أرشيف الأوسمة: ذاكرة السينما

Cinema paradiseعن المكان الأول والبحث عن الزمن المفقود

فدوى العبود/سوريا


فدوى العبود

إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا.
غاستون باشلار


يعتبر الفيلم الإيطالي “سينما باراديسو” Cinema paradise وهو بتوقيع الكاتب والمخرج الايطالي جوزييي تورناتوري 1988 – قصيدة عن المكان الذي يعاد تشكّله عبر الخيال وتجذره في اللاوعي؛ وهو تأكيدٌ لفكرة باشلار عن أهميّة المكان الأول وجماليّاته ودوره في تصورنا للعالم؛ والذي يفقد الكثير من سماته الواقعيّة ليتحول إلى صورة حلمية؛ فلكل منا مكانه الأول وعلى كل واحد منا –بحسب باشلار-أن يتحدث “عن طرقه ودروبه ودككه التي يجلس عليها بجوار الطريق”
ولعل الفن في مجمله مدين في نشأته إلى النسيان والغفلة وإنقاذ الزائل. وفي هذا الإطار يطرح الفيلم علاقة المكان بالذاكرة ولعل من مفارقاته المدهشة أنه قُدِّم كجزء من حياة أو بتعبير أدق (سينما داخل سينما)
نتعرف إلى المكان في ذاكرة سلفاتوري الرجل الخمسيني والذي كان يسمى في صغره (تيتو) إنه غائب عن بلدته الصغيرة منذ 30 عاماً. أصبح خلالها مخُرجًا مشهوراً، وتستيقظ ذكرياته –متزامنة مع البرق والرعد خارج النافذة-لحظة إخباره باتصال والدته التي تدعوه لحضور جنازة الفريدو.

استمر في القراءة Cinema paradiseعن المكان الأول والبحث عن الزمن المفقود

زوجتي والكلب. بقلم: شريف الوكيل

                          ١٩٧١

هذا الفيلم أحدث تحولا كبيراً في فهم لغة السينما المصرية، بتحطيمه كل التقاليد والمقاييس المتعارف عليها في مجال السينما، سواء على مستوى الإخراج أو التصوير والسيناريو والديكور .

في البداية تطالعنا القصة والسيناريو والحوار، كمدخل للعمل السينمائي، وهذه العناصر الثلاثة من وضع المخرج”سعيد مرزوق” وقتها كان لا يتجاوز الثلاثين من عمره، لكنه استطاع أن يقدم أعمالا تليفزيونية ناجحة، كانت سببا في جذب الأنظار إليه لما فيها من رؤية جديدة جريئة في محاولة للتخلص من الأساليب القديمة التقليدية، وتنزع إلى مايخدم الفكر الدرامي وتطوره…ومعروف عن سعيد مرزوق أنه كان طاقة معطاءة، تحب عملها وتفهمه جيدا، ولما لا وهو من مدرسة المخرج التليفزيوني”عبد العزيز فهمي” وكانت تحمل تيارات وأفكار جديدة أثرت في حقل السينما… وكان مزوق ينتمي إلى هذه المدرسة، مثلما ينتمي إلى طليعة المخرجين الشباب التي ترفض المحاكاة العادية .

ومن خلال قراءة السيناريو الذي كتبه سعيد مرزوق، تحس بتحمسه لكل ماهو جديد، فالسيناريو يتماشى مع المعالجة المعاصرة للفيلم الجديد… فكان يضع في مخيلته المعنى الجمالي عندما يتحول إلى معنى صوري، اللفظ هنا صوري وتعبيري أكثر من وصفي أو جمالي مجرد. إن لغة الإخراج التي يقدمها سعيد مرزوق في هذا الفيلم جديدة ، وأبرز مايميزها البساطة والعمق والبعد عن استعراض العضلات  وكذلك المصرية الواضحة جدا في الفيلم.

وفي أول سمة تطالعنا في أسلوب سعيد مرزوق هو البساطة مع العمق، فهو يقدم مشاهد الفيلم بأبسط صورة…ولكنه يضمنها شحنات فكرية عميقة، أحيانا تتغلف بمعاني رمزية، وأحيانا تحمل مواقف كوميدية ساخرة، وأحيانا تنعكس داخل الإنسان نفسه، وذلك بدون افتعال أو أسلوب مركب…ونلمح في فيلمنا هذا أن ما يشد مرزوق ويشغله هو داخل الإنسان ، فالاهتمام بالإنسان وبأزمته وداخله هو ما ركز عليه في “زوجتي والكلب” قلق الإنسان وهواجسه، وفقدانه الثقة بالآخرين من خلال وحدته وعتامة المناخ الذي يحياه بعيدا عن الأهل .

الكلب هنا بطل حقيقي، وهو يرمز لوحشية الإنسان وعوائه وبدائيته، مثلما هو رمز الإخلاص والوفاء، وقد حاول الفيلم أن يستخدمه كرمز حي في كل علاقات الأحداث…وكان اختيار البحر مكانا للأحداث اختيار ذكي للغاية، فالبحر ميلاد الإنسان الأول، ثم إنه رمز للخطيئة الأولى، كما هو رمز للعطاء والإخصاب، كما إنه يعطي جو الرهبة والقلق والمجهول.، وهذه كلها متطلبات يحتاجها الفيلم، الذي ينشد داخل الإنسان بكل قلقه، وحرمانه، وشكه .

أما لغة الأداء في الفيلم فكانت جديدة أيضاً، فنجد الفيلم كله يقدم من خلال محمود مرسي (محور الفيلم) فكل الأحداث تدور في فلكه فقد استطاع أن يرسم في ذروة بالغة أفراح وأحزان وقلق ريس الفنار…وزوجته سعاد حسني قدمت دورا جديدا وبأداء ذكي، ولمحات مبدعة، واستطاعت أن تقدم شخصية الزوجة الشابة المقبلة على الجنس في نعومتها وفي بساطتها في فهمه، وشقاوتها التلقائية …أما نور الشريف فقد جعله هذا الفيلم أن يضع أقداما ثابتة في السينما، فأعطى دور الشاب الأعزب المتعطش للجنس، لكن في طيبة وفي صراحة وعفوية .

كانت الموسيقى التصويرية التي صممها الموسيقار ابراهيم حجاج، قد استندت في معظم المشاهد إلى أغنية الفنان سيد درويش المشهورة”زوروني كل سنة مرة” بتوزيعات وأشكال متنوعة، تناسب المشهد المعبر عنه، سواء كان مبهجا أو حزينا وربما كان هذا مكملا لمصرية الفيلم الحقيقية وهو اختيار ذكي تماما، لإرتباط الفيلم بلغة البحر …كما كانت المؤثرات الصوتية مستخدمة بشكل مبدع، ويلاحظ هذا فى مشهد العاصفة والبحر والتحامه بعواء الكلب في ليل الفنار مع الإيقاعات المستخدمة على الرق والرتم السريع، الذي يوحي بالتتابع الزمني .

ونعود من جديد لنوضح قدرة المخرج على الابتكار، فقد جعلنا ندخل إلى العمل مباشرة دون كلفه، وهذا يرجع إلى بساطته وصدقه فنتذكره وهو يقول: ليس المهم أن تصنع مشهدا مركبا كنوع استعراضى، بل الأهم هو أن تصنع صورة خلاقة تصل إلى قلب المشاهد.

(شريف الوكيل) .

             ********************

المجهول/ ذاكرة السينما: سريف الوكيل

المجهول

كان الروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو رجلاً حسن المظهر بشكل مذهل وقعت النساء في غرامه – قد يبدو هذا شيئًا تافهًا ، إلا أنه دائمًا ما يكون أول ما يظهر عندما يتحدث الأشخاص الذين يعرفون كامو عما كان عليه.  عندما كانت إليزابيث هاوز ، التي كان كتابها الجميل لعام ٢٠٠٩، رومانسية كامو “Camus: A Romance” هو في الأساس قصة حزينة لفتاة جامعية معجبة بصورته ، سألت الناجين من مجموعة المراجعة الحزبية Partisan Review ، الذين التقوا بكامو في رحلته الوحيدة إلى نيويورك ، في  عام ١٩٤٦ ، كيف كان حاله ، قالوا إنه يذكرهم بالممثل همفري بوجارت…وكان الرجل الأكثر جاذبية الذي يمكن مقابلته على الإطلاق” … أحب كامو هذا الاستقبال لدرجة أنه كتب عن ذلك إلى ناشره الفرنسي.  كتب مازحا قليلا: “أتعلم ، يمكنني الحصول على عقد فيلم متى أردت”.  وبالنظر إلى الصورة الشهيرة لكامو التي رسمها الرسام كارتييه بريسون من الأربعينيات – ياقة معطفاً لأعلى ، وشعر مقلوب للخلف ، وسيجارة في فمه ؛  وجه طويل وجذاب مبطن وعيون نشطة ودافئة – ترى لماذا كان الناس ينظرون إليه على أنه نجم وليس مجرد حكيم ؛  ترى أيضًا أنه كان يعرف التأثير الذي كان يحدث.

استمر في القراءة المجهول/ ذاكرة السينما: سريف الوكيل

الإحساس بالنهاية The Sense of An Ending

مقاربة بين الأدب والسينما، بقلم: شريف الوكيل

لو تكلمنا عن  العلاقة بين الرواية والفيلم السينمائي نجدها وثيقة جدا، وذلك لأن عمادها هو الحكاية فبدون حكاية لن تكون هناك رواية وبالتالي ولا فيلم سينمائي…وربما تكون الرواية أكثر توازيا مع السينما لقرب الشراكة في جوهر الحكاية بينها وبين السينما، فمعظم الأفلام الطويلة كانت تعتمد على نصوص أدبية سابقة، فنتج عن ذلك مايعرف في عالم السينما بالأقتباس، وكانت النتيجة ظهور عدد كبير من الأفلام المعتمدة على روايات ومسرحيات كلاسيكية وحديثة لشكسبير وشارلز ديكنز وسومرست موم وغيرهم فهم كثر ، ولدينا أكبر مثال على هذه العلاقة من خلال نجاحات أعمال سينمائية عربية كثيرة  وروايات لطه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وأيضا عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وغيرهم.

وكما يقول جيل دولوز” السينما لاتقدم صورا فقط بل تحيطها بعالم” فهي تسهم في بناء عالم متصور من خلال العمل الأدبي الذي يظل مجردا ومتخيل، ليأتي الفيلم ويربط بين المقروء والمشاهد ارتباطا وثيقا، مثلما نقرأ رواية بين القصرين نتذكر على الفور الفنان يحيي شاهين في دوره العبقري “سي السيد” أو الفنان عمر الشريف ودور الفدائي “ابراهيم” فى رواية في بيتنا رجل، أيضا دور فاتن حمامة وزهرة العلا عند قراءة قصة “دعاء الكروان”…وهذا ماسيكون عليه حالنا مع  رواية “الإحساس بالنهاية” حيث يجسد الفيلم الأشخاص والأماكن والأحداث، حتى لاتعود مجرد أشياء في الذاكرة، بل أشياء محسوسة ذات بعد فيزيائي حقيقي لها شكل خارجي، ولعل هذا يوثق الشخصيات في نفس المتلقي ويجعل القصص أكثر واقعية…وبالطبع هناك من الكتاب من  لايميلون لهذه التفاسير لأنهم يريدون أن تعمل مخيلة القارئ  في تخيل الشخصيات كما يحلو له ، أو قل كما يشاء

في عام ٢٠١٧ ظهرت رواية الإحساس بالنهاية على شكل فيلم بنفس العنوان، من إخراج “ريتيش باترا” من بطولة وتمثيل جيم بروبنت في دور توني وشارلوت رامبلينج في دور فيرونيكا وجو ألوين في دور أدريان…ربما يكون الفيلم لم يحقق النجاح الموازي لنجاح الرواية، وربما يرجع ذلك إلى أن الرواية الأدبية تستطيع تصوير الحياة  الداخلية للروح والقلب والعقل ،أما السينما فهي لاتصنع تمثالا جامدا ، بل شكلا فنيا له قوانينه وجمالياته الخاصة به…إذا يمكن القول بأن الرواية المقروءة والفيلم السينمائي يشتركان في اتكائهما على الحكاية وعلى السرد، وهو ما يجعل اشتراكهما في عناصر السرد المتخيلة سينمائيا أمرا حتميا، ومن هنا ظهرت فكرة السيناريو… إنه فيلم بفرضية مثيرة للاهتمام وليس أبدًا أي شيء سوى المشاهدة والتمثيل الجيد.  لكن ، بالنظر إلى أن القصة تدور حول الانتحار والحب الممنوع ، فإنها تكون جافة  قليلا، ومنفصلة ، وحتى بلا عاطفة في بعض الأحيان.  على الرغم من العنوان ، وعلى الرغم من الشخصية الرئيسية وانغلاقها  العاطفي ، لا يوجد شعور مُرضٍ بالنهاية.  تعتبر ذكريات الماضي لشباب الشخصية الرائدة في الستينيات من القرن الماضي مهمة لإعطاء عمق القصة والدراما ، ولإخراجها من عالم ضيق الأفق لشمال لندن الميسور.  يتم تأجيل الكشف عن الغموض المفترض في ذكريات الماضي ، مشهدًا تلو الآخر.  لكن الانفجار الناري للعاطفة الحقيقية والوحي الحقيقي لا يصل حقًا أبدًا.  ومن الصعب معرفة مدى تعمد هذا التحفظ … الرواية باختصار شديد تتبع سيرة حياة مجموعة من الشباب منذ أيام دراستهم في ستينات القرن الماضي، خصوصا تكوينهم الثقافي والنفسي، ورغبتهم في تغيير العالم متأثرين بالقراءة  لنيتشه وألبير كامي وديستويفسكي وجورج أورويل وألدوس هكسلي…وأيضا بما كان يدور حولهم من تحولات في مجتمع الستينات، وبدروس معلم التاريخ الذي كان  دائما يربط بين الماضي والحاضر، ثم بالأحداث الشخصية التي مروا خلالها بعد أن تفرقوا بعد الدراسة، كل هذا يتجمع في ذاكرة الراوي أنتوني، الذي يسترجع كل الذكريات حول زملائه بعد إنتحار ألمع شباب المجموعة، وهي في النهاية رحلة في البحث عن معنى الحياة والموت والحب والتعاسة أيضا…ثم انتظار النهاية المحتومة دون أمل ودون يأس، وكل هذا من خلال نظرات فلسفية عميقة ولغة بليغة وأحداث متسارعة تجعل القارئ لا يتوقف إلا عند آخر كلمة في الرواية، والتي تكون في الوقت نفسه بداية تأمل عميق في حياة القارئ والأحداث التي مرت به هو شخصيا …ورغم أن الرواية نحو المائة وخمسون صفحة الأمر الذي جعل كثيرا من النقاد يعتبرونها رواية قصيرة”نوفيلا” إلا أنها مكتظة بالأحداث وتغطي مساحة زمنية طويلة جدا تقرب من نصف قرن…وتعتبر هذ الرواية محظوظة جدا، فقد لقيت منذ نشرها العديد من عبارات الإعجاب والتقدير فقد بذل فيها جوليان بارنز كل طاقاته اللغوية التي تراكمت على مر السنين، من خلال الحبكة المتقنة التي أظهرت قدرة الكاتب المبدع على هذا الإيجاز الذي يكثف فيه تفاصيل هائلة من الذكريات ومن الأحداث والتأملات …وقد نالت الرواية جائزة البوكر عام ٢٠١١

يلعب برودبنت دور توني ويبستر ، المالك المطلق لما يجب أن يكون أصغر متجر وأكثرها تحديدًا في جميع أنحاء لندن: واجهة متجر ضيقة حيث يقوم بإصلاح وبيع الكاميرات الكلاسيكية القديمة  يؤسس المخرج باترا بكفاءة الإيقاعات اليومية الهادئة لوجوده المنعزل: المنزل المرتب حيث يقوم بإعداد إبريق القهوة لشخص واحد في الصباح ، ومقعد الحديقة حيث يتناول الغداء بمفرده في فترة ما بعد الظهر… من الواضح أن هذا رجل خاص جدًا بكل شيء ، لكن برودبنت ، رائع كالعادة ، يضفي عزلة الشخصية على حلاوة الأداء 

لكنه لا يزال لديه علاقة ودية مع زوجته السابقة ، مارجريت (هارييت والتر) ، والمشاهد التي يكون فيها الإثنان بألفة دافئة هي أفضل ما في الفيلم. “لماذا تركتني؟” سؤال توني لمارجريت في وقت من الأوقات ؛ أما هي فقد أدارت عينيها تجاهه ردًا… إنها صوت العقل – الصوت المرتبط بالعالم الخارجي ، قوة من الواضح أن توني لا يزال بحاجة إليها في حياته، ويشترك الاثنان في رابطة قوية مع ابنتهما ، سوزي الواقعية “ميشيل دوكري” ،  الحامل وهي على وشك إنجاب طفلها الأول بمفردها…بوصول خطاب مصدق لتوني يعطل روتينه، اتضح أن والدة حبه الأول ، فيرونيكا ، “الشابة المرحة التي عرفها في أيام الدراسة بالجامعة” ، قد ماتت وتركت له عنصرًا ترفضه فيرونيكا ، التي لم يراها منذ أكثر من خمسون عامًا ، الآن بينما يحاول توني تعقبها ، يشارك مارجريت قصة هذه الرومانسية الشابة ، بالإضافة إلى الصداقة مع زميل له في الفصل والتي انتهت بنهاية مأساوية

ينزلق الفيلم ذهابًا وإيابًا بين سلسلة من المحادثات ، ينتهي كل منها بتزايد غضب مارجريت من توني ، والأحداث التي وقعت في أوائل الستينيات نفسها، ومن خلال العمل مع المصور السينمائي كريستوفر روس ، يقوم المخرج باترا بتصوير مشاهد الفلاش باك هذه بحرارة على النقيض من الضبابية الواضحة في لندن المعاصرة.  فهناك صفة دخانية باهتة تشير إلى ضبابية الذاكرة

يقفز فيلم المخرج الأسيوي ريتيش باترا ، المستند إلى سيناريو من تأليف نيك باين ، ذهابًا وإيابًا مع اقتراب أجزاء من الحياة التي لم يتم فحصها سابقًا ،تظهر شخصيات وأجزاء من الحوار من فترة ما بشكل مثير للاهتمام في الفترة الأخرى للدلالة على الطبيعة السائلة للذاكرة، ولكن عندما تتراجع وتفكر في الحقيقة التي تطاردها شخصية جيم برودبنت، نجد أنه  من الصعب أن نفهم السبب، بعد كل هذا السنين… لكن المشهد الأقوى على الإطلاق يأتي من باب المجاملة لشارلوت  رامبلينغ ، والذي لا ينبغي أن يكون مفاجأة لأي شخص على دراية بقدرات هذه الممثلة المخضرمة.  على هذا المنوال ، فإن الفيلم  سوف يأخذنا لعام ٢٠١٥، عندما فازت بجائزة الأوسكار عن فيلم “خمسة واربعين عام” بعد ترشيحها  لأفضل ممثلة بجدارة.  كما جاء هذا الفيلم في أعقاب الدمار المحلي  الناجم عن رسالة تحتوي على أخبار من الماضي.  هنا ، في لحظة حزينة ومتوترة بشكل رائع مع برودبنت في أحد المقاهي ، تقدم شارلوت رامبلينغ لمحة موجزة عن كل هذا العناء

فيلم مثير للاهتمام بحد ذاته ، لكن العنصر الأكثر استفزازًا هو دعوة القصة للتشكيك في يقيننا حول الأحداث الماضية، مع العلم إلى أي مدى يمكن أن تكون القناعات خاطئة ، فإن إحساس النهاية يفتح لتوني  كل اليقين وبالتالي يثري جاذبيتها النظرية والعاطفية

يلاحظ هنا أن عنصر الزمن مهم جدا في بنية الرواية على رغم صفحاتها القليلة، أما الفيلم فهو محاصر بوقت ضيق لا يتجاوز الساعات، وبالتالي تكون الرواية في حل من هذا القيد الزمني المهم، وبالطبع هذا يؤثر في التفاصيل الأخرى، إذ يرغم المخرج وكاتب السيناريو على الاختزال والتغيير أو الزيادة أحيانا وفقا لما تقتضيه الحبكة 

كما يتضح لنا أن توني العجوز يمثل مركز الزمن في الفيلم، فنجده يعود بذكرياته إلى لحظات من الماضي دون ترتيب منطقي مما يثبت أن الفيلم يقوم على تمزيق ترتيب الأحداث كما وردت في الرواية  

ربما تكون الانتقالات التي تحدث بين الأفكار والأهواء والأصحاب وكذلك الأحلام، هو ماينعكس على الحاضر، ليزيد النفس البشرية إرتباكا،يصل للشعور بعدم الأمان، وفقد الثقة في كل شيء… ففي الجزء الأول من الرواية يخبرنا بطل القصة بالأحداث الأصلية، والتي تبدأ متمحورة حول مجموعة من أربعة أصدقاء بالدراسة أكثرهم إثارة للاهتمام “أدريان”. يصحبنا من هذه النقطة، من وصف أفكارهم ومرورهم بالمراهقة وحتى انفصالهم وانتقالهم من المدرسة إلى الجامعة… وفي الجزء الثاني نشاهد القصة نفسها من منظور “أنتوني” الذي صار الآن ستينيًّا لا يملك إلا النظر إلى الوراء. ومن خلال واقعة تشده إلى الأمس وتعيد اتصاله بالماضي، نجد بطل “الإحساس بالنهاية” مدفوعًا إلى إعادة فحص مسلماته وتحليل ذكرياته إلى حد التشكيك فيها، من خلال الخط الذي بلغه موضعه، ويختبر هشاشة التعرض للشك، حيث لم يعد تصحيح الخطأ متاح، فهل استطاع أن يحقق ما أراد، وهل أرتكب الكثير من الأخطاء، وهل ندم عليها ندما صادقا، وهل هو راض عن حياته..؟ وهل يمكن للإنسان أن يستمد ثباته من ثبات ماضيه، من قصة حياته المزعومة، التي يتلوها للآخرين.وإذا كان  اتصالنا بماضينا وما وقع فيه متزعزعا ومرتبكا، مليئا بالثغرات واهنًا، ألا يفسر هذا حالة التزعزع العام التي هي مأساة الإنسان؟ ربما لأجل هذا يختتم “جوليان بارنز” روايتة بجملة يلخص بها كل شيء: هناك تراكم… وهناك مسؤولية ووراءهما هناك عدم استقرار… هناك عدم استقرار عظيم

(شريف الوكيل)

               *******************

الرجل الذي باع جلده

شريف الوكيل

( ذاكرة السينما )

يتشابك فيلم “الرجل الذي باع جلده” بشكل خيالي بين الدوائر الفنية النخبوية المتلاعبة،  واللامبالاة اللاإنسانية في العالم تجاه أزمة اللاجئين الدولية… وبينما يحكي قصة عن بعض التقلبات والمنعطفات الشاقة إلى حد ما ، فإن فيلم الكاتبة والمخرجة التونسية “كوثر بن هنية” سهل للغاية ويمكن مشاهدته بشكل قهري لدرجة أنه بعد عشر دقائق فقط ، يفهم المرء سبب ترشيحه لجائزة أفضل أكاديمية دولية لهذا العام ،  على بعض أكثر الأفلام تحديًا في القائمة المختصرة لجوائز

الأوسكار.

في الواقع ، يكمن تحت هذا العنوان المثير للقلق فيلم يسهل الوصول إليه (إن لم يكن مكيدًا إلى حد ما) ، عن لاجئ سوري شغوف وواسع الحيلة يبذل قصارى جهده في التغلب على ظروفه الأليمة ليجتمع في النهاية بحب حياته.  تستلزم تضحيته إعارة ظهره العاري كقطعة قماش لوشم معقد من قبل فنان مشهود له دوليًا ولكنه مثير للجدل ، فقط للحصول على حرية الحركة حول العالم كقطعة من الفن البشري المتنقل…  في حين أن كل هذا يبدو وكأنه سيناريو غير متوقع ، فقد ورد أن بن هنية استمدت إلهامها من عقد حقيقي يعود إلى أواخر العقد الأول من القرن الحالي ، بين الفنان البلجيكي “ويم ديلفوي” وناقل فنونه الحية “تيم شتاينر”، وهو رجل سويسري

لديه وشم مفصل على ظهره من تصميم ديلفوي والذي باعه بعد ذلك إلى جامع فني ألماني مقابل مبلغ مائة وخمسون ألف يورو اتفاق يعني أنه عند وفاته ، سيتم في نهاية المطاف تجليد ظهر شتاينر ووضعه داخل إطار متاح لعرضه بالمعارض الفنية الدولية .

في “الرجل الذي باع جلده” ، السوري سام علي (يحيى مهايني) هو بالضبط نوع الشخص الذي قال نعم لمعاملة من هذا النوع، بجنون في حب عبير (ديا ليان) فتاة من الطبقة العليا، ذات العيون الزرقاء الكريستالية ، انفصل علي عنها فجأة بسبب سوء فهم سياسي رهيب ووجد أنه يتعين عليه الفرار إلى بيروت على عجل.  هناك ، يلتقي بالفنان العالمي الشهير جيفري جودفروي (كوين دي بو) بالصدفة في حفلة من الحفلات الخاصة…ولأنه  غير قادر على قبول الزواج المطيع لعبير من رجل ميسور الحال تحت ضغط الأسرة ، نجده يقبل وبشكل متهور عرض جودفروي بتنازل شديد، ويتم توقيعه بطباعة تأشيرة “شنجن” ضخمة على ظهره ، وهي مفتاح دخول المسافرين معظم دول الاتحاد الأوروبي، وتسمح لحاملها دخول ستة وعشرون دولة أعضاء في منطقة الشنجن… وهو يسافر من معرض إلى معرض مع جودفروي، ومساعدته تلك المنظمة ذات اللسان الحاد ثريا “مونيكا بيلوتشي” التي غطت الفيلم بجاذبية كبيرة من النجوم .

تم توضيح القيم الأيديولوجية للفيلم بوضوح لدرجة أنه من الصعب أن تجد فيلم “الرجل الذي باع جلده” مثيرًا أو حتى مثيرًا للانتباه سياسياً… في الواقع ، غالبًا ما تبدو مكائد أزمة سام علي مبالغة في التبسيط من حيث ملاحظاتها حول الهوية والطبقية… ظاهريًا  تحاول كوثر بن هنية التأكيد على أن علي يبيع جزءًا من إنسانيته ويعرض رسومات سياسية دائمة على جسده للجمهور المتميز بدافع اليأس ، مقابل حق يجب أن يتمتع به بالفعل كإنسان.  ولكن في محاولته تشريح الطبيعة الاستغلالية للترتيب الفظيع الذي يقبله علي بطريقة حساسة ، يقترب فيلم بن هنية بشكل خطير من أن يكون شكلاً آخر من أشكال الاستغلال بحد ذاته ؛  قصة تستخدم محنة اللاجئ لقصة ذكية ولكن سطحية مع تطور مشكوك فيه في أحسن الأحوال… ومع ذلك تحتفظ بن هنية بلمسة توجيهية خفيفة ومضمونة لا يمكن إنكارها على المادة ، والتي تعوض بعض أوجه القصور الموضوعية في النص.  في هذا الصدد ، تكون أكثر فاعلية عندما تظل قريبة من الرومانسية بين علي وعبير.  مشهد جميل في اللحظات الأولى للفيلم عندما يعترف الثنائي بحبهما لبعضهما البعض على متن قطار ، ويثيران حفلة صغيرة بين جميع الركاب الآخرين ، هو مشهد جميل بشكل خاص ومصور بشكل مذهل ، تُظهر فيه بن هنية ذوقها البصري في أماكن أخرى أيضًا ، باستخدام ألوان نابضة بالحياة ، وتركيبات رائعة ، وانعكاسات لدعم سردها المتمحور حول الفن.

يمثل فيلم “الرجل الذي باع جلده” حفنة صغيرة من الأفلام التي طال انتظارها – إنه أول فيلم تونسي يتم ترشيحه لأفضل فيلم دولي في حفل توزيع جوائز الأوسكار ، مما يجعل المخرجة كوثر بن هنية أول امرأة عربية مسلمة تمت دعوتها للمشاركة في هذا التجمع السنوي…إن فرضية المخرجة كوثر بن هنية هي بالتأكيد فكرة جديدة ، وإن كانت أيضًا مجرد ملاحظة واحدة – إنها نوع من الأفكار الذكية التي لا تقاوم والتي يمكن أن تخدع حتى أفضل صانعي الأفلام في مطاردة ذيولهم.  وصلتها في متحف اللوفر ذات يوم من عام ٢٠١٢، حيث واجهت عملاً حيًا للفنان البلجيكي ويم ديلفوي يُدعى “تيم” ، والذي سمي على اسم الرجل الذي تم رسم الوشم على جسده.

وللحكم من خلال “الرجل الذي باع جلده” ، فإن خيال بن هنية لم يدغدغ بجماليات القطعة بقدر ما تداعب لوجستيات عرضها  نص العقد على أن تيم يحق له فقط الحصول على حصة من الأرباح إذا وافق على الظهور في صالات العرض المختلفة عند الطلب … ولكن كيف تباع لوحة قماشية محبرة في ظهر شخص ما؟  كيف يمكن أن يعيش تيم ليرى تلك الأموال؟  كيف يؤثر التسليع الحرفي لجسم الإنسان على مكانته في العالم؟

وهذا هو السؤال الأخير والأهم  الذي يبدو أنه أثار حماس مخرجة الفيلم،  وتبدأ قصتها في الرقة حوالي عام ٢٠١١ ، حيث اختار سام (الذي اعتقل الوافد الجديد يحيى مهايني) المكان الخطأ ليقترح على صديقته المحببة ولكن المترددة عبير (ديا ليان) المضيئة ، التي تنقل مكانة شخصيتها من الدرجة العالية في  دور يترك لها مجالًا صغيرًا للقيام بأي شيء آخر.  “إنها ثورة ، فلنكن أحرارًا!”  يُعلنها سام لعربة قطار مليئة بالغرباء ، في حفل زفاف مصطنع ومرتجل حيث يفترض المشهد الشعور السحري للفولكلور السوري الحديث ، وهو نوع من الحكاية الملفقة التي تنتقل من جيل إلى آخر كإرث عائلي…  يلعب الممثل البلجيكي كوين دي بو دور الفنان جيفري جودفروي قد لا يكون الشيطان نفسه ، لكنه قريب بما يكفي لتقديم صفقة فاوستية لسام…  سيحول جيفري سام إلى قطعة فنية – مما يسمح له بالشحن بحرية في جميع أنحاء العالم كسلعة لا تخضع لقيود السفر المفروضة على البشر – طالما وافق سام على أن يعامل على هذا النحو.  “هل تريد روحي؟”  يسأل سام.  يرد جيفري: “أريد ظهرك”.  وقد حصل عليه ، وهو يحبر جواز سفر شنغن جديدًا بحجم شيك يمتد تحت عنق سام… ووداعا سوريا ،مرحبًا أيها المتعجرفون الأوروبيون، ربما يكون  هناك قدر معين من الحرية في ذلك ،ولكن أيضًا إحباط عميق – كما يكتشف سام مباشرة عند وصوله إلى ألمانيا وقد وجد نفسه وحيدًا في مأزق غريب يفصل بين المتميزين والملعونين.  تتخلى بن هنية عن الجوهر العاطفي لقصتها وهي تفكك المفارقات الخاصة بشخص يصبح بضاعة من أجل تأكيد قيمته المتأصلة كرجل.  ينزلق الفيلم نحو السخرية من خلال سلسلة محرجة من المشاهد الشبيهة بالرسومات التي تستعرض مفارقاتهم الواضحة ، حيث يقف سام في المتاحف لساعات متتالية ويتراجع إلى فندق من فئة الخمس نجوم حيث يقيم به مثل النمر في قفص مخملي…يقدم ماهيني أداءً رشيقًا ومثيرًا للتوتر باعتباره التجسيد الحي لكيفية قيام العالم الثري بفرض معنى على الأشخاص اليائسين .

أو بعبارة أخرى ، لا يُقصد بالعنوان أن يكون مجرد استعارة،  فالرجل الذي باع جلده هو حرفياً عن رجل يبيع بشرته… وهو فيلم ذو عقلية حرفية ومثير للذكريات.  يتناول أزمة اللاجئين والرأسمالية والقمع السياسي ونفاق العالم الأول في سياق هجاء عالم الفن…إنها حكاية برية ومعاصرة وحيوية ومثيرة للتفكير …أو ، كما قال جيفري بشكل مفيد في مقابلة ، “نحن نعيش في عصر مظلم للغاية حيث إذا كنت سوريًا وأفغانيًا وفلسطينيًا وما إلى ذلك ، فأنت شخص غير مرغوب فيه،  ترتفع أمامك الجدران… لقد جعلت سام للتو سلعة ، لوحة قماشية ، لذا يمكنه الآن السفر حول العالم.  لأنه في الأوقات التي نعيش فيها ، يكون تداول السلع أكثر حرية من تداول البشر.  وهكذا ، بتحويله إلى نوع من البضائع ، سيكون الآن قادرًا ، وفقًا لقواعد عصرنا ، على استعادة إنسانيته وحريته.” أليست هذه مفارقة، حيث يمكن للفن والتجارة التحرك دون رادع ولكن البشر لا …وهنا تبدأ مجموعة حقوق اللاجئين في الاحتجاج على ذلك العمل الفني ، وتبدأ المظاهرات،  وتحتدم النقاشات حول وجوده…الفيلم ينتهي في مكان لا تتوقعه يمكن أن يكون محبطًا أو مرضيًا ، اعتمادًا على الوسائل التي تستخدمها المخرجة للوصول إلى هناك، الرجل الذي باع جلده  يلقي ببعض الملاحظات المشؤومة والشريرة حيث يتشابك مع قضايا سياسية واجتماعية خطيرة ، من بينها محنة اللاجئين ، وطبيعة الفن والاستغلال ، ومختلف جوانب الذات.

قد يرى البعض النهاية غير المأساوية للرجل الذي باع جلده على أنها خيانة للنغمات الأكثر تشاؤمًا للقصة.  لكنها في الحقيقة أكثر من تأكيد للطريقة التي يمر بها معظمنا في الحياة: نحن نعيش من أجل الوعد بأن القليل من الحظ يمكن أن يغير كل شيء.  في بعض الأحيان ، يفي هذا الوعد بنفسه رغم كل الصعاب ، في نوع من تجنب المآسي.  إذا كان الرجل الذي باع جلده يسعى إلى الالتفاف حول بعض الأفكار المعقدة ، فإنه يستقر في النهاية على فكرة كونية مباشرة: مصيرنا ليس مكتوبًا بالحبر ، ولكن في قرار مكين .

(شريف الوكيل)

             **********************

الغروب الجزئي

الناقد السينمائي: شريف الوكيل

The Sunset Limited

الغروب الجزئي

كورماك مكارثي + تومي لي جونز + صامويل جاكسون…هذه الأسماء الثلاثة وحدها ستثير فضولنا بشأن كل ما يتعلق بها ، ولكن إذا كنت تتوقع حكاية غربية أو قوطية قاتمة ، فستكون مفاجأة بعض الشيء ، يستند فيلم “The Sunset Limited” على حكاية لمكارثي وغروره بسيطة للغاية، ومعقدة للغاية، رجلان في حجرة صغيرة، يتحدثان عن كل الأشياء الحياتية، مثل الدين والموت وما إذا كانت الطبيعة البشرية مقنعة للمعاناة أو السعادة. 

وجهتي نظر مختلفتين تمامًا في مناقشة جذابة إلى حد ما ، حيث يتم وضع حدودهما الفكرية والفلسفية في نفس الوقت في مواجهة التحدي وتقويتهما بهدف ميؤوس منه للوصول إلى  نقطة مستحيلة للاتفاق الميتافيزيقي… فإن تعليق عدم التصديق فيما يتعلق بتصوير الإعدادات الواقعية والسلوك العقلاني وتقديم الحوار القابل للتصديق أمر لا غنى عنه تمامًا لتشريح المحتوى الغني (في معظم الأحيان) الذي يستحق التفكير والتأمل، لذلك ربما لم يكن هذا خارج غرفة القيادة العادية لمكارثي… حيث يبدأ الحدث بشيء لا نراه على الشاشة: الأسود (صامويل جاكسون ؛ نعم ، يُشار إلى الشخصيات بالألوان فقط) استطاع سحب الأبيض (تومي لي جونز) من رمي نفسه أمام مسار قطار الأنفاق السريع…  لينتهي بهم الأمر في حجرة بلاك بعد لحظات من الحدث ، ومن ثم تبدأ محادثتهم التي ستتحول من موضوع ثقيل إلى موضوع ثقيل بالطريقة التي نادرًا ما تحدثها المحادثات بين شخصين غريبين.

في البداية ، كان الرجل الأبيض سريع الانفعال بشكل ملحوظ ومربك قليلاً وليس بدون سبب وجيه – لقد حاول فقط قتل نفسه.  يحاول الرجل الأسود في البداية من تهدئته قبل السماح له بالعودة إلى العالم حيث قد يحاول فعل الفعل مرة أخرى ويفعل كل ما في وسعه لإبقاء وايت في حجرته المتهالكة،  لكن بلاك لديه أيضًا دافع شرير،  إنه سجين سابق تم إصلاحه الآن وهو إنجيلي المذهب،  لدهشة وايت ، يكشف بلاك أنه اختار أن يعيش حيث يعيش لأنه يسمح له بمحاولة تحويل الناس إلى الله وبالطبع يتحول حديثهم إلى الكتاب المقدس… وهكذا تبدأ المناقشة حيث تنحرف الموضوعات من الدين إلى فراغ الثقافة الشعبية وكل أنواع الموضوعات الثقيلة  مع تقدم المحادثة ، لنعلم أن وايت هو أستاذ جامعي ، غير ودود ، وغير سعيد للغاية ، أدرك أن جميع مساعي حياته لا معنى لها تمامًا .

“تومي لي جونز” هو واحد من ملايين الرجال على هذه الأرض التي يحكمها الشيطان بسلوكيات عدمية نيتشوية ومدمرة للذات تنذر بالخطر والتي تحولت أخيرًا إلى أفعال كادت تدفعه إلى الانتحار… إنه لا يؤمن بالله ، علاوة على ذلك ، لا يؤمن بأن البشرية قادرة على السعادة الحقيقية، فهو حائر في الظلمة القادمة من العدم، ومؤمن بأنّ القيم والمبادئ والأخلاق ماتت، وكلّ شيء يموت ويفنى، فليس هنالك وجود لله، رغم ثقافته الكبيرة، التي تجاوزت أربعة آلاف كتابٍ كان قد قرأها في حياته ولم يجد فيها أيّ جواب لما يحدث من حوله في العالم، هو مقتنع، تماماً، بأنّ الموت هو الحلّ الوحيد للبشريّة، فكانت  محاولة الانتحار…ملخص القصة غير معقد لتلخيصه ،تمت مرافقة وايت إلى حجرة بلاك ، وبعد أن يستقر الاثنان في محادثة  لتأسيس الأيديولوجيات التي تحملها هذه الشخصيات،  الأسود هو مسيحي زائف تستند معتقداته بشكل أساسي إلى مفاهيمه المسبقة عن الحياة والإيمان والموت والوجود والإرادة الحرة وإرادة الله ، مستوحى قليلاً من الكتاب المقدس ، وهو كتاب لا يمثل بوضوح  أولوية في حياته حتى لو ادعى خلاف ذلك.

والأبيض هو الرجل الذي قاده تفكيره المنطقي ونظرته الشريرة للعالم إلى اكتئاب عميق ويأس… أحدهما رجل وعامل من الطبقة الدنيا ، والآخر مدرس في إحدى الجامعات،  تعبر هاتان الشخصيتان عن حياتهما الحقيقية بشكل تدريجي للغاية على مدار حديثهما الممتع… معركة بين الإيمان وعدم الإيمان ، بين الله والعدمية.  إن كونه نقاشًا مليئًا بالكلمات لا يتوقف في بعض الأحيان يكون ثقيلًا وأحيانًا مضطربًا يختمه فورًا باعتباره مسرحية لرجلين عالية الجاذبية أكثر من كونها فيلمًا دراميًا.  ومحاولات جلب العرق والطبقة والتأمل في أهمية الجهل باعتباره نعمة ومساعٍ ثقافية فكرية كمسار نهائي لإجابة مظلمة – الحياة بلا معنى – تميل إلى التعثر في هذا المزيج كتب كورماك مكارثي نصه (استنادًا إلى مسرحيته التي تحمل الاسم نفسه) بصراحة عميقة وشغف مؤثر بعمق… الحجج التي يقدمها من خلال نصه ، من كلا الجانبين ، حماسية ومبررة، إن إيمان “وايت” بعدم وجود دين ووجهة نظره إلى هذا العالم “المنكوب” يفتح العين على أقل تقدير.  إن تفاني “بلاك”  وحبه للكتاب المقدس هو ،  مجرد نفاق عندما يتم تذكيره بماضيه العدواني ، يمكن فهمه وتصديقه،  دائمًا الأسود هو كيان حنون ورحيم ، بينما الأبيض رجل رافض ومرهق.  الشخصيتان هما تعريف “مختلف” ، ومع ذلك هناك جو من الاحترام والتقديس في الحجرة.  لقد كتب مكارثي الحجج العدوانية السلبية ببراعة ، وتتدفق بشكل طبيعي من أفواه هذين المؤديين المتميزين.  يتصدر كل منهما  قمة أدوارهما هنا ، حيث يقدمان أداءً رائعًا ويوفران لحظات قوية حقًا حيث يعبران بقوة وحماس عن حوارهما وخطاباتهما… البيئة الصارمة ملموسة في جميع أنحاء الفيلم،  يتفهم المخرج تومي لي جونز وينجز أهم مطلبين تتطلبهما وظيفة المخرج هنا، الأولى  ألا يكون مبهرجًا أو تجريبيًا، يضمن النهج الأساسي لوظيفة المخرج،  وأن يكون الفيلم في طليعة الشخصيات والحوار والعروض… والثانية للحفاظ على البيئة موجودة في المحيط المقصود للعمل… أنت تعلم دائمًا أن هذه الحجرة الصغيرة والمناطق المحيطة الخطرة موجودة حتى عندما يكون اهتمام روحك على المحادثة الجذابة التي تجري.  إنها وظيفة أساسية رائعة من جونز ، الذي يظهر مهارة كبيرة كمخرج ، فهو يهدف إلى إضفاء الإثارة على الأشياء من خلال زوايا ولقطات مختلفة ، واستخدام حركات الكاميرا غير التقليدية .

هناك ظلال من بيكيت  في العدمية التي تركز على الذكورية والتقشف في هذا السيناريو الكئيب ، الذي تم وضعه على ما يبدو في تلك الحجرة  المتهدمة في نيويورك مباشرة بعد أن منع  الأسود الأبيض من القفز  أمام  قطار مترو الأنفاق.   لتبدأ  محادثة في نوع من غرفة الانتظار المطهرة… من خلال نص مكارثي الغامض، هناك مسافة إكلينيكية في عمل مكارثي تمنعه ​​من اكتساب القوة على الإطلاق.  النص مليء بالمُثُل الموضوعية ذات الثقل ، بحيث لا نهتم حقًا بالأبيض أو الأسود ، ولا نستثمر في أي من جانبي النقاش ، وخلال الحوار لا تستطيع التزام جانب الحياد مطلقًا، فأنت طرف ثالث رغمًا عنك، والتحديد هنا مهم، لأنه يشعرك بأنك طرف فعلًا في الحوار، فليس هناك مشاهد متعددة ولا شخوصًا كثيرين لا تعرف عددهم ولا تعرف إن كان هناك المزيد ولا أماكن مختلفة، فالمكان واحد وليس فيه سوى شخصين وأنت ثالثهما… ومن هنا تظهر قدرة مكارثي أيضاً في نجاحه في تقديم وعرض الرؤيتين من جانبي بلاك ووايت، بدون أن يشعرك بتحيزه أو تبنيه لأي منهاغ{، فالهدف هو إتاحة مساحة فكرية للمشاهد الذي يعد الطرف الثالث في المناقشة دون أن يتكلم، ليحكم بنفسه على ما يريد، ويفكر فيما يريد في رؤية وأفكار الشخصيتين الرئيسيتين، أو بالأحرى الوحيدتين في هذه الرواية العميقة ذات الحوار المفعم… مما يجعلنا حتى لا  نهتم حقًا أو نشعر بالقلق بشأن ما إذا كان وايت سيتخلص من حياته  أم لا… ولكن بناءً على القوة البسيطة لموهبة مكارثي في ​​الحوار (السمة المميزة لرواياته التي تحظى بتقدير كبير) ، يتحرك “The Sunset Limited” في مقطع جميل ومثير للدهشة،  وكأنه محادثة بين شخصين ، لكنه نقاش فلسفي حول المعنى ، إن وجد… إنها قطعة من الكتابة شديدة المرونة وتتطلب هضمًا دقيقًا .

لأنه لم  يكن واضحًا لكتابة روايته  بهذه الطريقة ، مما يعني أنه حتى بعد أكثر من ساعة  فإن الجدال غير المكتمل بين الأبيض والأسود يبدو غير حاسم وغير مُرضٍ،”  كلانا يحاول الوصول إلى المطلق ولا أحدٌ يستطيع إدراكه”…ومثل العديد من روايات مكارثي ، ينتهي الأمر بهدنة شعرية ، تأملية ، ووجودية، كما في فيلميه  “No Country for Old Men” و “The Road“…. يحمل مكارثي وجهات نظر الأسود والأبيض المتعارضة أمام تدقيق قوي ، ويرمي الكرة الوجودية بينهما،  ببراعة مع ديناميكيات القوة في الموقف.    كل هذا الإفراط والسرد الحواري القائم على الفلسفات الإنسانية والتي يحاول المخرج بها  أن يضيء عتمات العقول اليابسة،ولأن هذا الصراع لم يكن عبثا ً لا يحاول المخرج أن يختزل مفهوم الفيلم بأسلوب المكاشفة أو بأسلوب مباشر بل يجعلنا كمشاهدين في نهاية الفيلم أن نستشعر هذا الصراع الفكري وأن نكون مثلهم تماما تائهين وحائرين في محاولة الخروج من دائرة النمطية التي نعيشها…يشير غلاف الفيلم إلى أنه “لا يوجد شيء أسود أو أبيض على الإطلاق” ، تصريح من الواضح أنه لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الحقيقة ، لأنه حتى لو كان العالم مكونًا من عدد لا حصر له من درجات اللون الرمادي في عدد كبير جدًا من الموضوعات البشرية ،  إن مصطلحات “الخير” و “الشر” بالنسبة إلى الله مطلقة بالتأكيد ، وطالما أن البشر يرفضون رؤية ذلك ، فإن حياتهم لن تكون منطقية أبدًا ، ولا حتى بالنسبة للأشخاص الدينيين المنافقين … ومع ذلك  فليكن كل منا حذرًا: ما لدينا هنا هو رجلان (جونز وصمويل جاكسون) في حجرة صغيرة يتجادلان لمدة  حول وجود الله ، وهو موضوع شائك، ومناقشة تحدث بين كثير منا (مؤمنون وغير مؤمنين) يفعلون ما نفعله، فهي مناقشة  يمكن تجنبها. ولكن هؤلاء العمالقة أصحاب الملامح الصاخبة الهادئة استنفدوا كل أشكال التصوير التعبيري ليقنعونا بأدائهم المتقن بدرجة عالية ,ويأسرونا بوجوههم التي رسمت لنا ملامح الفكرة ليسقطوا عنا عشوائية العيش بمفهوم تقليدي, وكأنهم يقولون لنا “عيشوا حياتكم بقدر اقتناعكم”.

هذا الفيلم هو تمرين قوي في الحوار والشخصيات مما يجعله تجربة عميقة وممتعة، بمجرد أن توالت الاعتمادات ، اهتزت إلى حد ما مع الأفكار والحجج التي أثيرت في الفيلم… يعبر الممثلون عنهم بشكل رائع وحماسي لدرجة أنك لا تستطيع إلا أن تشعر بالذهول قليلاً عندما ينتهي كل شيء،  كما تلخص الموسيقى العميقة التي وضعها “ماركو بلترامي” بشكل لا يصدق هذه التجربة الحارقة تمامًا… إنه فيلم لديه القدرة على تغيير عقليات الناس ، حتى ولو قليلاً ، بسبب صدقه البائس. 

(شريف الوكيل)

                ******************

الإحساس بالنهاية .. The Sense of An Ending

كتبه: شريف الوكيل

لو تكلمنا عن  العلاقة بين الرواية والفيلم السينمائي نجدها وثيقة جدا، وذلك لأن عمادها هو الحكاية فبدون حكاية لن تكون هناك رواية وبالتالي ولا فيلم سينمائي…وربما تكون الرواية أكثر توازيا مع السينما لقرب الشراكة في جوهر الحكاية بينها وبين السينما، فمعظم الأفلام الطويلة كانت تعتمد على نصوص أدبية سابقة، فنتج عن ذلك مايعرف في عالم السينما بالاقتباس، وكانت النتيجة ظهور عدد كبير من الأفلام المعتمدة على روايات ومسرحيات كلاسيكية وحديثة لشكسبير وشارلز ديكنز وسومرست موم وغيرهم فهم كثر ، ولدينا أكبر مثال على هذه العلاقة من خلال نجاحات أعمال سينمائية عربية كثيرة  وروايات لطه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وأيضا عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وغيرهم.

استمر في القراءة الإحساس بالنهاية .. The Sense of An Ending

فيلم: الشـــــــارب. بقلم: شريف الوكيل

الشارب

٢٠٠٥

يسأل زوجته : ” كيف ستشعرين إذا قمت بقص شاربي ” فتجيب على سؤاله قائلة : ” لا أعتقد أنها فكرة حسنة … ” ، بعد جوابها تردد قليلا لكنه أقدم على ذلك بعد أن غادرت زوجته لعملها مدركا أن الأمر ليس مهما لهذه الدرجة فما فائدة أن تكون بشارب أو بدون

تعود زوجته إلى البيت فأراد أن يفاجئها بما قام به … لكنه يتفاجأ  عندما لم تلاحظ زوجته أي شيء جديد طرأ على مظهره بالرغم من أنه لم يمض سوى ساعات من رؤيتها له قبل أن يقوم بحلق شاربه

الشكوك أصبحت تراوده بعدها عندما أدرك بأن جميع معارفه أيضا لا يلاحظون أي جديد طرأ على مظهره وكأن لم يكن لديه شارب على الإطلاق

وهنا تطرح التساؤلات والعديد من الأفكار في ذهنه ، هل زوجته التى لم تكذب عليه مطلقا تقوم بخداعه ؟ أم أنه يعيش وهما من صنع خياله ؟أم هو غارق في حلم ما ؟ أم أن حياته كلها مجرد كذبة ؟

من هنا يبدأ الغموض النفسي لجيروم بوجور من خلال قصته “الشارب” والتى حولها المخرج الفرنسى “إيمانويل كارير”  ببراءة كافية ، بمشهد من الثرثرة المحلية التي تعدك للاستمتاع بواحدة من تلك الكوميديا ​​الزوجية المثيرة والمرّة والتي تعد سمة مميزة للسينما الفرنسية المتطورة.  بعد ذلك ، تدريجيًا ، تفسد كل تكهنات المشاهد، ليهبط به الكاتب في حفرة عميقة من الغموض والشك.

بطل الرواية ، هو مارك تيريز (فينسنت ليندون) ، مهندس معماري ناجح فى عمله وسعيد فى حياته الزوجية، هو موهوم بشكل خطير ، أو أنه ضحية مؤامرة متقنة لتقويض عقله.  حتى أنه في مرحلة ما يتساءل عما إذا كان له شارب أم لا، قد يكون خيالًا علميًا يقع في نوع من الالتواء الزمني أو التوهم النفسى،لكن الفيلم ليس خيالًا ، إنا انعكاس سريالي للإدراك والواقع والذاكرة ، التي يتحول تركيزها حيث يتعمق الفيلم أكثر في عمق الأرض.  بغض النظر عن مدى جدية هذا الفيلم ، فإن فيلم “الشارب” لا يتخلى أبدًا عن الموقف الأساسي من المرح عالي الأسلوب،  الذي يتذكر أفلام الإثارة الرومانسية للقط والفأر لهيتشكوك.  هذا التعديل على الشاشة لرواية جيروم بوجور، وهو مؤلف فرنسي مشهور ومخرج أفلام أيضا، لن يسمح لك أبدًا بنسيان تلاعبك من قبل راوي القصص بعقل محتال

يبدأ كل شيء عندما يستعد مارك وزوجته أجنيس (إيمانويل ديفوس) لزيارة الأصدقاء لتناول العشاء ، ويسألها عرضًا عما ستفكر فيه إذا حلق شاربه.  عندما ترد أنها تحبه ولا تستطيع تخيله بدونها . يمضي قدمًا على أي حال ويزيلها،  يفاجأ مارك من ملامح وجه زوجته عندما يبدو أنها لم تلاحظ أي تغيير لديه ، لكنه يظل صامتًا منتظرٱ تعليقها

على العشاء ، يبدو ضيوفهم ، غافلين أيضا عن التغيير…يفترض مارك الآن أن الجميع تآمروا على سبيل المزاح العملي ناهيك عن تغيير مظهره.  لكن عندما وصل الزوجان إلى المنزل ، وأعلن أن الوقت قد حان لوقف التمثيلية ، شعرت زوجته بالحيرة.  تصر على أنه لم يكن لديه شارب قط

ينفجر مارك بسبب الإحباط ، وينهب القمامة من أجل البحث عن  شعر شاربه كما يخرج ألبوم صور لإحدى رحلاته الأخيرة قضاها بصحبة زوجته،  تظهر فيه اللقطات أن له شارب…  لكن الغريب أنه لا يجبر زوجته على النظر إلى الصور.  تبدو قبضته على الواقع أكثر هشاشة بعد فترة وجيزة من إعادة تشغيل رسالة هاتفية من والده ويذكرها لأجنيس، تذكره بشدة بأن والده قد مات

بشكل ماكر ، وبخطوات تدريجية ، تنهار معالم مارك المعتادة ويصبح العالم أكثر غموضًا.  الأرق ، الليالي المضطربة ، نراه مستلقيًا أو ملتفًا في سريره مثل طفل ، يقرر عدم الذهاب إلى العمل بعد الآن ، يتجنب الرد على المكالمات المتكررة من زميله في العمل

في مشهد كالحلم يستحضر فيه الزوج زوجته بعد محاولة تخديره في الفراش ويهرب من المنزل في الوقت المناسب لتجنب نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية… ليعيش رحلة تنقله من الغرب إلى هونج كونج، تلك المدينة التي تشبه حياة مارك بأنها معلقة بين حقيقتين فى حالتها 

شرق وغرب، ليقضي يومًا كاملاً على متن عبارة تتنقل ذهابًا وإيابًا عبر الميناء الذي يلمع فوقه الأفق الشائك مثل السراب عبر الضباب…رحلة غريبة طويلة يريد كل منهما إثبات وجهة نظره ، تتوالى أحداث الفيلم فى جو من الشك والحذر تجسدهما أغنية

عبارة عن تعليق ظريف على ما نلاحظه أو لا نلاحظه بشأن بعضنا البعض، فنحن منزعجون جدًا من الأمور التي يمكن التنبؤ بها والشائعة ، فهذا يعني أننا نفشل في التعرف على التغيير.  ثم يتسع الشك ليصبح انعكاسًا على الزواج وفكرة أن شخصين ، بغض النظر عن مدى ارتباطهما الوثيق ، يعيشان في عالمين منفصلين.  يتطلب وهم الوحدانية من كل شريك أن يتجاهل أو ينكر الصفات غير المعروفة للآخر

ترتكز هذه الحكاية التي تم تصويرها بشكل رائع على العروض القوية التي قدمها السيد ليندون والسيدة ديفوس ، وهما مقنعان تمامًا كزوجين منذ فترة طويلة وبدون أطفال ، ولا تزال علاقتهما مليئة بالشغف.  يعرض فيلم “الشارب” الأحداث بالكامل من خلال عيون مارك.  كما تظهر أجنيس بشكل متزايد على أنها لغز عنيد وقابل للتغيير ، لا ينبغي مناقضته

ربما يحبط الفيلم أولئك الذين يطالبون بحل اللغز وتوضيحه بتفسيرات مرتبة.  لكن رفض هذا الأسلوب المباشر للحكاية،  ربط كل ما كان بين الأقواس ليظهر نقاط الفكرة  وقوتها.  حتى بعد أن خرجت أخيرًا من حفرة الشك العميقة ، فنجد  الأسئلة والتناقضات التي لم تتم الإجابة عليها تحوم حول تقارب الزوجين المريح مثل الأرواح القلقة

ليغرقنا المخرج في المياه العميقة لنفسية رجل على غير هدى، وخيال مزعج، بل على وشك الجنون ، في سياق هذا العبور الغريب للمظاهر ، المتاخم للخيال ، يتركنا في مواجهة لغز لم يتم حله.

مع: فنسنت ليندون (مارك) ، إيمانويل ديفوس (أغنيس)  ، ماتيو أمالريك (سيرج) ، هيبوليت جيراردوت (برونو) ، سيليا مالكي (سميرة) وماشا بوليكاربوفا (ناديا

إخراج إيمانويل كارير ، كتبه جيروم بوجور  ،  التصوير باتريك بلوسيير  موسيقى فيليب جلاس ، من إنتاج آن دومينيك توسان

(شريف الوكيل)

**************************************

طفيلي. بقلم: شريف الوكيل

Parasite

طفيلي

من خلال استكشاف ثاقب وحاسم للسلوك البشري ، يعد فيلم “Parasite /طفيلي” فيلمًا متقنًا، يجب مشاهدته، القصة تقدم عائلة فقيرة عاطلة عن العمل تضع خطة جيدة لتأمين وظائف لأنفسهم بتواجدهم داخل أسرة ثرية ، فقط لإطلاق سلسلة من الأحداث غير المتوقعة… مهزلة كوميدية ​​سوداء مخيفة يتردد صداها خارج حدودها العامة – فيلم عن حسد المكانة ، والطموح ، والمادية ، والوحدة الأسرية الأبوية وفكرة وجود (أواستخدام) الخدم، أكثر من ذلك ، يتعلق الأمر بالرعب المكبوت للطبقة الثرية  ونفورهم المرضي من رائحة الأشخاص الذين يضطرون إلى استخدام وسائل النقل العام، يمتد رد الفعل الساخر إلى رؤية كوريا الجنوبية والشمالية تعيشان معًا في حميمية بجنون العظمة والاستياء .

استمر في القراءة طفيلي. بقلم: شريف الوكيل

جوكر.. حالة نفسية أم صناعة مجتمع

بقلم: شريف الوكيل

آرثر فليك(جواكين فينيكس)يحاول الوجود ببساطة في مدينة جوثام (نيويورك) المنهارة والمضطربة ، هو مهرج محترف مضطرب وممثل كوميدي متمني ، يجلس أمام المرآة ، يرسم وجهه ببطء.  يحاول أن يبتسم ويلجأ إلى رفع زوايا فمه بابتسامة تمتد من أذن إلى الأخرى،  دمعة واحدة تتدحرج على خده دون أن يلاحظها أحد ، وتزيل مكياجها بها.  هكذا يبدأ چوكر فقط مجرد رجل مهرج حزين، وأحد ضحايا الحياة ، كم تعرض كثيرٱ للضرب والسخرية والإيذاء…  إنه على دراية بطعم الدم في فمه.  لكنه ليس مجرد شخص منعزل أو يساء فهمه،  لا يمكنه التعامل مع العالم على الإطلاق…إن الوجود اليومي مستحيل ببساطة لأن القواعد والقواعد التي تبني المجتمع – حتى لو كان مجتمعًا محطمًا ومُخربًا مثل جوثام – تظل غير معروفة له.  إنه يقف خارج العالم بدلاً من ذلك ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى حالة تسبب ضحكًا لا يمكن السيطرة عليه (غالبًا في أسوأ المواقف) ، وعيناه غليظة بالألم والحزن مع نوبة ضحك أخرى تتغلب عليه بشراسة .

“لا أريد فقط أن أشعر بالسوء بعد الآن”  يهمس آرثر ، الذي يتناول أيضًا أنواع مختلفة من الأدوية، ذلك الهمس اليائس الذي يعلم أنه لن يسمعه أحد .

تعكس شخصية جوكر حالة طبية حقيقية يعاني منها البعض ممن تعرضوا لإصابات الدماغ،أو الجلطة الدماغية، أو أمراض تآكل خلايا الدماغ مثل الزهايمر .

 بينما هناك الكثير ممن لديهم أعراض توحي بإصابتهم بهذا الاضطراب…يسمي العلماء هذا الاضطراب  “الوجدان البصلي الكاذب”، أو “التقلقل”، وهي حالة من عدم الثبات العاطفي، يفقد فيها المريض السيطرة على أعصابه وانفعالاته، فيبكي أو يضحك لا إراديًا  في مواقف لا تعكس حالته النفسية الحقيقية .

وهي حالة طبية تدفعه إلى الضحك بلا حسيب ولا رقيب ، عادة في لحظات محرجة.  يحمل بطاقة على سبيل الشرح كتب عليها “سامح ضحكي”.  وقد ساهم هذا في سمعته باعتباره مهووسًا في العمل وحصر دائرته الاجتماعية إلى حد كبير في والدته. حيث أطلقت عليه منذ صغره لقب “هابي” وأخبرته أنه “وُلد هنا لنشر السعادة والضحك بين الناس”.  لكن آرثر يشعر بالكاد أنه على قيد الحياة

 وعند حدوث أي موقف يسبب أقل تحفيز لمشاعر المصاب، سواء بالغضب أو الحزن أو حتى الفرح، قد يثير هذا عنده نوبات مبالغ فيها من الضحك أو البكاء بشكل مفاجئ ومتكرر، تستمر كل نوبة بضع ثوان أو دقائق قليلة ثم تنتهي.

ومثل هؤلاء البشر ، خصوصًا أن هذا النوع من الاضطرابات يجعل المصاب في حالة مستمرة من الحرج والتوتر الشديدين، بالإضافة لقلة الوعي بالمجتمع المنتمين له، وبالتالي سخرية الناس أو خوفهم منه، أو كما عبَّر عنها الجوكر في الفيلم: “إن أسوأ جزء في كونك مريضًا عقليًا هو أن الناس تتوقع منك أن تتصرف وكأنك لست كذلك”… وبالتالي فإن التباكي أو الخوف من فيلم كهذا، هو خدعة وتشتيت لنا، كي لانرى مصدر العنف الحقيقي الواقع على البشر المستضعفين والملايين من الضحايا فمعظم العنف في الفيلم واقع على الچوكر نفسه…هو شخص بحاجة للمساعدة، يحاول النجاة من بين حواجز مجتمع لا يرحم، فلم يجد المساعدة من أحد، وأصبح أداة دعابة يتداولها الأثرياء والأقوياء… وحين يقرر ألا يرضى بمزيد من الظلم، يجعلك تشعر شعورٱ سيئٱ ، ليس بسبب مشاهد الدم البسيطة على الشاشة، ولكن لأنك تدعمه في أعماقك، على الرغم من رفضك لطريقته العنيفة في التعامل مع مايواجهه.

هذا كان لتوضيح بعض حالات الشخصية التي نحن بصدد مراجعتها، وليس تشخيصٱ ، خاصة وأن الفيلم لم يفسر هذا الجانب بوضوح  .

لكن ما كتبه الكاتب والمخرج تود فيليبس والمشارك له سكوت سيلفر ، الذي كتب فيلم “المصارع وفيلم ٨ أميال” ،هو حياة الچوكر كشخصية، وهذا ما يهتمون به من خلال التركيب العقلي والأخلاقي والعاطفي والجسدي للرجل الذي أصبح الچوكر.

جواكين فينيكس في شخصية الچوكر “آرثر”: بعد أن فقد وزنه لهذا الدور ، يبدو نحيفًا ، واهنًا ، وجائعًا.  الظلال تقطع عظامه المكشوفة… الطريقة التي يتحرك بها، يركض ، يجلس ، يدخن ، يتقلص.  شدته المعتادة تظهر بشكل كامل وهي آسرة ، وأحيانا ساحقة في لحظات.  تبدو من الصعوبة مقارنته بالممثل “هيث ليدجر أو جاك نيكلسون”، إنه چوكر لم نشهده من قبل، في كثير من النواحي ليس چوكر ، إنه آرثر…وهذه نتيجة متعمدة للابتعاد عن مصدر المواد النمطية للسينما، قال المخرج تود فيليبس “إنه على الرغم من أن العناصر مأخوذة من رواية مصورة The Killing Joke صدرت عام ١٩٨٨ (حيث كان الچوكر موقفًا هامشيا) ، إلا أن الفيلم لا يتبع الكتب المصورة”، وتلك خطوة جريئة لعالم به قاعدة جماهيرية متحمسة لفن الكوميكس {هو نوع جديد من الفن يعكس روح إنسان القرن العشرين و الواحد و العشرين، وهو عبارة عن عمل وضع فى وسط ورقي مثل الكتاب لكن يحتوى على رسومات متسلسلة و تنتج تأثيرا بتتابعها مثل السينما، في أسلوب إبداعي جميل}…لكنها أعظم رصيد للفيلم ، إنه لا يجلس هو والشخصية بعيدًا تمامًا عن بقية شخصيات DC Cinematic Universe ، ولكنه يقف بعيدًا عن أفلام القصص الهزلية المصورة، {وهى رسوم تسلسلية يمثل كل منها مشهد من القصة يصاحبها أجزاء من النص توضع عادة داخل خانات صغيرة بجانب هذه الرسوم، ويعود أصل هذا النوع من السرد إلى أوروبا واليابان، لكن الولايات المتحدة هي من حولها إلى ظاهرة عالمية} منها مجلات {سوبرمان وباتمان} التي كنا نقرأها في الصغر، والتي مازالت تصدر ولكن على استحياء، لطغيان سلسلة أفلام الأبطال الخارقين عالميا… إن الچوكر هو شخصية وفيلم متحرر تمامًا.  حر في أن تكون أيا كان ومن تختار.

بنيت حكايته حول دوامة ذات مصداقية من شخص غريب إلى قاتل مختل ، إنها دراسة شخصية نفسية جديدة ترتكز على الاغتراب الحضري وتم تصميمها على غرار فيلم “Taxi Driver” لروبرت دي نيرو باعتبارها صورة لصعود الشرير الفائق، فمسار البراءة للشر هو مسار مأساوي.  لكن مشاهدة أرثر وهو يبتهج مع تصاعد موجة الجريمة هو مشهد تقشعر له الأبدان يوضح ما أحدثته كل السخرية والإساءة والتهميش التي تعرض لها في مجتمعه… خاصة عندما تم سحب التمويل لبرامج الرعاية الاجتماعية ، مما أجبره على التخلي عن إستخدام أدويته، وهو ما يشجعنا على الشعور بالتعاطف معه”الچوكر” حتى عندما يتحول بوضوح إلى مهووس بالقتل، رغم أن لديه جزء بريء بداخله، يريد حقًا اتباع إرشادات والدته وجعل الناس يبتسمون.

يمكن القول إنه أفضل فيلم مجاور لباتمان منذ فيلم “The Dark Knight” للمخرج كريستوفر نولان .

إن الفيلم “به رسالة عن غياب الحب،  والتعاطف من العالم، وكذلك الصدمات التي تمنحها لنا مجتمعاتنا منذ الطفولة…فقد آثار الفيلم جدلا واسعا مابين مؤيد ورافض، كما تطرق الجدل إلى ولع البعض “بالأشرار”، وتقليدهم في بعض الأحيان، تحدث الچوكر فينيكس، عن هذا الجدل المثار حول فيلمه فقال : أن الإحساس بـ “عدم الراحة” مع كل هذا اللغط المثار عن الچوكر أمرا جيدا، كما أضاف: “وأعتقد أنه من الجيد أن تجعلنا الأفلام نشعر بعدم الراحة أو نغير من طريقة تفكيرنا. وأنا سعيد بذلك”…”لذا أردت أن أقوم بهذا الدور، لأنه لم يكن سهلا بالنسبة لي، فقد شعرت بأطياف متباينة من المشاعر تجاه الچوكر، أثناء الإعداد لهذا الدور” .

واختيار فينيكس للقيام بهذا الدور زاد من الجدل حول الفيلم، فهو معروف عنه بميله إلى المنحنيات النفسية فى معظم أعماله، منها فيلم Her والذي تدور فكرته عن العلاقة بين الإنسان والآلة، بإسلوب تراجيدي رائع…ولكنه في الچوكر قدم شكلا مقبولا للشرير المعروف .

وتعتبر الصحة النفسية هي إحدى القضايا التي يتم تجاهلها مجتمعيا لسنوات عديدة على الرغم من أنها واحدة من أهم الأسباب وراء ظهور بعض الأمراض، مثل الاكتئاب والقلق والأفكار الانتحارية…ويعود السبب وراء مواجهة المجتمع لمثل هذه المشكلات هو أن الحياة غير عادلة بالمرة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى شعور الشخص بانعدام القيمة الذاتية لنفسه، وبالتالي يبدأ بالاعتماد على الأشخاص الذين يمكن أن يعطوه هذه القيمة، وعندما يترك هذا الشعور السلبي، أو يتم تجاهله دون أن ينتبه له أحد لسنوات عديدة ومع تكرار الصدمات -مثلما لشخصية چوكر- تصبح النتيجة هى الوصول إلى مرحلة مرعبة ومظلمة.

ولكن ماهى العوامل التي شكلت شخصية الچوكر بهذا الشكل المأسوي الإنساني بعيدة عن الظواهر غير الطبيعية… حيث يبدو لنا الچوكر وكأنه جاء من لا مكان، يظهر فجأة في مدينة جوثام (نيويورك) ليقلب فيها الأمور رأساً على عقب، كما إننا لا نمتلك أى دليل محدد عن ماضي الچوكر .

هل انعزل الچوكر عن العالم ليتأمل أو يقرأ،  أم أن الأمر كله كان نتاج حياة وخبرات ممتلئة صاغت آراءه وأفكاره عن العالم؟ فمن المؤكد أنه من المستحيل أن يكون شخصية بلا ماضِ، وطريقنا الوحيد لمعرفة ماضيه هو آراءه وأقواله، التى لا بد من تحليلها ومعرفة ما يدل منها على تاريخه إنه إنسان متميز، وهذا المفهوم يشارك بشكل غير دقيق مفهوم الإنسان الأعلى عند نيتشه، فالچوكر يريد تطبيق قيمه الخاصة على العالم التي نعرف أنها لا قيم (مثلما كان يطلق نيتشه على نفسه أنه: لاأخلاقى). فمن قواعد الچوكرالأساسية: ” الطريقة المنطقية الوحيدة للعيش فى هذا العالم هى العيش بلا قوانين.” فنحن نعلم أن نيتشه كان لا يؤمن بالنسق، ولا بترتيب الأحداث والأفكار، فتمرد على المفاهيم الفلسفية الألمانية، فى كتاباته الفلسفية  وكتب فلسفته وتأملاته و شذراته (فوضوية)، كذلك أراد الچوكر أن يتمرد على النسق، وعلى عملية التخطيط الإنسانى بشكل عام…وعندما وجهت السلطات إتهام الچوكر بتخطيطه عملية قتل صديقته، أجابها الجوكر: “أنا لا أخطط، أنا أحاول فقط أن أثبت للمخططين كم هى مثيرة للشفقة محاولاتهم للتحكم فى العالم.” ومن هذا المنطلق كان چوكر رافضا لكل النسق، على طريقة “ليوتار” بسقوط الأيديولوجيا ت الكبرى .

ورغم الجدل الصاخب الدائر حول الفيلم والذي لن ينتهي، فالبقاء مسألة حتمية للچوكر داخل الذاكرة السينمائية، وهذا خير معبر عن مدى نجاحه في التنصل من تصنيفه، والإكتفاء بإستغلال ذلك التصنيف كحصان طروادة، الذي سيخترق به صناعة السينما الثقيلة .

في الوقت الذي إرتفعت فيه نسبة الإنتحار في عالمنا هذا، بناء على أحدث تقارير منظمة الصحة العالمية…إلا أن الإستقبال العالمي الحافل للچوكر الذي يُجسِّد معاناة إنسان معتل نفسيًا وربما عقليا، في عالم تزداد قسوة أفراده بلا مبرر يوميا، هذه المعاناة لمستْ جانبًا في معظم مَن شاهدوا الفيلم في أرجاء العالم، ولما لا فقد يكون كل منا قد مر به أوصادفه موقفًا شبيهًا وجانبًا مريرٱ لما مرّ به آرثر خلال رحلة حياته الأليمة، الكوميدية من فرط مأساويتها…الچوكر فيلم فني “للكبار” ليس لأنه سوداوى، ولا لأنه دموي، بل لكونه فيلما خرج من دائرة السينما الأليفة، ووقع في المنطقة الرمادية المستفزة للشعور بعيدا عن الحقائق المطلقة .

في حين أن هذا هو الفيلم النجم للممثل جواكين  فينيكس ، فإن فرانسيس كونروي التي قدمت دور أم أرثر كانت مدمرة بهدوء  وزازي بيتز ، كجارتها صوفي دوموند ، رغم قلة استخدامها ، فهي تجلب الإنسانية الحيوية إلى مشاهدها مع آرثر.  من الواضح أن أكثر ما تم الحديث عنه كان روبرت دي نيرو، كمضيف تلفزيوني في وقت متأخر من الليل”موراي فرانكلين” وتقديمه فقرات ساخرة ومستفزة عن حياة الچوكر .

يجب الإشارة إلى موسيقى Joker التشيلو التي كتبها”هيلدر دواناجوتير”  موسيقى حزينة ومظلمة ومكسورة، وكذلك التصوير السينمائي “لورانس شير” في جعل مدينة جوثام على قيد الحياة كشخصية معيبة ووحشية ومنكسرة القلب في حد ذاتها ، مع بصيص من الضوء لا يدخل أبدًا. لكنه ينبض في قلب الفيلم ، في انتظار ما هو مقدر له أن يأتي.  ويتشابك العنصران معا حينما يرقص آرثر بين الضوء والظلال . 

(شريف الوكيل) .

            ********************

ما هو ثمن العلاقة التكافلية بين شخصين موهوبين بشراسة ، كلاهما فنان أو كاتب ، أحدهما عديم الجدوى، مشهور ونافد الصبر ، والآخر يتجاهل نفسه ، رشيق ومثابر..؟  ماذا لو كانوا زوجين منذ سنوات طويلة..؟

تأخذنا هذه المقدمة المقتضبة نحو ثلاثة روايات بحثا عن مايمكن فعله تجاه هكذا تساؤلات، من خلال ثلاث حكايات تحولت إلى الشاشة البيضاء، هما: عيون كبيرة عام ٢٠١٤، وكوليت انتج عام٢٠١٨،  والزوجة عام ٢٠١٨ أيضا…ثلاثة من الأفلام الجيدة تدور حول فكرة واحدة، هى ملكة الإبداع عند الإنسان، أو عند الفنان بالمعنى الحرفي للكلمة… وحتى لايتشتت القارئ بينهما، سوف نسرد كل عمل منهم على حدا،على الرغم من تشابك وتشابه الأحداث .

الفيلم الأول Big Eyes (عيون كبيرة)مليء بالأسئلة الرائعة حول معنى الفن ، ومفهوم الشعبية ، وما يعنيه تكوين جمهور ضخم…ترسم مارجريت الأطفال بعيون ضخمة مشوهة ، ويرسم والتر مشاهد الشوارع الباريسية ؛  لا يتناسب أي منهما مع الاتجاهات السائدة في الستينيات المهووسة بالفن الحديث البوهيمي في سان فرانسيسكو.  صالات العرض تستهزئ بعملهم.

والتر هو متحدث كبير ومروج موهوب يقنع صاحب أحد نوادي الجاز المحلية بالسماح لهما بعرض لوحاتهما على طول الرواق باتجاه غرف الاستراحة.  في إحدى الليالي ، أعرب شخص ما عن إعجابه بإحدى اللوحات ذات العيون الكبيرة  ووالتر الذي يقف هناك ، يثني على العمل ، على أمل أن يؤدي هذا إلى بيعه…  تبدو اللحظة في البداية غير مؤذية ، ربما يكون ذلك سوء فهم ، ولكن بعد ذلك ، عندما يبدأ عمل مارجريت في الإنتشار (يتم تجاهلها تمامًا) ، يحدث ذلك مرة أخرى،  يخبر والتر زوجته أنه لا أحد يهتم بشراء أشياء من “الرسامين” ، بالإضافة إلى أنها لا تجيد التحدث عن عملها أو محاولة بيعه ، وأيضًا ، ما الذي يهم إذا اعتقد الناس أنه رسمه ،  طالما استمر الاثنان في كسب المال؟  مارغريت هي من نوع الأشخاص الذين يتعرضون للضرب والترهيب من خلال مثل هذه الحجج المنطقية…  وتوافق على إدامة الاحتيال ، على الرغم من أنه يجعلها غير مرتاحة وغير سعيدة… يصور المخرج “تيم بيرتون” كل هذا باحترام ، دون أي ضجة .

إذن هي سيرة ذاتية قدمها تيم بيرتون عن “مارجريت كين” ولوحاتها الشهيرة التي أصبحت ظاهرة في الخمسينيات من القرن الماضي…هو فيلم مثير جدا للاهتمام ،كما   إنه أيضًا أحد الأفلام الأقل غرابة والأكثر تسلية التي قام بها بيرتون، حيث  لا يسع المرء إلا أن يكون متعاطفًا مع بطلته “إيمي آدامز” في دور مارجريت.  لأنها تقدم أداءً دقيقًا وفعالًا كامرأة متضاربة… هناك بعض الرسائل المختلطة في BIG EYES.  لها بعد روحي يمجد الصدق ويوبخ الكذب والتلاعب ، ولكن هناك أيضًا نبرة نسوية صحيحة سياسياً.

يبدأ الفيلم بترك مارجريت زوجها المسيء ، فرانك ، والهروب إلى سان فرانسيسكو مع ابنتهما.  تكسب لقمة العيش من خلال رسم الشوارع… تقابل مارجريت اللطيف والتركين ،ويؤدي دوره الممثل “كريستوف والتز”الرسام الذي يكمل أعمالها الفنية.  يتزوج الاثنان،  يظهر شخص ما اهتمامًا بلوحات مارغريت الفريدة للأطفال ذوي العيون الكبيرة بشكل غير طبيعي… يدعي والتر أنه من رسمها حتى يتمكن من البيع،فقد أصابت اللوحات نجاحًا مثيرًا ، وأصبحت أكاذيب والتر أكبر وأكثر .

عندما اكتشفت مارجريت أن والتر كان يأخذ كل الفضل في لوحاتها ، كانت مستاءة ، لكن تحدثت بشكل لطيف للغاية بحيث لا تفعل أي شيء حيال ذلك.  يقول لها والتر إنهما متزوجان ، لذا فإن من يحصل على الشهرة والائتمان لا يهم حقًا ، والمال جيد ووفير .

حققت لوحات العين الكبيرة نجاحًا كبيرًا ، ويبدأ والتر بذكاء في بيع نسخ مطبوعة من الصور الفريدة.  تواصل مارجريت الرسم سرًا بينما يأخذ والتر كل الفضل له، ليحقق  ثروة جيدة،  كلما طالت مدة قيامهم بذلك ، أصبحت مارجريت المذنبه الأولى بسبب كل أكاذيبهما، أصبح والتر يهدد زوجته بشكل متزايد ، وأجبرت مارغريت على تركه.  بعد سنوات ، قررت أن تصعد وتحصل على الفضل في جميع أعمالها… نص الفيلم من تأليف سكوت ألكساندر ولاركاراسزيوسكي ، مؤلفي تحفة المخرج بيرتون الفنية “إد وود” الشخصية التي قدمها الممثل جونى ديب ، عن المخرج إدوارد وود الابن ، الذي صنع أفلام في هوليوود في الخمسينيات والستينيات ، وحصل على لقب غير رسمي أسوأ مخرج في كل العصور.

ومن الواضح أن كلا الفيلمين يدوران حول فنانين سب النقاد أعمالهم، فقد اشتهر إدوود بأنه أسوأ صانع أفلام في العالم، كما تم استنكار لوحات كين بشدة من قبل .

من المؤكد أن هناك ديناميكية نسوية في قصة مارغريت كين، من خلال صورة رائعة لامرأة تعاني أولاً ثم تتحدى عالمًا كان للرجال فيه اليد العليا – محليًا ومهنياً وفنياً… وعلى الرغم من كل ما هو غريب ، فهذه في النهاية حكاية يومية لامرأة تجد صوتها في بيئة شوفينية ، وتهرب من أغلال زواج مسيء لتدخل الأضواء بمفردها…عاشت مارجريت رهينة موهبتها. بطبيعتها ، وكانت منسحبة وخجولة ، ولم تتعارض مع زوجها، يبدو أنها كانت تلتزم بقول جوستاف فولبير “ليست الموهبة إلا الصبر الطويل”، أو عملا بقول سيجموند فرويد” أن الفنان أنطوائي، ولايستبعد أن يكون عصابيا”…عاشت مارجريت حياة منعزلة. كان زوجها والتر هو من خلق لها هذا الوجود. وعاش هو نفسه حياة علمانية عاصفة وفاسدة، لكنها كانت تشعر بالسعادة فقط عندما كانت ترسم، العيون الكبيرة المليئة بالعواطف الكثيرة، كأنما  أرادت أن تعكس فيهم الأسئلة الأبدية للبشرية حول معنى الحياة ، والتي سألتها هي نفسها: لماذا يوجد حزن وموت إذا كان الله صالحًا ، فلماذا نحيا ، ما معنى الحياة… تقول  مارغريت في سيرتها الذاتية: “يبدو لي أن الأسئلة المتعلقة بمعنى الوجود وجدت انعكاسها في عيون أطفالي على اللوحات القماشية التي رسمتها، فالعيون بالنسبة لي هي دائمًا شيء مثل “نقطة محورية” للإنسان ، لأن الروح تنعكس فيه وتعيش فيه. أنا متأكدة من أن الجوهر الروحي لمعظم الناس يتركز فيهم ، وهم – العيون – يتحدثون عن الشخص أكثر مما يعرفه عن نفسه وما يعتقده الآخرون عنه. ما عليك سوى أن تنظر بعمق فيها… لكني أعرف كيف ولدت كل هذه الصور غير العادية، كل هؤلاء الأطفال الحزينين ، في الواقع، هم مشاعري العميقة التي لم أستطع التعبير عنها بأي طريقة أخرى،  كنت أبحث في عيونهم عن إجابات للأسئلة التي أزعجتني كثيرٱ ” لماذا يوجد الكثير من الحزن في العالم؟ لماذا علينا أن نمرض ونموت؟ لماذا يطلق الناس النار على بعضهم البعض؟ لماذا يهين أحباؤهم أحبائهم .؟”

يستخدم بيرتون مهارته الفائقة في الصنعة والفن ليروي قصة شخصيات يرفض الآخرون عملهم باعتباره نفايات، وبأسلوب غريب ودقيق ، يبحث بيرتون في أمور مثل التعجرف الثقافي ، والتمييز على أساس الجنس ، في المجتمعات الذكورية ومأزق النساء المتزوجات في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في أمريكا ، والغيرة الفنية…فنحن أمام تيار نسوي خفي في فيلمه، والشعور بأن شخصًا مثل مارجريت كين لم يكن لديها اللغة لفهم حتى كيف كان يهيمن عليها الرجال ، ومدى فرضها لعجزها.  عندما أخبرها والتر أن فن النساء لايحبه الناس، ولا يُباع جيدًا ، لم يعجب هذا مارغريت ، لكنها أذعنت له.  تعتقد أنه ربما يكون على حق، فهى في وضع وحيد للغاية ، مما يجعل من والتر أن يكون القناة الوحيدة لها إلى العالم الخارجي.

الممثلة إيمي آدامز تألقت بدورها في تقمص شخصية الرسامة مارغريت كين، مبدعة لوحات العيون الكبيرة، والتي تعرفت إليها عن قرب…بصفتها مارجريت ، تقوم إيمي آدامز بعمل جيد للغاية في جذب تعاطفنا ، وطريقتها المذهلة بعض الشيء تشير إلى مزيج قوي من حدسي القوة والضعف الحساس.  وهناك شيء يشبه الطيور في سلوكياتها الجسدية ، كما لو كانت في سكونها تولي اهتمامًا وثيقًا لما يحيط بها ، ومع ذلك قد تخشى الطيران في أي لحظة…  كل هذا في تناقض صارخ مع Walter ، الذي لعبه كريستوف والتز بضربات فرشاة أوسع بكثير كطفل كرتوني مع أكثر من مجرد لمسة من الشرير الإيمائي،  في البداية كان ساحرًا (على الرغم من أن ابتسامته المبهجة تصرخ بجنون نفسي منذ البداية) ، ولكن سرعان ما أصبح والتر وحشًا مهيمنًا ، تستهلكه أسطورة عبقريته بشكل متزايد ، مما أجبر زوجته على العيش بهذه الكذبة .

يقول المخرج تيم بيرتون:“إنه مثل فيلم رعب غريب هناك قصة حب وكوميديا وعلاقة زوجية. شعرت أنه يمكنني الربط بين كل هذه الأشياء.”

الفيلم يتحدث عن الرسم ، ونقل ماهو جميل من الطبيعة الى اللوحة ، لذلك حاول المخرج “تيم بورتون” مجاراة موضوع الفيلم بالمشاهد الزاهية الألوان ، والتكوينات الجميلة مستغلاً جمال الطبيعة  ، والمساحات الشاسعة  بمتعة بصرية طاغية ، ومستخدما موسيقى “داني إلفمان” الرائعة، خاصة وأنه يتميز بتجاربه الفنتازيا والكوميدية، والغريبة مثلما أمتعنا بفيلمه ، “شارلي ومصنع الشوكولاتة”  فهو مخرج مبتكر ، ويتنقل بين الإتجاهات السينمائية المختلفة التي تعتمد على الخيال الواسع ،لكن هذا لم يمنعه من دخوله عالم الدراما الإجتماعية في هذا الفيلم ،وغيره من الأفلام التي إعتمدت على السيرة الذاتية .

الفيلم الثاني فيلم “الزوجة” The wife

تم اقتباس الزوجة من قبل المخرج السويدي بيورن رانج من رواية ميج ووليتسر، صاحبة العديد من الروايات ،منها “قيلولة العشر سنوات” و “فك الارتباط” و “الاهتمام” و “إقناع الأنثى”… ربما تكون الحبكة نفسها مفتعلة وليست مقنعة إلى حد ما، لكن الأداء يقوى الفيلم ، مما يمنحه قبضة عاطفية لا تهدأ… جوناثان برايس في دور جو يقدم دعمًا قويًا للموضوع. فهو نرجسي وأناني لكنه ضعيف أيضًا وجزء منه مكرس بشكل مكثف لجوان زوجته”جلين كلوز”  التي تلعب دور”جوان” ببراعة، نراها بحرًا هادئًا به صفائح تكتونية تتحرك وموجات من غضب تتخفى تحت السطح… يبدأ الفيلم بمكالمة هاتفية عندما يكتشف جو أنه فاز بجائزة نوبل في الآداب ، ونجده يحاول  الحصول على تمديد المكالمة حتى تسمع  زوجته الخبر معه،  يقفزون صعودا وهبوطا على السرير مثل الأطفال من شدة الفرحة…لكن من يراقب تعبيرات جوان عن كثب، يجد تحت السعادة والفخر ، هناك شيء شرس وغاضب من خلال التعبيرات الدقيقة ولغة الجسد، المصاحبة ببراعة لطبقات صوتها عندما تستقبل الخبر، يبدو وجهها مشوش من الإثارة والاستياء، وكذلك الكآبة… لنعلم من خلال هذا المشهد أن شيئًا لا يصح في هذه العلاقة الزوجية…لكنها ببراعة تستطيع أن تخفي أسرارها، ولم تفصح عن أي شيء.  لكن عندما تتكشف ماهية هذه الأسرار ، سترغب في إعادة مشاهدة الفيلم فقط لترى كيف كشفت عن صدماتها وأخفتها تمامًا.

خلال الاحتفال الذي أقامه القيّمون على جائزة نوبل من أجل تكريم الكاتب والروائي “جو كاسلمان”، سأل ملك السويد “السيدة كاسلمان” عمّا تفعله من أجل أن تكسب لقمة عيشها، فردّت بسخرية: “أنا صانعة ملوك”. هذا المشهد يجسد كيف يمكن للقرارات التي يتخذها المرء في الماضي أن تطارده لسنواتٍ، خاصة حين تقرر المرأة أن تدفن طموحاتها وأحلامها، وأن تلغي نفسها من أجل أن تقف إلى جانب زوجها وتدعمه في مسيرته المهنية، ولو على حساب كيانها…جلين كلوز هى “الزوجة” التي ضحت بأحلامها لتكون مجرد زوجة.. مثل نساء كثيرات من حولنا لتؤكد لنا المقولة الشهيرة “وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”.

“جو كاسلمان”، هو روائي مشهور تدور حياته كلها حول إلقاء المحاضرات وعقد المؤتمرات وكسب الجوائز المرموقة، في حين أن زوجته “جوان” قررت أن تكرس حياتها من أجل دعم زوجها…”جوان” كانت طالبة ذكية في صف البروفيسور “جو كاسلمان” وبعد وقوعها في غرام أستاذها، تتجه مسيرتها المهنية نحو مصيرٍ تقليدي يرتب عليها أن تتخلى عن أحلامها لكي تصبح زوجة وأم وربة منزل.

إنها جليسة الأطفال التي تحمل معطفه ، وتتأكد من أنه يأخذ دوائه في الوقت المحدد، وتحرص على وضع نظاراته الاحتياطية بحقيبته، وتنظر إليه من بعيد وهو وسط المعجبين والمحتفلين ،  وتشير إلى وجود بعض الفتات عالقة في لحيته،  فيتبع تعليماتها ويمسحها بحرص شديد، – فهو النجم. تمتص عنه الأذى عندما يكون لديه شؤون غير رسمية… يسألها مراسل يرغب بشدة في كتابة سيرة جو عن ذلك ، تقول: لا ترسمني كضحية.  أنا أكثر إثارة للاهتمام من ذلك بكثير…إذن تبدو “الزوجة” متفانية في خدمة زوجها ومساندة له في أدق تفاصيل حياته، هكذا حال المجتمع الذكوري الذي يعمل على طمس نجاح المرأة والقضاء على أحلامها. وبالرغم من كل ما فعلته هذه “الزوجة” من أجل زوجها لم يتخلّ الأخير عن عاداته السيئة لمعاكسة من يلتقي بهن من النساء، والأسوء من ذلك كان دائما مايقوم بالتقليل من شأنها بالادعاء أمام الجميع بأنها ليست لها علاقة بالكتابة (فهى لاتكتب) على حد قوله… فجّر هذا القول  القنبلة التي كانت كامنة بداخلها، خاصة أنه تبيّن أنها هي صاحبة “اللمسة الذهبية” والشخص الذي يقف وراء المؤلفات التي صدرت باسمه وكانت سبباً في شهرته.

  يرفع الفيلم النقاب عن صورة الزوجة التي تبدو أنها سعيدة، إلا أنها تخفي سراً كبيراً عن  مدى تضحيتها بحياتها المهنية من أجل زوجها، مسلطا الضوء على مسألة عدم المساواة بين الجنسين، وكيفية قيام بعض النساء بدعم الحياة المهنية لأزواجهنّ على حساب طموحاتهنّ الشخصية .

في أثناء رحلة الزوجين إلى السويد ، تتأمل جوان في حياتها مع جو ، وتصعيد طموحاتها الأدبية لخدمة حياته ، وإدراك لا مفر منه بشأن علاقتهما حيث لديها مشاعر مكبوتة ولكن لا يمكن أن تبقى مخفية.  مثل لعبة القط والفأر من الغرور والتوقعات والتقلبات النفسية ، تتفكك “الزوجة” في سلسلة من لقاءات الصدفة وذكريات الماضي ولحظات من الوعي تم تصميمها بدقة، في تسلسل واحد فقط .

سيناريو الفيلم كان جيد جداً بشكل عام، فقد بدأ The Wife بشكل ممتاز من حيث بناء الأحداث و الشخصيات و تقدمها.

يحسب للسيناريو بناء شخصيتين من أعقد الشخصيات التي ظهرت على شاشة السينما و الأروع من البناء كان التجسيد من كل من   جلين كلوز وجوناثان برايس، حيث تميز الفيلم بشخصيات معقدة و مستوى مرتفع من حيث جودة التجسيد خاصة أن عدد الشخصيات الرئيسية فى الفيلم قليل .

يعد”الزوجة” إنتاج وسيم يخدع بدقة ادعاءات العالم الأدبي وصناعة أساطير الرجل العظيم.  ولكن في المقام الأول ، تقدم “الزوجة” للمشاهدين فرصة لمشاهدة واحدة من أفضل الممثلات وهي تعمل في قمة لعبتها الذكية والبراعة الشديدة التي تتحكم فيها بنفسها،”جلين كلوز”  وتجسد  شخصية جوان ، تظهر بشخصية الزوجة الحنون و المساندة لزوجها فى السراء و الضراء حتى وصل الى ما وصل إليه ، بالإضافة الى الصراع النفسي الذي يعتبر الأقوى فى أفلام عام ٢٠١٨، إنها نموذج لامتلاك الذات والهدوء الصلب.. استطاعت أن تقوم بتجسيد دورها بامتياز رغم صعوبته ، فقد منحت الدور أبعاداً كثيرة، زادته غموضاً وبدت الزوجة المنكسرة الأبية، والحزينة السعيدة، الفخورة بزوجها والكارهة لما أوصلها إليه…و استحقت الترشح لجائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية، وكذلك الجولدن جلوب بجدارة .

أما “جوناثان برايس” جو كاسلمان؛ الكاتب الذى يتم اختياره للفوز بجائزة نوبل للأدب بعدما قدم للأدب العالمى الكثير و الكثير من الروايات ، شخصية بالغة التعقيد هى الأخرى و يواجه صراعات نفسية لا تقل تعقيداً عن تلك التى تواجهها زوجته ، أدى  دور الزوج الذي استغل موهبة زوجته، ونشر رواياتها باسمه، ونال جائزة البوكر دون أن يفصح عن هوية المؤلف الحقيقي لرواياته… وكعادة جوناثان برايس استطاع تجسيد ذلك بشكل رائع جدا و ملفت للإنتباه رغم عدم حديث النقاد و المشاهدين عنه لإنشغالهم بالحكم على جلين كلوز و ترشيحها للأوسكار. واستطاع أن يتوج أداءه فى المشهد قبل الأخير بشكل رائع بالمشاركة مع جلين كلوز .”لايوجد شيء أكثر خطورةً من الكاتب الذي أصيبت مشاعره”، هذا ما قالته “جوان” لزوجها “جون” بعد أن صدّ بطريقةٍ عنيفة طلب أحد الكتاب،  لكتابة سيرة حياته. طوال سنوات زواجها عاشت السيدة كاسلمان في الظل، فكانت الجندي المجهول لشهرة زوجها، وبالرغم من قيام الأخير بجرح مشاعرها طوال فترة الزواج أكدت “جوان” لمن يلاحقهم لكتابة سيرة زوجها أنها ترفض تصويرها وكأنها ضحية، وكأنها بذلك تقول له إنها هي التي اختارت التضحية والسير بهذا الطريق بدافع الحب والحرص على الحفاظ على تماسك عائلتها.

ولكن كيف يمكن أن تتعايش المشاعر المتناقضة في زواج يصبح مع مرور الوقت أكثر حزنًا بالبهجة وخيبات الأمل… في نهاية المطاف تطلب جوان من زوجها عدم ذكرها في خطاب تسلمه للجائزة، لأنها لا تريد أن يُنظر إليها على أنها من بذل كل التضحية.  تقول: “أنا أكثر إثارة للاهتمام من ذلك”.  بحلول هذه المرحلة من الفيلم ، ليس من الواضح إلى أي مدى ساهمت في إرث زوجها الشهير.  مع ذلك ، ومن خلال اللقطة الأخيرة للفيلم ، كان من الواضح مدى أهمية جوان بشكل كبير ، وستكون كذلك ، كما نتخيل أن القصة تمضي إلى أبعد من ذلك.

يعتمد الفيلم على الحوار البسيط السريع ،حيث يصل للمشاهد الفكرة بأقصر طرق الحوار،ساعد على ذلك قدرة وقوة إثنين من الممثلين ثقيلي الوزن فى السينما العالمية…كما أضافت موسيقى جوسلين بوك تميزا رائعا فى تصوير جبال السويد وغاباتها يكسوها الجليد المنهمر دائما .

الفيلم الثالث “كوليت”Colette :

وهو مأخوذ عن سيرة الكاتبة الفرنسية سيدوني جابريال كوليت، صاحبة أشهر سلسلة قصصية (كلودين)في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، والتي انتقلت من ريف فرنسا إلى الوسط الثقافي الباريسي الراقي، حين تزوجت من كاتب أكبر سنًا منها اسمه هنري جوتييه فيلار “ويلي”  ورافقته إلى حياة جديدة مليئة بالإثارة والمغامرة في  باريس…إنهافتاة ريفية ذات أحلام متواضعة تكذب العبقرية الثورية والفنية والروح الحرة التي تنتظرنا، كانت سيدوني جابرييل كوليت (كيرا نايتلي) فتاة موهوبة وامرأة مبدعة ومرنة تعرض ذكريات آسرة عن تجاربها التي نشأت بعد زواجها من الكاتب ويلي (دومينيك ويست) المتكبر والناجح ، أصبحت كوليت مرتبطة بكتابة قصص لشركة زوجها لمنع تراجع المبيعات وتجنب خطر زوال الشركة.

إستغل زوجها هذه الموهبة وأجبرها على كتابة قصص نشرها باسمه، وبقيت المرأة في الظل. وهو تماماً ما تناوله الفيلم الأول والثاني، بإستثناء أن الفيلم الثاني “الزوجة” كان من خيال مؤلفته (ميج والتزر)…كان ويلي مثيرًا ، متغطرسًا وغير مخلص، أما جابرييل كانت مفتونة بحياتها الجديدة  وسرعان ما اكتشفت أن زوجها كان أيضًا مخادعًا أدبيًا كانت موهبته متواضعة،لكنه يمتلك قدرة إقناع الآخرين بكتابة قصصه، فقد كان”مصنعه” يضم العديد من الكتاب المغمورين لكنهم يمتلكون موهبة الكتابة،حيث يقومون بكتابة رواياته…ضمت هذه الزمرة زوجته الموهوبة الصغيرة القابعة في منزلها مع قليل من عدم الاهتمام بها كزوجة، حتى أصبحت عن طيب خاطر (في البداية) كاتبة شبح تحت اسم ويلي، حلقت روايات “كلودين” من على أرفف الكتب لتكتسب شهرة ونجاحًا ماليًا لويلي.  وأصبحت أولى روايات “كلودين” التي كتبتها كوليت أكثر الكتب مبيعًا بسبب نثر كوليت الأدبي والتلميحات السحاقية المثيرة.  يؤدي هذا النجاح فقط إلى أن يصبح ويلي مبذر طائش غارقا في الديون فيطلب من كوليت نشر كل كتاباتها التي تحتجزها في الأسر… ولكن هذا الحال لم يستمر لفترة طويلة

مع وصول نجاح قصص كلودين إلى مستويات غير مسبوقة… تعلم الكاتبة المكتشفة حديثًا أنها يجب أن تتحدى المعايير الجنسانية ، وتستعيد ما هو حق لها ، وفي النهاية ، تعيد اكتشاف هويتها الخاصة، فيعلو صوتها وتجد عشاقها وتبدأ في أسلوب حياة متحرر وغريب، تتألق فيه وتسرق الأضواء  بجموحها وجرأتها … هكذا كانت الحقبة في مطلع القرن التاسع عشر في فرنسا مليئة بالدوائر الفنية الطليعية والمواقف البوهيمية.

انطلقت غابرييل الجميلة في مهنة تأسر المجتمع الباريسي علنًا، فحققت لزوجها الشهرة الواسعة، وكسبت له المال والنجاح في دفع ثمن ميوله للمقامرة وديونه منها، وأيضا تمويل أسلوب حياته الفاخر…حققت الكتب التي كتبتها  والمعروفة باسم قصص “كلودين” ، ضجة كبيرة بين عشية وضحاها تحت اسم مستعار “ويلي”.  وبطبيعة الحال ، ادعى زوجها كل الفضل لنفسه بينما طالبها بتزويده بمزيد من الكتب ، لدرجة حبسها في غرفتها بدون مفتاح لساعات، في كل مرة للحفاظ على عملها، ناصحا لها “نحتاج إلى المزيد من التوابل ، والقليل من الأدب” – يدور الفيلم ، بديكوره الغني وحدائقه المبهرة ، كما

يساهم التصميم الفخم للإنتاج بشكل كبير في سرعة نقلك في الفترة الزمنية، مثل مكتب ويلي على وجه الخصوص هو موقع مفصل للغاية يشعرك بأنه مستخدم ويعيش فيه حقًا. كما أن تصميم الأزياء مذهل بشكل لا يصدق ويعزز بشكل جميل تحول كوليت في جميع أنحاء الفيلم، وهو فيلم مبهج لجهوده في البقاء قريبًا جدًا من قصة امرأة ملهمة.  على الرغم من أن بعض التحولات في المشهد يتم التعامل معها بطريقة خرقاء بعض الشيء ، إلا أن الفيلم يشتمل على وفرة من الجودة المنتشرة في جميع أنحاء السرد مع الحفاظ على تفاعل قوي من جمهور المشاهدين…كذلك والاستجمام الخيالي لباريس مطلع القرن، حول كيفية كسر جابرييل للمحرمات عموما، والجنسية على وجه الخصوص من خلال الانخراط في شؤون مثليه مع النساء الفاتنات وتأسيس استقلالها.  تحت اسم “كوليت”…أدى ذلك لتدمير ويلي وظهور كوليت كإحساس أدبي إلى الفضيحة التي كرست باريس وأقامت سمعة يتردد صداها في جميع أنحاء أوروبا.  وأصبحت شخصية “كلودين” صناعة منزلية حتى أن كوليت تكيفت معها على المسرح ، حيث أصبحت نجمة موسيقى الروك في يومها كممثلة  وأيدت دعاية كل شيء من الصابون إلى العطور.  وواصلت كتابة مايقرب من ثلاثين  رواية وعشرات القصص القصيرة، وكانت قصتها (جيجي)  من أشهر أعمالها ، ويتم إنتاجها حتى اليوم على خشبة المسرح في كل مكان بباريس .

مثل شخصية كوليت الممثلة كيرا نايتلي كما قدم دور ويلي الممثل دومينك ويست نجمان سينمائيان، جمعت بينهما كيمياء ناضجة لا يمكن وصفها، في حين أن المرأة المحررة التي ولدت من هذا الاتحاد المعذّب والحرية المثيرة للجدل التي نشأت عنه بما في ذلك العلاقات المثلية المصورة مع نساء أخريات، تم التقاطها بذكاء من قبل كاتبا السيناريو ريتشارد جلاتزر وريبيكا لينكيويتز ومخرج الفيلم واش ويستمورلاند ، الذي يسجل تفاصيل الفترة بنعومة رائعة…ليجسد شخصية كوليت المرأة الآسرة، التي لايمكن  قمع موهبتها وعطشها للحياة، فكانت قوة دافعة على طريق تحرير المرأة، رغم أنف  زوجها المخادع والمستبد هنري، الباريسي المثقف

كما يسلط الفيلم الضوء على تصوير نايتلي الحاد لامرأة عبر العصور وجدت صوتها وعاشت حياتها دون قيود.  “يا لها من حياة رائعة مررت بها! أتمنى فقط أن أدركها في وقت أقرب.”  COLETTE هو فيلم فني جيد، بدون ادعاء يرسم صورة رائعة لموضوع جرئ ومعقد، مثل شخصية كريستوف والتز في فيلم “Big Eyes” – فنان آخر قام بتمرير عمل زوجته على أنه عمل خاص به – مثلما جعل ويلي شريرًا سهلًا ، على الرغم من أن المناخ الاجتماعي في ذلك الوقت كان ملامًا في فيلم “كوليت”.  من المؤكد أنه يمكن أن يكون قاسيًا ، ويعاملها مثل العبد أكثر من كونها شريكًا ، كما هو الحال في مشهد حبس كوليت في غرفة وإجبارها على الكتابة ،

إذن نحن أمام ثلاثة أعمال لفكرة واحدة، شاهدتهم السينما العالمية، هدفهم دعم فكرة خروج المرأة من تحت عباءة وظل الرجل…فيلم “الزوجة” نموذج للعمل الراقي الذي يستحق تجسيد المرأة وفكرها وتضحياتها وقدرتها على الإبداع والتحمّل، تشاهده بمتعة شديدة…و “العيون الكبيرة” كان العامل الذكوري هو المستبد والمتحكم بقدرات المرأة ومقدراتها…أما “كوليت”، فهو يصور المرأة مشتتة بين أهوائها وغرائزها،  وينزل بها إلى مستوى أكثر تحررا وقاسيا ، ربما كان لايليق بالمرأة… إذن الأفلام الثلاثة التي تحدثنا عنها، توضح جليا  سيطرة الرجل على المرأة، وكبت قدرتها على الإعتراض ، ورفض هذه السيطرة، من خلال الاعتقاد الخاطئ الذي كان سائداً -رغم اختلاف الأزمنة بين الأفلام الثلاثة،ظنا أن اسم الرجل على أي عمل فني، يضمن له الانتشار، وأن الناس يحجمون عن شراء الأعمال الفنية للسيدات مهما كن مبدعات. ورغم أن كل من “العيون الكبيرة وكوليت” قصتان حقيقيتان، إلا أن فيلم «الزوجة» إستطاع أن يمنح المرأة قدراً أكبر، فقد قدمها بصورة المتفانية، الناكرة للذات والمكتفية بلعب دور الزوجة والأم، والبقاء في ظل زوجها الذي يزداد شهرة وفخرا متعمداً إلغاء دورها في المجتمع، وتكريمها فقط بمرافقته في كل مكان…كما تتابعت الأحداث بهدوء ونعومة، كتتابع النغمات الموسيقية من خلال سيمفونية جمالية رائعة .

وبالحديث عن الموسيقى ، فإن إحدى أقوى ميزات فيلم كوليت،  هي موسيقاه ، وتعتبر أول ما كتبه صراحة ملحن الأوبرا البريطاني “توماس أديس” للشاشة ، ومصدر الكثير مما يراه الجمهور على أنه ذكاء كوليت المتلألئ.  يبدو الفيلم بأكمله أكثر إشراقًا بفضل أداء البيانو الذكي الخاص بـ Adès وعمل سلسلة التنبيه ، مما يدفعنا إلى الأمام من خلال العديد من المشاهد المصوّرة بأناقة .

بقى أن ننوه بأن الفيلم ضم ممثلة جميلة صاعدة، “عائشة هارت” من أصول سعودية،وهى شخصية منفردة ورفضها الإنصياع للمعايير السائدة من أقوى خصالها، وقامت على خشبة المسرح بالعديد من الأدوار، منها المسرحية السياسية “مخاطر مهنية”والتي كتبها روري ستيوارت، وزير الدولة للتنمية الدولية عن حزب المحافظين البريطاني حالياً… ولعبت دور بولير في “كوليت”، وقدمت عائشة ممثلة ومغنية فرنسية ذات أصول جزائرية، اشتهرت بخصرها النحيل وبمظهرها العجيب، وهو دور البطولة، للبنت التي تهرب في طفولتها من الجزائر إلى باريس، ورغم أنها غريبة عن المدينة، تشق طريقها في مهنتها من الصفر، فتبدأ أولا بالغناء في المقاهي، وتصبح إحدى الشخصيات الشهيرة في عصرها ونجمة في بدايات السينما .

ومثل نجاح قصص كلودين ، يكمن نجاح هذه الأفلام الثلاثة في جوهرها في كونها مبدعًه مع القدر المناسب من الجدل لإثارة أمور شائكة .

(شريف الوكيل) .

مذكرات الجيشــــــا. بقلم: شريف الوكيل

Memoirs Of A Geisha

( عالم من الثقافة والفن والمتعة والجمال)

نحن نؤثر بشكل مباشر على مصيرنا من خلال الاختيارات التي نتخذها.  لكن مسارنا قد يتغير أيضًا بشكل جذري بفعل قوى خارجية   ويمكن أن تتحرك الحياة في اتجاه جديد بواسطة شخص أو كلمة أو فكرة أو فعل، بعض هذه الأحداث عميقة للغاية وواعية، ولكن معظمها تافه وسريع الزوال، مثل حصاة ألقيت في بركة ماء  فإن الشيء الصغير يرسل الكثير من التموجات…ويعتبر الفيلم نافذة جميلة على الثقافة اليابانية، يظهر أيضًا كيف يمكن لفعل صغير من اللطف أن يرسل العديد من التموجات ويغير حياة الآخر .

أكثر اللحظات سحراً في فيلم Memoirs of a Geisha ، وهو فيلم مليء بمثل هذه اللحظات ، تأتي عندما تلتقي فتاة صغيرة برجل يثبت لطفه أنه تغيير للحياة… واللطف هو فعل القرابة أو التقرب ، وهو عكس عدم احترام الشخص.  بالنسبة لهذه الفتاة الصغيرة  يأتي هذا الفعل في وقت تشعر فيه بالوحدة واليأس والعجز… تصبح رعاية الرجل غير المتوقعة هبة أمل، واتجاه جديد .

استمر في القراءة مذكرات الجيشــــــا. بقلم: شريف الوكيل

التابلوه. بقلم: شريف الوكيل

التابلوه

(عندما يصنع مشاعرنا الآخرون)

فيلم “The Painting” أو “Le Tableau”  إنتاج فرنسي عام ٢٠١١ . يعتبر من أجمل إبداعات الأنيميشن الفرنسي، بفكرة عميقة جديدة،  تجسدت بشكل عظيم جدا وحرفية مميزة ومتقنة، من خلال حبكة عبقرية في واحد من أفضل أفلام الرسوم المتحركة للمخرج الفرنسي جان فرانسوا لاجيوني.

فيلم في ظني أنه مصنوع لجمهور يقدر هذا الإنجاز المتميز لمخرجه، وهذه الفكرة المنبثقة من عالم لوحة غير مكتملة، حيث غادر الرسام مرسمه تاركا لوحاته، منها ما قد اكتمل ومنها مازال ناقصا ومنها ما كان مجرّد خربشة فنيّة وخطوط أوليّة غير واضحة المعالم لا أكثر،  ثلاثة أنواع أو شخصيّات،  أحدها زاه بألوانه القوية والثانية مثل الخسوف الجزئي للقمر باهتة قليلا، أما الثالثة فهي مجموعة ضعيفة شاحبة تفتقر إلى اللون ليس لها حدود واضحة،  وقد هربوا من لوحتهم بحثًا عن الرسّام بدوافع مختلفة، ولكن لنفس السبب

استمر في القراءة التابلوه. بقلم: شريف الوكيل

الكلمات. بقلم: شريف الوكيل

الكلمات

تقريبا كل كلمة كتبها الكاتب إرنست همنغواي في السنوات التي سبقت عام ١٩٢٢ مباشرة ضاعت من قبل زوجته الأولى هادلي ، التي جمعت الصفحات في حقيبة وفقدتها في قطار…يعيش نثر همنغواي المفقود ، إلى حد ما ، في فيلم “الكلمات” إنتاج عام ٢٠١٢ .

تكمن أصالته في بنيته المكونة من ثلاثة تداخلات ، كما لو كانت “مترابطة” في بعضها البعض، تبدأ القصة بقراءة علنية للرواية للكاتب كلاي هاموند (دينيس كويد) من روايته الجديدة “الكلمات”…فى الجانب الآخر نتعرف على رورى جينسن(برادلى كوبر) الموظف بدار للنشر، يعانى من قلة الإلهام مما يسبب عدم تحقيق طموحاته الأدبية…متزوج من الجميلة دورا(زوي سالدانا)، اثناء قضاء رحلة شهر العسل، يعثر على نصاً قديماً ورائعاً لا يحمل توقيع أي كاتب ولايعرف من كتبه، بعد أن إنتهى من قراءة النص يعجب به، ليتخذ قراره بنشرها كرواية مدعيٱ  أنها من تأليفه هو،  يحقق هذا المنتحل حلمه من الشهرة الواسعة، ويحصل على عدة جوائز أدبية، مستمتعٱ بتوقيعاته ومقابلاته محققٱ شعبية واسعة، ويستمر هكذا على هذا الحال حتى يلتقي برجل عجوز(جيرمى أيرونز).  في يوم من الأيام  صدفة فى أحد المتنزهات…وأخذ يتحدث مع ذلك العجوز ، الذي يروي له بدوره،  قصتة، موضحا أنه حين كان شابا، التحق بالجيش في أواخر الحرب العالمية الثانية في فرنسا، حيث تزوج من سيلينا الفرنسية (نورا ارزينيدر) أنجب منها طفلة، ماتت بعد ولادتها، لترحل الزوجة إلى منزل أهلها خارج باريس، وكان الزوج قد انتهى من كتابة روايته، ليضعها فى حقيبة ويعطيها لها ،حتى يحين موعد نشرها… ولكن سيليا تنسي الحقيبة فى القطار أثناء عودتها لباريس، ليفقد الكاتب روايته مما يثير غضبه فيهجر زوجته…قائلا للمنتحل “لقد أحببت كلمات هذه الرواية أكثر من المرأة التي ألهمتني لكتابتها, ولكن ضاع الإثنان”   وأخذ الكاتب العجوز في سرد قصته للكاتب المنتحل، بعدما أنجز روايته، واصفا له تفاصيل المعاناة التي عاشها، والحياة المشحونة بالتوتر والقلق والتركيز بالكتابة، والتفكير في رواياته والتنازل أحيانٱ عن بعض متع الحياة، من أجل ما يكتبه…وكيف ضاعت منه الرواية في القطار، وكيف رجع مسرعٱ إلى محطة القطار تاركا زوجته خلفه، يبحث بين الناس عن حقيبته التي تحوي الرواية. وراح يركض متوترا بين الجموع، يمسك الناس بغضب سائلا عن روايته، لكنه لم يعثر عليها، لتمر سنوات طويلة يعرف بعدها أن كاتبا آخر وجدها وطبعها ونشرها  على اسمه…ليصل بهما الحديث بأن يخبره العجوز قائلا “أنت لم تسرق روايتي فقط، أنت سرقت جزءا من حياتي، معاناتي، ذكرياتي.. أنا الذي وقفت عند سرير ابنتي في لحظات موتها وكتبت الرواية، أنا، ولست أنت”… موضحا له بأن لايدرك هذه المشاعر إلا من عاش عملية الخلق الأدبية أو الفنية وحتى الفكرية، سيفهم مشاعر الكاتب ويدرك قيمة معاناته…لا تتوقف السرقة الأدبية، الفكرية أو الفنية، على سلب إنجاز معين قام به أحدهم فحسب، وإنما على تقمص تجارب وحياة شخص آخر، لا تمت إليه بصلة. كما جاء على لسان الكاتب الأصلي استكمالا لكلامه مع الكاتب المنتحل…نعم، هذا هو العمل الفني، إنها عملية خلق داخلي لحياتنا، إنها عملية إعادة تكوين وتدوير لمجريات حياتنا، ولأحزاننا، ولذكرياتنا الأليمة، إنها عملية معاناة مستمرة ومفاهيم يعاد تشكيلها والتعبير عنها، في حوار بين الكاتب الأصلى والمنتحل،  يعد من أجمل مراحل الحوار بالفيلم .

تتوالى الأحداث بمحاولة الكاتب المنتحل الإعتراف علنا بأنه ليس هو صاحب الرواية، إلا أن عرضه قوبل برفض الكاتب العجوز، كما يرفض الناشر اعتراف الكاتب المنتحل خوفٱ على سمعته كناشر…وهنا تتضح لنا الصورة عن ثلاثة كتاب الراوى والمنتحل والعجوز لثلاثة روايات متداخلة… ليبدو الفيلم الذي كتبه وأخرجه بريان كلوجمان وليسترنثال  وكأنه فيلم عن الأدب ، لكنه ليس كذلك.،  إنه يتجنب ببراعة اقتباس أكثر من بضع كلمات من رواية هيمنجواى ، وعلى الرغم من أن كلايتون هاموند يقرأ المزيد من روايته ، فلا يوجد ما يشير إلى أننا نتعامل مع هيمنجواى، ومع ذلك ، فإن الفيلم يترك الباب مفتوحًا أمام احتمال أن تكون روايته هى قصة حياة هيمنجواى الخاصة.

تناول الفيلم هذه القصة ليوضح أن الإنسان سيبقى أسيراً لقراراته، واختياراته مضطراً للتعايش معها طيلة حياته، ومؤكدا أهمية الصدق والأمانة فى الفن والأدب،  لكن المفاجأة التي تنكشف لنا في نهاية المطاف أن هذه الرواية,  قصة حقيقية وسيرة ذاتية لمؤلفها الحقيقى،  فكيف يتمكن الكاتب المنتحل من التعايش مع قراره بالسطو على كلمات وربما حياة رجل آخر؟

أهم مايميز هذا الفيلم، أداء ممثليه جميعهم بلا إستثناء ، كما يتميز ببراعة الإخراج الفنى والتصوير الواقعي للفترات الزمنية التى وقعت فيها الأحداث.، مع موسيقى لام مارسيلو زرافوس.. ولكن تعقدت القصة بصورة شائكة بسبب الطبقية العجيبة -والتي هي ليست عيباً سينمائياً بطبيعة الحال، بقدر ماكانت تحتاج الكثير من التعمق فى فكرتها… (هي بالمناسبة ذات الطبقية التي شاهدناها في فيلم “الساعات” للمخرج“ستيفن دالدري”مع النجمتين “ميريل ستريب” ونيكول كيدمان”… وذات الطبقية التي ميزت الفيلم  الرائع “امرأة الملازم الفرنسي” لـلمخرج ”كارل ريزس”  وذات الطبقية التي يبسطها المخرج “نولان” لعشاق أفلامه الحاذقة ليظهر فلسفته السينمائية… لكنها هنا حطمت بتشابكها عملاً كاملاً ، جاء بفكرة كبيرة جميلة حتى المنتصف،  ليخرج الثلث الأخير من “الكلمات” جافاً سرديّاً دون إمتاع…ربما كان بحاجة إلى بعض التبسيط مع إعادة تشكيل ما قد يجعله أطول وأكثر سلاسة…

وفى الختام يذكرنى فيلم “الكلمات” بقول الكاتب العربي السوري محمد الماغوط : “أنا لا أكتب، بل أنزف” .

(شريف الوكيل)

            **************************

البيانو. بقلم: شريف الوكيل

The Piano

البيانو..

لقد وجدت بعد أكثر من مشاهدة شيئًا أدبيًا في هذا الفيلم… شعرت كأنه مقتبس من رواية منسية من روايات برنارد شو (إنها في الواقع من سيناريو أصلي للمخرجة جين كامبيون)…أحداثها من بين أبيات قصيدة تتعلق بجاذبية الموت لتوماس هود عام ١٨٢٧ الصمت : “هناك صمت حيث لم يكن هناك صوت ، هناك صمت حيث لا يوجد صوت ، في القبر البارد ، تحت أعماق البحار.” .

وجاء عام ١٩٩٣ ، لتصنع المخرجة جين كامبيون تاريخها عندما أصبحت أول امرأة (وأول نيوزيلندية) تحصل على السعفة الذهبية المرموقة في مهرجان كان السينمائي، عن فيلمها  الرومانسي المؤلم ، The Piano ، والذي اختير ليكون  الفيلم الأول في قائمة رائعة تعرض أكثر من مئة عام من صناعة الأفلام النسائية .

*********

البيانو” فيلم غريب ومثير للاهتمام ، إنه أحد تلك الأفلام النادرة التي لا تدور حول قصة أو بعض الشخصيات فحسب ، بل تدور حول عالم كامل من المشاعر – كيف يمكن للناس أن ينفصلوا عن بعضهم البعض ، بالوحدة والخوف ، وكيف يمكن أن تأتي المساعدة من مصادر غير متوقعة  ، وكيف لن تعرف أبدًا إذا لم تسأل أبدًا.

إنها قصة حب وفخر شرس ، تدور على ساحل نيوزيلندا الكئيب حيث يعيش الناس  تحت المطر والوحل ، يكافحون من أجل الحفاظ على مظهر المجتمع الأوروبي الذي تركوه وراءهم.  إنها قصة الخجل والقمع والوحدة.  لامرأة لا تتكلم  ورجل لا يجيد الاستماع ، وعن فتاة صغيرة عنيدة تسبب الأذى وتتظاهر بأنها لم تقصد ذلك.

استمر في القراءة البيانو. بقلم: شريف الوكيل