الرجل الذي أحب السلطة الخضراء. .

قصة : نهى محمود

 

أنهت عايدة الجدل الدائر في عائلتها حول زيجتها، بأن قالت للجميع وبلا ذرة خجل “إنها أخذت زوج ماجدة، صحيح أنها كانت صديقتها المقربة لكنها كانت بنت كلب”.

كانت “عايدة” سيئة الحظ ومغرمة بالتفاصيل..

يمكنها أن تحكي لك عن موقف واحد صغير لا يتعدى الخمس دقائق في ساعات، لن تغفل شيئا، ستقص عليك الحكاية بكل ما يحيط بها، فإذا أخبرتك أنها ذهبت لشارع السوق.. فستحتاج على الأقل لعشرات الكلمات، لأنها ستبدأ من الساعة التي استعدت فيها للذهاب، وحالاتها النفسية وقتها، الفستان الذي ارتدته نوع قماشه من أين اشترته، من صادفت في الشارع، سعر الطماطم عند البائع الذي مرت عليه الذي يقف ببضاعته في مدخل شارعها، نبذة غير مختصرة عن تاريخ البائع الذي ورث العربة عن أمه التي طلقها أبوه، عندما تصل بك لشارع السوق والسبب في ذهابها، سيكون الدم قد تجمد في عروقك وانهارت نسبة الجلوكوز في دمك.

كيف ينجو أصدقاؤها ومعارفها من كل هذا الحكي، كيف يمكن لها أن تغرق العالم في تفاصيل فارغة لا تهم أحد، وقد يقع أحدهم في طريقها يومين متتاليين فيسمع الحكايات نفسها ولا يستطيع أن يهرب أو يلفت نظرها أنها حكت له كل ذلك من قبل، لأنك ما إن تحاول فعل ذلك حتى تصمت ثانية، وتقول لك جملتها الشهيرة التي لا تمت لما تقول بصلة لكنها تعتبرها مخرج من مآزق احتمالية أن يحاصرها أحدهم لتصمت، ستنظر لك وتقول “لأ مش النظرية” ثم تبدأ من جديد لتشرح لك نظريتها أو جهة نظرها. 

تزوجت “عايدة” صغيرة كما جرت العادة وقتها، كانت البنت الرابعة في ترتيب إخوتها، تزوجت صديق أخيها الأكبر، لم يكن يعجبها كثيرا، لكن دورها في الزواج قد جاء، ولم يتقدم لها غيره، هي السمراء مجعدة الشعر، سليطة اللسان، سيئة الحظ كما تقول عن نفسها، تزوجته لأنها لا يمكن أن تعاني من خزي الوصول لعمر العشرين دون زواج، كانت قد أنهت تعليمها التجاري وتعمل في سويتش مصلحة حكومية خدمية.

العريس كان يكبرها بست سنوات، رجل عادي، يرتدي نظارة طبيبة سميكة ويحب القراءة، يعمل موظفا في أحد المتاجر الشهيرة التي تبيع كل شيء، ملابس وأقمشة وأدوات منزلية وأجهزة كهربائية وأثاث، وكان يعمل في قسم الأدوات الكهربائية.

أسس بيتا صغيرا، ومضت الحياة في البيت شبه صامتة، الزوج يكتفي طوال اليوم من الحديث مع الزبائن ومحاولة إقناعهم بالبضاعة والحديث عن العروض وغيرها، يعود للبيت ويضع رأسه في صحن الطعام كما تقول عنه عايدة يأكل ويدخل لحجرة النوم ليأخذ قيلولته، في الشهور الأولى من الزواج كانت عايدة تدخل معه للنوم في ذلك الوقت، تحاول أن تتجاذب معه أطراف الحديث، تمارس شيئا من الدلال، لكنه كان يتجاهل كل ذلك وينام، حتى أخبرها ذات مرة صراحة أنه لا يفضل فعل أي شيء في الفراش بعد الغداء؛ لأنه وقت راحته، وأن الأمور الأخرى التي تقصدها تحدث ليلة الخميس.

ليلة الخميس التي يقضيها في بيت أمه، ثم يقابل أخاها صديقه ومعهم صديق ثالث ويعود لها قرب منتصف الليل منهكا، وراغبا في النوم.

بينما يفيق من قيلولته كل يوم بعد المغرب بساعة، يصنع كوبا كبيرا من الشاي بخمس ملاعق سكر، يأخذه ويعود للفوتيه الذي أصر على شرائه ووضعه في حجرة النوم الضيقة، لم تكن عايدة تعرف أن هذا المقعد سيكون شريكها في زوجها حيث يقضي فوقه كل المساءات ممسكا بكتاب يقرأ فيه، مئات الكتب أنهاها الزوج في عشرين عاما هم عمر زواجهما، الفوتيه الذي اهترأ، والكتب التي تكدست في كراتين كثيره تحت السرير وفوق الدولاب وفي المخزن الصغير الذي كان له بلكونة تطل على الشارع ، واستخدم المزيد من الألواح الخشبية ليحولها لمخزن صغير لكتبه وأشيائه .

اعتادت عايدة في السنة الثانية من الزواج أن تجهز له الغداء في المطبخ قبل ذهابها للعمل، وعندما تخرج من العمل تذهب كل يوم لبيت صديقة أو جارة تقضي اليوم لديها وتعود في المساء، الأمر الذي لم يمانع زوجها فيه، لكنه كان يكتفي كل ليلة بسؤالها عن اسم الصديقة التي زارها فقط دون دخول في تفاصيل..

كانت كثيرا ما تقضي الوقت في بيوت إخوتها، كانت تتسبب في كثير من المشاكل بسبب تدخلها في أمورهم أو تعليقاتها غير المناسبة..

كان يغضبها تدليل إخوتها لزوجاتهم، تراهم عارا على جنس الرجال، جميعهم يساعدون في أعمال البيت، ويشترون الذهب والملابس الغالية والعطور، كلما ذهبت لبيت أحدهم شعرت بالقرف والاشمئزاز، تفكر كيف استطاعت كل امرأة منهن أن تضحك على عقل إخوتها.

هؤلاء التي لم تر منهم في بيت أبيها غير كل جفاء، صحيح أنهم ساهموا في جهازها ولم تدفع هي شيئا مما ادخرته طوال فترة عملها، قالت لهم إنها يتيمة الأب ومسؤولة منهم ورغم صعوبة ظروف بعضهم وقتها إلا أنهم اشتروا لها كل ما احتاجت.

وصحيح أيضا أن أحدا منهم لم يتعرض لها من قبل بأي إهانة أو إساءة لكنهم لم يكونوا مقربين لها، جميعهم على علاقة جيدة ببعضهم إلا هي، يحكون لبعضهم الأسرار والحكايات وهي لا يتقرب منها أحد.

يتهمونها طوال الوقت بأمور مضللة وكاذبة، تقول أختها إنها تسببت في فسخ خطبتها لأنها شاغلت عريسها من خلف ظهورهم، وهذا افتراء، هي لم تقصد أن ترتمي في حضنه عند باب الشقة وإنما التوت قدمها وكادت تسقط فتشبثت به، كما أنها لم تقصد أن تحدث وقيعة بين أخيها الأصغر وزوجته، وإنما كانت تحكي بحسن نية عن جارتهم التي أحبها في السابق قبل زواجه منها.

مهما فعلت لا يشكرها أحد، حتى عندما ماتت زوجة أخيها الكبير بعد إصابتها بالفشل الكلوي، ذهبت لبيته وقدمت العزاء، هي التي لم تكن تحب زوجته لأنها متكبرة ومغرورة حتى أنها لم تزرها طوال فترة مرضها التي استمرت لعامين ونصف، لكنها الآن ماتت وعليها أن تقوم بواجبها تجاه أخيها وابنتيه، ربما حتى تنقل جزءا من ملابسها هي وبنتها، وتبقى معهم عدة أشهر أو عام حتى يعتادوا على البيت دون أمهم، رتبت لكل ذلك وأحضرت في اليوم الثالث للعزاء ملابسها وملابس ابنتها وزجت بنفسها وابنتها في حجرة البنات، وضعت ملابسهم في رف داخل الدولاب وكدست البنتين في فراش واحد، بينما نامت هي وابنتها في الفراش الآخر.

في الأيام التي تلت ذلك، بدلت الكثير من وضع البيت، وأعادت تشغيل التلفاز مما أحزن البنت الكبرى وكانت في الخامسة عشر من عمرها، تلهي أخاها عن تصرفاتها بالحزن الكبير في قلبه، ورأى أنها طريقتها في مواساته، لكن عندما عاد من عمله ووجد ابنتيه يبكيان في حجرة نوم أمهما، وعندما عرف أن السبب هو العمة التي لملمت ملابس أمهما ووضعتها في أكياس بلاستيكية استعدادا للتخلص منها، غضب كثيرا وأصابته نوبة هلع، وطلب من أخته مغادرة بيته.

وكانت تلك قطيعة “عايدة” الكبرى به وبإخوته الذكور الآخرين، لأن أحدا منهم لم يقف جوارها، ولأنه كما قالت هي “خير تعمل شر تلقى”.

كلهم قساة القلوب، لا يستحقون قربها، ربما تزور أخواتها البنات أحيانا، لكن مقابلتهن لا تعجبها، اشتكت إحداهن بأنها تقضي اليوم بالكامل عندها، وتعيقها عن مسؤوليات بيتها وزوجها. بينما طلب زوج أخرى منها أن تزورهم في أيام العطلات لأنه يحتاج للهدوء والراحة، خاصة بعدما أنجبت ابنتها الصغيرة وصارت تأخذها معها في كل مكان بعد مواعيد الحضانة، وربما تتركها عند إحدى أخواتها أو معارفها بالساعات، لتذهب لزيارة في بيت آخر بعيدا عن ضوضاء الصغيرة.

طالما عانت عايدة من سوء الحظ، وتنكر الجميع لها، وعدم ترحابهم بزيارتها، وحدها صديقتها “ماجدة” صديقة طفولتها وشريكتها في مقاعد الدراسة التي ظلت وفية ومحبة لها هي وابنتها، ماجدة البيضاء الممتلئة يتيمة الأب والأم التي تربت لدى خالها، وتعلمت حتى الإعدادية ثم بقيت في البيت لتساعد زوجة خالها، الذي كان يعمل في ورش لتصنيع الفضة والحلي، عن طريق خالها تزوجت “ماجدة” شابا طيبا صاحب محل لبيع الفضة ولديه شقة كبيرة أربع غرف وصالة واسعة وشرفة بطول الدور تزرعها “ماجدة” بالفل والياسمين  في وسط البلد بالقرب من معرضه، تزورها فيها دوما “عايدة” وابنتها، وكثيرا ما قضين الليالي والسهرات هناك .

وحدها “ماجدة ” وسيدة عجوز شبه كفيفة تقيم في الدور الأرضي في بيتهم القديم من رحب بها دائما، وحدها احتملت ساعات غيابها، بينما تبقى البنت لديها، تقدم لها الطعام وتتركها تلهو في حجرة النوم، وتكتب واجبات المدرسة، ثم تذاكر دروس الجامعة وتسمع الأغاني الشبابية وهي تقف في شرفة السيدة العجوز، تقول عايدة إنها طالما اعتبرتها بمثابة الأم لها، وأنها حقيقة من ساعدها في تربية ابنتها.

ظلت تنادي السيدة العجوز ب “ماما” وتقول لها ابنتها يا “جدتي “، لكن كل ذلك تغير، توقفت عن الحديث عنها تماما بعد وفاتها، وإن اضطرت لفتح سيرتها فإنها تسميها السيدة اللئيمة البخيلة التي لم تترك لها بعد وفاتها شيئا في وصيتها ولا حتى قطعة ذهب أو متر قماش من دولابها الممتلئ عن آخره بحاجيات ابنتها التي توفت صغيرة ولم تستخدم شيئا من شوارها ذلك، المخبولة تركت كل شيء لابنة اختها الوحيدة التي تعيش مع زوجها في مدينة أخرى وتزورها مرة واحدة كل عام.

بينما هي التي كانت تؤنس وحدتها، وتسأل عنها هي والبنت لم تترك لهما مليما.

البنت التي أخذت طباع أمها، فكانت شحيحة في تقدير من حولها، لا تحب أحدا من عائلتها، حتى أنها إذا ما صادفت أحدا أخوالها في الشارع تتظاهر بعدم رؤيتهم وتمر من جوارهم سريعا.

لم تحب الأب أيضا، ورأته دائما خيال مآته لا يستحق أي تقدير.

ولم تكن لأمها أيضا حبا خالصا، وإنما كانت تراها وسيلتها للنجاة، كي تكبر وتتعلم وتشتري كل ما تحتاج، لكنها تراها أما سيئة الطبع والسيرة، طالما سمعتها تتحدث في الهاتف مع رجال آخرين، أو تمارس غنجا غير لائق مع صاحب العقار الذي يقيمون فيه، وفي زيارتها القليلة لها في العمل ترى كيف تعامل زملاءها الرجال بتساهل ودون تحفظ.

كثيرا ما رددت بينها وبين نفسها أن أمها مجرد عاهرة رخيصة، تلك الصفة التي ستنعتها بها بصوت مسموع في ذلك اليوم الأخير الذي غادر فيه الأب البيت ولم يرجع.

شيء غامض حرك المياه الراكدة بينها وبين زوجها، فصارا يتشاجران كثيرا، تنغص عليه الحياة أكثر، تطالبه بالاهتمام وفعل أمور مشتركة لأنها لم تعد تحتمل الحياة بهذه الطريقة أكثر من ذلك، كانت البنت قد أنهت دراستها بكلية الخدمة الاجتماعية، وتعينت أخصائية مساعدة نفسية في مدرسة فتيات.

 

وفي الأسبوع قبل اليوم الأخير، اختفت البنت من البيت، في اليوم الأول سأل عنها الأب في المستشفيات وأقسام الشرطة وفي اليوم التالي ذهب للمدرسة وعرف أنها حصلت على شهر إجازة، وفي اليوم الثالث جاء لبيتهم زوج ماجدة الذي أخبرهم أن البنت هاتفته وأخبرته إنها تزوجت من زميل دراسة لها، ولا تنوي العودة للبيت.

كانت الصدمة شديدة على الأب، ولملمت عايدة ملابسها وذهبت لقضاء يومين في بيت ماجدة  حتى تهدأ وتفكر، كانت معتادة على المبيت في بيت صديقتها كلما شعرت بالملل الشديد، او تأزمت الأمور بينها وبين زوجها، كانت تساعد في المطبخ وتصنع السلطة، تضع يدها كلها فيها وتفركها بالملح والليمون والكمون والخل، تفرك محتوياتها  لتتخلل الخلطة في كل قطعة من الخضار، كثيرا ما كانت ماجدة تطلب منها أن تستخدم الملعقة في التقليب لكنها كانت تخبرها أن فرك محتويات السلطة باليد أفضل كثيرا، وكان زوج ماجدة يؤمن على كلامها، ويقول بينه وبين نفسه إن فرك السلطة باليد مثير ومغوي، بقت لديهم حتى نهاية الأسبوع، وعندما هاتفت البنت زوج صديقة أمها مرة أخرى ليرتب لها مقابلة مع أمها اصطحابها بالفعل ، وكان رجلا خدوما وصديقا لها بحكم صداقتها القديمة والقوية بزوجته وأم أولاده الثلاثة.

هو الذي ورث محل الفضة من والده هو وأخته، لكنه بعد سنوات من العمل الشاق، اشترى نصيب أخته، واشترى شقة أحلامه، وبينما كان في إحدى زياراته لورشة الحلي التي يتعامل معها شاهد “ماجدة” تنتظر خالها عند الباب، وكان يعرف الخال وسمعته الطيبة، عرض عليهما توصيلهما بسيارته، ويمها أعجبته الفتاة وتزوجها، وكان يقول عنها دائما إنها هادئة الطباع، ابنة أصول، طيبة وحنونة وقدم خير عليه وعلى تجارته. 

اصطحب الرجل “عايدة” لمقابلة ابنتها في حديقة عامة، لأن البنت رفضت أن يعرف أحد بيت الزوجية وهناك حدثت مشاجرة كبيرة بينها وبين ابنتها، وهاجمتها البنت وقالت لها إنها عاهرة رخيصة، عادت من المقابلة منهارة وحزينة وتشعر بالخيانة، ابنتها التي احتملت لأجلها تلك الحياة الصعبة تتنكر لها وتهينها، عادت للبيت فلم تجد زوجها على غير العادة.

لم يعد للمبيت في البيت، عند منتصف الليل هاتفت ماجدة التي أرسلت لها زوجها ليبحث معها عن الزوج المفقود، بعد أربعة أيام وصل لعايدة ورقة طلاقها، غادر الزوج دون كلمة واحدة.

ترك عمله، ولم يعد للبيت ولم يعرف أي من معارفه أو أصدقاؤه شيئا عنه.

استطاعت “عايدة” ببعض الدلال على المالك والعشم القديم ومبلغ من المال منحه له زوجها الجديد أن تنقل عقد إيجار الشقة باسمها لأنها رفضت أن تتركها وهي التي قضت بها عمرها كله، خاصة وقد غادر الرجل وابنته فهل تتركها لصاحب البيت! شعرت بأن البيت تبدل تماما واتسع كثيرا بعدما أزالت ألواح الخشب من الصالة وتركتها واسعة وكبيرة وحرة، وأعادت الشرفة لما كانت عليه، وجمعت حاجيات زوجها السابق وابنتها وتخلصت منها جميعا، كادت أن تمنحهم لجمعية خيرية لكنها فكرت أنها لو باعتهم لتحصلت على مبلغ يمكن أن ينفعها في تجديد حجرة النوم.

لكن زوجها الجديد، الذي كان زوج ماجدة صديقتها رفض أن تنفق قرشا واحدا من أموالها واشترى هو حجرة نوم جديدة واصطحبها لمحل الذهب حيث اشترى لها شبكة عروس، كانا يمارسان الحب في كل مكان في الشقة الصغيرة، كانا يتبادلان النكات والضحك، ولا يتوقفان عن الكلام، تبدأ هي أو هو بإنه “مش دي النظرية” وينتهيان بعد ساعات، يدللها، ويساعدها في أعمال البيت، ويقف ملتصقا بها بينما تضع يدها في طبق السلطة وتفرك محتوياته بيدها فتتوغل الخلطة جيدا في قطع الخضار.

 

نهى محمود

أضف تعليق