نار خلف النافذة

قصة: حاتم رضوان

 

    وداع مرير بطعم قصة حب طويلة خنقتها يده القصيرة، لا يملك غير بيت صغير وبسيط ورثه عن أبيه، أشبه بالكوخ، أقيم على أطراف القرية حيث يبدأ طريق الجبل والمقابر، لم يرَ فيه من الدنيا غير الجنازات الصاعدة إلى نهايته، أو قاطعي الطرق واللصوص والقتلة، يتسللون إليه ليلًا لتبتلعهم الكهوف والمغارات الموحشة في دروبه غير المأهولة..

  أصدر أبوها الفرمان، فقير وجميلة لا يجتمعان، لؤلؤة فريدة يندر وجودها في هذا العب من الصعيد، جسد فائر وممشوق، شعر بني تنفلت خصلاته دائمًا من تحت الطرحة، لتتطاير مع الهواء، بشرة سمراء وعينان خضراوان، عشقهما حتى النخاع، تقدم إليها لا يحمل غير حبها في قلبه الأخضر، سقط رفض أبيها كحجر أفلت من قمة الجبل فوق رأسه: قل لي سببًا واحدًا أترك هذا الطابور الطويل من الخُطاب، أرض ومال وعز، وأقبل بك. 

   خلَّفَ وراءه حبيبته والبيت والجبل وطريق المقابر، وقرر الرحيل، كانت هي الدافع والسبب الوحيد لبقائه، واحتماله عبوس الحياة وقسوتها، ما الذي سوف يتبقَّى له من بعدها؟ تراب وقش وأشياء لا تساوي ثمن حملها، لن يطيق رؤيتها تُزف في طرقات القرية، أو أن يستمع للزغاريد وأغنيات البنات عن الفرح والعريس والعروسة وليلة الدخلة. 

   انتهى به المقر: غرفة فوق سطح بناية قديمة يطل في البعيد على القلعة وجامع محمد علي ومشهد للقاهرة كلها تعلوها بالنهار سحابة صفراء لا تنقشع، وبالليل تتناثر الأضواء عبر مساحة من ظلمة لا نهائية، أتى بقلب متهتك، يفيض بحزن مقيم، مودعًا قريته البعيدة الراقدة في أقصى الجنوب، مثل مقبرة من مقابر أعلى الجبل، شيع إليها حبه وحبيبته وأيام عمره الفائتة، واراهم الثرى، وأقام شاهدًا عليها، ثم غادر إلى هنا بوجه جامد ومنحوت من حجر، تنطق ملامحه بتراكم كل هموم العالم فوق سطحه، خرج مثل فرعون تائه من جدران أحد المعابد، يبحث عن شيء ضائع، أو كهارب من معركة خاسرة، تحمله عربة قطار درجة ثالثة، وجد نفسه محشورًا فيها مع سرة ملابس وأشياء قليلة، لأول مرة في حياته يترك دنياه التي ولد وعاش فيها، بكل ما بها من ألم وأسى، خيبات وفشل، شظف وفقر، ليدخل دنيا وحياة جديدة، عالمين يفصل بينهما محطات – في نوبة توهانه – فشل في عدها، وساعات سفر طويلة لم يحسبها، ساعده قريب له على اقتحامها، وتعريفه على أبجديات الحياة بها، استقبله على رصيف المحطة، واستضافه لأيام حتى يسر له مستقبله بها، أملى عليه نصائح السابقين، احتفظ بها طوال سنين مكوثه في قلبها، وأضاف عليها من خبراته، أشار له على مواضع الحذر، ومواطن الزلات والهوى، ليتركه محصنًا من فتن مدينة الألف مئذنة،  تؤويه غرفة ملحقة بمنافعها، تطل على عالم جديد، بيوت غير البيوت، تواجهه أينما ولى، متلاصقة وقريبة، وجيران يسكنونها لا يعلم عنهم شيئًا، أعمالهم، أخلاقهم، وطبائعهم، علاقات بعضهم ببعض، هل ولدوا وعاشوا فيها من زمن أبًا عن جد، أم جاءوا من بلاد وقرى، فارقها كل واحد منهم لسبب ما مثلما جاء، يراهم يتحركون خلف الشرفات والنوافذ كأنه يعيش معهم، تصله أحاديثهم ومشاحناتهم ومشاجراتهم، وتأوهاتهم، يسمع كركرة مياه الجوزة، ويشم دخان الشيشة والسجائر المحشوة بالحشيش والمختلطة برائحة أبخرة الطبيخ، يشاهد ملابسهم منشورة ما دقَّ منها وما خفي، تحتضنها الحبال الممتدة أمام الشرفات، يتابعها كل ليلة حينما يعود بعد انتهاء ساعات عمله الشاق، يحفظ أشكالها ومقاساتها وألوانها، يتعرف عليها ولمن تنتمي من سكانها: نساء، رجالًا أو أطفالًا، صارت هوايته الوحيدة التلصص على الغرف والحمامات المضاءة لعله يلمح ما يود رؤيته، سيدة بقميص نوم مبتل، يلتصق بجسدها في إثارة، تنشر تحت ستر الليل الملابس المغسولة توًا، أو تقوم بتنفيض كليم أو سجادة، أو تزيل الأتربة المتراكمة خلف شيش، أو حول شباك.

    ولأول مرة منذ قدومه، كانت نافذة غرفة السطح في البناية المواجهة مواربة، تلمع من خلال فتحتها الضيقة عينان لفتاة لم يستطع التقاط أي ملامح لها، لا يدري لحظتها سر استدعائه وجه حبيبته، تخيل أنها هي، هربت من أهلها وزوجها المرتقب، وأتت وراءه في محاولة للبحث عنه، تأكد بالفعل كانت الفتاة تراقبه وتتبعه، وفجأة دون مقدمات فتحت ضلفتي النافذة لثوان، كانت تبتسم له وترميه بنظرة دكت جدران أحزانه، يتحصن خلفها من أي علاقة جديدة، قد تدفع به للجنون أو الانتحار، ثوان وأغلقتهما، ظهرت له في قميص نوم عاري الكتفين ومفتوح، يشع جسدها بوهج سريع الاشتعال، انتقل إليه مباشرة رغم ما بينهما من مسافة.

     كانت كل ليلة وفي وقت محدد تضيء نور الغرفة الخافت، تترك شيشها مفتوحًا ليشاهد ظلها يتحرك خلف زجاجها المغبش، وكأنها في رقصة لخلع ملابسها ببطء، ترفع يديها لأعلى ثم تنحني لأسفل تمسك بأشياء تعلقها على شماعة خشبية قائمة، لتظلم الحجرة من جديد وينقطع المشهد المثير، يخمن أنها ممددة الآن على السرير، تنتظره، تزحف نيرانها العابرة، لتستقر تحت جلده، تشعل كل خلاياه وأعضائه النائمة، يغمض عينيه على وجهها، وجه حبيبته، اختلط عليه الأمر، تقبلُ نحوه فاتحة ذراعيها، ترتمي في حضنه، يتعانقان ويتعاشقان حتى الصباح، يصحو مرتخيًا ومهدودًا، كل جزء في جسده يؤلمه، يصلب طوله بالعافية، يمارس طقوسه، وقبل أن ينزل يلقى نظرة طويلة على نافذة الغرفة المغلقة، وبابها المغلق، ساكنة في النهار مثل قبر، وعامرة في الليل مثل مسرح كبير.

    هزه اليقين هل كانت أحدى ليالي الربيع؟ كان ممسكًا بكوب شاي صعيدي، ثقيل، يرتشف منه بتلذذ، ينظر نحو النافذة المواجهة وينتظر، فُتحَت ضلفتيها عن آخرهما، وانسابت أمامه من ثنايا الضوء الخافت، لم تخفض عينيها عنه، فكت مشبك شعرها وألقت به طليقًا على كتفها العاري، اعتلت منضدة خشبية، كانت في مواجهته تمامًا، ترتدي قميص نوم أبيض بحمالتين، يشف عن جسد ريان، كتلة من نار، ثديان متكوران، وخصر ضامر، حزَّمت ما تحت وسطها بإيشارب أسود وبدأت في رقصة إغراء ماجنة، خصتها له وحده، كانت تتمايل في دلال وإقبال على نغمات موسيقا لم يسمعها من قبل، فجرت فيها كل أشواقها المكبوتة، وكانت نظراتها المنطلقة نحوه فصيحة، ومغوية، ترشقه أينما حلت، تدعوه إليها في الحال.

    تفاهما معًا بالإشارة، رسما بالأيدي قلوبًا وعلامات تدل على الشوق والحب والهيام وأمنية باللقاء العاجل، أشارت له أن يأتي دون ابطاء، طمأنته أنها بمفرها ولا أحد معها، نزل مسرعًا، تتعالى دقات قلبه مع كل درجة سلم يهبطها، تسلل عابرًا الشارع الضيق إلى البناية المواجهة، كانت سلالمها مزدحمة بالصاعدين من أهل الحارة يحملون على أكتافهم جرادل وصفائح مملوءة بالماء، يتصايحون: حريقة.. حريقة.  وكأنه جاء للمساعدة، صعد معهم كانت غرفة فتاة النافذة تحترق، تصاعدت منها ألسنة اللهب عاليًا نحو السماء، وضع يده على صدرٍ يعتمل بخوف حقيقي، وتساءل في نفسه عن مصيرها وهل ما زالت بالداخل، كيف لحريق أن يندلع في دقائق قليلة تساوي زمن نزوله من غرفته أعلي السطح إلى عرض الشارع؟ ومتى تجمَّع كل من حوله؟ رأى جرذان مشتعلة تتقافز من داخل الغرفة، وشظايا متطايرة في كل اتجاه، أرسل عينه وأذنه إلى الداخل لم يلمح أحدًا ولم يسمع أي صوت لاستغاثة، سأل أحد الواقفين إلى جواره: حد من السكان جرى له حاجة صدمه الجواب وهو يشير بأصبعه نحو  مكان الحريق: غرفة خزين مقفولة من زمان..  فيها شوية كراكيب.

 

 

 

 

 

 

 

أضف تعليق