنٍ لآخر دون التصادم مع تلك السلطة، والعبور إلى الوعي متحققة في الكتابة.
وفقا لهذه الرؤية يمكن إدراج النصوص فنيا في ثلاثة مستويات، يعبر الأول منها عن مرحلة من مراحل النمو، إذ تنتمي بعض النصوص لمرحلة الطفولة ويستدعي الكاتب حياته أثناء تلك المرحلة في الآني اللحظي المتحقق في محاولة لإشباع رغباته المكبوتة منذ الطفولة، فنجده يتذكر «كاترينا» زميلة الدراسة، ويتساءل في قصة «حبر على ورق» بروح الطفل قائلا: «أغمضت عيني حتى سمعت صخب زملاء المدرسة من حولي، ورأيت كاترينا بينهم. لا أعرف متى كبرت»، وتتنوع هذه النجوى من مناخ الطفولة بإيقاعات سردية شيّقة في: «أسماء»، و«شجرة الألعاب»، وغيرهما.
ويلعب المستوى الثاني من القصص على وتر مرحلة الشباب، وغالبا ما تتسم أجواؤها بالحيوية والاحتكاك بالواقع وتصطدم بالرقيب الذي يحول دون تحقيق الطموحات ويعوق الفعل، فيلجأ إلى التمرد والثورة، وأحيانا يحاول تكسير الثوابت التي نشأ عليها منذ الطفولة، مثل: «ممر ضيق»، و«برزخ»، و«قلق الأربعين»، و«البدائي الذي هناك»، و«طقوس الدوام».
وفي المستوى الثالث تلعب القصص على إيقاع النضج الإنساني بوجه عام، ويتضح فيها ذكاء النفس ورزانة العقل وتتحلى بالحكمة، وفيها يكثر الحديث عن الموت ومحاولة اكتشاف كنهه، مثل: «اللعبة»، و«غرفة العناية الإلهية»، و«حافة الموت»، و«خالص العزاء».. وغيرها.
ولا تفترق هذه المستويات فيما بينها، بل توحدها المجموعة في إطار رؤية مهمومة بالوجع والحلم الإنساني، في أقصى لحظاتهما نصوعا، وخفوتا، كما تتضافر لتشكيل بنية قصصية تتسم بالعمق والنفاذ، تتموج فيها الأحاسيس على ضفاف النصوص في حركة لا تنتهي من المد والجزر، وهو الأمر الذي ساهم بقدر كبير في وضع نظام شكلي للنص يصعب تفسيره إلا من خلال إدراك هذه البنية النفسية وتحديد العوامل الاجتماعية التي تلعب دورها في تكوين شخصية أسطورية للكاتب، خاصة في مرحلة الطفولة، لذا، فإن التنويعات المختلفة والمتعددة في النص تأتي ضمن صفة عامة، تربط أجزاءه بحيث لا يبدو تناقض بينها، بل تشترك وتتضافر في الإيحاء بهذا النظام الشكلي.
يعزز ذلك أن القاص يتكئ على التاريخ النفسي للفرد في مجموع النصوص، بحيث يتتبع مراحل نموه منذ الطفولة إلى سن الرشد وحتى الكبر، وعلى الرغم من أننا نستطيع الفصل بين تلك المراحل والقيام بعملية التأويل، فإنها، في نهاية الأمر، تخلص إلى عدة مفاهيم حول الجسد والنمو والعقل والعاطفة والتجربة الشخصية. ومن ثم تشتبك مثل هذه المفاهيم الشخصية الفردية بالإطار الثقافي والاجتماعي، أي البيئة التي تولّدت فيها هذه النصوص.
كما يركّز الوكيل على تتبع أفعال النمو ومراحله: كيف ينمو المرء، تحت أقواس من التقدم والانحسار، الخفاء والتجلي، الانعتاق والكبت، خاصة في ما يتعلق بمراحل النمو الجنسي؟ كيف يبني المرء أنساقا نفسية وعاطفية تتداخل مع علاقاته الأبوية (الأسرية) والاجتماعية والثقافية؟ ويربط الوكيل بين الخاص (الشخصي) والعام (الإنساني والمادي والزماني)، ومن ثم فإن التعبير أو النظام الشكلي عنده، سواء أكان سلوكا أو لغة أو خيالا، عبارة عن مجموعة علاقات معقدة تتوسط وتتدخل في كل ما يفعله أو يقوله أو يحلم به، إذ يضرب اللاوعي بجذوره في البنى العاطفية والجسدية للحياة الجنسية التي يفترض إشباعها أو كبتها.
وفي النتيجة، فإن نص الوكيل تعبير عن رغبة ما ومحاولة إشباعها، سواء أكانت ناتجة عن علاقته بذاته أو البيئة أو العالم من حوله. لكن الرقيب المتمثل في الحظر الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضا، دائما ما يمثل عائقا بين الرغبة وإشباعها، لذا فإن تلك الرغبة المكبوتة تجد لها متنفسا من خلال القناع والصيغ المحرفة، فيلجأ الوكيل إلى عدة آليات دفاعية كالتكثيف والإضمار والإغراق في غموض الدلالة، حتى يتجاوز ذلك الرقيب وينتشي بإشباع رغباته، ولو في مجرد «حبر على ورق»، إحدى قصص المجموعة. استمر في القراءة قراءة في ( لمح البصر) بقلم: عادل العدوي

غرفة العناية الإلهية. قصة: سيد الوكيل

 لأصل إلى حجرة الانتظار، كان علىَ أن أجتاز ممراً يعج بالراغبين في مقابلته.

هذا هو المقعد الذي أعتدتُ الجلوس عليه في زاوية صالة البيت.  هنا لاشىء آخر غيره، وعلىّ أن أجلس في انتظار أن يُسمح لي بالدخول.

 هكذا أبلغني سكرتير مكتبه، ثم طلب مني أن أخلع نظارتي، فليس لأحد أن يدخل عليه بنظارة.

الأرضية عارية تماماً، لا أثاث ولا بُسط. ورائحة نفاذة لمطهرات تملأ المكان، وباب وحيد في مواجهتي أرنو إليه في رجاء أن يؤذن لي بالدخول. وأنا جالس.. أنتظر.

  نظرت تحت قدمي فرأيتها بوضوح، ورقة بمائة جنيه، مطبّقة عدة مرات. تذكرت أن السكرتير جردني من نظارتي، عندئذ راحت ألوانها تتماهى مع بلاطات السيراميك الذي اختارته زوجتي لصالة بيتنا. غير أني أمسكتها بسرعة قبل أن تختفي، دسستها في جيبي، وفكرت أنها تكفي لشراء نظارة جديدة، عندئذ أحسست بيده الكريمة تربتُ على كتفي من خلف، فيما كان باب مكتبه مازال مغلقاً في بهاء.

 إختلت الأبعاد في خاطري فلا أدري إن كنت في بيتي أم في مكتبه، كان فضاءاً فسيحاً ومضيئاً حتى بدا الباب كأنه معلق في الفراغ، غير أني رأيت ملامحه الوسيمة بوضوح، وهو يدنو بوجهه من وجهي. وسألتُ نفسي في حيرة، هل عرف بأمر مائة الجنية؟ فهز رأسه وابتسم.

كانت ابتسامته مهيبة، حتى ملكني خوف، فأخرجت مائة الجنيه وقدمتها له فأخدها في ارتياح، ثم أعطاني ظهره ودخل مكتبه.

بينما كنت ألوذ بالفرار بين قطع الأثاث الفاخر، لم يكن في المكان إلا هو، كلما مررت بحجرة وجدته، حتى انتهيت إلى باب أخير، عندئذ سمعت صوت سكرتيره يهتف بي:

ـ ها أنت تعرف الطريق بدون نظارة.