الحلم الحجرى، قصة لعبير درويش، وتعليق نقدي لفتحي بن معمر – تونس

حين توقفت الموسيقى؛ تقاطرت دموعه فاختلطت بحبات الرمل وفضلات القطط الجافة.

عبرَت الردهة المؤدية إلى حجرته.. توقفت الموسيقى تماماً، لم يعد بوسعه الاحتمال؛ قرْع حذائها المعدنى، واصطكاكه ببلاط الردهة ”البورسلين“ يذهب بعقله، تصيبه القشعريرة من الأصوات المتنافرة؛ المعدن والجرانيت والبازلت والأزميل-النباح والخرير. خلع قفازيه المطاطيين، واستند بمرفقيه على طاولة كبيرة، تقاطرت حبات العرق التى اجترت الُغبار من جبينه المقطب؛ لتسقط فى تثاقل أيضاً.. حين توقف نزق الصوت أدرك أنها مثَلَت أمامه، انتظر لبعض الوقت، تناهت إلى مسامعه بعض الكلمات المبتورة، فى محاولة مبتسرة للحديث…

_ لو.. إذا.. أمم

تلتها طقطقة آلية لصوت قداحة، فزفرة طويلة، ودائرة دخانٍ طالت أنفه المحتقن؛ أثر غبار الصقل لتماثيله الحجرية، بادرها بالسؤال:

– كيف أستطيع خدمتك؟

– أممم ربما أكون ضللت الطريق إلى الحمام..عذراً.

فى خجل، ترددَت، أعتذرَت، وكادت تستدير عائدة، ثم شحذت شجاعتها ليخرج صوتها من حنجرتها الجافة المشبعة بالنيكوتين، ابتلعت خجلها. طمست سيجارتها، بين الرمل أسفل قاعدة تمثال أجوف لم يكتسب ملامحه بعد، ثم بادرته:

– أخبرونى أنك أمهر مثَّالٍ، أردت أن تصنع لى ما يجعلهم يتحدثون عنه طيلة الأعوام المقبلة فى أمسياتهم.

– لهجتك وصوتك يضجان بنزقٍ.. كم عمرك؟

– أحمل وجهًا لفاتنة فى العشرين، يزيّنه قدّ أنثى مكتملة القطاف.

– يافعة مازلتِ…. هز رأسه مبتسماً.

– تخطيت الخامسة عشرة منذ يومين… قالتها فى حدة وغضب.

ثم هدَّأت من نبرتها، وأضافت:

– أنا مغرمة بابن العم الذى تخطى الثلاثين، ويتحدث بوَلَهٍ عن فتاتك العاهرة “قاضمة التفاحة”، التى تموضعت لك لتمرر أناملك على كامل جسدها، واعتقلت شهواتهم داخل إناء الحجر الذى صقلته بمجون أصابعك –مطرقتك- أزميلك أو حتى خيالاتك المعتِمة.

استمع إليها، لم يبدُ عليها أنها أكتفت، ربما أحست بالحرج؛ فأشعلت سيجارة أخرى ودعته لتدخينها، أشاح بوجهه رافضًا، ومد يده يتحسس طرف طاولة صغيرة، تناول منها غليوناً فاحم السواد، أشعله فى تلذذ، ثم زفر دوائر الدخان بيسار وجهه.. بعيداً.. بعيداً عنها، وقال لها:

– تدخنينَ بعمر عجوزٍ ناقمة، وتصدرين أحكامك، وتُمْلين طلباتك على الغير كطفلة أفسدها التدليل!

– لِمَ تدخن الغليون؟

– كما ترين.. لا أرى، وأناملى هى كل ما أملك.. سيجارتك يمرق بها اللهب سريعاً، وأنا كثيراً ما أشرد، ثم إنى لا أجيد التقبيل.

هزت رأسها إقراراً بموافقته.. ثم أردفت:

– أتخيل أنك تحلم بأنك بكامل هيئتك تراقص إحداهن، أو تتنزه بأكثر المحال التجارية زحاماً أليس كذلك؟

ابتسم فى دعة وهو يهز رقبته نافياً..

واصلت حديثها:

– أحلم دوماً بأنه يُطَّوق خصرى فى البهو، نحن فقط، ويدور بى كما أسطوانة “الجرامافون”، ندور وندور وندور مع الموسيقى، يحدق بعيني، أحلم، ويا له من حلم، أريد أن أعلَق به الى الأبد.. أحلم وأظل أحلم، لا يوقظنى من حلمى سوى حديثه عن عاهرتك وتفاحتها المقضومة، أسبك وألعن صلة قرابتكما، أحلم بمطرقة هائلة أنزل بها على نهديها اللذين يستثيرانه، أحلم أن أطيح برأسها الحجرى وفمها المتأهب للقضم، أو ابتلاع قاذوراتهم.. أحلم أحلم، يا رجل الحجارة أن تهبنى أمثولة حجرية تجعل قلـ…

توقفت عن الكلام فجأة، وأشعلت سيجاراً آخر، أغشى دخانه عينيها، فأخذت تمسح بطرف أصابعها حواف جفنيها والكحل السائل على جنباتها، وواصلت بجملة وجهتها له بطريقة تستدر عاطفته، وهى على مقربة منه:

– ألا يوجد لديك حلم يا رجل؟

ابتسم.. ثم ضحك، ضحك كثيراً، حتى دمعت عيناه، ثم قال:

– لم أُسأل من قبل، ولم أجِب، لكنى بعد أن واتتنى الفرصة سأخبرك قصة، أكاشف نفسى بها، أنا يا فتاتى الجامحة لم أحظَ بشرف الخوض فى الأحلام، ولم تمنحنى هى دعوة.. تعرفين لِمَ؟

داهمنى السحائى منذ كان عمرى عاماً واحداً، لم أُصَب من ذكرياتى سوى بكائى طفلاً ملتاعاً بالحمى -يوخز مرات ومرات فى جسده- يلقى به بغتة فى حوض الثلج، فلا يتوافر له سوى القشعريرة.. التهويدة الضعيفة على كتفِ الأم.. القنوط على أوجه الأطباء.. الصراخ علىِّ كلما خطوت تجاه مجهولٍ كان أو معلوم، كلها أصوات وبعض الأشكال الشائهة التى وفَرَتها لى أناملى، على وجه أمى الباكى، وأصابع أبى التى تفلت من كفي لأنه لا يحتمل نحيبى من الكدمات التى أصيب بها أثناء اللهو… أرأيتِ جميعها أصوات والباقى ظلامُ دامس يحمل على عاتقه استيعابى، وألوذ إليه كلما رغبت فى الحلم كما أفعل دوماً.. أخترق الظلام.. أستكشف هوية حلمى الجديد، أمشط أناملى جيداً فوق واهبى الحلم، ثم أنفرد بأحجارى.. أزيل عنها النتوءات والزوائد، أكشط التصور البعيد، ثم أراقص انحناءاته بأزميلى لأجرف منه الغث، والسمين، ثم أمسد عليه بمبردى؛ ليزهو ويبعث وينفح فيه روح الحلم، فأحلم وأحلم وأحلم.. أرأيتِ كيف أحلم؟

 رأيتِ لأنى لا أرى، حلمى أجمل من حلمك أليس كذلك؟

انظرى إليه جيداً..

وحده بالغرفة.. صمت مطبق.. موسيقى معطلة برأسه، يشير إلى تمثالٍ حجرى مكتمل لفتاة يافعة، يبرز من صدرها النحيل برعمين صغيرين، تتموضع فى غواية، فوق قاعدة من الرمل، وفضلات القطط الجافة، وتضع قرب فمها سيجارة تفتح لها شفتيها الزهريتين الرفيعتين. حين توقفت الموسيقى، تقاطرت دموعه.

               

تعليق (فتحي بن معمر – تونس)

بين بهجة الحلم وقسوة الحجر

قراءة في نص “الحلم الحجري” لعبير درويش

 

 

64502700_2410133892556614_3461093597275750400_n

بأضدادها تتمايز الأشياء، فهل تتماهى معها

هل يمكن للحلم أن يكون جلمود صخر؟ هل يمكن أن يكون الحلم صلدا لا يقدر على شيء؟ بل هل يستقيم منطقا وعقلا وواقعا وافتراضا أن نسِم الحلم بالجمود؟ وهل يمكن أن ينبجس من الصخر الأصم حلم بألوان الطّيف كما انبجست لموسى (ع) اثنتا عشرة عينا بضربة عصا؟ لسنا نعرف على وجه التّحديد كنه الإجابة ونحن نقبل على قراءة نصّ للقاصة المصرية عبير درويش بعنوان “الحلم الحجري”

غير أنّنا ونحن نحلّق فوق النّصّ للوهلة الأولى نشعر أنّ الحلم فاعل قويّ، بل محرّك نفّاث للأحداث وباعث للحياة والأمل مادام يمكّن ضريرا من أن يصطنعه لنفسه بمداعبة صخور صمّاء بأنامله وإزميله فتنبجس له عيون الحلم وهو المفتقد لنور العيون لتنهمر عليه الآمال والأشواق فيُغدقها روحا ينفخها في تماثيله فتصير مغرية مثيرة بل شبقيّة مفترسة بقدر يصل إلى حدّ استثارة غيرة هيفاء غيداء نزقة الجمال ومستنفرة الجسد من تمثال فاتنة أسبغ عليها الحلم روح الحياة وروح الحسن وقد أراحت صاحبها وهو يتحسّس بأنامله ويطبع التّفاصيل بإزميله ساخرا بالحلم وبإجرائه واقعا ونحتا من قول المتنبّي:

ومن تفكّر في الدّنيا ومهجته ***** أقامه الفكر بين العجز والتّعب.

سطوة الحجر … عنفوان الحلم

ينغلق النّص كما يفتح بنفس العناصر تقريبا؛ توقّف الموسيقى وتساقط حبّات العرق على حبّات الرّمل وفضلات جافة لقطة أسفل قاعدة تمثال حجري. وهذا ما يوهم للوهلة الأولى بأنّ النّص ينقل لنا سطوة الفعل المنتحر وقسوة الحلم المستحيل خاصّة إذا تتبعنا هذا الانتشار العجيب والحضور القويّ بكلّ ما له صلة بالصلابة والجمود والعتمة والعدم في النّص معجما وصورا وأشياء.

ولئن كانت طقطقة الحذاء على البلاط قاسية وقد أمعنت الذّات الساردة في ذكر أنواعها بشكل لسنا نعتقد أنّها مجانية، فهذا لا يُغلق كلّ منافذ الحلم أو على الأقل لا ينفي أن يبقى للإنسان وإن فقد إحدى أهمّ حواسه قادرا على التمثّل والتصّور وتشكيل الأشياء بالطريقة التي يراها بصيرة لا بصرا فيبدع وليس أعتى إبداعا من أن يصير تمثالا حجريّا جامدا تمثالا حيّا وفتاةً ناهدًا وكاعبا شبقيّة تقضم التّفاح بأسنان من مرمر وبشفتين ملتهبتين فتغري النّاظر العاشق لغيرها فينشغل بها عمّن يعشق. غير أنّ سطوة هذا الجمود تتأتى من هذا النّفور في سمع بطل النّص اللا مسّمى عمدا في اعتقادنا من صوت قرع عقب الحذاء للبلاط كائنا ما كانت طبيعته ونوعه وقيمته.

وحدة المكان ووحي الانتثار

تتناثر أحداث النّص ومخاطبات الحوار فيه وصوره المجازيّة المنتقاة في فضاء مكانيّ لا يُسمّى ولكنّه يُدرك بالمحسوس ويُرى ناصعا من خلال الوصف والحوار وكشف بطل النّص عن طريقته في تمثّل الأشياء وإدراكها وكأنّما في النّص دعوة ضمنيّة إلى التخلّي عن ظاهر الأشياء وما يطفو منها والاعتماد على التجلّي من خلال التّركيز والسّمع أو استكناه الأشياء بالأنامل بخشوع طقوسي عاشق. فكلّ النّص يدور في فضاء نلجه بولوج البطلة إليه ونغادره بمغادرتها تاركين بطلنا كما وجدناه بدموع تتقاطر وموسيقى معطّلة وتمثال مَشيد. لكن هذا لا يمنع من تناثر بعض الأمكنة الأخرى في النّص. وهي أماكن على عكس مكاننا هذا مليئة بالحركة. وهي تنتثر في النّص من خلال الإشارة إلى علاقتها بابن العم الذي لا ينتبه إليه ويحدّثها عن تمثال الفتاة القاضمة للتّفاح ومن الأماكن المتوقّعة الصاخبة حين تروي حلمها بالمراقصة ومن خلال رواية البطل لفترات تشكّل تمثّلاته الأولى للأشياء وبناء صور لها في ذهنه وهو يتحسس الأماكن ويصطدم بالأشياء ويضجر من الأيدي الحانية التي تربّت عليه إشفاقا من كثرة الكدمات. وبهذا يصير المكان فضاءً مفعما بالألم دون أن ينقطع عنه الأمل ودون أن تنتحر ملكة الحلم المشحوذة بالقدرة على الفعل ورفع التحدّي. والأذن تعشق قبل العين أحيانا، بل غالبا بالنسبة إلى بطل النّص كما بالنّسبة إلى بشّار والمعري وفيتهوفن وطه حسين وغيرهم كثير ممنّ ولّدوا الحياة وابتعثوها من العتمة، من العدم.

زمن الحلم السائل

الزّمن في النّص على غرار المكان يبدو ضيّقا لا يتجاوز مدّة اللقاء من لحظة الولوج إلى لحظة المغادرة، لكنّه أيضا كما المكان يتشظّى وينتثر حيث يسير قدما نحو زمن مطلق غير محدّد بنقطة نهاية هو زمن حلمها بالمراقصة والعيش الرّغيد مع الحبيب الذي تحلم باستعادته من الزّمن الجامد بالنسبة إليها زمن إعجابه بل عكوفه على تمثال الفتاة الحجرية القاضمة للتفّاح التي تنعتها بالعاهرة. كما يعود القهقرى إلى زمن طفولة البطل النحّات الذي يستعيد بما تسعفه به الذّاكرة زمن إصابته بالسحائي ومرضه وتأثير ذلك على بصره بما جعله يعيش طفولة تكاد تكون عنوانا للاصطدام بالأجسام الصلبة وللكدمات والبكاء والألم. غير أنّ هاذين الزّمانين يرتدّان صاغريْن إلى الزّمن الرّاهن الذي يستحيل عند البطل زمن خلق وعند البطلة زمن رغبة تعبّر عنها أمام النّحات فيستجيب ليُحدّ النّص بزمانين متماثلين في المدّة والامتداد والصور والحيثيات والتّفاصيل أحيانا حيث يكون زمن البداية محفوفا بموسيقى معطلة وعرق وتمثال وزمن النّهاية محفوفا بنفس العناصر تقريبا وتلك قوّة في النّص وبناء هندسي لا أحسب إلاّ أنّه مُراد مقصود. ورغم ما قد يبدو من حزن في فاصلتيْ البداية والنّهاية فإنّ ذلك لا يُلغي سيلان الحلم من خلال الأنامل المتنعّمة بنعومة الجسد ومن خلال الإزميل الذي ينقل تلك النّعومة من الجسد الغضّ إلى الحجر فيغدو غضّا بديعا وذاك حلم الإبداع السّائل الذي لا ينقضي والذي يظل ينبعث مع كلّ تأمّل لتمثال مصقول كالسجنجل لا نستطيع أن نصدّق أنّ ناحتَه ضرير. وبذلك يصير الحلم سائلا كذاك الخرير الذي يُلهم النحّات كما ذكر في طيّات النّص. وذاك لعمري أعظم تحدّ وأكبر قدرة على الحلم بل على تطويع الحلم وتشكيله وذاك أمر لا يتأتى إلى لفنّان كما لا يتأتى سردا إلا لمثل منشئ هذا النّص حيث تنبجس المعاني من الحجر كما ينبجس الحلم من العدم والعتمة والمأساة.

الحوار… صراع الرّغبات أم تماهيها

بالإضافة إلى السّرد الذي يشدّ أواصر النّص بعضها إلى بعض فيبدو كالبنيان المرصوص لا يشتكي منه عضو من عطل فلا يتداعى بالوهن ولكنّه يشغلنا فنعتكف عليه ونتداعى بالسّهر وقديما قال المتنبي “ويسهر القوم جرّاها ويختصموا”، وبالإضافة إلى الوصف الذي استطاع منشئ النّص من خلاله أن يجعل ما يُقرأ مرئيا ومسموعا بل كاد أن يجعله يُشمّ، فإنّ عصب النّص في تقديري قائم على الحوار الذي كشف عن رغبة كانت قادحا لكلّ النّص على ما يبدو وهو رغبة هذه الفتاة التي يكشف الحوار عن فتنتها وجمالها وبهائها سواء كان حقيقيّا أو مزعوما لأن النحّات الذي يعتمد على استكناهه لجوهر الأشياء بالسّمع وبتلمس الأنامل الحسّاسة للجسد قد أبدع في تحويلها إلى تمثال يحقّق لها ما أرادت حين طلبت منه دلك بالقول: ” أحلم أحلم، يا رجل الحجارة أن تهبنى أمثولة حجرية تجعل قلـ…” بل يحقّق له بعض ما يريد حين يكاد ينفخ في تمثاله الرّوح وليس أدلّ على ذلك من غيرة حسناء من حسن تمثال ورغبتها في أن تصير تمثالا مغريا يخلّد جمالها وعنفوان إغرائها. ليصبح الحلم كما النّص عابرا للزّمان والمكان. وذاك هو تقريبا حلم النحّات البطل وإن كان حلمه في الظاهر أدنى قيمة ودرجة لكنّه أعتى ألما وأبعد غورا وإلحاحا في تحقيق رغبة طبيعية في أن يرى الأشياء وما أعتاه من ألم أن يصير إبصار الأشياء عيانا حلما بعيد المنال. لكنّ الفنّان، لكن من يحمل قلب الفنّان يرى ما لا يراه غيره ويرى دون أن يرى فيصطنع حلمه واقعا وافتراضا بطريقة أدقّ وأبدع من الإنسان العادي وفضل النّص والحوار في أنّه كشف عن هذا الأمر كما كشف عن أغوار أعماق الشّخصيات دون إسراف في اللّفظ على مذهب البلاغة في الإيجاز.

الحلم … الحياة

من خلال الأمكنة المنتثرة والأزمنة المنتشرة المتشظّية وتصريف العلاقات والمخاطبات بين الشّخصيتيْن الأساسيتيْن، الهيفاء الجميلة ذات النّزق والنحّات في النّص ومن خلال النّسيج السّردي الواصف والانتشار الوصفي السّارد ينبجس الحلم من الصخر فيُحيي الصخر وهو جامد صلد لا روح فيه على ما يبدو بالنسبة للإنسان العاديّ. فالحجر صخر ميّت جامد ما لم تمسسه يد الفنّان ولذلك فقد صوّر النّص نفور النحّات من الأصوات التي تنشأ من ارتطام كعب الحذاء بمختلف المسطّحات الجوامد رغم غلاء مادتها الرّخامية الرفيعة كما يظهر من تسميتها وتعدادها. كما صوّر غيرة الفتاة من تمثال أجاد النّحات صنعه حتّى كاد العشيق يشتهيه ويدفعه إلى نسيان حبيبته، بل إلى درجة توحي بأنّ الفتاة الممثلة نحتا عاهرة. فأيّة قوّة هذه التي تحوّل الجماد إلى حيّ فاعل مؤثّر بل بالغ التأثير. إنّها قوّة الفنّ، بل قوّة الحلم وكهرباء التشبّث بالحلم حين تسري في الإنسان فيتشبّث ولا يتخلّى عن حلمه وهذا ما حدث في النّص بالضبط حيث تمسّكت برغبتها فحققتها وتمسّك بحلمه في تمثّل الأشياء بطريقة أكثر دقّة ممّا يراه الإنسان العادي وقد حقّقه لأنّ صورة التّمثال الموصوف في آخر النّص أكثر جمالا من تمثال العاهرة بل أقوى أثرا وإحياءً وإغراءً وإغواءً. إنّه ببساطة قد استوعب روح الحياة وامتلأ بها ففاض بكلّ تلك المعاني. ولأنّ توقّف الفعل هو انحسار للحلم فقد انتهى النّص بحزن كما بدأ فقدر الفنّان أن لا يحيا إلاّ بحلمه وبموضوع يتمثّله ويتحسّسه بأنامله في واقع الحال وبريشته في الرّسم وبالوتر في حال الموسيقى وبالإيقاع فيها وفي الشّعر وبكل اختلاجة حالمة عند كلّ من يحمل بذرة فنّ. وهل في الوجود من لا يحمل ذاك، ولكنّنا لا ننتبه أو ننتبه ونغتال ذاك الانتباه ونقتل تلك الجذوة والنصّ بمعنى ما دعوة لإعدام كلّ ما يغتال فينا جذوة الحلم وبرعم الإبداع الذي رأيناه في نهديْ الفتاة في التمثال في آخر النّص برعميْن بل نبعيْن للخصب، نبعيْن للحلم، نبعيْن للحياة.

على سبيل الخاتمة … وهل نستطيع أن نختتِم

لأبي القاسم الشّابي شاعر تونس العظيم قول متميّز “لله ما أحلى الطّفولة إنّا حلم الحياة” ومدار النّص في اعتقادي على هذا المعنى فحلم الفتاة طفولي في أن يضاهي جمالها جمال تمثال يُغوي عشيقها فتضمن لنفسها ذلك دوما وحلم النحّات هو القدرة على استعادة صور الطّفولة الأولى وتنزيلها منحوتاتٍ وجعلها حيّة محيية، فيضمن لنفسه اعتراف الآخرين بقدرته بل بتفوّقه رغم القصور والإعاقة التي تجعله يخشى تدخين سيجارة حتى لا تكتوي أنامله بنارها المتسارعة اللّهب كما يقتنع بعدم إجادته للتّقبيل لأنّه ببساطة فقد القدرة على تمثّل الشّفاه المغرية لأنّه فقد البصر قبل أن يراها ليدرك عنفوان إغرائها. ولذلك فالحلم حينذاك هو حلم الحياة حتّى وإن أودع جلمد صخر أصمّ وتلك عظمة الفنّ وسطوة الحلم العابر للزّمان والمكان والألم وقوّة النّص الذي استطاع تصوير كلّ تلك المعاني والمفارقات والدلالات التي لا تنقضي ما دمنا نقرأ النّص وذاك حلم أخر تحققّه الكاتبة حين تجعل نصّها يتجدّد مع كلّ قراءة. وما الحلم، وما التجدّد والانبعاث إلاّ حياة.