بالأمسِ كُنت هناك،قصة: محمد فيض خالد

لم أكن لأتصوّر أن تلك الحِيطان الضَّعيفة ستصمد بذاكرتي طويلا ، لا زلت أتذكرها ، مُكتنزة ، بطونها مُشبعة بليونةٍعَطنة ، تَستفزني أسراب النَّمل في سيولٍ حُمٍر تُهرولُ بلا تَوقٍف ،أشدّ ما يَزعجني في الذكرى ، مشهد كلب الجيران الضَّخم، يَملأ نُباحه الشارع في عَنجهيٍة مُفرطة ،يَمرّ من أمامي في تَصلُّبٍ غير مُكترث لوجودي ،يَتّخذ موضعه من الجِدارِ ،يرفعُ رجله ويَبولُ في جرأة ،وكأنَّه يَطّلع على عجزي ، حَاولتُ أكثرَ من مرةٍ معاقبته ، أن اتّخذ حياله ما يوقفوقاحته، تَمرَّست على حَملِ عصا عمي ” أحمد ” الغليظة، اهمسُمتحمسا :” عندما يمر من أمامي ، سأهشّم رأسه وأكسر ساقه”، لكن العصا تثاقلت في يدي، لا اقوى على حَملها ، ولا حتّى  إدامة النّظر في عَينِ المُتبجّح ،اكتفيتُ في تلك الأثناء بشتمهِ ، ونعته بأوصافٍ لا تَليق بشجاعٍ مثله،  في مراتٍ تَلعب برأسي الظُّنون  ، أقولُ في ارتياب :” ماذا لو فهم كلامي؟!” ، لكَّنه كَانَأكثر رَحمةً ، اكتفى بالتَّبولِ ولم يُعاقبني على سُوءِ نوايايَّ.

كانت لي غُرفة بالطَابقِ العلوي، فَسيحة ، جيدة التَّهوية، تُداعبها خيوط الشمس وتقتحمها في فضولٍأذرع القمر، يَتساقط سَقفها الجَريدي في انهزامٍ بفعلِ الزمن ،قَالَ لي والدي ذاتَ مساءٍ :” بناها جَدّك الشيخ خالد وأنا في العاشرة ” ، استغربُ أحيانا لكلامِ أمي :” لقد سهرت حَتى الرابعة ، السَّهر يجهدك”، أتساءلُ في حَيرةٍ :” كيَفَ عرفت؟! ، لقد اخبرتها حَشوة السَّقف بالسر ،فقَعقعةِ أعجاز النََّّخيل الخَاوية، و بكاء الجَريد المُتهالك لا يتوقف ،لازلتُ أتذكرالونس المُشعّ من طلاسِة الطَّمي، حين تتَناوبُ أمي  على فردها في كلِّ عام، تَطمئنها بهذه الكسوة كي تصمدّ أمام عوادي الزمن ،مُقابل حصيري الذي أرقد عليه ، اقتطعتُ صَفحةً كاملة لَمجلةٍ رياضيةٍ شهيرة ، يَطيرُ ” حسام حسن ” في الهواء  كاَلصَّقرِ في حراسةٍ مُشددَّة للأعبي الخِصم ، وكُتِب في الأعلى بخطٍ سميك :” عفوا الأهلي فوق الجميع “.

لا يزال صوت أمي الحَاني يتَهادى وهي تُغلِقُ الَّنافذة المُنبعجة في الجدرانِ :” برد الصَّيف أحدّ من السيف” ، بالأمسِ اقتربتُ من جدراننا الجديدة ،تلطّخت ملابسي بطلاسةٍ جيرية مزعجة ، تناوبت يد صغيرتي ” سارة ”  على نفضها لكنَّها لم تفلح .

أضف تعليق