النقد والإبداع وتداخل الأنواع. بقلم:د. سيد البحراوي.

( من ذاكرة القصة المصرية)

 أكتب منذ اثنين وأربعين عاماً ، نصوصاً غير مقيدة بأي نوع كتابي ، لأني ببساطة ، كنت أكتب تلقائياً، دون أن أعرف أن ما أكتبه هو كتابة، وربما لم يكن كذلك بالفعل، خواطر ،انفعالات، تأملات ، حوادث صغيرة تركت أثراً في، ونصان طويلان أحدهما يحاول أن يسجل جريمة  قام بها أحد زملائي في الدراسة ، اختطاف طفل لا أذكر لماذا تم كشف الجريمة ، والقبض على زميلي وإلقاؤه بالسجن ، والثاني عرض لتاريخ القضية الفلسطينية من خلال رؤية طفل هجر سنة 1948.

حينما التحقت بالجامعة وضاع منى مكاني الآمن الذي كنت أكتب فيه ، انشغلت بالدراسة في القاهرة، ثم الحركة الطلابية ،قلت كتاباتي وإن لم تتوقف ، واستمر الأمر كذلك بل زاد مع انشغالي بالدراسة الأكاديمية والعمل والنقد و النشاط السياسي ، غير أن الكتابة الإبداعية ،كانت فيما يبدو ـ تطفح ـ دون أن أدرى ـ على ما أكتبه أياً كان مجاله ، فكان بعض الأصدقاء ينبهني إلى ذلك ، إلى درجة أن أحدهم قال عندما قرأ “ليل مدريد” أن كتاباتي النقدية كانت مقدمة لها ، وحين عرضت نصاً قصيراً على صديق آخر ،هو المرحوم إسماعيل العادل كاتب القصة القصيرة والرواية والمسرح ، قال : أنها قصة قصيرة تحتاج إلى”شغل بمليم” يقصد قليل من المراجعة أو الإحكام ،وذات مرة ، كنت في أواخر الأربعينيات قالت صديقة : كتبت كثيراً عن كتابات الآخرين ، وآن الأوان أن تكتب كتاباتك .

في صيف ذاك العام من أواخر القرن الماضي ، وجدت نفسي مدفوعاً دون إرادة لكتابة تجربة فتاة ممزقة من جيل ما يشبه خلال تدريبي ومراقبتي للحياة ، كنت مدفوعاً إلى الكتابة بطريقة جنونية حطمت كل مقاييس حياتي، بما فيها ساعات النوم والطعام، وأحياناً العمل ،وحين انتهيت منها أعجبت بعض الأصدقاء الذين قرءوها مع ملاحظات، ظللت أعمل عليها بعد ذلك عدة سنوات حتى رضيت عنها ، لكن ناشرين متعددين لم يرضوا بنشرها، حتى نشرت في النهاية ـ خارج مصر ـ سنة 2002 خلال الانتهاء من “ليل مدريد” بدأت أعود إلى دفاتري القديمة التي وجدتها ،كان بعضها قد ضاع كاملاً وأجزاء أخرى من بعضها الآخر ، ولم أندم كثيراً لأنها بدت لي بلا قيمة ، وجدت عدة نصوص قصيرة ،احتاجت “شغل بمليم” كانت نوة مجموعة النصوص القصيرة “صباح وشتاء” التي صدرت بعد ذلك بعام ، حين انفتحت شهيتي على الكتابة مواصلاً نفس النهج القديم لنلك النصوص مع تنويعات منهجية، وموضوعية حديثة، وهو الأمر الذي استمر أيضاً مع مجموعة “طرق متقاطعة” التي كانت أكثر تمرداً على النصوص الأولى ، بدرجة أعلى من التمرد سأجد نفس مجموعة النصوص الجديدة التي أعدها للنشر .

لا يستطيع أحد ـ ولا أنا ـ الجزم بانتماء هذه النصوص القصيرة إلى نوع أدبي محدد ، وهو ما بدا فيما كتب عنها ، وهو أيضاً ما بدا من التردد في تسميتها عند النشر سميت صباح وشتاء نصوصاً وصدرت “طرق متقاطعة” دون تسمية ، وستكون التسمية أصعب في المجموعة الثالثة، في المقابل ،فأن “ليل مدريد” و “هضاب ووديان” لم تجدا تردداً بشأن التسمية ، فهي روايات طالت أم قصرت ، وأن كانت هي الأخرى لا تخلو من تعدد الأنواع ، أما “شجرة أمي” فتداخل الأنواع فيها أوضح ، ومع ذلك يرى معظم من كتبوا عنها أنها رواية ، ومازلت غير مقتنع بذلك.

هذا عرض سريع لتاريخي الكتابي، قبل النقد وبعده، بدأته بالقول أنني بدأت الكتابة قبل أن أعرف ما هي الكتابة وما هي أنواعها، ومع ذلك فإن بعض نصوصها نشرت ـ بعد ذلك ـ ككتابة ، وحين كتبت ـ وأنا أعرف ما هي الكتابة وما أنواعها ـ جاءت الكتابات أيضاً متمردة على حدود النوع أ الأنواع التي أدرسها لطلابي في الجامعة، وأراعيها ـ دون شك ـ في نقدي لكتابات الآخرين.

هنا ـ علىَّ إذن ـ أن أعترف أنني في مأزق.

الناقد أو المعلم ـ باعتباره عالماً يحاول ـ يلتزم أو يحاول ـ يحدد فاصلة تميز الأنواع الأدبية عن بعضها البعض لا التصنيف هو أحد مهام العالم ، والمبدع ـ دون أن يقصد بكل تأكيد ـ يتمرد على هذه الحدود الفاصلة ، ويتراوح بين الرواية القصة القصيرة وقصيدة النثر أو حتى قصيدة الشعر الحر ، التأمل ، بل إنه في داخل من هذه الأنواع، يدخل أنوعاً أخرى ، في الرواية يدخل الشعر والوثيقة وفي القصة يدخل التأمل، وفي قصيدة النثر تدخل المقولات الفلسفية.

وحين أقول “منها دون أن يقصد بكل تأكيد” أقولها صادقاً لأن حالة الإبداع لدى تضعني في حالة خاصة ، هي أقصى دراجات أناي أو صدقي مع نفسي متخلصاً من أي مؤثرات سوى تحقيق خصوصية التجربة التي أكتبها أياً كان نوعها ، أي أن التجربة والرغبة في الإخلاص لها يكونان هما المهيمنان علىَّ أثناء الكتابة على الأمل  الكتابة الأولى ، بعد ذلك يأتي دور المراجعة والتنقيح ، وهنا لاشك تتدخل الخبرة الواعية للناقد الإنسان الذي يعرف أن عمله سيوجه إلى قارئ لابد من مراعاة احتياجاته قدر الإمكان، غير أن هذا الدور يأبى أن يعتدي على خصوصية التجربة وصدقها ، فقط يحرص على تحقيق ما لم يتحقق منهما من الكتابة الآلية حتى تتحقق الشروط ، أي أنه لا يعتدي على خصوصية نوع التجربة (أنواعها) ونفس هذا المبدأ (الصدق والحرص على الخصوصية) هو ما يقودني في عملي كمعلم وناقد ، لأنني أعتمد في ذلك على مجموعة من القواعد الأساسية أولاً : الإبداع ـ كما الحياة ـ سابق على النقد كعلم أو يسعى أن يكون علماً ، وعلى العلم ـ حتى في العلوم الطبيعية والبحته ـ أن يكون مرنا قابلا للمراجعة ، والعودة إلى الإبداع ومتابعة الجديد فيع تعديل مقولاته أو حتى نظرية كاملة ، إذا ثبت خطؤها أو الإتيان بالقواعد الجديدة التي تناسبها .

ثانياً : المبدع هو من يأتي بجديد وخاص ، وهو لن يفعل ذلك إلا بالخروج على القائم أو من ثم فإن معرفة القائم أمر ضروري حتى ، إن كان بهدف تغييره، ثالثاً : أن هدف الدارس المتعلم للقواعد النقدية ، ليس تطبيقها حرفياً على الإبداع لأن قواعد العلاقة الإنسانية ومنها النقد لا بد فيها من قدر عال من الانحياز لا بد من مراعاته وضبطه لصالح النص الإبداعي حي لا يشوهه أو يقتله.

ففي النقد قدر ضروري من الإبداع.. إبداع العالم؛ لأن العلم إبداع، وحساسية المبدع ونبض القارئ واحتياجات الجماعة البشرية أو المجتمع.

رابعا: ولكي يحقق الدراس أو الناقد هذه المهام عليه بالصدق مع النص ومع المناهج النقدية ومع احتياجات المتلقي أيضا.

من هنا فإنني حين أدرّس لطلابي الأنواع الأدبية؛ أنبّه دائما إلى أنها ليست مقدسة، وأن دورنا كمصريين وعرب ومضطهدين في هذا العالم ربما لم يتحقق بعد، وأن هذه المناهج ربما لا تلبي احتياجات نصنا العربي أو نصنا العربي الذي لم يتحقق بعد والذي يجسد محتوى شكلنا الخاص.

من هذا السياق فإنني أنظر إلى تعدد الأنواع الأدبية أو الأشكال في النوع الواحد أو حتى السعي إلى إنشاء أنواع جديدة هما حاجة ضرورية للمبدع في كل عصر وأوان دون أن يتعارض ذلك مع دور النقد في التأصيل والتقنين والضبط حتى يتمايز الإبداع الحقيقي عن ادعاء الإبداع.

وإذا عدنا إلى المبادئ الأساسية لنظرية الأنواع الأدبية نجد أن ظروفا اجتماعية وسيكولوجية ما؛ ترشح تطورا أو تجديدا في الأنواع، أو أنواعا أو أشكالا جديدة في النوع نفسه، وقد ينجح هذا الترشيح وقد يجهض طبقا لموازين قوى ومكونات تلك الظروف، ولا شك أن العالم المعاصر بأسره بما فيه مجتمعاتنا تمر بحالة اضطراب وفوضى تستدعي هذا السعي الدؤوب من قبل المبدعين للبحث عن أشكال وأنواع جديدة ليس فقط في الأدب، بل في كل مجالات الفنون والفلسفات وربما العلوم.

العالم في مرحلة مخاض عظيم قد يأتي بما لا نتخيله وقد …

وهنا يأتي دور المبدعين في أن يكون تجديدهم واعيا وليس مجرد ألاعيب ومهارب من ضرورات الإبداع الحقيقية والمساهمة في أن يكون الإنسان إنسانا أفضل.

أضف تعليق