القاهرة.. صخب الحياة. بقلم: سيد الوكيل

هل تظن القاهرة مدينة، مثل كل مدن العالم؟

اسمعني جيدًا: أنا ولدت وعشت عمري الذي جاوز الستين في القاهرة، أنا كتبت عنها قصصًا وروايات، تفقدت شوارعها وحواريها وأزقتها، لعبت الكرة مع الأولاد تحت كباريها، دخنت الشيشة وشربت الشاي الأسود على مقاهيها، حملت كاميراتي وصورت ملامحها المتقلبة، فملامح الصباح غيرملامح الظهيرة والليل. حتى الغرباء الذين يعيشون في القاهرة يقولون: القاهرة في الليل مدينة أخرى غير تلك التي نراها في النهار. الذين عاشوا فيها عمرهم-مثلي- رأوا أكثر من ذلك: رأوا حزنها العميق يوم مات عبد الناصر، وخوفها مما تخبئه الأيام يوم مقتل السادات، وغضبها العارم يوم إسقاط مبارك. وبعد كل ما عشتُ وشفتُ –صدقني- لا أجرؤ على أن اقول لك أنني قد فهمت القاهرة. بل اسمح لي عزيزي الذي لم تزر القاهرة أن احذرك: القاهرة ليست مثلما تراها في أفلام السوبكي: شرذمة من البلطجية والمدمنين، ولا هي واضحة على هذا النحو الذي نراه في مسلسلات أسامة أنور عكاشة (مجرد تكوين طبقي قلق يغلب عليه الصراع الاجتماعي). ولا هي كما في روايات نجيب محفوظ، خمارات قديمة، ونساء ليل، وأفندية مأزومين وجوديًا.. هذه مجرد صور ذهنية ونمطية عن القاهرة، هل تعرف لماذا؟

لأن القاهرة ليست مدينة مثل أي مدينة يمكن فهمها ببساطة.. أنا شخصيًا أعتقد أنها ليست مدينة على الإطلاق. القاهرة كائن ضخم.. ربما ديناصور أو حوت. هذا تعبير مجازي لا أكثر، فهي مدينة صغيرة في مساحتها، ضخمة في فعالياتها وحيويتها، وعشاقها، ونزقها. أغلب الظن، هي كائن بلا هوية على الإطلاق، لكنه حي، يتضخم ويتمدد حتى الترهل فتصبح ملامحه أكثر انبهامًا وتشوهًا. ويصبح سكانها مثل العميان الذين يتحسسون فيلًا، يمسكون بأجزاء منه ويظنون أن هذا هو كل شيء، وفي اليوم التالي يكتشفون شيئا جديدا، فلا شيء يتوقف فيها، ولا شيء يكتمل في وعي ناسها. نظل نحن أبناء المدينة لانعرفها، فتظل هي بلا هوية، على الأقل بالنسبة لنا، نحن سكان القاهرة.

أكثر من قاهرة

الواقع، أن هوية القاهرة موزعة على هويات الملايين من سكانها النازحين من كل المحافظات والقرى. ومع ذلك، فكل صباح يدخلها قرابة 2مليون شخصًا يفدون من الأقاليم والقرى لقضاء مصالحهم ويخرجون منها آخر النهار. سكان الأقاليم في عموم مصر، يسمون القاهرة (مصر)، يختزلون الدولة كلها في مدينة واحدة، لم لا؟ فهي أقدم المراكز الإدارية في العالم. بالتأكيد بعض زوارها اليوميين يعلقون فيها ولا يخرجون منها، وبعضهم يقيم على جوانبها تجمعات تناسب ثقافتهم الريفية، وتتأثر تدرجيًا بثقافة المدينة. هكذا تنشأ العشوائيات، أشبه بأورام سرطانية، تنشط بجنون وبلا هدف غير التهام المزيد من الخلايا السليمة، هذا الجسد المتورم نسميه (القاهرة الكبرى) ويتكون من 22مليون نسمة. هذا غير الوافدين من بلاد الله المنكوبة بحروبها الأهلية والعرقية والدينية.. إلخ.

 مدام سوسن تركت مكتبها لتتسوق

في الواقع، هناك أكثر من قاهرة: هناك القاهرة الخديوية، التي نسميها وسط البلد، وهي المركز الإداري لمصر كلها. الأمر هكذا: قلب صغير يخفق باضطراب وجسد ضخم يتمدد. ثم هناك القاهرة القديمة (المملوكية  والفاطمية) ثم القاهرة العشوائية التي تحيط بكل هذا، وتحاصره. لكل قاهرة منهم زمان ومكان مختلف وهوية ثقافية، وبحكم هذا التكوين ( الزمكاني) المركب، تبدو (القاهرة الكبرى) كيانًا حيًا يتعذى من روافد عدة، ويتضخم باستمرار، ويستمر في تشويه هويته. وهكذا، فالقاهرة ليست مدينة، هي حراك سكاني ضخم ومتعدد. فالناس هم الذين يشكلون الحياة بطريقتهم الخاصة، يفرضون حضورهم على المكان، الناس هم الذين يحددون مواقع الأسواق، ومواقف السيارات، ومقالب الزبالة، بل ويصنعون المطبات الاصطناعية في الطرق بأنفسهم. وعلى الرغم من تشدق البعض بغياب الحرية، فإن القاهرة تجاوزت الحرية إلى حالة من الفوضى. الحقيقة أنه ركام سنوات  كانت طوال الوقت مصحوبة بفكرة غياب الحرية من أيام ناصر حتى الآن. من حسن حظ القاهرة أنها لم تتأثر بهزيمة  خمسة يونيو فلم نر قذيفة واحدة تعبر سماءها. ربما لهذا ظلت القاهرة تعيش على سجيتها الأولى، خلافا لمدن أخرى مثل الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، اضطرت لإعادة بناء ذاتها من جديد بعد انتصار أكتوبر.

ما القاهرة إذن؟

القاهرة كتلة من الغرباء، لا يعرفون بعضهم. وطريقتهم في التعارف هي: كل جماعة تتلاقى  وفقا لمصالحهم يحددون بأنفسهم ملامح المكان: في العمل والسكن، والصلاة، والتنزه، والتعليم، والأفراح والمآتم.. باختصار، يحددون طريقتهم للحياة. الطريف أن الغرباء ينجحون في ذلك أكثر من أهل القاهرة أنفسهم، فيكفي مثلا، أن يكون ينزح شاب من قرية إلى القاهرة، قاصدا لواحد من بلدياته ليصبح  صحافيا، أو تاجرا، أو مقاولا بين يوم وليلة، فيما شباب القاهرة على المقاهي يجلسون.    

إذا كنت تريد أن تفهم أكثر، سأصحبك إلى قلب القاهرة (القاهرة الخديوية) وبالتحديد: منطقة المنيرة، حول ضريح سعد زغلول، وفي الساعة الثانية بعد الظهر. لا تندهش إن رأيت ضريح زعيم الأمة محاطًا بالباعة الجائلين، هؤلاء تسللوا من العشوائيات وفرضوا وجودهم على قلب القاهرة. هنا يتركز أكبر عدد من الموظفين في مصر. إنها منطقة تجمّع الدواوين والوزارات السيادية والهيئات الحكومية والدستورية بل والبرلمان نفسه، فضلًا عن مؤسسات ثقافية وإعلامية كبرى مثل: روزا اليوسف ودار الهلال. ثم عمارات وفيلات قديمة فرنسية وإيطالية الطراز، يحلم مالكوها أن يتخلصوا من سكانها القدامي، ويؤجرون بدروماتها كمخازن لبضاعة هؤلاء الباعة الذين يفترشون كل شبر في المنطقة، ويزحمون قلب القاهرة بصخب وعنف  لا يحلم به فوكنر نفسه.

مدد يا أم هاشم

.

في الماضي، كانت ( المنيرة) هي واسطة العقد بين (جاردن سيتي) حي الهوانم والباشوات من ناحية، ومن الناحية الأخرى حي السيدة زينب حيث تبدأ القاهرة القديمة الأصيلة وفتواتها القدامى. لكن السيدة هي الحي الأكثر شعبية والعهدة على (يحي حقي). فحول مسجد السيدة زينب، وفي حماها يسكن المتصوفون والعجائز والأرامل والعوانس والمجاذيب، والدراويش، المغتربون، والشحاذون، وفي ذكرى مولدها ترى المنشدين، والمداحين وباعة الشاي والقرفة والزنجبيل والمتحرشين والمثليين. وبدلا من أن يستنجدوا بالجبلاوي، يستنجدون بأم العواجز..مدااااد يا ست.

 هؤلاء يمكن أن نسميهم بالحرافيش من أجل خاطر عمنا نجيب محفوظ.

كان ضريح سعد زغلول وما حوله من مبان حكومية رمزًا للطبقة الوسطى. سكان المنيرة كانوا من هذه الطبقة.  لكنها تتآكل الآن. ومن يريد أن ينجو بنفسه، عليه أن يسعى للعمل في الخارج، وعندما يعود يعزل نفسه في ( كمباوند سكني) خارج القاهرة. فيما يظل الزحف مستمرًا من العشوائيات والأحياء الشعبية على حي المنيرة، رمز الطبقة الوسطى.

 طوال الوقت، كانت حشود الحرافيش تفد من القاهرة القديمة إلى بيت زعيم الأمة ( سعد زغلول) في حي المنيرة . تأتي لتؤازره في نضاله ضد الانجليز، أو لتبث شكاواها وعوزها لأم المصريين (صفيه زغلول).

على فكرة، كلمة (حي) تعبير قاهري، مثل كلمة (عيش) التي تطلق على الخبز.

 هل أدركت الدلالة المتراسلة بين اللفظتين؟

إنها الحياة. الناس في القاهرة يعلون من شأن الحياة، هي عندهم أهم من المكان والزمان والتقاليد والضمائر والأخلاق والقانون والنظام.. الحياة أهم من أي شيء آخر. هذه الحياة تختصر في معنى وحيد وبسيط هو: (أكل العيش). كلمة يرددها المهمشون (الحرافيش) طوال الوقت. لهذا، وأنت في القاهرة تسمع صخب الحياة في كل مكان وزمان: زقاق أو حارة أو ميدان، ليل أو نهار، صباح أو مساء. صخب الحياة هذا، وصفه يوسف إدريس في قصة ( قاع المدينة)  بالنداهة. والنداهة هي الجنية الساحرة عذبة الصوت التي تهمس في أذن الناس: تعالوا.. سامنحكم فرصة لحياة أفضل، وعندما يقتربون، تبتلعهم، وبهذه الطريقة يصبح الوافدون إلى القاهرة بهدف أكل العيش أسرى لها، ولكنهم –في نفس الوقت- يضخون فيها دماءًا جديدة، فتصطخب بالحياة أكثر.

لعنة ماركس        

 الحرافيش في القاهرة هم الحياة، والحياة تنتصر دائمًا، ومع الوقت، أصبحت الطبقة الوسطي لا تسطيع العيش بدون الخدمات اليومية التي يقدمها (الحرافيش) من أكل وشرب وصيانة وبيع وشراء، وسمسرة.. إلخ إلخ. فموظف الحكومة لا يمكنه الذهاب إلى عمله بدون سائق الميكروباص أو التوتوك. حتى وكيل الوزارة، سيبحث في الحارات الشعبية عن ميكانيكي محنك ليصلح سيارته الـ 128 بينما الميكانيكي نفسه يركن المرسيدس على الرصيف المقابل للورشة.

لا أدرى إذا كان الله سيرحم ( ماركس) أم سيشويه على الفحم، لكني أعرف أن ماركس قال هذا:

  • خلو بالكم من البروليتاريا الرثة، ستلتهم الطبقة الوسطى، وتقفز إلى الأرستقراطية أيضا.

وبما أني  من الطبقة الوسطى، سألت سائق التوتوك بعد أن لاحظت أنه يدخن سجائر مارلبورو وأنا أدخن بلمونت:

  • أنت بتكسب قد أيه في اليوم يا بني؟
  • –           حسب تساهيل ربنا يا حاج.. يعني في حدود ربعميت خمسيت جنيه.
  • احمد ربنا .. أنا قبل المعاش كنت مدير إدارة، ويومي كان بثمانين جنيه.
  • على أيامكم كانت الدنيا رخيصة يا حاج

فكرت أن أقول له أنت واللي زيك هم اللي خلونا كده، ولكن صورة ماركس وهو يخرج لي لسانه اسكتتني ويقول: مش قلت لك؟ عامل فيها مثقف كبير وأنت مش لاقي حق الدخان؟

لكي يطمئن قلب نجيب محفوظ.

 أقول له: الحرافيش يحكمون القاهرة اليوم.

 ذات مرة قررت الشرطة إخلاء منطقة الوزارات من الباعة الجائلين الذين يسدون الطرقات ويزعجون المارة. المدهش: قوبل هذا بغضب من موظفي الوزارات أنفسهم. وخرجت إحداهن تسب وتلعن… سيبو الناس تاكل عيش يا ظلمه.

أكل العيش… يا له من مصطلح لا يمكن لأحد الاعتراض عليه.

فيما بعد عرفت السر، من أحد الباعة. إنه اتفاق مضمر بين موظفي الوزارات المحيطة بالسوق، وبين الباعة. أو بمعنى أدق بين الطبقة الوسطى و البروليتاريا، حيث تستطيع مدام سوسن مثلا، وهي جالسة على مكتبها، أن تتصل ببائع السمك، ليجهز لها كيلو ونص بلطي وينظفهم ويحسبهم على النوتة لغاية ما تقبض مرتبها أول الشهر، ويرسلهم لها مع الواد مجدي ابن سعدية السودة: أنا هراضيه.. ده واد غلبان ويتيم..

  • عيوني يا ست الكل

باختصار.. مدام سوسن وزميلاتها اعتدن أن يخرجن من مبانيهم الحكومية، ليجدوا كل ما يرغبون فيه: جاهزًا، وزهيدًا، وقابلًا للمساومة مع البائعين. مع الوقت، صارت علاقة عضوية بين الباعة وموظفي الوزارات المحيطة بضريح سعد باشا زعيم الأمة، أفضت إلى تحولات في حياة الطرفين، من بينها نسب، وزواج ، وطلاق وعشق. والآن: أتحدى ماركس نفسه، لو عرف الفرق بين البروليتاريا والوسطى.

سيناريو متكرر

بعد أسابيع قليلة من هجمة البلدية على السوق، عاد الباعة الجائلون يفترشون كل شبر في المنطقة. فهدأ خاطر الموظفين. واسترزق الباعة، الواقع يقول: إن حراك الحرافيش في الشارع  القاهري هو الحكومة. على نحو ما نطق ( أحمد السقا) في فيلم ( الجزيرة) وهو يصرخ: ( أنا الحكومة).

رأيان حول “القاهرة.. صخب الحياة. بقلم: سيد الوكيل”

أضف تعليق