فن المزج بين الخيال والعلم والصوفية ..قراءة في” مثل رتينة كلوب قديمة” لحاتم رضوان

عبير سليمان.كاتبة وناقدة مصرية

في قراءتي الأولى لقصص د.حاتم رضوان اجتاحتني الحيرة وتساءلت : ترى ماذا أكتب عنها ، كيف أحلل نصوصاً أربكتني واستفزت ذاكرتي لتستعيد بعض التجارب من الماضي البعيد لأجدها تقفز أمامي ؟ كيف يمكنني تحديد التيمة أو المضمون الذي يجمع بين هذه التوليفة البديعة من نصوص تتناول أزمات الإنسان في العصر الحديث وصراعاته ومتلازمات الحياة والموت ، الفناء والخلود ، الدنيا ومتاعها والآخرة وجنتها ، كما لم يخف علي بروز الملمح الصوفي وأساطير التراث الشعبي في قصص” مثل رتينة كلوب قديمة ، نهاية المدى ، كرامات” .

من الأشياء التي استوقفتني عند القراءة الأسلوب السلس الانسيابي ، والتكثيف في معظم القصص ، فلم أشعر بملل ولم ألحظ أي زيادة أو إفراط في التفاصيل ، فأتى بناء القصص محكماً ، مما جعلها مشوقة وتجذب القاريء للغوص في معانيها وفي الصور المرسومة بعناية وبرهافة حس لافتة ، فاستمتعت بها وأعدت قراءتها أكثر من مرة ، وأخص هنا قصص ” استغاثة نار خلف النافذة ، مركب الشمس “.

لكن هناك قصتان بهما تفاصيل كثيرة ، ولكي أستوعبها احتجت القراءة مرة ثانية الخروج عن السطر ، بيرستيرويكا”

لفت نظري استخدام لفظ : يتثنى له  في القصة الأولى : يتسنى له “.

أول ما لفت نظري في القصة الأولى ” قصر يحيطه الفراغ ” أنه لم يحدد الزمن وتركه لتأويل القاريء ، تحتاج القصة تركيزا عاليا حتى لا يتوه القاريء بين الزمن الحالي الذي يقص فيه الراوي رحلته المؤلمة وبين الماضي الذي يتجسد أمامه مثل شريط سينمائي ، تتابع فيه المشاهد أمام عينيه ، كمن يشعر باقتراب أجله من فرط الألم والمعاناة فيستحضر رحلة حياته ، وقد برع الكاتب في وصف حالة الراوي إذ نجح في مزج عناصر متناقضة في صورة واحدة ، مما جعلني أنتقل معه من حالة لأخرى ، وعشت معه حالة الوجع الجسماني والروحي وحالة النشوة التي انتابته عندما عاد بالذاكرة لأيام المراهقة وتذكر أول مغامراته وأول قبلة ، ليعود متسائلاً هل ما أعيشه الآن تكفير لذنوب كنت قد نسيتها. !

كما تتجلى موهبة الكاتب في وصف المكان والأشخاص حول الراوي ، وصفاً اقرب للرمزية ودون إفراط في التفاصيل ، واختار عدم التصريح بأسلوب مباشر عن صفة السيارة التي تنقل المقبوض عليهم إلى مصيرهم المعلوم ، فأشار إلى حالته قبل دخول السيارة وبعد الخروج منها ، ليصنع لوحة تعبر عن الخوف والشعور بالضياع ، والفراغ هنا إشارة لغياب مظاهر وعناصر الحياة ، مثل المشاهد التي رأيناها في فيلم البريء مثلاً وجملة أحد أبطال الفيلم الشهيرة ” نحن الصحراء وليس حولنا إلا العقارب والثعابين ” ، وعادة ما يتم اختيار مثل تلك الأماكن للمبالغة في عقاب المغضوب عليهم من السلطة ، حتى إن مات أحدهم من التعذيب أو أثناء محاولة متهورة للهروب يتم دفنه ، ولا يستدل عليه “

السيارة هنا ذكرت مرة واحدة ، وفي مرات أخرى عبر عنها ب”صندوق مظلم ، الباب الحديدي للصندوق الخلفي .

لذا فإن اختيار كلمة القصر ربما المراد بها هنا السخرية والتهكم ، وعادة لا نجد الأسوار العالية تحيط إلا بالقصور أو السجون ، القصور تحاط بالاسوار بغرض الحماية وعدم التعدي عليها من اللصوص ، والأسوار في حلة السجون للتضييق على المساجين ولمنع هروبهم .

يصف أيضا حال من وجدهم قد سبقوه لنفس المصير ، وأنه مثلهم ” ربما ”  تعلو وجهه صفرة غريبة تشير للذبول والشحوب ، من الخوف وعدم النوم وفقدان الشهية للطعام .

ثم يستعرض لنا شعور الراوي بأنه مراقب ، فيجد أمامه شاشة على حائط الزنزانة ، كأن من  وضعها تعمد تذكيره بفكرة الحساب ، في إشارة إلى ما يوصف به العاملون بالسجون أو غرف الحبس بالأقسام بأنهم زبانية جهنم ، فيرى السجين من خلال الشاشة صحيفة أعماله تعرض عليه ، ليستعد للجزاء الذي ينتظره ، وفي مثل هذه الحالة هو يلقى عذابا أقرب لعذاب الآخرة ، على يد من يزعمون أنهم سفراء العدل في الأرض .

يسترجع أيضاً الراوي الحدث السابق لرحلته القاسية عبر طريق وعر يتأرجح بهم في منطقة جبلية ، فنجده يسرد مشهداً من أحداث ثورة يناير 2011 ، دون التصريح مباشرة عن الحدث ، واكتفى بالصورة الراسخة في ذاكرتنا للكوبري المحاط بسيارات الامن المركزي والسحب الدخان المتصاعدة من تأثير قنابل الغاز المسيلة للدموع ، ورشاشات الماء تقذف المتظاهرين لتفريقهم وترهيبهم ومنعهم من التقدم باتجاه ميدان التحرير .

ويظل مصير الراوي معلقاً ، وبعد انتقاله عدة مرات من حالة اليقظة للحلم ، ثم اليقظة مرة أخرى فحلم آخر يعبر عن رغبته في الحرية ، يرى أمامه شباكا يحاول الهرب منه لكن الحلم يسلمه مرة أخرى للخوف والضياع وحالة التعلق بين الأمل في الحرية واليأس من بلوغها.

مثل رتينة كلوب قديمة ، نهاية المدى ، كرامات .. الملمح الصوفي وأثر الأولياء الصالحين وما خلفوه من حكايات حول معجزات اقرب لأساطير من وحي الخيال ، أو مستوحاة من بعض الحكايات التي بنيت على حوادث حقيقية تداولتها الأهالي وتناقلتها العائلات  من الجد للأب ثم الحفيد ، فرسخت في الأذهان ودعمتها تكرار بعضها في صورة أخرى ، مثل حكاية :” الشيخ منصور في رتينة كلوب قديمة الذي يحكي عنه الاهالي وعن روحه الطاهرة التي تحرس المدينة من الشرور المحدقة بها واليد التي امتدت لمروان بعد كان كادت دوامة أن تبتلعه فيغرق ، فأنقذته اليد المتتدة وانتشلته من الشط والوجه الذي يضيء في الليالي الحالكة واليد الممسكة بعصا كلما رفعها الشيخ أضاءت كالسراج ، وجثته التي بقيت على حالها عندما دخل إلى مقامه عم حسين خادم الجامع ” ، ويحمل المشهد الاخير دلالات حول كيف يفنى الجسد ويتحول القبر والكفن إلى رماد أو تراب ، بينما تظل الحكاية حية وخالدة في الاذهان ، وتظل مترددة على لسان الأهالي من جيل إلى جيل .

 

 

قصة : نتيجة حائط لعام 81

رأيت فيها نموذجاً يعبر عن المخاوف التي تطارد الإنسان ، يعبر لنا الراوي من خلال حكايته عن مشاعر القلق والحيرة عندما أبغه أبوه بأنه مطلوب للمثول أمام جهاز الأمن الذي ما أن يلفظ اسمه حتى يهوى القلب بين القدمين ، ويصاب الإنسان بالرعب وإلى أن يأتي موعد اللقاء المرتقب داخل جدرانه وبين أروقته ، وتعصف بعقله التساؤلات : ترى ماذا فعلت ؟ مع من نسيت نفسي وتفوهت بما لا يرضى السلطة ” الحكومة” فتطوع لفعل الخير بالإبلاغ عني ، وتقديمي لمسئولي الحساب ” ناكر ونكير ” والتعجيل بدفعي للدار الآخرة لتذوق نفحة من جحيمها مقدما .

ليفاجئنا بأن سبب مثوله شديد التفاهة ويثير السخرية ، مما يدفع القاريء للتبسم متهكماً من حدث يتكرر كل لحظة ، لكنه في الواقع قد يدفع إنسانا للهاوية ، لمجرد وشاية من أحد مبعوثي الأمن الحمقى الذين قد يغضون الطرف عمداً عن المتآمرين الحقيقيين ، ويقدمون في كشف حسابهم أشخاص أبرياء لا ضرر منهم لمجرد شكوك لا أساس لها.

الخروج عن السطر : تعكس القصة حالة التمرد والرغبة في تحطيم القيود التي تكبل حركة الإنسان وتتمثل في الالتزامات اليومية والارتباط بالعمل والاضطرار للجلوس خلف المكتب لساعات في غرف المؤسسات الحكومية ، والتقيد بالارتباطات العائلية ، فاختار البطل يوم عطلة ليخرج زاعماً أنه ذاهب لعمله بينما هو يوم جمعة ، ولا عمل فيه ،  ” ذكرتني بفيلم البحث عن سيد مرزوق” نور الشريف.

متحف الذكريات  الجد وحالة الحنين والشوق واللهفة لأيام عاشها مليئة بالطاقة والحيوية وعنفوان الشباب ، الحب والرغبة في لقاء حبيبة فارقته”

استغاثة والعودة لأسطورة النداهة الشهيرة في الريف المصري ، لكن القصة جاءت مختلفة هنا في رمزيتها ، وترك الكاتب الباب فيها مفتوحاً على مصراعية للتأويلات .

نار خلف النافذة  كيف كان المحب يرى فتاته التي اضطر لفراقها تنظر له من خلف النافذة في البناية المقابلة ، وكيف جعلته حادثة احتراق الغرفة يدرك أنه كان يرى خيالات ، صنعتها مشاعره وشوقه لمحبوبته .

أضف تعليق