قراءة في الملهمات التسع للكاتب أمل سالم


بقلم مصطفى فودة
ينتمى عنوان المجموعة القصصية إلى الميثولوجيا اليونانية وهنَّ ربات الفنون عند اليونان القديمة كالموسيقا والرقص والشعر “المُلهمات التسع (Muses) في الأساطير اليونانية هنَّ آلهات للفنون المتنوعة كالموسيقا والرقص والشعر، ويتمتعن بمهارات فنية رائعة ويمتلكن أيضاً جمالاً وحسناً وجاذبية عظمية. ساعدت مواهبهن في الغناء والرقص والابتهاج الآلهة والبشر على نسيان متاعبهم، وألهمت الموسيقيين والكتّاب للوصول لمستويات أعظم من الفنون والثقافة “(موسوعة التاريخ العالمى)، وهى أيضا عنوان القصة الحادية عشرة، وتحتوى المجموعة على ثلاث عشرة قصة تقع فى مئة وخمس وثلاثين صفحة ، وهى المجموعة القصصية الثانية للكاتب حيث سبقها مجموعة بعنوان الرابع عشر من برومير ، وقد التقط الكاتب لحظات مؤثرة من حياة الشخصيات وأجاد تصويرها وربما أراد بث رسالة غير مباشرة إلى القارئ عبر جماليات القصة بتقنيات حديثة ولغة بسيطة ولكنها جميلة على ما سنرى. .


فى قصة نفر العزبة – نيويورك تدور حول المعلم والدروس الخصوصية ذلك الوباء الذى أبتلى به التعليم فى بلادنا، وما يدور داخل وعيه من ألم وحزن نتيجة ظنه أن طالبتين لم تحضرا الدرس وما قد يحدثه ذلك من خلل مالى عنده فى دفع إلتزاماته المعيشية مثل إيجار المسكن والملبس والطعاموغير ذلك من المصاريف حتى تبين له أنهما حاضرتين وتجلسان فى مقعدين آخرين غير مقعدهما المتعارف عليه وتميزت بالدخول مبشرة فى الحدث وحذف المقدمات .
قصة الراهبة من أفضل قصص المجموعة القصصية قام بناء القصة على المشاهد والتداخل الزمنى بين الحاضر والماضى فبدأت بمشهد جنازة الراهبة ثم يتبعه مشهد السارد وهو طفل فى السادسة من عمره وكانت الراهبة تعاملة أول الأمربقسوة لشقاوته ثم مشهد الجنازة ثم مشهد إصابته بجرح فى رأسه فتقوم الراهبة بعلاجه وتتحول معاملتها له إلى معاملة أمومية وحانية عليه حتى أنها تهديه ألة كمان كان عندها بعد إصلاحه وتقول للعامل الذى يصلحها “سيعزف عليه ابنى ..ولم أكن أعرف أننى ابنها المقصود ” وتنتهى بمشهد الجنازة “والآن بعد أن أوصلت جثمانها أعزف لها على “فيولاتها”وأسند خدى على مخدة الكمان، وأغمض عينى فأسند خدى صغيرا على نهدها”ص50
فى قصة التركة تدور أحدث القصة عبر تلغراف من قريته إلى السارد الذى يقيم بالقاهرة “يا أحمد احضر فورا” حيث يتلقى تعليمه الجامعى وظلت تتردد تلك العبارة عدة مرات بعد كل فقرة وكأنها جهاز إنذاروعبر تقنية الفلاش باك يسترجع أحمد حياته وحياة أسرته الفقيرة أثناء ركوبه القطار، تنتهى القصة بمفارقة “البهيمة ماتت يا أحمد أفندى”ص64.
تستلهم قصة قط أبيض أسطورة حلول روح الأب فى القط الأبيض والذى تركه صديق السارد فى منزله حيث يتمثل القط نفس عادات أبي السارد ومكان نومه وطريقة نومه ويربت على كتف السارد ويجلس بجواره مثل أبيه تماما وقد عاش عشر سنوات ومات بطريقة مشابهة لموت أبيه .
فى قصة ميوزيس تحكى عن فنانة تشكيلية شابة فى مقتبل عمرها الفنى تقييم أول معرض لأعمالها الفنية ويقوم بالإفتتاح فنان شهير يدعى أحمد الفلاح ويتبين فيما بعد أن دراسته كانت بالمعهد الزراعى ولا يمت إلى الفن بصلة ويظهر ذلك فى جهله التام بالوحات التى رسمتها الفنانة الشابة لميوزيوس الملهمات التسع فى الأساطير اليونانية حيث يجهل نطق أسمائها “اسم اللوحااا..كا..كال..كاليوبى ! ما هذا الاسم الغريب ؟ “ص82، استطاع هذا العجوز الإيقاع بالفنانة الشابة ويعرض عليها الزواج، وهناك صوت أمها أو روحها بالقصة تحكى قصة حياتها والتى يبدو أنها ستتكرر مع حياة ابنتها مع هذا الكهل العجوز، وتشير القصة إلى الفساد الكبير فى المجتمع حيث يصبح هذا العجوز الجاهل فنانا كبيرا ومشهورا، وبقصة مبدأ الريبة تجلس الساردة وهى سيدة نوبية سمراء وابنتها بالقطارالمتجه إلى الجنوب، ويجلس بجوارها شيخ طاعن فى السن يحدق في ابنتها بتفرس ، وقد تذكرت السيدة وهى طفلة صغيرة اعتداء رجلا طاعن فى السن عليها أثناء حدوث الفيضان قبل السد العالى، وقد صور الكاتب مشهد الإعتداء عليها تصويرا فنيا بارعا “امتدت كف كبيرة وقبضت على ذراعى الايمن وانتشلتنى فى حجر صاحب اليد الكبيرة بينما كنت أبكى حدث أمر لا أعرفه ،احمرَّ الماء المتدفق لبرهة صغيرة”ص17 وقد جذبت السيدة ابنتها من على الكرسى ووضعتها على حجرها واحتضنتها بين ذراعيها، وقد خشيت السيدة أن يحدث لابنتها ماحدث لها.
فى قصة سيرة غير مبررة يقوم بناء القصة على ثيمة اسم احمد ماهر باشا أحد باشوات مصر قبل الثورة حيث ولد السارد وماتت أمه أثناء ولادته بمستشفى أحمد ماهر ثم اعتنت به خالته الصغيرة ببيت جدته بشارع أحمد ماهر باشا ثم تزوجت خالته “وتخلفت الخالة والرجل ذو البزة السوداء” تعبيرا عن كراهيته له ، ثم تقوم الثورة واتخذت المدرسة اسم هذا الباشا ثم تزوجت حبيبته رجلا يحمل نفس الاسم الذى طارده منذ ولادته، والقصة بها بعد سياسى عن ثورة يوليو52 وانتقادها نقدا طفيفا “قامت الثورة ،استبدل قمع الجيلاتى بقطعة من القماش تحمل الالوان ذاتها لكن الداكن كان أكثر دكانة، استشهد الكثير من الجنود فى الحروب .. يبدو أن الباشا اسم استمر وبشخصيات مختلفة عبر العصور”ص28 .
فى قصة السرير تلخص بقعة الدم على السرير حياة الأم إلى وفاتها منذ أن كانت بقعة دم حيض الأم إلى بقعة دم ولادة أطفالها ثم بقعة دم انفجار الكبد ووفاتها ، كما ربطت القصة بين مظاهر شيخوخة الأم ومرضها بتيبس خشب السرير وتغير لونه ” ألواح السرير الخشبية التسعة التى يطلق عليها “المولة” اقتم لونها، تيبست بالضبط كمفاصل أمى فى سنيها الاخيرة “ص12
فى قصة البندول والتى لا تتجاوز صفحتين تتناول القصة بندول الساعة بمنزلهم والذى يذكره بموت أبيه وتربط القصة بين ذلك البندول وشخصية فظة كان زميلا له فى الصف الدراسى لكن يكبره قليلا أساء إلى الساردوشتمه وهو صغيرولكن بعد ربع قرن من الزمان رأه على شاشة إحدى القنوات وقعد شعثت لحيته وهو يصف للناس كيفية علاج السحر والجن والحسد باستخدام البندول “ص10 والقارئ ربما لا يجد ثمة دلالة بين عنوان القصة وأحداثها .
تتناول قصة الكيسة البلاستيكية السوداء صحفى معين حديثا يلاحظ زميله وهو يحمل معه دائما كيسة بلاستيكية سوداء ويتحرك بها من مكتبه بين العاشرة والحادية عشرة صباحا ويتساءل عما تحتوى هذه الكيسة فقد تكون سندوتشات لإفطاره أوأدوية لعلاجه أومدخراته من المال اوملابس داخلية أوحجاب لفك ربطه من زوجته أوعلى جهاز استخباراتى متصل بأحد التنظيمات المعادية،وبعد فترة يتبين أنه كان يحتفظ بالكيسة فوطة صغيرة لتجفيف وجهه استعدادا لصلاة الظهر وقد فقدها ويبحث عنها ، وبالقصة إشارة إلى التلصص على الآخرين .
تميزت قصص المجموعة باستخدام كثيف للتقنيات الحديثة كما فى قصة الراهبة التى احتوت على تقنيات سينمائية مثل المشاهد والقطع والوصل والفلاش باك ، وتشظى الزمن ، كما استخدم تعدد الاصوات فى ميوزيوس حيث صوت الساردة وهى الفنانة الشابة وصوت أمها أو روحها وصوت الفنان التشكيلى الكبير وصوت الكاتب أيضا ” بعد إنتهاء أحداث هذه القصة شوهدت صفحة كاملة فى إحدى الجرائد القومية كتبها”الفلاح” يشيد فيها بعبقرية الفنانة وبريادتها فى الفن” ، كذلك تقنية الإسترجاع (الفلاش باك) فى قصة التركة حيث يسترجع السارد حياته أثناء ركوبه القطار بعد إبلاغه بتلغراف بالحضور فورا للقرية ، الانتقال من اسلوب الى اخر بسهولة ويسر مثل الإنتقال من أسلوب المتكلم إلى أسلوب الراوى العليم “يقلقنى جدا هذا التلغراف ..” ثم ينتقل فى الفقرة التالية “تطايرت الدوع من عينيه…..”ص55 ، كذلك تقنية تيار الوعى فى قصة نفر العزبة- نيويورك حيث حاز تيار وعى المعلم على أكثر مساحة القصة “يا للحظ التعس ، لماذا ولدت فى هذه الحياة ؟قال ذلك فى سره ثم زاد هل لأعطى اسم ودين وجنسية أظل أدافع عنهم طيلة حياتى وألهث كالأبله وراء رزقى غير الثابت ..”ص30 ، ويطول إحصاء التقنيات الفنية التى استخدمها الكاتب فى القصص .
كانت لغة السرد بالفصحى البسيطة إلا أنها فى بعض المواضع كان بها صور جمالية رائعة ومبتكرة مثل “كانت يده تتحرك بصورة ميكانيكية بالقلم الأحمر كمحراث يقلب الحقل ، الصفحات تصرخ أثناء تقلبها وكأنها تشاركه ألمه “ص32 ،يصف أحذية التلاميذ “تستطيع أن تعرف أن درسا يعقد فى هذا المنزل من عدد الأحذية التى تقبع كالحيوانات الرابضة أما باب الشقة “ص39، كذلك وصف الإعتداء على السيدة النوبية أثناء الفيضان بقصة مبدأ الريبة ص15
أما لغة الحوار فكانت مزيجا من العامية والفصحى وتميزت بالجمل القصيرة والمكثفة مثل

  • كويس يارب الامتحانات تيجى بسرعة ، خلينا نمتحن ونخلص
  • مستعجلة على إيه ؟ أنا وأنت أقلهن استيعابا للمناهج ، وأقلهن مستوى دراسيا ، نحتاج فترات أطول للمذاكرة “ص35.
    بالرغم من إعجابنا بهذه المجموعة القصصية فثمة بعض المآخذ عليها مثل ارتفاع صوت الكاتب وتدخله المباشر فى الحدث بل ومخاطبة القارئ فى مواضع كثيرة مثل “أرجو أن يبقى ذلك سرا بيننا كى لا تغير شخصيات القصة أحداثها إن علمت أننى أفشيت السر”ص80 ، “سأعود لاحقا لشرح ذلك بالتفصيل ..بعد انتهاء هذه القصة”ص112 ، “وأنا بدورى كاتب هذه القصة الملعونة ” ص85، كذلك تدخل الكاتب أوالسارد بالشرح فى فقرات كثيرة وطويلة أثقلت السرد وأوقفت حركته مثل شرح عملية إزالة “الإنتراكتكا” فى فقرة كاملة رغم ذكر أنها المياه البيضاء ص71 ، كذلك وجود فقرات أشبه بالمقال مثل التعامل مع النشأ ص31 والحياة الزوجية ص120 ، كذلك استخدم الكاتب نون النسوة فى حوار بالعامية كما فى المثال السابق ذُكر فى الحوار حيث وجد تفاوت صارخ بين الفصحى والعامية فى جملة واحدة .
    وفى ختام قراءتنا لهذه المجموعة القصصية البديعة لابد أن نهنئ الكاتب عليها وقد تميزت بالتقنيات الحديثة والثرية ، وباستخدام لغة سردية تميزت بالبساطة والجمال واحتوت على موضوعات متنوعة جمعت بينها همّ الكاتب بمجتمعه ونقده – دون مباشرة- أزمات بيئته التى يحيا فيها .
    قراءة بقلم مصطفى فودة

أضف تعليق