أرشيف الأوسمة: محسن يونس

شهادة الكاتب الكبير الأستاذ محسن يونس

رؤية السارد لعمله

الكتابة رسالة حضارية نبيلة .أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي ، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا .الكتابة فعل إنساني قيْمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ،نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلى ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله ..الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة ، وتفضح الظلم والتحيّز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّى أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري ، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوى الوعي والفكر للإنسان ، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات ، والإحساس بالمسؤولية ، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالى الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها ، ولن يكون لوجوده على الأرض أى معنى إلا بتأدية هذه المسئولية ، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود ، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته ،وبما يوفره له من أسباب العيش . . الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا فى الفراغ ، هى فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع ، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه،وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين ، وكلما كانت الكتابة ” واقعية” ، والواقعية هنا لا بمعنى التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل ، بل بالمعالجة الواقعية ، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلى وعيه المتوازن ، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية ، كان أدْخلَ إلى القلب وأفْعلَ في النفس .

إن الكتابة هي قضية الإنسان الواعي الذي يعايش قضايا عصره لا كمتفرج ولكن كفاعل ، لأن الكتابة سلطة تمارس وظيفتها في التنوير وفي التوجيه آنيا وتستشفّ الآتي فتنير له الدرب .. والكتابة ليست بالأمر السهل ، بل هي نشاط فكري مُضْنٍ يتطلّب الكثير من الجهد والتوتر العصبي والأرق والبحث الدؤوب المتواصل ، من أجل العثور على الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النصّ كيفما كان جنسه ، وصبّ ذلك في قالب أخّاذ يستهوي المتلقّي ويمتعه ويبعث في نفسه الراحة والأمل .ولا يتصوّرنّ أحدٌ أن الكتابة مطواعةٌ تنصاع في كل لحظة ، وبالإمكان الإمساك بها كلما رغبنا ،  وتنقاد لأيّ مخربش بسهولة ، وقد قال الجاحظ قديما :

  (المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدويّ والقرويّ و…..) لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة ؟

من هنا أبدأ وأقول : كنت وما زلت أحب القصص – أى السرد – ، ذلك لأن الماء والسماء كانتا متعانقتين حيثما أولى وجهى ، فهل لذلك علاقة بما قلت من أننى أحب القصص أى السرد ؟

 بين الماء والسماء توجد يابسة فوقها ناس ، اكتشفت حين تم لى الوعى بما حولى أنهم يجعلون للماء والسماء كل الحضور لديهم ، فها هو الواحد منهم ينظر للسماء مدة مفكرا ، ليعلن بعدها أن الآوان قد صار مواتيا للخروج إلى الماء ، وربما فى أحد هذه المرات التى يتطلع فيها إلى السماء يكتشف خبرا آخر، فيهيب بالآخرين أن يلزموا اليابسة ، فهناك ” نوة ” فى الأفق، كنت أرى السماء حيادية ، وأندهش من جرأة هذا على التأكيد بيقين لا يقبل أى ذرة من شك ، أن الرياح سوف تهب ، وأنها ستكون عاتية ، محددا أيضا اتجاهها وتعلمت أن الطبيعة يمكن قراءتها ، مع أنها غشوم ما زالت ، وسوف تظل ، ينبغى التعامل معها بحكمة وفهم ، بأفق واسع ، كانت حياة هؤلاء البشر الذين نشأت بينهم قصة تولد نفسها ، وليس لها من انتهاء ، أثناء العمل كانت الحكايات كتاب الراحة من العناء ، وكانت تتركز حول إشاعة عن فعل أحدنا الشبق ، وتأتى أسماء النساء ، يتجلى فيهن حضور الاجتماعى ، وما هو طبقى وتأتى الأسرار منفلتة من سريتها إلى العلن ، ثم تأتى الشكاوى من الحياة نفسها، وتأتى السياسة أيضا ، وتحط بثقلها على الألسنة ، ولا شىء يمنعها من خوف ، أو تحرز فنحن بين ماء وسماء ولا يوجد أى ممثل للسلطة على المراكب فى رحلة الصيد ، كما أننا بعيدون عن اليابسة محط كل شر ، ولا تأتى الأغنيات إلا على شكل همهمات تستغل للتحفيز على مواصلة العمل ، لا شىء إلا العمل ، وكل ما كان هو تكأة لا أكثر ، أكتشف الآن أنه لم يظهر على يابستى شاعر ، وأندهش ، فأنا أعرف أن أى جماعة تنتج شاعرها إلا جماعتى ، وهذا ليس قدحا فى الشعر ، فأنا أحبه ، وأقف هازا رأسى عندما أرى كثيرا من الشعراء قد تحول إلى كتابة السرد .. هل السرد فيه سحر يجذب هؤلاء إلى مملكته ؟

أهلى وعشيرتى إذن كانوا من الحكائين العظام ، حتى لو أخبرك واحد منهم بخبر ما ، فسوف يقدم ويؤخر ، ويومىء ، ويمثل ، ليصلك الخبر وأنت تفتح فاهك دهشا ، فقد استحوذ عليك كليا ، ويثيرنى هذا العنوان ” أسئلة السرد ” وأحاول تأمله من زاوية أخرى غير تلك المقصودة بطرحه النقدى والجمالى مع تغير موجات من يكتبون السرد ، ومحاولتهم الواجبة أن يكون سردهم مغايرا ، والمغايرة مطلوبة بل حتمية ولا فكاك من حتميتها ، فأبواب السرد تفتح لتسلمك إلى باب آخر عليك فتحه فتفاجىء بباب آخر عليك فتحه ولا يعطيك العمر وقتا كافيا لفتح كل الأبواب، ولو عشت إلى الأبد فلن تنتهى إلى الباب الأخير للسرد أبدا ، أحاول أن أتأمل مقولة ” أسئلة السرد ” من منظور الماء والسماء ، فأما من ناحية الماء فيحضرنى شيئان ، الأول ما كانت أمهاتنا تفعله عند ميلاد طفل ، فيأخذ خلاصه فى آنية ، ويوهب للماء ، بعض القبائل فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يدفنون هذا الخلاص ، ولكنا نهبه للماء ، ويحضرنى هنا – وهذا هو الشىء الثانى – ما كتبه ميرسيا إيلياد – فى كتابه صور و رموز – ترجمة حسيب كاسوحة  ، حيث كتب : ”  ترمز المياه إلى مجموعة القوى الكامنة ، وإلى جملة الإمكانات الكونية .. إنها الينبوع والأصل ، وأنها الحوض الذى يضم كل إمكانيات الوجود ، وهى تسبق وجود كل شكل ، وتدعم كل خلق ، يشار إلى أن الصورة النموذجية لكل خلق هى الجزيرة التى تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج ، وبالمقابل يرمز الغطس فى الماء إلى الارتداد إلى حالة سبقت تشكيل الشكل ، وإلى استرجاع وضعية غير متميزة وغير واضحة المعالم سادت قبل الوجود . إن الطفو فوق سطح الماء يستعيد فعل الخلق الكونى المتمثل فى ظهور الأشكال ، وأما الغوص فى الأعماق فيوازى انحلال الأشكال ، لهذا تتضمن رمزية الماء الدلالة على الموت وعلى الانبعاث على حد سواء .  “

أما من ناحية السماء فهى الأفق الذى ينحني على الماء محتضنا يمكن له أن يمطرها برزازه وشمسه ورياحه باعتدال طقس أو بأعاصيره ، هو الروح التى تظل تسعى ولا تهدأ أبدا ، فى مفهومى هذا المتواضع للسرد يمكننى أن أزيد وأفسر حالتى أنا كاتب هذا السرد والواقف كإنسان على جزيرتى بين الماء والسماء ، ينبغى على السارد أن يكون فى حالة كتابة دائمة حتى لو لم تتحقق هذه الحالة لتصير ورقا خطت على وجهه رؤية السارد لهذا العالم ، كما تلازم القراءة الكتابة تتعانق الحالتان ، وقبل التحقق أخرج بصفتى السردية للناس ، أثرثر كثيرا ، وأثير الكثير من الأسئلة ، وأرفض الإجابات النهائية وكأنها تمتلك الحقيقة ، وهى لا تمتلكها ، ويكون الجدل مستمرا لأنه يبدو أن السارد يحتاج إلى المعرفة ، وهو يحتاجها بالفعل قبل الشروع فيما يسمى بالتجربة الإبداعية .. فى كثير من الأحيان لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة والمشاكسة ، وبيم ما يتحقق على الورق ، إلا أن حالة ” البحث ” و ” الدهشة ” و ” التأمل ” و “ّ الانغلاق ” و” التفتح ” تلازم السارد فترة من الزمن ّ، ثم تأتى الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بى ، ولا فكاك منها ، وهذا سر خاص بالسارد ، يحاول أن يفض غموضه ، إلا أنه ينسى أن يضع له إجابة أو يحاول صناعة إجابة تجعل هذا السر يخرج من قمقم السرية إلى العلانية ، شىء آخر – مهم جدا – قبل الشروع فى عملية الكتابة لابد للسارد أن يحيط بكل ما يريد أن يسطره .. لا يبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب .. هذا مؤجل لما بعد ، يعرف السارد أنه سوف يأتى إذا كان صادق العزم ممتلئا بحزن جميل وتوفز أصيل ، طال توتر القوس ، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق بعد معرفة موضع قدمه وموضع رأسه ، يحاول السارد مجاهدة كل هذا ، ويبقى مع هذا سر العمل الكتابى الذى تقوم قيامته على الورق .. إذن يلزم السارد فى هذه اللحظة قلم وورق وفكرة طال بها معاركته ، وتظل تطارده إلى أن يصرخ ، فقد جاء وقته وأمسك أخيرا بها وعليه أن يبدأ ..

هل يخرج السارد عن هذه القاعدة ؟

قد يحدث – رغم هذه القاعدة استثناءات ، فجأة بلا مجاهدة ، فقد يكتب السارد أعمالا لمجرد الخروج من التوتر ، والغضب ، ولا يهم المكان .. حجرة هادئة أو مقهى يعج بضجيج الحياة ، إذا قلنا مع “أرنست فيشر” فى كتابه الهام ” ضرورة الفن ” إن المضمون تقليدى بينما الشكل ثورى ، يجابهنى فورا سؤال جاءنى من القائمين على أمر هذا المؤتمر والشعار الذى رفعونه ” أسئلة السرد الجديد ” توقفت قليلا إلى أن تذكرت ما كتبته مارى تيريز عبد المسيح فى مقال يحمل عنوان «فضح الذات البطولية» كتبته وجاء فيه: «وصل الفن القصصي في مصر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الى حال من الأزمة والالتباس، اذ بدأت الأجيال الجديدة من الكتّاب المصريين ترفض الفرضيات التي كانت سائدة خلال فترة ما بعد الاستقلال، وهي تعتبر ان الكتّاب والفنانين هم رسل الأمة، وأن الفن حالة من التجلي.

ومنذ مطلع التسعينات بدأ الاهتمام يتركز في شكل متزايد على مكان الكاتب، وعلى الأبعاد «السياسية» للسرد – على رغم عدم التوصل الى اتفاق على تعريفه. وفي نهاية المطاف، بدأت «السياسة» تعني قلب كل المعاني الثابتة الناشئة عن السياسات الرسمية والأعراف الاجتماعية. ففي هذا النوع من الكتابة يوجد دائماً صراع بين النفس والمجتمع، والتلقائية والنظام الاجتماعي، ويكون الاهتمام قليلاً بالشكلية أو الرمزية والمرجعية التاريخية، مما ادى الى انفصام تام عن اعتبار اللغة «مقدسة».

إلا ان الكتابات لا تتسم بالفردية مع أن الكثيرين يلجأون الى مساءلة الذات، وكشف صورة الإنسان الواثق بنفسه في الأعمال السردية التي كتبت قبل عام 1967. إذ يتداخل صوت كاتب السيرة الذاتية بصوت الراوي، فيعكس الصوت المضاعف ازدواجية في الأعراف الاجتماعية التي اصبحت راسخة.

إلا انه لا يمكن اختزاله كذلك لاعتباره مجرد نقد للأعراف الاجتماعية او السياسية المتباينة. بل اصبح يتناول المواضيع التي حظر التطرق إليها منذ زمن بعيد بقصد او من دون قصد، ويتطرق الى المعضلة الوجودية، والخيارات المتناقضة او علاقات الحب المتضاربة، وقلب رأساً على عقب ما كانت وسائل الإعلام تصوره على انه بطولة أو رومانسية. ويبحث في العلاقة التي تربط بين الحب والعنف، وبين الحب والكراهية، وبين اللوعة والمتعة، والمواقف الاجتماعية إزاء العلاقات الجنسية، والصعوبة التي تكتنف اقامة علاقات غرامية تتجاوز القوانين الاجتماعية. ويصف الغموض واللبس بين الخيال والرؤية بعدما اصبح الفن السردي يعتمد اللغة البصرية، والتناقض بين «البصر» و «البصيرة».

وفي النهاية، يمثّل هذا الانشقاق أزمة الفن السردي الذي تخلى عن علاقته المرجعية مع «الواقع» ليصبح نشاطاً يومياً ضرورياً، بل نشاطاً سياسياً مستتراً. ومع الكشف عن الأقنعة التي تغلف النفس – وكذلك دولة الحزب الواحد – فإن الكتابة الجديدة تفضح النفس الموحدة البطولية، الفكرة الاستبدادية للأمة، والصوت الواحد.

أدرك هؤلاء الكتّاب الشباب الصعوبة التي تكتنف وضع الحياة في إطار واحد. فتخلوا عن الحبكات المحكمة التي تشمل عناصر مترابطة منتظمة، ليصوروا العناصر المشتتة، المراوغة والطارئة التي تشكل الحياة اليومية. أردت بهذا النقل المطول بعض الشىء أن أقول إن الإيمان بقدرة الساردين الآخرين على تجاوز ما وصل إليه السارد كاتب هذه الشهادة هو إيمان كالعقيدة تماما ، ورجوعا إلى استكمال شهادتى الشخصية ودخولا إلى معترك الفن والسحر أقول إن القصة تعنى لى كتابة مستحيلة تتحقق بنفس كنه هذا المستحيل ، تخرج عن شروطه لتقيم شروطها الخاصة ، وهذا المستحيل شرط يصبح سهلا ميسورا وممتلكا حينما تكون القصة ممتلئة برؤية غنية وثابة مستقبلية غير تبعية أو تقليدية ، كما أن عقيدتى الفنية تعتقد أن القصة هى ساحة التجسيد ، وأعدى أعدائها هو التجريد ، إذن القصة عندى هى حياة لها إيقاع التشابك والأفعال الحادة الصاخبة والسرية رغم ذلك ، ولا أعطى تلك الروشتة أهمية والتى يقولون إن القصة لا تكون قصة إلا بها : شخصية واحدة – موقف واحد إلى آخر تلك التعليمات .. أنظر إليها – هذه الروشتة – إنها ضد عقيدتى – إنها تحمل داخلها وضعية جامدة غير قابلة ومعترفة بالتطور وقدرة الفن على التجاوز دائما ، خاضعة داخل حلقة ميتة لا تنفك عن ذلك التجلى الدهش المستحيل عبر بلاغة غير الممكن عندما يتحقق .. القصة عندى هى الفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل بشكل العدسة ، وبين ما لا تراه العين وما لا تسمعه الأذن – وهو الأكثر وجودا وحضورا وأهمية وصراع العقل الفنى فيما هو الأكثر غيابا ، إذن أنا أهتم بما بعد تلك الرؤية ، أحاول كسارد أن أكتب رؤيتى لما أرى وأسمع ، لا ما أرى وأسمع ، وأرى أن تكون قدما السارد على الأرض ( الأرض – الواقع ) ورأسه فى السماء ( السماء – الخيال ) لى بيئة يعيش عليها وفيها ناسى الذين أنتمى إليهم ولا أستطيع خيانتهم – لا دهشة من قولى – فإن الكتابة لدى السارد إلتزام ليس بالمعنى السياسى ، بل بالمعنى الكامل المحتوى إبتعادا منه عن الدعائية المشمولة بالتسطيح ، وضيق الأفق وقصر النظر  ، فالسارد ليس ابن بيئته فقط ، بل هو ربيبها داخل مسرح مؤثراتها ، الشاهد عليها فى تحولاتها ، شهيدها كذلك ، للسارد بيئة أى أن له رمزه الذى يتميز به ثقافيا ، البيئة هى التى تستنطق السارد وتخرجه من معطفها المادى الرحب والغنى ، السارد نشأ فى بيئة صيادين وتجار أسماك وفلاحين ، عائلات تنتظم فى منظومة عقائدية وموصولة بتراث موغل فى القدم تحيط هذه البيئة بحيرة هى البداية وهى كل ما فى غيب مستقبلها ، وكل الكامن فى حاضرها .. كل الحكايات والقصص والمسكوت عنه فيها وعنها .. هل للسارد أن يخون رمزه ؟! هل لى أن أخون رمزى ؟! بالطبع لا .. السارد هنا يقترب من توضيح مفهومه للواقعية مع إعلاء ما كتبه جارودى من أن الواقعية بلا ضفاف .. رمزى يمتلك خيالى ، وخيالى يمتلك سمائى ، واقعى يمتلك خيالى ، خيالى يمتلك واقعى .. منظومتى إذن هى غرائبية هذا الرمز وقدرة هذه الغرائبية على استنطاق رمز قارئي المستخفى داخل ذاته فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع فى واقعه ..

هنا آراء في الكتابة المصرية الجديدة على لسان ساردين جدد:

صفاء النجار

الإنتاج الأدبي في مصر الآن هو إما طريقة للتنفيس عن الحال الشعورية لمن يكتب أو نوع من الرفاهية الفكرية التي لا تتماس مع الواقع بل تتعالى عليه. لذا هو أدب «غيتو» غير فاعل او مؤثر في الحراك الاجتماعي أو السياسي.

هناك كتابة جديدة على مستوى الشكل والمضمون لكنها تحبو داخل «غيتو» المثقفين فقط، ولا تهتم بنشرها سوى دور نشر خاصة صغيرة ولا يطبع منها سوى عدد محدود (ألف نسخة على أقصى تقدير) في حين تدعم المؤسسة الرسمية نشر الكتابات التقليدية التي تحافظ على ثوابتها.

مصطفى ذكري

ودّعت الكتابة الروائية الحديثة في مصر القضايا الكبرى التي كانت محط نظر الجيل القديم.

لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط كتابة بكل ألعابها الشكلية. وإن كان لا بد من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي الى الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة.

ابراهيم فرغلي

نجح الأدب المصري الجديد في السنوات الخمس الأخيرة ان يقتحم آفاقاً ارحب، وبدأ كـــــل كاتــــب من كتّاب جيل التسعينات بالبحث عن مشروعه الخاص. الآن هناك كتابة تبحث عن اسئلة جمالية خاصة كما في كتابة مصطفى ذكري، وبعضها يرصد حياة المهمشين في محاولة لكسر صورة البطل التقليدي لمصلحة العادي والهامشي كما في كتابة حمدي ابو جليل وياسر عبدالحافظ او محاولة كسر صيغ السرد التقليدية الى لغة متشظية تعبر عن تشتت الفرد في الواقع المعاصر كما في كتابة احمد العايدي او احتفاء بالحسي في شكله المعاصر بحثاً عن صوت إنساني يمقت النبرة الذكورية الشائعة كما حاولتُ شخصياً في «أشباح الحواس». وهناك تجارب جديدة تتخلق بأفكار وصيغ سردية غير تقليدية كما في أعمال منصورة عز الدين وصفاء النجار وحمدي الجزار. وهو ما يبشر بعوالم روائية غير تقليدية ستظهر مستقبلاً.

منصورة عز الدين

أهم ما يسم الكتابة الجديدة في مصر – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير – هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي أو عبر السخرية الشديدة منه وتحويله مسخرة، أو التعامل معه بحياد مطلق.

تتسم الكتابة الجديدة ايضاً في معظمها بالتجرؤ على الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية او دينية او اجتماعية. ولكن من ناحية اخرى ثمة غزارة شديدة في الإنتاج الروائي، هذه الغزارة مع عدم وجود فرز نقدي حقيقي ربما تدفع الرواية الجديدة في مصر الى مأزق كبير، خصوصاً ان سهولة النشر ادت الى تجرؤ بعضهم الى فن الروا ية من دون توافر الموهبة او الدراية الكافية بتقنياته وأساليبه.

لكل سارد أن يؤمن بقضيته التى يرى أن يعلنها على الناس ، ولكن الملاحظ أن تكريس القطيعة بين عوالم السرد ، وتلك المحاولة المستميتة والشيطانية فى تقسيم السرد والساردين فى عقود زمنية مدة كل عقد كما هو معروف عشر سنوات ، تتجاور هذه المحاولة مع محاولة أخرى أشد منها شيطانية ، وهى تقسيم البلاد إلى قاهرة وأقاليم ، إلى أى شىء تكرس هذه المحاولة أيضا ؟ يقول المنظمون لهذا المؤتمر بالعودة إلى الأدب ، البحر ملآن وليس بفارغ على امتداد الخريطة ، والسرد خاضع لمعطيات واقعية وتاريخية ، يكون السارد داخلها يعاركها وتعاركه ، لا يقفز قفزة فى الظلام ، ولكن يبقى اجتهاده أصيلا ، وليس عليه فى هذه الحالة أن يفرض طريقته الخاصة فى السرد منحيا اجتهادات الآخرين تحت أى ادعاء ، فالقراء المتابعون والمحبون لقراءة السرد يبدون فى هذا الادعاء غائبون ، وهم الذين ينبغى على السارد أن يكونوا محل اعتباره ، بعيدا عن دعاوى التطور أو التنظير البعيد عنهم ، فأنا لم أر دراسة تهتم بالقراء ومدى ارتباطهم بشكل سردى معين ، أو دراسة فى تلقى عمل سردى وكيف ولماذا حاز القبول ، كما أننى هنا أريد لمؤتمر يشارك فيه جمهرة من الكتاب أن يكون مؤتمرا نوعيا ، بمعنى أن المؤتمرين الذين يمتهنون مهنة الإبداع عليهم أن يناقشون مشاكل الإبداع ذاته ، وكيف يوسعون رقعة القراء ، إلى جانب مشاكل النشر والتوزيع بجدية واهتمام أكبر .

هذه شهادتى التى لا ألزم أحدا باعتناقها ، ولكنها قابلة للحوار المثمر فى مواجهة هذا التشرزم والتباعد بين الكتاب ، وكل منهم يركب جزيرة فى بحر واسع ..

هذا وعلى الله قصد السبيل ..

عودة إلى الفهرس

محسن يونس.. شهادة عن التجربة الإبداعية.


محسن يونس

أول نشرلهذا الموضوع، كتاب أبحاث مؤتمر ( السرد الجديد -2008م)

رئيس المؤتمر الأستاذ خيري شلبي، أمين عام المؤتمر سيد الوكيل

الكتابة رسالة حضارية نبيلة . أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا . الكتابة فعل إنساني قيمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ، نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلي ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله .. الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة، وتفضح الظلم والتحيز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّي أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوي الوعي والفكر للإنسان، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات، والإحساس بالمسؤولية، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالي الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها، ولن يكون لوجوده علي الأرض أي معني إلا بتأدية هذه المسئولية، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته، وبما يوفره له من أسباب العيش.. الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا في الفراغ، هي فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه، وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين، وكلما كانت الكتابة ” واقعية”، والواقعية هنا لا بمعني التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل، بل بالمعالجة الواقعية، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلي وعيه المتوازن، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية، كان أدْخلَ إلي القلب وأفْعلَ في النفس .

استمر في القراءة محسن يونس.. شهادة عن التجربة الإبداعية.

رؤية السارد لعمله، بقلم:محسن يونس

الصفحة الرئيسية

شهادات الأدباء عن أنفسهم

( مؤتمر أدباء مصر 2008م)

0 تعليق مرسلة بواسطة fawest في 3:49:00 م

الكتابة رسالة حضارية نبيلة . أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا . الكتابة فعل إنساني قيمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ، نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلي ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله .. الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة، وتفضح الظلم والتحيز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّي أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوي الوعي والفكر للإنسان، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات، والإحساس بالمسؤولية، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالي الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها، ولن يكون لوجوده علي الأرض أي معني إلا بتأدية هذه المسئولية، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته، وبما يوفره له من أسباب العيش.. الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا في الفراغ، هي فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه، وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين، وكلما كانت الكتابة ” واقعية”، والواقعية هنا لا بمعني التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل، بل بالمعالجة الواقعية، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلي وعيه المتوازن، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية، كان أدْخلَ إلي القلب وأفْعلَ في النفس .إن الكتابة هي قضية الإنسان الواعي الذي يعايش قضايا عصره لا كمتفرج ولكن كفاعل، لأن الكتابة سلطة تمارس وظيفتها في التنوير وفي التوجيه آنيا وتستشفّ الآتي فتنير له الدرب .. والكتابة ليست بالأمر السهل، بل هي نشاط فكري مُضْنٍ يتطلّب الكثير من الجهد والتوتر العصبي والأرق والبحث الدؤوب المتواصل، من أجل العثور علي الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النصّ كيفما كان جنسه، وصبّ ذلك في قالب أخّاذ يستهوي المتلقّي ويمتعه ويبعث في نفسه الراحة والأمل . ولا يتصوّرنّ أحدٌ أن الكتابة مطواعةٌ تنصاع في كل لحظة، وبالإمكان الإمساك بها كلما رغبنا، وتنقاد لأي مخربش بسهولة، وقد قال الجاحظ قديما :(المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي و…..) لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة ؟من هنا أبدأ وأقول : كنت وما زلت أحب القصص – أي السرد – ذلك لأن الماء والسماء كانتا متعانقتين حيثما أولي وجهي، فهل لذلك علاقة بما قلت من أنني أحب القصص أي السرد ؟بين الماء والسماء توجد يابسة فوقها ناس، اكتشفت حين تم لي الوعي بما حولي أنهم يجعلون للماء والسماء كل الحضور لديهم، فها هو الواحد منهم ينظر للسماء مدة مفكرا، ليعلن بعدها أن الأوان قد صار مواتيا للخروج إلي الماء، وربما في إحدي هذه المرات التي يتطلع فيها إلي السماء يكتشف خبرا آخر، فيهيب بالآخرين أن يلزموا اليابسة، فهناك ” نوة ” في الأفق، كنت أري السماء حيادية، وأندهش من جرأة هذا علي التأكيد بيقين لا يقبل أي ذرة من شك، أن الرياح سوف تهب، وأنها ستكون عاتية، محددا أيضا اتجاهها وتعلمت أن الطبيعة يمكن قراءتها، مع أنها غشوم ما زالت، وسوف تظل، ينبغي التعامل معها بحكمة وفهم، بأفق واسع، كانت حياة هؤلاء البشر الذين نشأت بينهم قصة تولد نفسها، وليس لها من انتهاء، أثناء العمل كانت الحكايات كتاب الراحة من العناء، وكانت تتركز حول إشاعة عن فعل أحدنا الشبق، وتأتي أسماء النساء، يتجلي فيهن حضور الاجتماعي، وما هو طبقي وتأتي الأسرار منفلتة من سريتها إلي العلن، ثم تأتي الشكاوي من الحياة نفسها، وتأتي السياسة أيضا، وتحط بثقلها علي الألسنة، ولا شيء يمنعها من خوف، أو تحرز فنحن بين ماء وسماء ولا يوجد أي ممثل للسلطة علي المراكب في رحلة الصيد، كما أننا بعيدون عن اليابسة محط كل شر، ولا تأتي الأغنيات إلا علي شكل همهمات تستغل للتحفيز علي مواصلة العمل، لا شيء إلا العمل، وكل ما كان هو تكئة لا أكثر، أكتشف الآن أنه لم يظهر علي يابستي شاعر، وأندهش، فأنا أعرف أن أي جماعة تنتج شاعرها إلا جماعتي، وهذا ليس قدحا في الشعر، فأنا أحبه، وأقف هازا رأسي عندما أري كثيرا من الشعراء قد تحول إلي كتابة السرد .. هل السرد فيه سحر يجذب هؤلاء إلي مملكته ؟أهلي وعشيرتي إذن كانوا من الحكائين العظام، حتي لو أخبرك واحد منهم بخبر ما، فسوف يقدم ويؤخر، ويومئ، ويمثل، ليصلك الخبر وأنت تفتح فاك دهشا، فقد استحوذ عليك كليا، ويثيرني هذا العنوان ” أسئلة السرد ” وأحاول تأمله من زاوية أخري غير تلك المقصودة بطرحه النقدي والجمالي مع تغير موجات من يكتبون السرد، ومحاولتهم الواجبة أن يكون سردهم مغايرا، والمغايرة مطلوبة بل حتمية ولا فكاك من حتميتها، فأبواب السرد تفتح لتسلمك إلي باب آخر عليك فتحه فتفاجأ بباب آخر عليك فتحه ولا يعطيك العمر وقتا كافيا لفتح كل الأبواب، ولو عشت إلي الأبد فلن تنتهي إلي الباب الأخير للسرد أبدا، أحاول أن أتأمل مقولة ” أسئلة السرد» من منظور الماء والسماء، فأما من ناحية الماء فيحضرني شيئان، الأول ما كانت أمهاتنا تفعله عند ميلاد طفل، فيؤخذ خلاصه في آنية، ويوهب للماء، بعض القبائل في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يدفنون هذا الخلاص، ولكنا نهبه للماء، ويحضرني هنا – وهذا هو الشيء الثاني – ما كتبه ميرسيا إيلياد – في كتابه صور و رموز – ترجمة حسيب كاسوحة ، حيث كتب : ” ترمز المياه إلي مجموعة القوي الكامنة، وإلي جملة الإمكانات الكونية .. إنها الينبوع والأصل، وإنها الحوض الذي يضم كل إمكانيات الوجود، وهي تسبق وجود كل شكل، وتدعم كل خلق، يشار إلي أن الصورة النموذجية لكل خلق هي الجزيرة التي تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج، وبالمقابل يرمز الغطس في الماء إلي الارتداد إلي حالة سبقت تشكيل الشكل، وإلي استرجاع وضعية غير متميزة وغير واضحة المعالم سادت قبل الوجود. إن الطفو فوق سطح الماء يستعيد فعل الخلق الكوني المتمثل في ظهور الأشكال، وأما الغوص في الأعماق فيوازي انحلال الأشكال، لهذا تتضمن رمزية الماء الدلالة علي الموت وعلي الانبعاث علي حد سواء”.أما من ناحية السماء فهي الأفق الذي ينحني علي الماء محتضنا يمكن له أن يمطرها برذاذه وشمسه ورياحه باعتدال طقس أو بأعاصيره، هو الروح التي تظل تسعي ولا تهدأ أبدا، في مفهومي هذا المتواضع للسرد يمكنني أن أزيد وأفسر حالتي أنا كاتب هذا السرد والواقف كإنسان علي جزيرتي بين الماء والسماء، ينبغي علي السارد أن يكون في حالة كتابة دائمة حتي لو لم تتحقق هذه الحالة لتصير ورقا خطت علي وجهه رؤية السارد لهذا العالم، كما تلازم القراءة الكتابة تتعانق الحالتان، وقبل التحقق أخرج بصفتي السردية للناس، أثرثر كثيرا، وأثير الكثير من الأسئلة، وأرفض الإجابات النهائية وكأنها تمتلك الحقيقة، وهي لا تمتلكها، ويكون الجدل مستمرا لأنه يبدو أن السارد يحتاج إلي المعرفة، وهو يحتاجها بالفعل قبل الشروع فيما يسمي بالتجربة الإبداعية .. في كثير من الأحيان لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة والمشاكسة، وبين ما يتحقق علي الورق، إلا أن حالة “البحث” و “الدهشة” و”التأمل” و”الانغلاق” و”التفتح” تلازم السارد فترة من الزمن، ثم تأتي الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بي، ولا فكاك منها، وهذا سر خاص بالسارد، يحاول أن يفض غموضه، إلا أنه ينسي أن يضع له إجابة أو يحاول صناعة إجابة تجعل هذا السر يخرج من قمقم السرية إلي العلانية، شيء آخر – مهم جدا – قبل الشروع في عملية الكتابة لابد للسارد أن يحيط بكل ما يريد أن يسطره .. لا يبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب .. هذا مؤجل لما بعد، يعرف السارد أنه سوف يأتي إذا كان صادق العزم ممتلئا بحزن جميل وتوفز أصيل، طال توتر القوس، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق بعد معرفة موضع قدمه وموضع رأسه، يحاول السارد مجاهدة كل هذا، ويبقي مع هذا سر العمل الكتابي الذي تقوم قيامته علي الورق .. إذن يلزم السارد في هذه اللحظة قلم وورق وفكرة طال بها معاركته، وتظل تطارده إلي أن يصرخ، فقد جاء وقته وأمسك أخيرا بها وعليه أن يبدأ ..هل يخرج السارد عن هذه القاعدة ؟قد تحدث – رغم هذه القاعدة ـ استثناءات، فجأة بلا مجاهدة، فقد يكتب السارد أعمالا لمجرد الخروج من التوتر، والغضب، ولا يهم المكان .. حجرة هادئة أو مقهي يعج بضجيج الحياة، إذا قلنا مع “أرنست فيشر” في كتابه الهام ” ضرورة الفن ” إن المضمون تقليدي بينما الشكل ثوري، يجابهني فورا سؤال جاءني من القائمين علي أمر هذا المؤتمر والشعار الذي رفعوه ” أسئلة السرد الجديد ” توقفت قليلا إلي أن تذكرت ما كتبته ماري تيريز عبد المسيح في مقال يحمل عنوان «فضح الذات البطولية» كتبته وجاء فيه: «وصل الفن القصصي في مصر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين إلي حال من الأزمة والالتباس، إذ بدأت الأجيال الجديدة من الكتّاب المصريين ترفض الفرضيات التي كانت سائدة خلال فترة ما بعد الاستقلال، وهي تعتبر أن الكتّاب والفنانين هم رسل الأمة، وأن الفن حالة من التجلي.ومنذ مطلع التسعينات بدأ الاهتمام يتركز في شكل متزايد علي مكان الكاتب، وعلي الأبعاد «السياسية» للسرد – علي رغم عدم التوصل إلي اتفاق علي تعريفه. وفي نهاية المطاف، بدأت «السياسة» تعني قلب كل المعاني الثابتة الناشئة عن السياسات الرسمية والأعراف الاجتماعية. ففي هذا النوع من الكتابة يوجد دائماً صراع بين النفس والمجتمع، والتلقائية والنظام الاجتماعي، ويكون الاهتمام قليلاً بالشكلية أو الرمزية والمرجعية التاريخية، مما أدي إلي انفصام تام عن اعتبار اللغة «مقدسة».إلا أن الكتابات لا تتسم بالفردية مع أن الكثيرين يلجأون إلي مساءلة الذات، وكشف صورة الإنسان الواثق بنفسه في الأعمال السردية التي كتبت قبل عام 1967 . إذ يتداخل صوت كاتب السيرة الذاتية بصوت الراوي، فيعكس الصوت المضاعف ازدواجية في الأعراف الاجتماعية التي أصبحت راسخة.إلا أنه لا يمكن اختزاله كذلك لاعتباره مجرد نقد للأعراف الاجتماعية أو السياسية المتباينة. بل أصبح يتناول المواضيع التي حظر التطرق إليها منذ زمن بعيد بقصد أو من دون قصد، ويتطرق إلي المعضلة الوجودية، والخيارات المتناقضة أو علاقات الحب المتضاربة، وقلب رأساً علي عقب ما كانت وسائل الإعلام تصوره علي أنه بطولة أو رومانسية. ويبحث في العلاقة التي تربط بين الحب والعنف، وبين الحب والكراهية، وبين اللوعة والمتعة، والمواقف الاجتماعية إزاء العلاقات الجنسية، والصعوبة التي تكتنف إقامة علاقات غرامية تتجاوز القوانين الاجتماعية. ويصف الغموض واللبس بين الخيال والرؤية بعدما أصبح الفن السردي يعتمد اللغة البصرية، والتناقض بين «البصر» و «البصيرة».وفي النهاية، يمثّل هذا الانشقاق أزمة الفن السردي الذي تخلي عن علاقته المرجعية مع «الواقع» ليصبح نشاطاً يومياً ضرورياً، بل نشاطاً سياسياً مستتراً. ومع الكشف عن الأقنعة التي تغلف النفس – وكذلك دولة الحزب الواحد – فإن الكتابة الجديدة تفضح النفس الموحدة البطولية، الفكرة الاستبدادية للأمة، والصوت الواحد.أدرك هؤلاء الكتّاب الشباب الصعوبة التي تكتنف وضع الحياة في إطار واحد. فتخلوا عن الحبكات المحكمة التي تشمل عناصر مترابطة منتظمة، ليصوروا العناصر المشتتة، المراوغة والطارئة التي تشكل الحياة اليومية».أردت بهذا النقل المطول بعض الشيء أن أقول إن الإيمان بقدرة الساردين الآخرين علي تجاوز ما وصل إليه السارد كاتب هذه الشهادة هو إيمان كالعقيدة تماما، ورجوعا إلي استكمال شهادتي الشخصية ودخولا إلي معترك الفن والسحر أقول إن القصة تعني لي كتابة مستحيلة تتحقق بنفس كنه هذا المستحيل، تخرج عن شروطه لتقيم شروطها الخاصة، وهذا المستحيل شرط يصبح سهلا ميسورا وممتلكا حينما تكون القصة ممتلئة برؤية غنية وثابة مستقبلية غير تبعية أو تقليدية، كما أن عقيدتي الفنية تعتقد أن القصة هي ساحة التجسيد، وأعدي أعدائها هو التجريد، إذن القصة عندي هي حياة لها إيقاع التشابك والأفعال الحادة الصاخبة والسرية رغم ذلك، ولا أعطي تلك الروشتة أهمية والتي يقولون إن القصة لا تكون قصة إلا بها : شخصية واحدة – موقف واحد إلي آخر تلك التعليمات .. أنظر إليها – هذه الروشتة – إنها ضد عقيدتي – إنها تحمل داخلها وضعية جامدة غير قابلة ومعترفة بالتطور وقدرة الفن علي التجاوز دائما، خاضعة داخل حلقة ميتة لا تنفك عن ذلك التجلي الدهش المستحيل عبر بلاغة غير الممكن عندما يتحقق .. القصة عندي هي الفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل بشكل العدسة، وبين ما لا تراه العين وما لا تسمعه الأذن – وهو الأكثر وجودا وحضورا وأهمية وصراع العقل الفني فيما هو الأكثر غيابا، إذن أنا أهتم بما بعد تلك الرؤية، أحاول كسارد أن أكتب رؤيتي لما أري وأسمع، لا ما أري وأسمع، وأري أن تكون قدما السارد علي الأرض (الأرض – الواقع) ورأسه في السماء (السماء – الخيال) لي بيئة يعيش عليها وفيها ناسي الذين أنتمي إليهم ولا أستطيع خيانتهم – لا دهشة من قولي – فإن الكتابة لدي السارد التزام ليس بالمعني السياسي، بل بالمعني الكامل المحتوي ابتعادا منه عن الدعائية المشمولة بالتسطيح، وضيق الأفق وقصر النظر ، فالسارد ليس ابن بيئته فقط، بل هو ربيبها داخل مسرح مؤثراتها، الشاهد عليها في تحولاتها، شهيدها كذلك، للسارد بيئة أي أن له رمزه الذي يتميز به ثقافيا، البيئة هي التي تستنطق السارد وتخرجه من معطفها المادي الرحب والغني، السارد نشأ في بيئة صيادين وتجار أسماك وفلاحين، عائلات تنتظم في منظومة عقائدية وموصولة بتراث موغل في القدم تحيط هذه البيئة بحيرة هي البداية وهي كل ما في غيب مستقبلها، وكل الكامن في حاضرها .. كل الحكايات والقصص والمسكوت عنه فيها وعنها .. هل للسارد أن يخون رمزه ؟! هل لي أن أخون رمزي ؟! بالطبع لا .. السارد هنا يقترب من توضيح مفهومه للواقعية مع إعلاء ما كتبه جارودي من أن الواقعية بلا ضفاف .. رمزي يمتلك خيالي، وخيالي يمتلك سمائي، واقعي يمتلك خيالي، خيالي يمتلك واقعي .. منظومتي إذن هي غرائبية هذا الرمز وقدرة هذه الغرائبية علي استنطاق رمز قارئي المستخفي داخل ذاته فيري ما لا يري ويسمع ما لا يسمع في واقعه..هنا آراء في الكتابة المصرية الجديدة علي لسان ساردين جدد:صفاء النجارالإنتاج الأدبي في مصر الآن هو إما طريقة للتنفيس عن الحال الشعورية لمن يكتب أو نوع من الرفاهية الفكرية التي لا تتماس مع الواقع بل تتعالي عليه. لذا هو أدب «غيتو» غير فاعل أو مؤثر في الحراك الاجتماعي أو السياسي.هناك كتابة جديدة علي مستوي الشكل والمضمون لكنها تحبو داخل «غيتو» المثقفين فقط، ولا تهتم بنشرها سوي دور نشر خاصة صغيرة ولا يطبع منها سوي عدد محدود (ألف نسخة علي أقصي تقدير) في حين تدعم المؤسسة الرسمية نشر الكتابات التقليدية التي تحافظ علي ثوابتها.مصطفي ذكريودّعت الكتابة الروائية الحديثة في مصر القضايا الكبري التي كانت محط نظر الجيل القديم.لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط كتابة بكل ألعابها الشكلية. وإن كان لا بد من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي إلي الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة.إبراهيم فرغلينجح الأدب المصري الجديد في السنوات الخمس الأخيرة أن يقتحم آفاقاً أرحب، وبدأ كل كاتب من كتّاب جيل التسعينات بالبحث عن مشروعه الخاص. الآن هناك كتابة تبحث عن أسئلة جمالية خاصة كما في كتابة مصطفي ذكري، وبعضها يرصد حياة المهمشين في محاولة لكسر صورة البطل التقليدي لمصلحة العادي والهامشي كما في كتابة حمدي أبو جليل وياسر عبدالحافظ، أو محاولة كسر صيغ السرد التقليدية إلي لغة متشظية تعبر عن تشتت الفرد في الواقع المعاصر كما في كتابة أحمد العايدي، أو احتفاء بالحسي في شكله المعاصر بحثاً عن صوت إنساني يمقت النبرة الذكورية الشائعة كما حاولتُ شخصياً في «أشباح الحواس». وهناك تجارب جديدة تتخلق بأفكار وصيغ سردية غير تقليدية كما في أعمال منصورة عز الدين وصفاء النجار وحمدي الجزار. وهو ما يبشر بعوالم روائية غير تقليدية ستظهر مستقبلاً.منصورة عز الدينأهم ما يسم الكتابة الجديدة في مصر – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير – هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي أو عبر السخرية الشديدة منه وتحويله مسخرة، أو التعامل معه بحياد مطلق.تتسم الكتابة الجديدة أيضاً في معظمها بالتجرؤ علي الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية أو دينية أو اجتماعية. ولكن من ناحية أخري ثمة غزارة شديدة في الإنتاج الروائي، هذه الغزارة مع عدم وجود فرز نقدي حقيقي ربما تدفع الرواية الجديدة في مصر إلي مأزق كبير، خصوصاً أن سهولة النشر ادت إلي تجرؤ بعضهم علي فن الرواية من دون توافر الموهبة أو الدراية الكافية بتقنياته وأساليبه.لكل سارد أن يؤمن بقضيته التي يري أن يعلنها علي الناس، ولكن الملاحظ أن تكريس القطيعة بين عوالم السرد، وتلك المحاولة المستميتة والشيطانية في تقسيم السرد والساردين في عقود زمنية، مدة كل عقد كما هو معروف عشر سنوات، تتجاور هذه المحاولة مع محاولة أخري أشد منها شيطانية، وهي تقسيم البلاد إلي قاهرة وأقاليم، إلي أي شيء تكرس هذه المحاولة أيضا ؟ يقول المنظمون لهذا المؤتمر بالعودة إلي الأدب، البحر ملآن وليس بفارغ علي امتداد الخريطة، والسرد خاضع لمعطيات واقعية وتاريخية، يكون السارد داخلها يعاركها وتعاركه، لا يقفز قفزة في الظلام، ولكن يبقي اجتهاده أصيلا، وليس عليه في هذه الحالة أن يفرض طريقته الخاصة في السرد منحيا اجتهادات الآخرين تحت أي ادعاء، فالقراء المتابعون والمحبون لقراءة السرد يبدون في هذا الادعاء غائبين، وهم الذين ينبغي علي السارد أن يكونوا محل اعتباره، بعيدا عن دعاوي التطور أو التنظير البعيد عنهم، فأنا لم أر دراسة تهتم بالقراء ومدي ارتباطهم بشكل سردي معين، أو دراسة في تلقي عمل سردي وكيف ولماذا حاز القبول، كما أنني هنا أريد لمؤتمر يشارك فيه جمهرة من الكتاب أن يكون مؤتمرا نوعيا، بمعني أن المؤتمرين الذين يمتهنون مهنة الإبداع عليهم أن يناقشوا مشاكل الإبداع ذاته، وكيف يوسعون رقعــة القراء، إلي جانب مشاكل النشر والتوزيع بجدية واهتمام أكبر.هذه شهادتي التي لا ألزم أحدا باعتناقها، ولكنها قابلة للحوار المثمر في مواجهة هذا التشرذم والتباعد بين الكتاب، وكل منهم يركب جزيرة في بحر واسع ..هذا وعلي الله قصد السبيل ..

مؤتمر أدباء مصر، دورة 2008م بمرسى مطروح

رئيس المؤتمر: خيري سلبي

أمين عام المؤتمر: سيد الوكيل

فانتازيا فرقة المزيكة …قصة: محسن يونس

… فلما سطعت الشمس ، وامتلأت الشوارع بالناس ، جاء التكليف فى محل الفرقة ، من أحد أغنياء العصر والأوان لحضور حفل ختان طفله ، البالغ من العمر الثلاث سنوات ، نُبه على ريس الفرقة باصطحاب الفرقة بكامل أفرادها ، عليهم أن يركبوا لنشا لقطع البحر ، ثم النزول لركوب أحصنة تحضرهم إلى قصر الثرى ، ساكسفون ، ترومبيت ، كلارنيت ، طبلة كبيرة ، طبلة صغيرة ، مع دف ورق ، مع من يقرع الكوسات ، وربابتين ، وثلاثة من نافخى المزمار، ومغن وحيد صييت للفرقة ..

فى البقعة العتماء من المحل اطمأن ريس الفرقة على وجود الأفراد ، وهم يغيرون ملابسهم العادية إلى لبس خاص بالفرقة ، وسمع نفير حافلة تستدعيهم ، صاح : ” كلكم إلى الخارج فى نظام .. طابور .. المهم المظهر يا فنان منك له .. “

استمر في القراءة فانتازيا فرقة المزيكة …قصة: محسن يونس

تاريخ الجماعات الأدبية: د. أمجد ريان

  الجماعات الأدبية ..

تكوينها ، ودورها التاريخى

د. أمجد ريـان

      لعل إحدى نتائج هذا البحث سوف تصدم بعض القراء ، وهى النتيجة التى تقول بأن الجماعات الأدبية والفنية ، قد بدأت تفقد وهجها ، بل تفقد جدواها ووجودها ، فقد كان لهذه الجماعات دور فعال فى حياتنا العربية فى الفترة التى اشتعل فيها أوار الحداثة ، أى فى مرحلة السبعينيات ، قبلها وبعدها وفى أثنائها ، وهى المرحلة التى تبّنى فيها معظم الفنانين والكتاب قضية الحداثة ، بعدّها هذا الهدف العزيز المنوط به تطوير حياتنا الاجتماعيـة والثقافية والإبداعية .  

إن تكوين الجماعة الأدبية أو الفنية المتجانسة أمر شديد الارتباط بالحداثة ، لذلك فسوف يقل أو ينعدم الآن ، أو فى المراحل المقبلة ، بالتدريج ، لأن الحداثة نفسها لم تعد لها المركزية والنصوع الذى كان فى العقود السابقة ، لصالح سيادة فكر آخر يتسيد وجودنا بشكل هائل فى حياتنا اليومية ، وفى طبيعة مجتمعاتنا ، واقتصادنا ، وثقافتنا وفننا هو فكر “ما بعد الحداثة” .

ولعل الحداثة نفسها ، بدأت تدخل متحف التاريخ بالتدريج ، وإن كانت طبيعة المرحلة التى نعيشها تسمح بوجود بعض أطيافها التى تتبخر الآن شيئاً فشيئاً ، وذلك لأن من قوانين المرحلة التى نعيشها الآن تواجد وتوازى المدارس الفكرية والفنية المتعددة ، إذن فلابد أن تكون الحداثة بينها لأنها كانت آخر التوجهات التى عايشناها طوال العقود الفائتة . 

لقد ارتبط تكوين الجماعة (الأدبية ، وغير الأدبية) بالحداثة ، لأن تجميع الأفكار الفردية المتجانسة كان من سبيله أن يؤدى إلى قوة هذه الأفكار ، وكان الحداثيون يبحثون عن القوة لمواجهة فكر التقليديين الذين كانوا يحاربون التجديد ، ويحاربون كل ما يمكن أن يسحب البساط من تحت أقدامهم ، على الرغم من أن هذه التجديدات ، والرؤى المتغيرة ، كانت تعبر عن احتياجات اجتماعية وثقافية وليدة لابد من أن تثبت وجودهـا ، وهذا ما حدث بالفعل من خلال انتصار الحداثة طوال المراحل السابقة ، أما الآن فلم تعد هناك أهمية كبيرة لتكوين الجماعة التى تحمى الفرد ، لأن أى شخص يستطيع ، وحـده ، ودون مساعدة من أحد ، أن يمتلك القوة الكافية للاستمرار ، وأن يجمع كل ما يريده من معلومـات وأفكار ، ويستطيع ، وهو لا يزال فى حجرة نومه ، قبل خروجه فى الصباح ، أن يخاطب العالم كله بلغة الإنترنت ، من خلال جهازىّ الكمبيوتر أو الهاتف المحمول .

وكان تكوين الجماعة الأدبية فى فترة الحداثة أيضاً دليلاً على انتصار مفهوم آخر ، هو مفهوم الديمقراطية ، وهو المفهوم الذى ارتبط بالحداثة ارتباطاً وثيقاً ، وهو يجسد معنى التحضر والرقى فى المجتمع الإنسانى ، المجتمع المدنى الحى متعدد الأصوات . وكان تكوين الجماعات المختلفة فى فترة السبعينيات يمثل مقياساً كاشفاً لحقيقة تشبّع المثقفين والمبدعين بقضية حقوق الكتاب فى المساهمة فى صناعة الحاضر والمستقبل الثقافى والاجتماعى والاقتصادى للمجتمع . وإن تكوين الجماعات الأدبية سيعبر عن قدرة الكتاب والمبدعين على التخطيط والإدارة الذاتية لمختلف شؤونهم ، وقدرتهم على تنظيم علاقاتهم بجمهور القراء والمتعاملين مع الإبداع ، وقدرتهم على التحرر من الجمود والسلبية والاتكال على أجهزة الدولة . والسعى الحثيث من أجل الابتكار والتفوق.

ولعل المسـألة يكون لها علاقة بتطور قضايا “المجتمع المدنى” التى ناقشها “هيجل” ، وعدد من المفكرين التقدميين من بعده ، وأهمهم “جرامشى” الذى صاغ القضية بشكل دقيق ، حتى استقر الكثير من المفاهيم وأصبح المقصود من تعبير “المجتمع المدنى” بشكل عام هو تعيين ميدان للحرية خارج الدولة والمؤسسات الرسمية ، فهو ميدان للاستقلال الذاتى Autonomy  والتعددية والانطلاق الجماعى الذى يؤكد التنوع والثراء وتعميق وإغناء مفهوم الهوية .

لقد أصبحت التعددية اليوم ، ملمحاً أساسياً لكل مجتمع متحضر ، وبخاصة بعد أن تفسخت معظم الكليات التقليدية ، واليقينيات القديمة ، لأن المفهوم التقليدى يفترض كليّة موحدَّة ومغلقة . ولم يعد أمامنا الآن سوى أن نعترف بقيمة وأهمية التمايز والاحتياجات المختلفة المتعددة للمجتمع البشرى الواحد . والوضع الاجتماعى اليوم هو الوضع الذى يحترم التعدد ، فلم يعد هناك مسار واحد لحل المشكلات الإنسانية المعاصرة فى أى ظاهرة من ظواهر الحياة الجديدة ، لابد من تجاور اتجاهات عديدة لكى تشبع كل هذه التيارات الوليدة ، بسبب الغزارة الشـديدة لكافة المعطيات والظروف التى يعيشها المجتمع اليوم ، هناك تسارع غير مسبوق فى النظريات الأدبية ، وفى الأفكار الفلسفية والثقافية ، ولن يكفى اتجاه مركزى واحد لاستيعابها جميعاً ، ولابد من وجود أنشطة أدبية وثقافية متعددة حتى تتمكن من استيعاب كل هذه التوجهات العديدة الوليدة.

والجماعات الأدبية كانت منذ  البداية من أهم هذه الجمعيات قدرة على صياغة أشواق الناس وأحلامهم البسيطة لما للأدب من قدرة حدسية ومستقبلية على مس الحاجات الحقيقية للبشر ، والجماعات الأدبية ليست جمعيات بالمعنى القانونى إلا فى أقل الحالات ، ولكننا إذا كنا نعنى روح القانون لا شكله ، فالجماعات الأدبية كانت أكثر الأشكال تعبيراً عن جوهر نشاط المجتمع ، لأن عملها يتصل بقضايا الفكر ومجالاته الفلسفية والعملية قوية التأثير فى صياغة الموقف الكلى للمجتمع الإنسانى . والجماعة الأدبية تتكون لتعبر ـ فى الغالب ـ عن تيار أدبى لا يمكن أن تقبله الاتجاهات الأدبية السائدة ، فيصبح حينئذ كما لو كان ملاذا يحتمى به مبدعوا التيار الجديد الذى يعبر بالضرورة عن حاجة جمالية واجتماعية لها تواجدها الفعلى فى الحياة . 

*

جماعة الفن والحرية

وهناك على سبيل المثال الجماعة السريالية [ نحو المجهول ] ، وأيضاً جماعة        [ الثقافة الجديدة ] فى الإسكندرية فى الأربعينيات من القرن الماضى ، أما الجماعة السريالية الأشهر والأكثر تأثيراً فقد تكونت من جورج حنين ، وفؤاد كامل ، وأنور كامل ، وكامل التلمسانى ، وغيرهم ، وقد أسـموا جماعتهم : [ الفن والحرية ] وقد كانت ذات دور كبير فى تغيير الإبداع المصرى بقوة من خلال صدمة السريالية التى تدفع بمتلقيها إلى أعادة النظر الجذرية فى الحياة والفن ، وقد عرف المتلقى هذا بداية من البيان الصادر بعنوان [ يحيا الفن المنحط ] الذى هاجم السلطات الجائرة ونادى بوجوب توحيد كلمة الفنانين والتقدميين وتوحيدهم فى العالم بأسره ، وكان منه :

[ من المعروف أن المجتمع الحاضر ينظر بعين الاشمئزاز إلى كل خلق جديد فى الفن أوفى الأدب طالما يهدد النظم الثقافية التى تثبت قدم المجتمع سواء أكان من ناحية التفكير أم من ناحية المعنى .   ويظهر هذا الشعور بالاشمئزاز جلياً فى البلاد الأوتوقراطية النزعة ، وخصوصاً فى ألمانيا حيث يتجسم التعدى الشنيع ضد الفن الحر الذى دعاه هؤلاء الغشم “الفن المنحط” .  فمن سيزان إلى بيكاسو ، وكل ماأنجزته العبقرية الفنية المعاصرة .. هذا الانتاج الكثير الحرية والقوى الشعور بالإنسانية ، قد قوبل بالشتائم وديس بالأقدام . نحن لانرى فى هذه الأساطير الرجعية إلا سجوناً للفكر . إن الفن بصفته مبادلة فكرية وعاطفية دائمة تشترك فيها الإنسانية جمعاء لن يقبل مثل هذه الحدود المصطنعة . فيينا المتروكة الآن للهمج ، يمزقون صور رنوار ويحرقون مؤلفات فرويد فى الميادين العامة .   إن ألمع منتجات كبار الفنانين الألمان أمثال ماكس أرنست وبول كلى وكارل هوفر وكوكشكا وجورج جروس وكاندينسكى قد صودرت وأحل محلها الفن النازى عديم القيمة ] .

*

جماعة جاليري 68

وقد تكونت الجماعة المشرفة على مجلة [جاليرى 68] من محموعة من طليعة المثقفين المصريين فى الستينيات ، وكما قال أحدهم تكونت الفكرة فى مقهى (ريش) ، وفى هذا إشارة قوية لمعنى مهم هو أن الثقافة فى هذه الفترة كانت تنطلق من قلب الشارع المصرى والمعاناة المصرية ، وكان مقهى (ريش) مكاناً مفضلاً يلتقى فيه معظم المثقفين المصريين بكافة اتجاهاتهم وبخاصة فى مساء وليل الجمعة من كل أسبوع .

وعبرت المجلة [جاليرى 68] عن التوجه التقدمى الطليعى للثقافة المصرية ، فى عناقه للحداثة الآتية من أوربا ، فى أصفى صورها وأنقاها ، وطرحت المجلة بالفعل إبداعاً مصرياً له نكهة خاصة شديدة التميز ، شحنت حياتنا الثقافية بطاقة فكرية وإبداعية مهمة علّمت أجيالاً ودفعت بالإبداع المصرى فى طريق جديدة خطوات غير مسبوقة . وقد صدر العدد الأول من [جاليرى 68] فى إبريل / مايو 1968 بعد أن تكونت هيئة الإشراف على المجلة ، وهى الهيئة التى أشرفت على إصـدار الأعداد الأولى ، وأعضاؤها هم :

رئيس التحرير : أحمد مرسى .

هيئة التحرير : إبراهيم منصور ـ إدوار الخراط ـ سيد حجاب ـ غالب هلسا ـ   د. يسرى خميس .

سكرتيرا التحرير : إبراهيم عبد العاطى ـ سعد عبد الوهاب .

مدير التحرير : جميل عطية إبراهيم .

المشرف الفنى : حسن سليمان .

وهذه الأسماء تمثل بالفعل مجموعة ممتازة من المثقفين والمبدعين النشطين فى هذه الفترة والممتزجين بحميمية مع معظم المثقفين الطليعيين ، بحيث أنهم كانوا أقدر الجميع على تمثيل المثقفين ، وعلى التعامل معهم من خلال مجلة مستقلة ، يعمل كل من فيها متطوعين ، وكذلك كانت الأعمال المنشورة تقدم بشكل تطوعى لتحقيق هدف أساسى هو إنجاح هذا المشروع الثقافى المستقل الذى سحب البساط بقوة من تحت أقدام منابر الثقافة الرسمية فى ذلك الوقت .

لقد استمرت هيئة التحرير تدير العمل ولكن هناك ظروف مختلفة غيرت من التكوين الشكلى الأساسى لترتيب الأسماء الذى طرح فى العدد الأول ، فكان هذا الترتيب يختلف بين الحين والحين ، فالعدد الصادر فى نوفمبر عام 1968 ، طرح ترتيب أسماء الهيئة المشرفة على التحرير هكذا :

أشرف على إصدار الكتاب : إبراهيم عبد العاطى ـ إبراهيم منصور ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية ابراهيم ـ سيد حجاب ـ غالب هلسا ـ د . يسرى خميس .

المشرف الفنى : أحمد مرسى .

والعدد الصادر فى أكتوبر 1969 اختصرت فيه الأسماء كثيراً وأضيف لها اسم جديد ، فصارت الصياغة هكذا :

أشرف على إصدار هذا الكتاب : إبراهيم منصور ـ أحمد مرسى ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية إبراهيم ـ محمد إبراهيم مبروك .

أما العدد الأخير ، الصادر فى فبراير 1971 فقد اكتفت المجلة فبه بهذه الصياغة :

أشرف على إصدار هذا الكتاب : إبراهيم منصور ـ أحمد مرسى ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية .

بل وهناك صياغات أخرى أكثر تبايناً ، على مدار رحلة إصدار المجلة ، ولكن تكفى هذه الصياغات الأربعة على الأقل لتبيان كيفيات التغير التى حدثت ، وتكفى للإشارة إلى دلالات محددة منها : إصرار المثقفين المصريين الطليعيين على إصـدار مجلتهم ، وحرصهم الشديد على استمرارها كمشروع مستقل للكتاب والمبدعين المصريين ، ومنها هذه الروح الديمقراطية التى أكدت مدى قيمة العمل المشترك وأهمية العمل الجماعى من أجل اكتساب المزيد من القوة من أجل الاستمرار فى قلب ظروف شديدة الصعوبة ، وكان كل مثقف قادر على تغيير موقعه ببساطة لأن الأهم هو استمرار صدور المجلة .

وقد اعتمدت المجلة على التبرعات الفردية ، وعلى نشر بعض الإعلانات الثقافية ، والإعلان الثقافى هو أفقر الإعلانات مادياً فى كل زمان ومكان ، وبالرغم من ذلك تركت هذه الجماعة ومجلتها رد فعل عميق فى حياة المصريين الثقافية ، وبخاصة أنها قدمت أسماء كتاب فى غاية الأهمية من مثل القصـاصين : إبراهيم أصلان ، وإدوار الخراط ، وبهاء طاهر ، ورؤوف مسعد ، وعبد الحكيم قاسم ، ومحمد ابراهيم مبروك ، ومحمد البساطى ، ومحمد حافظ رجب ، ويحيى الطاهر عبد الله ، ويوسف الشارونى وغيرهم . 

والشعراء : أسامة غزول ، وأمل دنقل ، وثروت البحر ، وسعيد نافع ، وسيد حجاب ، وعزت عامر ، وفتحى فرغلى ، ومحمد سيف ، ومحمد عفيفى مطر ، ومحمد صالح ، وغيرهم .

       والنقاد : إبراهيم فتحى ، وخليل كلفت ، ورؤوف نظمى ، و شفيق مجلى ، وصبرى حافظ ، وغالى شكرى ، وغيرهم .

*

جماعة كتّاب الغد

وعرفت الحياة الثقافية المصرية فى السبعينيات النشاط الشهير لجماعة أخرى من المثقفين والكتاب الطليعيين ، وهم الذين كوّنوا جمعية “كتاب الغد” ، وهى الجمعية التى قامت بدور كبير أضاف الكثير لرحلة الأدب المصرى ، من خلال مجموعة من المبادئ التقدمية التى تنادى بالتجديد بما يتناسب مع طبيعة المجتمع المصرى ، وهى المبادئ التى ستختلف مع كافة الجوانب التقليدية الشائخة فى حياتنا الثقافية والأدبية ، وطرحت الجمعية أنشطتها من خلال اللقاء الفكرى والأدبى فى ندوة منتظمة وناجحة ، وقادرة على جذب جمهور متحمس ومتفاعل ، وقد تحلق حول هذه الندوة عدد كبير من الأدباء المصريين ، حتى هؤلاء الذين عدُّوا أنفسهم مجرد أصدقاء للجمعية ، ولكن جميع المثقفين المصريين كانوا يكنّون احتراماً لهذه المبادئ المخلصة لقضايا الوطن والثقافة ، ولكن المشكلة التى وقعت فيها هذه الجمعية هى عدم قدرتها على فتح حوار متعمق مع الاتجاهات الأخرى ، مما جعل البعض يصفها بأنها سقطت فيما يمكن أن نسميه بالمعتقدية ، وهذه المسألة تقترب بها من المثالية من حيث لاتدرى ، مما جعلها تُقْدم شيئاً فشيئاً على الوقوع فيما كانت تناضل ضده منذ البداية ، وهو سيادة توجه واحد يشمل كافة مناحى الفكر والإبداع فى مصر .

*

جماعة إضاءة 77

تكونت جماعة [ إضاءة 77 ] وكما يشير اسمها فى عام 1977 وصدر العدد الأول من مجلتها فى أول يوليو من العام نفسه ، ليطرح أفكار وأشواق مجموعة من الشعراء الجدد الذين يبشرون برؤى جديدة فى الشعر العربى بعد أن تأزمت قصيدة الشعر الحر ، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بمتطلبات الإبداع الشعرى الجديد .

حرر العددان الأول والثانى : حلمى سالم ورفعت سلام وحسن طلب وجمال القصاص ، وبداية من العدد الثالث انفصل عن الجماعة رفعت سلام ، وأصدر مجلته المستقلة : كتابات ، وانضم إلى جماعة “إضاءة 77” إسمان جديدان ، همـا ماجد يوسف ، وأمجد ريان ، وظل أعضاء الجماعة يحررون المجلة حتى فى حالة غياب البعض منهم أوسفرهم إلى خارج الوطن ، وانضم فيما بعد أعضاء آخرون ، وعندما أصدرت دار الملتقى المجلد الذى احتوى جميع أعداد مجلة إضاءة ، وردت فى الصفحة الأولى أسماء جميع أعضاء إضاءة على الوجه التالى :

        جماعة إضاءة 77  : أمجد ريان ـ جمال القصاص ـ حسن طلب ـ

                              حلمى سالم ـ ماجد يوسف ـ محمد خلاف ـ                 

                                      محمود نسيم ـ وليد منير .

وقد كان الهدف الأساسى من إصدار المجلة هو حماية الصوت الجديد للشعرية المصرية ، وهو الصوت الوليد الذى توالت على رفضه المجلات التقليدية ، والنقاد المحافظون ، وكان لابد من وصول هذا الصوت لجمهور الشعر العريض ، بعد أن ظلت الخبرات الشعرية التى قدمتها مدرسة الشعر الحر تجتر نفسها لفترة طويلة حتى تكون عمود الشعر الذى أسماه البعض عمود مدرسة الشعر الحر ، وهو معنى يتهكم من التقليدية الجديدة التى بدأت هذه المدرسة تفرضها على حياتنا الشعرية .  وقد تمكنت جماعة [ إضاءة 77 ] من أن تعبر عن وعى جديد يستشرى فى الواقع الشعرى كرد فعل لكافة أشكال الاستلاب فكرياً وثقافياً وإبداعياً .

احتوى العدد الأول من مجلة “إضاءة 77” البيان الجمالى للجماعة والذى يعد منطلقها الفكرى الذى التزمت به والتفت من حوله الجماعة ومناصروها ، ومما جاء فيه : [ إن ضرورة تجمع الشعراء والأدباء الشبان حول بؤرة فنية جمالية تنتظم وتنضج إبداعهم الفنى وترقى وعيهم الجمالى والفكرى ليست ضرورة طارئة ، بل هى هدف عزيز تحدد أمام شباب الشعراء والكتاب المصـريين منذ فترة غير قصيرة ، ولقد حاولوا المرة تلو المرة ، ـ وما يزالون ـ تحقيق هذا الهدف النبيل .  ونحن إذ نتجمع اليوم فى (إضاءة 77) ، إنما نمارس محاولتنا المخلصة فى تحقيق هذا الهدف الحى ، متواكبين فى ذلك مع مسيرة الحركة الديمقراطية المصرية فى سنواتها الأخيرة نحو تحقيق تمايز واستقلال الاتجاهات والاجتهادات المختلفة فى الساحة الوطنية ، على مستوياتها السياسية والفكرية والفنية والجمالية .    نحن إذن استكمال لكل المحاولات المستقلة الجادة فى هذا السبيل ، وإذ نستكمل تلك المحاولات ـ مقدرين لها جهدها وإخلاصها الحقيقى ـ إنما نسعى إلى تجاوز ما نعتقد أن تلك المحاولات السـابقة ـ فى نماذجها البارزة ـ قد وقعت فيه من أخطاء ] .

لقد تمرد شعراء هذه الجماعة على المفاهيم الشعرية السائدة وطرحو رؤية مغايرة تطرح فلسفياً وجمالياً [ التعدد ] فى مقابل [ الأحادية ] ، ذلك التعدد الذى تميزت من خلاله الرؤية الشعرية أساساً ، ثم تجلى ذلك فى كافة أدوات الشاعر وتقنياته بناء ، ولغة وتشكيلاً وإيقاعاً .

وأعلن شعراء الجماعة فى مجلتهم أنهم لا يدّعون اكتمال النضج الفنى والجمالى ، وأنهم لا يسعون كشعراء إلى التطابق لأن هذا يتناقض مع الطبيعة الشعرية أصلاً ، بل هم يدعون كافة الشعراء أن يتمسك كل شاعر بخصوصيته الذاتية ، لأن هذه الخصوصية هى مفتاح التفرد والإضافة الحقيقية فى الفن بشكل عام وفى الأدب والشعر بشكل خاص ، وأعلن الشعراء يأسهم من الأجهزة الثقافية الرسمية ، واعتدادهم بكل التجارب المستقلة .

وطرح شعراء الجماعة مجموعة من المفاهيم الجمالية التى تخص تجربتهم التى اعتبروها متفاعلة مع تجربة شعراء السبعينيات بشكل عام ، وكان منها ، تعريفهم للفن بعدِّه إدراكاً جمالياً للواقع ، لا يعكسه عكساً آلياً، بل يخلق بطرائق التعبير المجازى ـ موازاة رمزية للواقع ، فهو إذن موقف وتشكيله ، موقف من العالم وتشكيل جمالى لهذا الموقف .   وعلى هذا فإن أى جهد لغوى لن يكون ترفاً أو تعالياً منفصلاً ، فاللغة التى تجسد الحاجة والتطور الاجتماعيين هى عماد الكتابة وجوهر التشكيل .

ورأى شعراء الجماعة بأنه قد سقطت النماذج التى تنازلت عن الشعر فى سبيل الشعار ، والشعر الصحيح فى رأيهم يتضمن دائماً ـ ضمن مايتضمن ـ الشعار الصحيح ، لكن الشعار الصحيح لا يتضمن بالضرورة الشعر الصحيح .

لقد عدت جماعة [إضاءة 77] نفسها جزءاً لا يتجزأ من الحركة الشعرية الشابة فى السبعينيات ، وامتداداً لذلك فهى جزء من تجربة شعرية شابة جديدة باتساع الوطن العربى متقاربة الملامح ، والمهام ، والشوق للنهوض بإنجاز خطوة جديدة من خطوات مسيرة القصيدة الجديدة .

*

جماعة أصوات

تكونت جماعة [ أصوات ] من مجموعة الشعراء: [ أحمد طه ـ عبد المقصود عبد الكريم ـ عبد المنعم رمضان ـ محمد سليمان ـ محمد عيد ابراهيم ـ محمود الهندى ] وقد تولى الأخير مسـألة الإشراف الفنى على مطبوعاتهم ، وقد نشأت هذه الجماعة ، ومارست فعالياتها فى التوقيت نفسه تقريباً الذى تواجدت فيه جماعة إضاءة ، أو بعده بقليل ،فصارا كما لو كانتا جماعتين متنافستين ، وبخاصة بسبب هذا التقارب الفكرى جمالياً ، وإن كانت هناك فروق ذات طابع أيديولوجى ، ولكنها أخذت قناعاً جمالياً فى معظم الأحوال . وقد تسائل الكثيرون من المثقفين عن إمكانية اندماج الجماعتين ، وبالفعل ناقش أعضاء جماعة إضاءة فى اجتماعاتهم الأخيرة إمكانية انضمام عضوين بارزين من أصوات هما عبد المنعم رمضان عبيد ومحمد سليمان إلى جماعة إضاءة وبخاصة أن جماعة [ أصوات ] وقتها كانت قد تفككت عراها تماماً وانتهى تواجـدها الفعلى ، ولكن هـذا الانضمـام نفسـه لم يحدث .

لم تصدر جماعة أصوات [ مجلة ] فى بداية الأمر ، ولكن اقتصر نشاطها على إنجازين أساسيين : هما الندوة شـبه المنتظمـة التى كانت تعقد غالباً فى بيت [ أحمد طه ] ، وإصدار مجموعة من الدواوين لأعضاء الجماعة ، ولقد صدرت بالفعل دواوين [ أزدحم بالممالك ـ لعبد المقصود عبد الكريم ] و [ أعلن الفرح مولده ـ لمحمد سليمان ] و [ الحلم ظل الوقت .. الحلم ظل المسافة ـ لعبد المنعم رمضان ]         و [ طور الوحشـة ـ لمحمد عيد ] و [ لاتفارق اسمى ـ لأحمد طه ] كما أصدرت الجماعة ديوان [ لامبررات الوجود ـ للشاعر المصرى جورج حنين ] والذى ترجمه عن الفرنسية بشير السباعى .

وفى المقدمة التى كتبها عبد المنعم رمضان لديوان محمد عيد إبراهيم تحدث عن الهاجس الذى يتحلق حوله أعضاء جماعة [ أصوات ] ، ووصفه بأنه : [ هاجس الكشف لا التنسيق ، التنسيق الذى ينبنى بالتناظر والإيجاز أو ثمة وسائل أخرى بغية التوصيل ، هاجس الإبداع لا التعبير ، حيث فى التعبير تنتج الفكرة كلاماً يعبر عنها ، يصوغها ويقولبها بمعنى أدق ـ يترجمها ، الفتنة الناشئة هنا فتنة صياغة تؤلف وتؤالف ، وظيفة الكلمات محت كثافة الكلمات ، الكلمات محض أداة ، فتنتها المؤقتة العابرة التى سرعان ما تزول تنبع من العطاء الإجمالى لها ، من استمرارها القضبانى ، إنها تستمد الكثافة من كونها دلالة ، إحالة إلى شئ ، من كونها عناصر تتابع لتشكل سلسلة من المقاصد والغايات ، هنا تتقلص الكلمة لتعنى شيئاً واحداً ، إنها رمزية خائبة ، الكلمات هنا لايمكنها الورود بنفسها ، السؤال القاطع حولها هو لصالح ماذا ترد الكلمات ، مفاضلة الكلمات هنا مفاضلة فى مدار الدقة ، إنه فن خيطىّ خطّى ، مطرد ومستمر يبدأ من نقطة لينتهى إلى نقطة يعرفها منذ لحظة البدء ، الكلمات إذن مستمرة لا تنحفر وإنما تتلاشى ، كلمات إقناعية حيادية تتلاقى فى حوار مع الآخرين . ] .   

ولكن طبيعة الخلافات الحادة التى شاعت فى الحياة الثقافية فى ذلك الوقت أثرت على البنيان الداخلى للجماعات الأدبية ، وبالفعل حدث انشقاقان كبيران داخل جماعة اصوات ، الانشقاق الأول هو الذى تم فيه إخراج محمد سليمان من الجماعة ليحل فى محله محمد بدوى ، وبعد هذا الانشقاق مباشرة أصدرت الجماعة العدد الأول من مجلة [ الكتابة السوداء ] حاوياً أسماء المسؤولين عن المجلة بهذه الصياغة الجديدة ، أما الانشقاق الثانى الباتر الذى أنهى عمل الجماعة تماماً فقد كان سببه هذا الخلاف الجذرى الذى تولد بين أحمد طه وعبد المنعم رمضان .

ولايقل الأثر الذى تركته جماعة [ أصوات ] فى الحياة الثقافية المصرية عن الأثر الذى تركته جماعة إضاءة ، والحقيقة هى أن الجماعتين طرحتا معطيات وأفكار شديدة التكامل مما جعل جهود الجماعتين ، بالإضافة إلى جهود بعض الشعراء المستقلين خارجهما تشكل جميعاً القسمات الجديدة لشعرية السبعينيات التى ظلت حتى وقت قريب تدفع الشعرية العربية بشحنات قوية من الإبداع الجديد .

لقد انجز شعراء [ أصوات ] مجموعة من النصوص الشعرية المهمة ، وكذلك مجموعة من الإنجازات النظرية المهمة أيضاً وإن كانت قليلة ، منها مقالة أحمد طه التى كانت بمثابة افتتاحية للعدد الأول من مجلة [ الكتابة السوداء ] ضمَّنه نظريته عن التحول الشعرى من الإنشاد إلى الكتابة ، جاء فيه : [ والشاعر المعاصر يحمل لغته العربية فى ذاكرته ، بينما يعيش فى حياته التى تعمل على نفى هذه اللغة ـ بافتراض رغبته فى كتابة عصره ونفسه ومكانه ـ ومن خلال الجدل بين عوامل الهدم عند الشاعر تلك التى يعيشها ويتنفسها ، وعوامل التقليد المهيمنة على ذاكرته يكمل إنجاز الشاعر وموقعه وزاوية رؤيته إلى عصره وإلى مجتمعه ، وإلى ذاته ] ويتضح هنا التصور المهم عن أزمة الشاعر المعاصر الذى تنتمى ثقافته بل وذاكرته كلها إلى منطقة لم يعد لها وجود فى حياتنا العملية اليوم ، وهذا هو الصراع الذى أصبح يخوضه كل شاعر ، وتختلف القدرة بين  شاعر وآخر فى مدى استيعاب القضية ومدى تجاوزه لها ، فبعض الشعراء يتمكنون من تجاوز الماضى ، والبعض الآخر لايزال غارقاً فى المنطق الشفوى الذى عبر عن نموذج الشعر العربى منذ البداية ، هذه الشفوية التى تتطلب الإنشاد أمام الجمهور ، ويقابله الإصغاء من قبل هذا الجمهور ، وهذا يعنى وجوب أن يهتم الشاعر بالصـوتى والتطريبى : كالوزن والقافية والتكرار والاستطراد ، والبراعة فى صياغة الضمير الجمعى ، ضمير المستمعين ، وهذا يعنى هيمنة الجمهور التامة على الشاعر ،    و يعنى افتقاد الشاعر لصوته الخاص .      

*

جماعة نصوص 90

أما جماعة نصوص [90 ] والتى نشأت فى التوقيت الذى يشير إليه اسمها ، فقدت أسستها جماعة من الأصدقاء هم مجموعة من الكتاب كانوا يسعون لأن يحققوا مساهمة فى الحياة الثقافية ، ونظراً لحالة البطء الشديد فى عملية النشر ، وعدم قدرة أجهزة النشر على مواكبة هذا التدفق الإبداعى فإن هؤلاء الكتاب وهم : [ سعيد عبد الفتاح ، وربيع الصبروت ، والسيد نجم ، وسيد الوكيل ، ومصطفى الضبع ، وأمين ريان ، ورمضان بسطاويسى ، ومجدى توفيق ]  قرروا التحلق حول مشروع ثقافى ينظم إصدار أعمالهم وأعمال آخرين ، فأنشأوا سلسلة من المطبوعات للأعمال الأدبية ، واحتوى أول إصـداراتهم ، وهو رواية [ أيام يوسف المنسى ] للقاص : [السيد نجم ] على البيان الأول للسلسلة تحت عنوان : [ مفتتح ] أعلن فيه المؤسسون أنهم مجموعة من الكتاب تطورت رؤاهم عبر ورشة عمل ثقافية استمرت لسنوات من خلال اللقاء المنتظم الذى كانوا يعقدونه فى أحد مقاهى وسط القاهرة ، تطورت فى أثنائها خبرات أعضائها ونمت قدراتهم الإبداعية ، وبإزاء هذا الاصطدام الذى حدث مع الأنظمة البيروقراطية لأجهزة النشر فقد قرروا إنشاء هذه السلسلة التى استمرت لفترة من الزمن تصـدر أعمالاً ثقافية ، وكذلك انضـم للمجموعـة أدباء آخرون هم :     [ عبد المنعم عواد يوسف ، محمد محمود عبد الرازق ، بدر نشأت ، مصطفى عطية جمعة ] ، وعلى الرغم من أن البيان الافتتاحى يرى أنهم جميعاً ليسوا سوى مجموعة متباينة ، متعددة الاتجاهات ، والأساليب لا تجمع بينها مدرسة واحدة فى الأدب ، ولايلتف أفرادها حول هدف أيديولوجى محدد ، وحاولوا تأكيد هذه القضية بالبرهنة من خلال الإشارة  إلى اختلاف إبداع [ السـيد نجم ] عن إبداع [ السيد الوكيل ] ، أو اختلاف جيل [ أمين ريان ] عن جيل [ مصطفى الضبع ] ولكن المتأمل يمكن أن يكتشف أشياء أخرى ، لأن الاختلاف من كاتب إلى كاتب أمر طبيعى ، ولا يستطيع أحد مهما اكتسب من قدرة على الإثبات والبرهان أن يثبت وجود تطابق تام بين أديبين ، على مدى تاريخ الكتابة كله ، والحقيقة هى أننا بإزاء جماعة وليس مجموعة ، جماعة متجانسة فكرياً وأيديولوجياً إلى حد كبير ، بل بأصفى ما يكون التجانس ، وهناك أدلة كثيرة أبسطها ما جاء فى البيان الافتتاحى نفسه ، عندما قال بالسعى فى طريق [ تأسيس رؤية للكتابة والنقد ] مما لا تستطيعه إلا جماعة متجانسة ، بل منسجمة فى أفكارها الفلسفية والأيديولوجية ، ويجد المرء نفسه متأملاً للمعانى الأيديولوجية التى يلتف حولها أعضاء جماعة بعكس ما صرحوا (أنهم ليس لهم توجه أيديولوجى ) ، وإذا قرأنا المقدمة مرة أخرى فسنستطيع أن نحدد بعض المعانى التى تتقاطع مع أفكار أيديولوجية بشكل أو بآخر من مثل : انتقاد وضع أجهزة النشر فى بلادنا ، والتعليق على مايحدث فى [ الواقع المصرى والعربى ] و وعى بـ [ المنعطف الاجتماعى والسياسى الذى تمر به مصر والأمة العربية ] و متابعة [ التاريخ الثقافى للأمة ] وتأكيد قيمة [ مناخ ديمقراطى حر ] وغير هذا الكثير مما ورد فى أحاديثهم بعد ذلك .

كما أكـد البيان  مجموعـة من الأشـواق والقيم التى يتحـلق حولها أعضاء [ الجماعة ] ويؤمنون بها ، ومنها : الإيمان بالعقل المفتوح ، ورفض أن تكون هناك أية مصادرات ، بل سـيعملون على اكتشاف أنفسهم مع القارئ من خلال الكتابة ، وعبروا عن احترامهم ، وتقديرهم لجهود الرواد السابقين والحاليين فى الإبداع المصرى والعربى ومحاولة مشاركتهم الهموم الثقافية والإبداعية ، فهم يقدمون أعمالهم وإبداعهم فى صمت فى محراب هذا البلد ، وهكذا يعود البيان لتأكيد التجانس القوى لأعضاء الجماعة التى تشعر بالتعاطف مع الحركة الأدبية [ كلها ] ، وتبدى التعاطف مع       [ جميع ] روادها ، واعتبار مصر كياناً متوحداً ، تخشع فيه النفوس كما لو كانت فى محراب مقدس .  وهذا التوحد فى النظر إلى القضايا الكبرى لهو أهم دليل على وجود قاسم مشترك أعلى بين أعضاء الجماعة .

وعبّر البيان أيضاً عن التحلق حول مجموعة أخرى من القيم من مثل عدم السعى للشهرة ، والأمل فى تأسيس قيم جديدة فى الحياة الأدبية ، والاعتماد على الذات ، وجعل العمل الأدبى أساساً للحوار ، وأساساً للتواجد ، وهكذا .   

*

جماعة الجراد

وهناك جماعة أخرى نشأت فى التسعينيات ، هى جماعة [ الجراد ] ، على الرغم من حرص مؤسسـها الشاعر أحمد طه ، وباقى الجماعة على رفض فكرة الجماعة ، وعدِّ مجلتهم [ الجراد ] مجلة حرة تنشر الكتابات الجديدة ، دون الحاجة إلى تكوين جماعة ، ولكن تأمل القضية سيصل بنا إلى عمل فكرى وثقافى لا يصدر إلا عن جماعة منظمة ، من حيث التجانس الفكرى والثقـافى ، والعمل المنتظم ، واللقاء الدورى ، وإصدار مجلة ، والأهم من كل هذا الدعوة إلى أفكار جديدة متفاعلة مع أوضاع تولد وتصبح جزءاً من الحياة مشكلة ملامح غير مسبوقة ، أفكار يتحلق حولها أعضاء الجماعة بقوة .

أكدت المجلة فكرة انطلاق الحساسية الجديدة اليوم من خلال مفهوم مختلف ، يتناقض مع المفهوم السابق ، فهو لا يبحث عن الرؤى والفلسفات الكبيرة السابقة التى تتصف بالتكامل والانغلاق على نفسها ، بل على العكس هو يبحث عن التحديد والتفصيل والتجزئ ، ويبدأ من خلال نسبية معرفية ، وليس أفكاراً مطلقة مما ساد فى التوجهات الفلسفية والفكرية والجمالية الفائتة ، نسبية تطرح تشككاً فى كل المنظورات المستقرة والجاهزة . وقد انتعشت هذه التوجهات منذ أصبحنا فى العقد الأخير من القرن الماضى ، فى الظروف التى تطلق عليها تسمية “ما بعد الحداثة ” ،     و “ما بعد التصنيع” ، و”ما بعد البنيوية” ، ومختلف التسميات التى استخدم فيها اللفظ الانجليزى Post…) ) فى مصطلحات تصف واقع ثقافة هذا القرن .

وعلى الرغم من أن واقعنا العربى لم ينجز تجربة الحداثة بشكل كامل ، بل إن بيئات عربية عديدة لا زالت ترزح تحت نير التخلف ، إلا أن الظروف الجديدة تدفعنا دفعاً إلى دخول شبكة علاقات كونية جديدة ، تثمر أوضاعاً تجعلنا فى قلب الروح الجديدة للعالم بأسره . وهناك تغيرات شاملة على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية تحللت بإزائها أعتى القيم الراسخة .

لقد تمرد الفكر الجديد على الحداثة وإنجازاتها فى العقل والإبداع ، ورفض الكتاب الجدد المهارات الفنية المحكمة ، وبالتالى رفضوا فكرتى الاكتمال والخلود التى اهتم بها مبدعوا الحداثة ، ورفضوا المرجعيات السابقة على الكتابة لتصبح الكتابة معالجة حية مباشرة ، تطرح معاناة الذات وممارساتها الشخصانية الجزئية والتفصيلية ، بعدّ ذلك شهادة جديدة فى الحياة ، تؤكد عدم الثقة فيما مضى ، وتؤكد البحث عن مسار جديد للفكر والكتابة .

أصدرت المجلة عددين بالجهود الذاتية لأعضائها ، ونشرت قصائد لأسامة الدناصورى ، وإيمان مرسال ، ومحمد متولى ، وأحمد يمانى ، وبهاء عواد ، وياسر شعبان ، وماهر صبرى ، وهيثم الشواف ، وغيرهم .  ونشرت مجموعة من المقالات والدراسات التى تتعاطف مع أشكال التمرد والانقطاع الأدبى التى مورست فى التاريخ الأدبى سواء فى الثقافة العربية أو فى الثقافات الأجنبية ، فجعلت افتتاحية العدد الثانى على سبيل المثال مقالة للشاعر المصرى “جورج حنين” ، وهو الذى عاش مع مجموعة من أقرانه المصريين فى فرنسا وكونوا جماعة تنادى برؤى جديدة فى الحياة والفكر والكتابة ، وهذه المقالة التى ترجمها بشير السباعى ، تهاجم إمكانية التواصل مع الرومانسية ، أى أنها تطرح تمرداً على الرومانسية ، وهذا يعنى قضية مهمة فى التوقيت الذى كتبت فيه ، وقد جاء فيها : [ يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين الأكثر تقدماً فى زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية  . على أن تحليلاً نزيهاً وصارماً للعلاقات القائمة بين المحتوى الأدبى للقرن التاسع عشر والمحتوى الأدبى لعصرنا ، من شأنه أن يجبرنا على الاعتراف بوجود قطيعة فى الاستمرارية بين الاثنين .  فالأدب الرومانسى ينطوى على التأمل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها .  فكل واحد يستغرق فى أحزانه وتمزقاته العميقة .  إن أبسط ارتباك أخلاقى وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول لا يحل شئ ، ولا يتم إنقاذ شئ فى ختامها .  إن الرومانسية عاطفية وذاتية . فهى عاطفية بمعنى أن العاطفة تتطور عندها فى حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة نفسها بأشكالها التى لا حصر لها ، ودون أن تطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء النظر فيها إلى نفسه ، أو لا يرى غير نفسه . وهى ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود ـ بمعنى أن الذات لا تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم لا يهتم بها ، وهكذا يصبح الإنسان وحيداً على الأرض .  والأسوأ من ذلك أنه يصبح وحيداً دون أرض ] .

*

جماعة الرواد

ومثلما ضجت القاهرة بمثل هذه الفعاليات الأدبية المستقلة ، فقد عرفت الأقاليم المصرية جميعها ، فعاليات موازية لاتقل عنها قيمة وتنوعاً ، وإن كانت تعانى من بعض المحدودية بسبب بعد هذه الأقاليم عن مصادر الإشعاع الإعلامى فى العاصمة ، وبسبب عدم قدرة الأدباء الفردية على الاستمرار والتصدى لفترة طويلة ، فكانت النتيجة هى أن امتلأت الحياة الثقافية المصرية فى كل مكان طوال السبعينيات ، وما قبلها وبعدها ، بهذا الوهج الثقافى المستقل الذى أحيا الإبداع والعمل الثقافى والوعى ، وأعطى للثقافة المصرية طاقة دفع لعلها تسير بها حتى الآن ، وإذا أخذنا “دمياط” كمجرد مثال على ما عرفته أقاليم مصر كلها من حراك ثقافى فى تلك الآونه فيمكننا أن نتحدث فى البداية عن أنه بالرغم من الوضع الفكرى والسياسى المتأزم فى “دمياط” ، فقد ظهرت بعض الفعاليات الثقافية المهمة ، رغم ما تعانيه من حصار ، و قد التقى مجموعة من الأدباء فى “دمياط” هم كامل الدابى ومحمد النبوى سلامة ومصطفى أحمد الأسمر ، وقرروا تكوين جماعة أدبية ، فأسسوا عام 1960 “جماعة الرواد ” ، واتخذوا من مركز دمياط الثقافي (الجامعة الشعبية) مقرا لها .

وفى نهاية عام 1966 تطور هذا الكيان لكى تنشأ “جمعية الرواد الأدبية” وهى أشهر جمعية أدبية عرفتها مصر خارج العاصمة ، وكان من الطبيعى أن يحدث الصدام المباشر مع السلطة السياسية حتى صدر قرار وزارى عام 1970 بدمج جمعية الرواد بجمعية أخرى هي جمعية رواد قصور الثقافة ، وهذا يتنافى مع أبسط قوانين التعدد الثقافى ، وهكذا اختنقت الجمعية الأدبية الوحيدة المستقلة ، وانتهت من خلال محاولة احتوائها ، على الرغم مما قوبلت به هذه المحاولة من رفض تام من قبل الأعضاء .

وعرفت دمياط بعد ذلك الجيل الجديد الذى أصدر مجلة “رسالتنا” التى كان من أهم شعاراتها أن الحركة الأدبية فى دمياط هى ملمح من ملامح الثقافة المصرية الشاملة ، وكان أهم أدباء هذا الجيل : “طاهر السقا” ، و”السيد النماس” ، و”أنيس البياع” ، ثم “الحسيني عبدالعال” وغيرهم . وكانت هذه الجماعة الأدبية شديدة الاهتمام بالقضايا الوطنية إلى جوار الإبداع ، وربما كان الإسهام النظرى للشاعر “السيد النماس” دور مهم فى تأكيد دور الجماعة ، وجذب اهتمام المبدعين الجدد من شباب الكتاب ، وهذا ما يؤكده “محمد الزكي” من خلال دراسة متأنية لجهد “النماس” الفكرى ، وهو على سبيل المثال يرى ” أن الكاتب ليس أداة سلبية ، ولا ينبغي أن يكون صنما للكتابة ، وإنما الكاتب ذات واعية ناقدة ترصد المجتمع بعين متأملة ومتمعنة فاحصة ناقدة ترى ما يعتري المجتمع من تغيرات” .

وفى الثمانينيات ، وكما هو الحال فى معظم أنحاء مصر ، هاجر الكثيرون من أدباء دمياط ، وطوى الكثيرون صفحة الأدب ليتجه بعضهم وجهة أخرى فينضوى فى فعاليات ذات طابع سياسي مثلما حدث للأدباء “أنيس البياع” ، و”الحسيني عبد العال” ، و”عبدالرحمن أبوطايل” ، في حين انشغل كثيرون بالسعى وراء لقمة العيش ، أو البحث عن طرائق مختلفة من أجل أن يتحققوا بشكل كريم .

جماعة 73

وتكونت بعد ذلك (جماعة 73) التى تعبر عن ظهور مجموعة من الأدباء الجدد الذين يعبرون عن تميز من نوع جديد ، هم القاص “محسن يونس” ، والشاعر “محمد علوش” ، والشاعر “مصطفى العايدي” ، والشاعر “سمير الفيل” ، والقاص “السيد النعناعي” ، وهم مجموعة من الأدباء الجدد الذين يرفضون الانضواء تحت عباءة التصورات الفكرية والجمالية السائدة ، وقد أصدرت الجماعة العدد الأول من مجلتها ، محتوياً مقدمة مهمة كتبها القاص محسن يونس ، تعرضت لقضايا الخصوصية ، وأن 73 ليست قارب نجاة ، ولا هي تدعي ذلك ، وإنما تحاول بناء جو أدبي أكثر صلابة ، بدلا من جو التيه وكثرة المنظرين ـ على قلة الإبداع ـ واختفاء الدليل لعمل جاد . وهنا لا تبدو 73 ظلاً لرغبات ملحّة سرعان ما تتلاشى وسط الملالة المستكنة في بعض النفوس ، وإنما دليل عمل وفعل ، وهي مع هذا لن تقبل استبداد الأحكام التي ستطلق عليها بلا موضوعية مستهدفة خنقها ، حتى تثبت إلى أي حد قد بددت جو السأم  .

وتعرضت هذه الجماعة لحصار أمنى شديد لدرجة أن “سمير الفيل” يقول أن الجماعة قامت بجمع نسخ المجلة بمعرفتها ، وقامت بإشعال النار فيها خوفاً من مسائلة الأجهزة الأمنية ، واضطر أعضاء الجماعة بعد ذلك أن يتابعوا أنشطتهم في مقاهي المدينة .

وقد تلت هذه الجماعة ، عدة جماعات أخرى ، أهمها جماعة صغيرة أصدرت مجلة ” الشارع ” وكان أعضاؤها هم : :”محمد الشربيني” ، و”محمد غندور” ، و”محمد الزِّكي” ، و”مجدي الجلاد” ، وقد عبر العدد الأول عن حالة رفض شديدة : (تتحرك أقلامنا الناهضة في تلك البقعة المضيئة المتواضعة بعد ان حاصرتنا خيول المرتزقة من الذين نصبوا أنفسهم ـ دون وجه حق ـ فرسانا علينا مدعين أن أقلامهم سيوفاً تدفع عن مصر غائلة المخربين ، فإذا بهم ، وياللأسف المرّ يقطعون رقاب الذين يتغنون باسمها) .

ويشير “سمير الفيل” أيضاً إلى مجموعة من التغيرات ، ومحاولات التعبير عن رؤى جديدة تتبناها الأجيال الجديدة كافة فأشار إلى احتضان نادي المسرح لكوكبة          ( الشارع ) ، لكى تصدر مجموعة من الأعداد التى كتب فيها :”أحمد عبدالرازق ابوالعلا” ، و”محمد الزِّكي” ، و”محمد الشربيني” ، وهي إصدارات أشرف عليها كاتب جاد من جيل الرواد هو “محمد أبوالعلا السلاموني” .

وتم بعد ذلك إنشاء جمعية “ضفاف” التى أعلنت فى عددها الأول ، أنها ليست وليدة اللحظة ، أو نشأت بمحض الصدفة ، بل هى تسعى لتحقيق مجموعة محددة من الأهداف ، ويبدو أن فكرة الاستقلال عن الأجهزة الحكومية كانت هي الرغبة المستبدة بعقول مجموعة من الشباب الذين نجحوا في تأسيس هذه الجمعية في الرابع من يناير 1988 ، وقد نهضت الجمعية بنشاط كبير ، واستضافت عدداً لا بأس به من رموز الثقافة المصرية ، لكن غياب الخبرة ، وغياب الكوادر المدربة أدى بعد فترة إلى تجمد نشاط الجمعية تماماً .

وقد تكونت جماعات أخرى صغيرة ، ومنها جماعة في مدينة “الزرقا” اسمها “شروق” تحمل الهم نفسه ، وقد عبرت بقوة عن فكرة الاستقلال ، ومن أعضاء هذه الجماعة الناقد “جمال سعد محمد” ، وقد ظهرت لسنوات معدودة ثم خفت تأثيرها بالتدريج .

كما لا يمكن أن نغفل هذه الأنشطة الجماعية التى مورست من خلال اللقاءات الثقافية بالأحزاب ، ومنها لقاء “الأربعاء” بحزب التجمع ، ولقاء “الجمعة ” بحزب الوفد ، كما أنشأ المثقف المتميز “محمد التوارجي” صالونه الأدبي بمدينة دمياط الجديدة ، ليعقد لقاءاته فى الجمعة الأولى من كل شهر ، ويستضيف مختلف المثقفين والأدباء والمفكرين ، وقد قام بدور ملموس فى إثراء الحركة الثقافية فى دمياط .

ويلاحظ المتابع للحركة الثقافية هذا التغير الذى طرأ على “رواد” فقد بدأت تهتم بإصدار أعداد تطرح ملفات كاملة حول القضايا المختلفة ، فيصدر العدد الأول بعد التجديد ، فى أغسطس 1982 مدينا ذلك العدوان الإسرائيلى على جنوب لبنان ، كما تم تخصيص ثلاثة أعداد متتالية لأجناس أدبية بعينها ، حول القصة القصيرة ، وشعر العامية ، وشعر الفصحى . ثم يصدر عدد جديد متضمنا ملفاً عن الدراسات الأدبية ، كما صدرت بعض الأعداد التكريمية حول إنجازات بعض الأدباء ، فصدر عدد حول أعمال القاص مصطفى الأسمر ، وعدد عن أعمال الشاعر الراحل طاهر أبو فاشا ، وعدد آخر عنوانه (السيد النماس ،  الشاعر الموقف الإنسان) ، كما صدر عدد عنوانه (السيد الغواب ، بيرم زمانه) وهكذا ..

*

هذا استعراض سريع لطبيعة أنشطة بعض الجماعات الأدبية ، التى تكونت طوال العقود الماضية ، مما شكل جزءاً عضوياً فى تطور تاريخنا الأدبى المعاصر ، ولا يعنى هذا بالطبع الحصر الشامل الدقيق ، ولكن الهدف منه الإشارة إلى جوهر توجهات بعض الجماعات الأدبية التى عرفتها الحياة الثقافية المصرية على المدى الزمنى الأقرب ، وإظهار إلى أى مدى تمثل الجماعات الأدبية النشاط الأدبى الأكثر فاعلية والأكثر تأثيراً  فى تطور حركة الأدب فى العقود الماضية ، وأيضاً يمكن أن يكون هناك هدف آخر لهذا الاستعراض ، وهو المقارنة وتوضيح الاختلافات بين الجماعات الأدبية ، فى تكوينها ، والمراحل التاريخية والثقافية التى نشأت فيها ، وطبيعة أهدافها ، واتجاهاتها ، والظاهرة الأدبية التى تهتم بها كل جماعة ، ولعل الاختلاف بين الجماعات الأدبية ، وبخاصة تلك التى تنشأ فى مرحلة زمنية واحدة ، يكون باعثاً على الإحساس بالتكامل فيما بينها . لكى تثرى التوجهات المختلفة بتفاعلها الكلى روح الحياة الأدبية ، وتعالج أى نقص يعترى الحياة الثقافية .

مصادر

1 ـ مجلة إضاءة 77 ـ العدد الأول ـ القاهرة 1977  

2 ـ من الحداثة الصلبة إلى سيولة ما بعد الحداثة ـ عبد الوهاب المسيرى ـ موقع المعرفة www.aljazeera.net/NR/exeres ـ  فى 31 / 12 / 2005.

3 ـ هيجل والمجتمع المدنى ـ موقع قضايا عربية ـ www.arabtopics.com    

أغسطس 2007

4 ـ علياء محمد حسين ـ نشأة وتطور المجتمع المدنى بين مكوناته وإطاره التنظيمى (معالجة لأفكار جرامشى)

ـ موقع الصباح ـ  www.alsabaah.com ـ 12 أغسطس 2007

5  ـ صامويل هنتنجتون ـ صدام الحضارات ـ ترجمة طلعت الشايب ـ تقديم صلاح قنصوه ـ القاهرة .

6 ـ عزيز الحاج ـ الغزو الثقافى ومقاومته ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 1983

7 ـ عبدالله الجسمي ـ  مفهوم التعددية فى الفلسفة المعاصرة ـ موقع بلاغ ـ www.balagh.com ـ أول أغسطس 2007

8 ـ د. أمانى على فهمى ـ رمسيس يونان وجماعة نحو المجهول ـ موقع الورشة ـ www.alwarsha.com ـ 7 أغسطس 2007

9 ـ مجلد مجلة جاليرى 68 ـ توزيع دار الثقافة الجديدة بالقاهرة

10 ـ مجلد إضاءة 77 ـ إصدار دار الملتقى ـ القاهرة 1994.

11 ـ مجلة الجراد العدد الثانى ـ تحرير أحمد طه ـ يوليو 1994

12 ـ حوار مع السيد نجم حول جماعة نصوص 90 ـ موقع فوانيس ـ www.alfawanis.com ـ أجرت الحوار نجوى شعبان وحسام عبد القادر .

13 ـ سمير الفيل ـ قراءة في أوراق الحركة الأدبية بدمياط ـ موقع القصة العربية ـ www.arabicstory.net  .

   عودة

رباعية العاشـق

محسن يونس..

( مهداة إلى كل العشاق الحقيقيين )

( 1 )

غراب ديامو النوحى ساكن أعالى الأشجار عشق ، والعشق داء ليس له دواء إلا من رحمه رب العباد ، فأنزل عليه النسيان بعد مكابدة أهوال السهد ، وعذابات الحرمان ..

قلنا إن غراب ديامو عشق ، والمعشوقة هى تلك البومة الصغيرة ، ذات العيون الخضراء الكبيرة ، جننت الغراب باستمرار حملقتهما مع إدارة رأسها لو أرادت رؤيته داخل محجرى عينيها الخضراوين الجميلتين .. أليس عاشقا ؟! ما معنى ذلك ؟ .. معناه أن بعض البلاهة يمكننا أن ننعت بها بعض العشاق ، ولله فى خلقه شئون ..

استمر في القراءة رباعية العاشـق