بساط “لمح البصر” وعالم الحلم:
كنت قد قرأت قصص ( لمح البصر) لسيد الوكيل عند صدورها، لكن عندما بدأ ينشرها على موقع ( ذاكرة القصة) أتاحت لي قراءة كل نص مفردا، أن ألمح ما لم يلمحه بصري من قبل، وأثناء تأملي لبعص النصوص، انفتح عالم أو سع كثيرا منها، دفعني إلى الكتابة عن سر الإبداع عموما.
( كيانات منسية) هو عنوان كتابي الجديد الذي يصدر قريبا من دار روافد، فيه أقتفي أثر النصوص الإبداعية التي سقطت في روحي كإضاءات مفزعة، أسير معها في رحلة داخلية مليئة بالدهشة والغرابة، لأن من تكلم بلغة كياناته المنسية الأولى، فهو يتكلم بألف صوت، إنه يفتننا ويحول قدره الشخصي إلى قدر البشرية، فتلك كيانات مشتركة، تخصنا جميعا يرصد كتابي أسرار الإبداع في عدد من الأعمال المصرية والعالمية، ننشر منها جانبا صغيرا هنا، عن نصوص الأحلام التي كتبها سيد الوكيل في مجموعته (لمح البصر) أولا لكونها كانت مهلمتي الأولى لأشرع في كتابي ( كيانات منسية) وثانيا، لأن كثيرا من نصوص المجموعة منشور على موقع ذاكرة القصة، بحيث يمكن الرجوع إليها إذا شاء قارئ هذا المقال.
ما أكتبه هنا ليس نقدا أدبيا، ولكنه محاولة، لنرى كياناتنا المنسية، التي تتسلل إلى كتاباتنا خلسة، لتواجهنا بما نجهل عن أنفسنا.
وظيفة الحلم أهم من تفسيره، فالإنسان لا يستطيع العيش داخل وعي أحادي، هو وعيه الظاهر، وعي الحياة اليومية، إنه ينام كي يدخل إلى مناطق وطبقات أخرى من وعيه، تتناثر فيها أجزاؤه ثم تتحد، تتبعثر فيها أزمنته وأمكنته، ثم تتداخل مع بعضها البعض. فالإنسان أكبر وأكثر من نفسه التي يعرفها، وإن لم يدرك ذلك، تهش عظامه ويتغضن لحمه، ويشيخ عقله سريعًا، والحلم هو الباب الملكي لإدراك كليّته. فمن يوقفني على أرض الطفولة سوى الحلم، ومن يعيدني إلى الوعي الطفولي الأول سواه؟
قصة “شجرة الألعاب”
![1796066_10152562474353591_5734349627842953737_o](https://sadazakera.wordpress.com/wp-content/uploads/2019/06/1796066_10152562474353591_5734349627842953737_o.jpg)
رأيت الجنزير والقفل على الباب، فعرفت أنهم قرروا عقابي. سأمضي ليلتي في الشارع حتى لا أضيّع كتبي المدرسية مرة أخرى.
من الأفضل ألا أذهب بعيدا عن البيت، سأجلس هنا، على هذا الحجر، بجوار تلك الشجرة التي تعرفني، طالما تسلقتها بحثا عن طائراتي الورقية.
الكلاب التي تنبح من بعيد تعرفني، وربما تبحث عني الآن.
السماء بدأت رعدها، وربما سينزل مطر. فيصبح لحقيبتي المدرسية الفارغة فائدة. أن أدس فيها رأسي، وأغطي عينيى وأذني.
ياااه.. الحقيبة تحتفظ بروائح قديمة لسندوتشاتي. تشعرني بالجوع، فأتذكر أنني لم آكل منذ الصباح، تشعرني بالجوع حتى أنني أميز كل رائحة وأتذوقها. اللانشون والجبن الأبيض والنستو والبيض. ولكن.. هل يمكن للكلاب أن تشمها وتأتي؟
كلما فكرت في الكلاب أرتجف وأرى أنيابها تقضم مؤخرتي. ترى أين هى الآن؟ أنا لا أسمعها، فقط أسمع دفقات مكتومة، هينة، متتابعة. دفقات لا أعرف وصفها، ولكني أراها كتلة كبيرة من الضباب، تتدحرج فى أول الشارع، كلما اقتربت تكبر. تكبر حتى تبتلع الشارع والسيارات المركونة على جانبيه وأعمدة النور المطفأة والبيوت. تقترب حتى تبتلعني، أنا والشجرة التي راحت تهتز، وتسَّاقط أشيائي كلها، طائراتي الورقية وكراتي المطاطية، وأوراق ملونة لحلوى أكلتها، ودمية تقول ماما، كنت اشتريتها لابنتي في عيد ميلادها الثالث.
الرمز والدلالة في عالم الطفولة:
أرض الأطفال طفولية، بمعنى أنها مصدر دائم للميول والدوافع الطفولية، ولهذا السبب لا يرحب الذهن الشعوري بها ويكبتها باطراد. الموقف العقلي للوعي الحالي، غير متكيف مع الحياة بصورة طفولية، بل ومعادٍ لها. هذا يزيد الافتقار إلى الوحدة الغريزية، الذي يصير افتقارًا للروح، فطبقًا لنظرية تحليل المعاملات لإريك بيرن، إن استبعاد الطفل الداخلي للشخصية، وركله بعيدًا عن وعيها، يصيبها بالتصلب والجمود، ويدخلها في شيخوخة مصطنعة، لأن الطفل هو مصدر الإلهام والإبداع، هو التجدد والدفق اللازم للحيوية بداخلنا، أو كما يقول يونج: “أرض الطفولة هي رأس النبع”، ولا يمكن العثور على رأس النبع، إلا إذا رضي الذهن الشعوري، بأن ينقاد إلى أرض الأطفال، ليتلقى هناك الهدايا من اللاشعور،. هذا هو عمل الحلم، لكن الروح التي تتحدث بداخله، لا تنافق الذهن الشعوري، ولا تحدثه عن جنة الطفولة لتغريه بالولوج إليها. الطفولة عجز وخوف وهواجس وخيالات مرعبة، الطفولة نقص واحتياج، هكذا كانت طفولة الإنسانية أيضا عند الإنسان البدائي، وهو موروث أسطوري، يتسرب إلى لا وعينا، وهذا الموروث هو ما نسميه، كيانات منسية. لابد أن ندرك هذا حتى لا يحاصرنا الطفل المذنب المهمش، بعوزه.
تمرينات (المخطط) للعالم النفسي جيفري يونج، تقوم على تذكر أحداث الطفولة المؤلمة، إنها تدعونا إلى لقاء طفلنا الحزين، المكبل، تطلب منا أن نطمئنه ونربِّت على ظهره، كي تدخلنا في حالة والدية جديدة حانية، لطفلنا الداخلي.
أعتقد أن نص (شجرة الألعاب) هو تحذير للذهن الشعوري، من أن يدفعه الخوف، إلى نكران طفله، فتتحول أرض الطفولة إلى كتلة من الضباب، تبتلع الحياة برمتها، ماضيها وحاضرها، طفولة الحالم وأبوته، فالذي لا يرى طفله الداخلي، لا يعثر على أبوته الحقيقية.
نأمل بأن هذا التطواف حول النص، يفتح آفاقا لدى القارئ، ليعيد قراءة القصة، ربما يلحظ رموز الحلم في الشجرة، والدمية، وكتل الضباب، والأبواب الموصدة بأقفال حديدية.