أرشيف الأوسمة: البجا، النميم

مساحات الالتباس في الشعر الشعبي، عند: مسعود شومان. بقلم: سيد الوكيل

في منتصف الثلاثينيات من العمر انتسبت إلى كلية الأداب بجامعة عين شمس، لاستكمال دراستي، التي انقطعت بعد المرحلة الثانوية، بسبب تطوعي في الجيش المصري وبرغبة عارمة لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي وتحرير سيناء.

كنت أشعر بالخجل وأن أجلس بين طلاب تخرجوا من المدرسة الثانوية للتو. لكن هذا الفارق في العمر بيني وبينهم منحنى تميزا في وعيىّ الثقافي لفت انتباه أستاذي الدكتور صلاح فضل رحمه الله، فكلفني بالإشراف على تنظيم ندوة أسبوعية ضمن أنشطة رعاية الشباب بالجامعة. وفيها ألتقيت بالطالب مسعود شومان.

لم أكن أتوقع أن طالبا في السنة الأولى بكلية الحقوق، على هذا القدر من الموهبة في الشعر العامي. لهذا نشأ بيننا غرام فيدرالي ( على رأي فؤاد المهندس) حتى أننا كنا نلتقي كل يوم بعد انتهاء العمل والمحاضرات، لنتبادل دهاليز الإبداع.

منحني الله حاسة سابعة، تجعلني التقط الموهبة من أول نظرة. لكن الطريف أن صحبتي كانت مع الشعراء أكثر من الساردين: محمود الحلواني، مجدي الجابري، أحمد عجاج، مدحت منير، يسري حسان، حاتم مرعي.. محمد عبد المعطي وآخرين كثر. هذا الجيل الثمانيني أحدث نقلة نوعية في الشعر، ربما استلهمها من شعراء السبعينيات، لكن شعراء الثمانينيات أضافوا إليها الكثير، حتى انتهوا إلى قصيدة النثر، التي وجدت معارضة صاخبة من كبار الشعراء وقته كعادة كل اتجاه جديد.

أذكر أن أول مؤتمر لقصيدة نثر العامية أعددت له بنفسي في قصر ثقافة بهتيم المتواضع الذي مثل بؤرة ثقافية مهمة ومؤثرة في هذا الوقت.

أما مؤسس فكرة الملتقى فكان الشاعر مجدي الجابري، الذي وضع القواعد والمرجعيات الأولى لقصيدة نثر العامية، تنهض على الدارج والمعتاد في مفردات الحياة اليومية/ ومقصدها هو: العادي واليومي والمعيش.

مهم أن نؤكد على أن بعضهم خاض التجربة وهو قلقا، مترددا مثل محمود الحلواني، أما مسعود شومان فقد حسم الأمر بديوانه المتميز ( اخلص لبحرك) الذي يضمر رغبة ملحة في الالتزام بالطابع الشعبي بميراثه الكبير والمتعدد مثل: الزجل، المربعات، النميم، الموال، الواو، البجا، الهجينة.. إلخ. وقد تأكد هذا بدراساته التي دخلت في عمق التاريخ، والبيئات الشعبية، التي لم تقف عن حدود الشعر فحسب، بل العادات والتقاليد واللغات واللهجات والتمايز فيما بينها، وهو يتقصى الدقة حتى أنه يتوقف عند مظاهر لغوية تؤكد وعيه بمساحات الالتباس في انواع الشعر الشعبي…

في ظني، أن لهذا الكتاب أهمية خاصة بين كتب الشاعر والباحث في الشعبيات: مسعود شومان. فعلى الرغم من أنه مجموعة أبحاث ودراسات قصيرة في فنون القول الشعبي، إلا أن ثم رابطًا موضوعيًا ينظم هذه الأبحاث، وهو الإلحاح على مستويات الوعي الذي يسري في البنية التحتية لثقافتنا، تلك التي تبدو من قبيل المهمش والمسكوت عنه، لكنها تعمل بقوة على تشكيل الكثير من الظواهر الثقافية التي تطفو على السطح، وتجسد قدرتها على التفاعل مع المستجدات، على الرغم من ارتباطها العميق بالموروث. إنها ظواهر تتجلى في الأغاني الشعبية، والعبارات المكتوبة على وسائل المواصلات، والملصقات التي تحمل وجوها لمطربين ولاعبي كرة قدم ودعاة، أو عبارات انتزعت من الأغاني الشعبية أو من الأفلام والدراما التلفزيونية، وتبنتها الجماعة العشبية، وأدخلتها في معجمها الواسع، فأصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية. كل هذا يشير إلى أن مفهوم المؤلف ( مسعود شومان) للوعي الشعبي، مرتبط بالتجدد  والتنوع في مصادرة، بل هو وعي حيوي ولا يتوقف عن إنتاج ثقافته لحظة واحدة. لهذا، فالكتاب -في تقديري- بمثابة مقاربة فلسفية أكثر منه متابعة أو رصد لمظاهر الثقافة الشعبية.

وغير الظواهر المستجدة، هناك وقفات تحليلية، تتلمس مواطن الجمال في فنون القول الأكثر قدمًا، تلك التي تضرب بجذورها في عمق الوجدان الشعبي، أهمها فنون الشعر الشعبي مثل: الموال والمربعات وغيرها. معنى هذا، أن الكتاب يشتغل على مساحة واسعة من الإنتاج الثقافي للجماعة الشعبية، ومن الطبيعي أن هذه المساحة تعكس مشتركات عديدة، على الأقل لمرجعيتها الأولى التي تعود إلى وعي ووجدان تلك الجماعة، لكنها في نفس الوقت تتحسب من الاعتقاد بأن الجماعة الشعبية شيئًا واحدًا كالبنيان المرصوصً. فيأخذ ( الكتاب) في الاعتبار أن هذه المساحة مشغولة بالمفارقات والمخالفات والتشابهات أيضًا، تلك هي طبيعة الفعل الثقافي الشفهي الذي يخضع للتعديل والتحريف والتنقيح مع كل رواية. أو إن شئنا الدقة، مع كل ( قول). وإذا وضعنا في الاعتبار عامل الزمن، والاختلاف في طييعة البيئة المنتجة للنص الشعبي، نكون أمام فضاء شاسع من التعدد الذي يفضي إلى مساحات الالتباس.

لكن معنى الالتباس في ذهن مسعود شومان لا يتوقف عند هذا المستوى البدهي، بل يتجاوزه إلى قراءة الالتباس الفني بوصفه ظاهرة أسلوبية ينفرد بها النص الشعبي القولي في المواويل ذات الجناسات الكثيفة و كذلك في المربعات وفن الواو وغير ذلك من فنون الشعر الشعبي. إذ كيف يمكن التماس العمق التاريخي للوجدان الشعبي في الإشارة الذكية أو المضمرة لبراءة السيدة عائشة رضي الله عنها في الحكاية المعروفة بحديث الإفك، على نحو ما يلمح الشاهد التالي دون انتباه إلى مراوغات المعنى فيه عبر عمليات من الدمج والإدغام والحذف:

باب السما ما انطلعشي ( لم يطلع عليه)

وفيه زي ما انت طالب

غير النبي ما انطلعشي ( ما طال عائشة)

محمد حبيب الحبايب  

فبين (ما انطلعشي) في البيت الأول ومثيلتها في البيت الثالث، مساحة من الالتباس الشكلي، يمكن إدراكها  صوتيًا عبر أداءات المنشدين(الشعراء) من خلال السكتات والوقوف على الحروف أو النبر والتنغيم وغير ذلك من الحليات الصوتية التي تمكن الشاعر من الإيماء إلى المعنى وتسهم في فض الالتباس. ويحتاج هذا إلى أرضية ثقافية مشتركة بين المتلقين ( الجماعة الشعبية)، التي هي مناط الوعي المنتج للمعنى على نحو ما يشير الكتاب في عنوانه. فالحيل الفنية في القول الشعبي، قد لاتصرح بالمعنى، وتكتفي بالإحالة أو الإيماء إليه، ولكنها لا تسمح بالتأويل المفرط. بما يعني أن الالتباس هو تقنية تقف عند حدود الأداء الصوتي، نوع من اللعب اللغوي، وظيفته لفت الانتباه إلى جاذبية المعنى وليس تشويهه. غير أن وظيفته الأعمق جمالية، فالشاعر المجيد يتميز بقدرته على امتلاك الكثير من الألعاب اللغوية شريطة ألا تأتي مصطنعة، لأن الاصطناع يفقدها وظيفتها الجمالية. وفي هذا المعني يتساءل مسعود شومان: ( من يا ترى الذي يستبدل العنب بالخيار؟) مشيراً إلى قول الشاعر عادل صابر:

المولى خلقك مخير

وجعل في يدك خيارك

وأنت اللي بيدك تغير

وتخلي عنبك خيارك

اما المستوي الموضوعي من مستويات الالتباس، فتلك التي تتعلق بتصورات ذهنية تشيع في الوعي الجمعي، وتظهر في موضوعات بعينها، فمثلًا، عندما تصبح الأنثى موضوعًا للنص الشعبي، فإن الصورة الذهنية الشائعة عن أن الجماعة الشعبية تنحاز لإنجاب الولد، تطغى على المعنى العميق. لكن اختبار النصوص بالتجاور يؤدي إلى نوع من التراسل الدلالي فيما بينها، عندئذ قد نقف على المعنى الأدق أو الأعمق للنص. فالجماعة الشعبية -على عكس ما هو شائع- قد تنحاز للأنثي في بعض المواضع، بل وتفضلها عن الذكر، فالبنت تعين أمها في شئون البيت، وتدخل رجلًا جديدًا في العائلة فيتسع سلطانها، بينما قد يكون العكس صحيحا مع الولد:

يوم ما قالوا ده غلام

قلت يا ليلة ضلام

اكبره واسمنه

وياخدوه منى النسوان

لكن أهم فصول هذا الكتاب الممتع المفيد، هو الذي يتعلق بلغة الشارع المصري التي يصفها بانها لغة سرية، لأنها لغة تتأبى على المعنى الظاهري، ولكنها تنحت لنفسها دلالة واسعة الانتشار، وهي ما نسميها لغة الروشنة. غير أن فهم الظواهر الثقافية للشارع، تستدعي – بالضرورة- إعادة النظر في مفهوم الشارع، ليصبح أكبر من المفهوم الجغرافي الضيق، متأثرا بوسائط الاتصال الحديثة التي كسرت الفكرة القديمة عن عزلة الإنسان في الشارع إذا خرج من بيته ( من خرج من داره.. انقل مقداره). هكذا لم يعد الشارع هو الخارج، إننا – في الحقيقة- نحمله معنا إلى بيوتنا كما نحمل بيوتنا معنا إلى الشارع، إن معاني مثل: الداخل والخارج، أو الخاص والعام، أو المكان والزمان، تتعرض لهزات عنيفة في الوجدان الشعبي بفضل التكنولوجيا.. هذه إشارة إلى أن الجماعة الشعبية، أصبحت في حالة من التفاعل الثقافي الذي يضطرنا إلى إعادة النظر في الكثير من المفاهيم بما فيها، مفهوم الثقافة، بل ومفهوم الجماعة الشعبية نفسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مساحات الالتباس والوعي بالنص الشعبي

المؤلف: مسعود شومان

من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب