التحديات الثقافية في عملية تذويب العالم.بقلم: د. محمود الضبع

كتاب «عملية تذويب العالم » لسيد الوكيل يدخل في هذا السياق الذي يقرأ الثوابت المعرفية التي تتحرك البشرية في إطارها، ويوسع من مساحة الرؤية لتشاهد العالم على اتساعه في ثوابته الجديدة التي فرضها التطور البشرى، والسياسات العالمية والتكنولوجيا وكسر الحدود، والمجتمع المفتوح وغيرها من الثوابت المستحدثة التي غيرت وجه العالم وأعادت صياغة الإنسان، وبالتالي أسهمت في تقسيم البشرية لقسمين: احدهما يمتلك أدوات الإنتاج وبالتالي التأثير في تحريك المشهد وتحقيق أهدافه بنسب متفاوتة وإخفاقات ونجاحات.

وثانيهما يلهث في الحفاظ على وجوده القديم بالمفاهيم التي توارثها، والمعارف التي امتلكها مع محاولة التعلم وامتلاك أدوات الإنتاج، ولكنه مشتت بين الحفاظ على ماض بعض ثوابته المعرفية صالحة للآني، وبين محاولة اللهاث لمواكبة الحاضر والمستقبل.

مثل هذه القراءة التأملية التي يتعرض لها كتاب «عملية تذويب العالم) هي مختلفة نسبيا عن المألوف والسائد من قراءات للمشهد الآن لأسباب عدة :

 أولها أن كثيرا من الثوابت التي نشأت البشرية عليها تغيرت بالفعل الآن، ولكنه تغير يمكن استيعابه بمفهوم النظم التكنولوجية التي تعمل في الخفاء، دون أن يعرف مستخدمها كنهها أو مسار اشتغالها، فمعظم الذين يستخدمون برامج الكمبيوتر والهواتف الذكية – مثلا- لا يعرفون أسرار هذه البرامج، ولا يدركون تأثيرها على طريقة تفكير الإنسان.

 وثانيها أن المشهد العالمي غير مستقر بالفعل، فحتى الدول الصانعة للتكنولوجيا والميديا المتحكمة في تحويل مسارات وجهات نظر العالم مثل كسب الدعم العالمي مع لاجئي سوريا، ثم تغيير وجهات النظر إليهم مثل هذه الدول مهددة هي أيضا بالإرهاب العالمي الذي تصنعه بعضها، ثم يفلت من يديها وبالصراعات التكنولوجية بين القوى الكبرى في عالم الإنتاج وحروبها المتواصلة.

 ويمكن فهم ذلك بمثال شركة “نوكيا” في إنتاج الهواتف المحمولة وبيعها نظام سمبيان الذي تعمل به أجهزتها، فبعد أن كانت نوكيا ونظامها يهيمنان على مشتروات عالم الهواتف المحمولة، نافسها نظام أندرويد بهواتف سامسونج وغيرها وما لبث أن دخل هو الآخر في صراع مع نظام قديم جديد استطاع أن يطور نفسه، وهو نظام آي أو إس” وهواتف أي فون.

 إذاً هو صراع متواصل لا يمنحك الشعور بالراحة أو الاستقرار، وبالتالي يجعل الدول ومالكيها في حالة عدم استقرار بالتبعية.

من هذا الاستقراء وأشباهه يبدأ كتاب “عملية تذويب العالم ” في إعادة ترتيب الذهن كما يعلن مؤلفه – عبر تأمل الكثير من ملامح المشهد الثقافي العالمي ومحاولة فهم العلاقات البينية بين السرديات الكبرى الجديدة في عالمنا اليوم «العولمة وما بعد الحداثة وتكنولوجيا الواقع الافتراضي حيث قضت التكنولوجيا على الكهنوت العلمي والمعرفي وتعددت المصادر المعرفية والثقافية والعلمية فأصبح في الإمكان لأي إنسان أن يحصل على معلومات طبية مثلاً حول مرض ما، والأدوية التي يمكن تعاطيها وتأثيراتها الجانبية، وغيرها.

 وفي هذا الإطار تراجع العلم المعملي بوصفه رمًزا للقوة وظهرت الثقافة بوصفها القوة الناعمة الأكثر فعالية وذلك عبر مفاهيم التفكيك، وما بعد الحداثة، وهو ما أعاد توزيع ميزان قوى الدول على الأرض، فظهرت مثلاً: دول مثل ماليزيا والبرازيل وإيران وتركيا وغيرها وتوارت إلى الوراء دول كانت لها مكانتها من قبل.

 يطرح الكتاب أفكاره حول التفاعلات الثقافية المتعددة التي يعايشها الإنسان المعاصر، التي أثرت بالضرورة علينا مثل هيمنة الأسطورة على الفكر الإنساني في طريقته لإدراك العالم منذ أقدم العصور وحتى الحداثة التي جعلت العقل بديلاً عن الميتافيزيقا. العقل الخادم “لقيصر» وهو ما جعل الإنسان حائراً تعيساً بفعل ما عايشه في القرن العشرين من أكبر عملية هدم وبناء مرت عبر التاريخ، بسبب إضافة بعد الزمكان الذي قلب معايير الوجود.

يناقش الكتاب قضايا جوهرية في حياتنا المعاصرة حتى وإن كانت خفية وغير ظاهرة للعامة، مثل: علاقتنا بالتاريخ الذي كنا ننظر إليه بوصفه أحد مكونات الهوية، وهو ما كان يمنحنا الأمان والاطمئنان في الحياة، غير أن الواقع المعاصر استدعى النظر إلى الماضي بغضب، بفعل التكنولوجيا التي قاربت بين الزمان والمكان، وبفعل التشظي والتفتيت الذي غدا يعيشه العالم، وهو ما ظهرت آثاره في الأدب والفنون، فبعد أن كانت محاكاة الماضي هي القدرة على التمكن، غدت عملية لا تلفت الانتباه من أساسه. وتحول بموجبها الفن إلى التقنية، حيث يمكن رصد التشابهات التقنية في كثير من الأعمال الإبداعية على مستوى التقنية والهيكل، مثل اعتماد عمارة يعقوبيان للأسواني، على استعارة تقنية ميرامار محفوظ، وغير ذلك كثير في الأدب يعرفه المختصون وأصحاب الوعي.

 هذه التفاعلات الثقافية في إجمالها، هي ما يمثل القسم الأول من الكتاب، والذي يرصد علاقة الإنسان بالماضي، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالمحاكاة الساخرة التي تدفعه للسعي قدماَ للأمام، مدفوعاَ بالرغبة المحمومة في خوض مغامرة المستقبل مهما كانت عواقبها أو نتائجها. فما الذي يهيمن على الإنسان ويدفعه لهذا التأمل في الكون من حولنا؟.

ويأتي القسم الثاني من الكتاب بعنوان تمثيلات ثقافية ليتأمل قوى الثقافة الفاعلة التي لم تعد نتاج فكر الفلاسفة، والساسة كما كان الأمر عبر التاريخ. ذلك أن التكنولوجيا خلخلت المعنى الميتافيزيقي للفن والثقافة وبالتالي تغيرت المفاهيم كلية، ولم يعد الفصل حاداَ بين شيئين وإنما غدا التداخل والاشتباك والتقاطع سمات طبيعية في كل المفاهيم والسرديات الكبرى، بل والحكايات المركزية للدين والفن واللغة والأساطير…. الخ» حيث لم تعد هذه الحكايات تكتسب سلطتها في الهيمنة على المعرفة والفكر الإنساني. ونشأت ثقافة ثالثة لا تحتكم لآلهة الماضي ولا للموروث الشعبي، وإنما إلى الامتزاج بين ثقافات العالم التي أعادت تشكيل وعى الإنسان المعاصر، وهو ما يمكن تأمله حول مفاهيم الشباب عن الثقافة وإنتاجهم اليومي لها.

 وتأتي قصة الأنا والآخر، والشرق والغرب لتختتم هذا القسم، وتصل لنتيجة تقتضي التأمل حيث يقول: “تتعرض القيم الثقافية إلى تآكل سريع في عصر الصورة، وتتفتت المعرفة نفسها إلى فضاء شاسع من المعلومات الصغيرة والجزئية. وتتعرض معها الخصوصيات الثقافية إلى التشوه، وتخلق صوراً افتراضية بديلة من الواقع” ص١٦٠، ١٦١ .

إن الخطورة الحقيقية على واقعنا انطلاقا من هذا هو التحول العربي إلى الاستهلاك لا الإنتاج، وحتى إن حدث، وكان هناك إنتاج ثقافي عربي فسوف يخضع منذ بدايته لشروط السوق، وهو ما سيخلق فجوة حضارية في العلاقة بين المنتج والمستهلك.

في القسم الثالث والأخير للكتاب بعنوان “حكايات منحازة”  يعالج الكاتب قضية حضور المرأة في الفكر الإنساني منذ التراث اليوناني وأساطير حرب طروادة مرورا بالتراث العربي وحكايات ألف ليلة وليلة، وانتهاء بالحركات النسوية المعاصرة والتي تنظر للمرأة عبر منهجين علميين: أحدهما سياسي بالدعوة إلى المساواة والاحتجاج والإضراب، والآخر ثقافي يستهدف تنقية وإبراز دور المرأة، وتخليصه من الشوائب التي لحقت به عبر التاريخ.

 ويختتم الكتاب بمناقشة علاقة الإنسان بالجسد ثقافياً خاصة مع التكنولوجيا المعاصرة التي عمقت هذه العلاقة، وساعدت الإنسان على تكوين صورة أكثر تفصيلاً عن جسده، غير أنها في الآن ذاته كشفت عن اضطراب علاقة هذا الجسد بالعالم الحديث، والتناقض بين سعى العلوم البيولوجية لخدمته وصيانته وبين تحول هذا الجسد نفسه إلى سلعة «الحروب، وتجارة الأعضاء البشرية وغيرها»، ويدلل الكتاب على ذلك الحضور بأن ما يسمى ثورات الربيع العربي بدأت بإشعال شاب تونسي للنار في جسده، وفى جسد الشاب خالد سعيد في مصر وهكذا يصبح الجسد موضوعا سياسياً.

وفي الختام، فإن سيد الوكيل في هذا الكتاب يفتح الباب للقراءة الثقافية لأوضاعنا العربية في سياق التطورات الإقليمية والعالمية، والتحولات التي طرأت وتطرأ على العالم من حولنا. هذا الباب الذي لا يكفينا مجرد عبوره لنستشعر الأمان، وإنما نحتاج إلى العديد من الدراسات والبحوث والقراءات التي نأمل أن ينتبه لها الباحثون والمثقفون والمختصون لنتحرر من تلك الدراسات التي تكتفي بالقياس على الماضي وأمجاده إلى تلك الدراسات الكاشفة للمشهد وتداخلاتها إنها ضرورة وليست مجرد إثبات وجود .

أضف تعليق