عطش ..قصة: مروة بصير

      لذكريات الطفولة السعيدة عبقها الندي، وللحوادث التي هزت طفولتنا أثرها المدمر، والذي قد يثيره حدث اعتيادي عابر. يرسل لي صديق عبر الواتساب رابط لمنصة إحسان لحفر بئر في دولة ما، أغص وأتبرع بما تيسر، والغصة تعيدني إلى عمر غض في طفولتي.. إليكم ما حدث:

“أركز نظري خارج نافذة السيارة التي لا أعرف وجهتها بالتحديد، والدي يقودها ببطء يسمح لي قراءة لافتات المحال التجارية، والدتي تتشاجر معه، حول.. حول ماذا هذه المرة؟ آه نعم حول المنزل الذي سننتقل إليه مضطرين وللمرة الثالثة خلال سنتين.. تريد منزلاً أفضل، هذا لا يعجبها لأنه.. ويغيب صوتها عني، وأسرح في الطريق.

يعيدني صوت والدي وهو يهددها إن لم تصمت! شجارهم دائم ولم يعد يخيفني لكنه ما زال يفزع أختي بعض الشيء، أشعر بيدها تشد على يدي فألتفت إليها أبتسم وأشد على يدها.

انتبه إلى أننا نقترب من الحديقة العامة.. أهتف نريد النزول واللعب، وأحشر رأسي بين أمي وأبي اللذين يخرسهما الذهول.. أرجوكما: دعونا ننزل هنا في الحديقة، وخذانا في طريق العودة، أرجوك أبي!

يلف أبي المقود بنفاذ صبر؛ ويوقف السيارة: حسناً انزل وانتبه إلى أختك.

تفرح أختي وتطلب ريالاً، لكن أبي يشير بيده ليس معي الآن، ولن نتأخر انزلا!

ننزل جرياً نحو الألعاب، تحتل أختي أرجوحة، أما أنا فأتسلق رأس الزحليقة التي على شكل طائرة، وأراقب لهو أختي من علو، أناديها لأعلن لها: تعلمين سأصبح طياراً ذات يوم. تضحك هي بفرح وكأني قد صرتُ طياراً بالفعل!

تأتي أختي لاهثةً بعد برهة وتقول إنها عطشى.

ويوقظ قولها العطش داخلي.. فأرد: وأنا أيضاً لكن لن يتأخر أبي سيعود قريباً لأخذنا.

يمضي بعض الوقت الذي أشعر أنه طويل.. العطش يزداد وأشعر بجفاف حلقي.. أختي تجلس تحت جناح الطائرة. أقفز وأنضم إليها.

أختي: لقد تأخر والداي، مرت خمس ساعات، أنا عطشى يا خالد

أضحك وأقول: لا لم تمر خمس ساعات، لم يؤذنَ لصلاة المغرب حتى.

أريدُ ماءً، أرجوك!

أتلفت عن يميني ويساري، لأرى فتى بعمري يتجه نحو أسرته التي تفترش الأرض قريباً منّا.

أمسك يد أختي وأتبعه ثم أقف قريباً منهم وأطلب منهم كأس ماء لأختي.. تشربه كله.. أعيد الكأس فتملؤه أم الصبي وتمده لي، آخذه بعد شكرها وأشرب منه قليلاً فتشد أختي ذراعي وتطلب الباقي.. أعطيها، وأنا لم أرتوِ بعدُ، يا إلهي ما هذا العطش!

كان عطشاً حاداً لا تكفيه كل مياه الدنيا، أو ربما هو عقلنا يركز في المسألة، بل إن كل تركيزنا كان على الماء الغائب وحناجرنا الجافة، كان عطشاً مخلوطاً بفزعٍ لا أعرف مصدره!”

حين كبرت عرفتُ اسماً آخر لهذا العطش الذي لا يرويه قليل ماء، إنه الفقر!

 

أضف تعليق