تمارين الموتى. قصة: هناء متولي

                               

طق.. طق.. طق

الريح التي تعبث بالشجر، المطر الذي لا يتوقف، وانقطاع الكهرباء..

رغم شيخوختها الواضحة، تعدو طائرة بقامتها القصيرة وجسدها المنكمش، صوب المنزل المقصود، لتدق بابه خمس دقات متواصلة، وعادة تنفتح الأبواب أمامها في ترقب وقلق، كلمتان ثابتتان تنطقهما: “رسالتكم وصلت”.

***

شروق خَجِل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المُطلِّ على الترعة وحيدًا، ورغم أنه قد شُيِّد من طوب لَبِنٍ ومُعرَّشٍ بسقيفةٍ من القش إلا أنه يشع دفئًا في وجه الزمن، تنادي بصوتٍ مُتَرقِّب: “يا خالة”؛ فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعيون يقظة، لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: “لا رسائل لك!”..

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة؛ ليزيد جفاف قلبها.

تعود سناء لبيتها.. تتكور في فراشها.. تُحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم؛ لئلَّا توقظه برودتها فينكشف سرها. 

***

الخالة تتوسط السوق، تقف فوق حجارة ضخمة، تُتمتم بكلمات وأشعار يتعجب لسحرها الناس، لم يعهدوا عليها الذهاب لكتاتيب أو مدارس، ولا يعرفون من أين تأتي بتلك الكلمات البليغة!

***

في ليلة حنَّاء شقيقتها، ارتدت سناء فستانًابنفسجيًّا من القطيفة، وحجابًا زهريًّا خفيفًا، كانت تعجن الحنَّاء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تُفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف، يتلبَّس روحها ويقبض على قلبها بقسوة.. تهرب..وتحبس نفسها في مخزن الغلال؛ لتغرق في بكاء لا ينتهي.

يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس، وبمجرد ابتلاعها؛ تتقيَّأ..

يداعبها زوجها في محاولة بائسة، تبعده بعدم اكتراثٍ له في أول الأمر، لكنه يستمر في محاولاته.. تنهره.. لا يتوقف.. تصرخ في وجهه.. وتبكي..

“كيف شُفيتَ سريعًا هكذا؟!”

***

الليل ينشر أسواره التي يضربها كلَّ مساء حول القرية، تتعثر خطواتها في الظلمة، قامتها الفارعة تعوقخفتها، تصل لبيت الخالة؛ وتعودُ –كما في كل مرة- بوجهٍ شاحبٍ مكدودٍ كقوالب الطوب اللبنيِّ، زوجها الذي فوجئَت به خلفها يجرُّها من ذراعها كشاةٍ تُساقُ للذبحِ..

***

الخالة تجتمع بنسوة القرية في دار تاجر المواشي، زوجه السمين تتوسط الجلسة، وفناجين القهوة التي بين أصابعهن لا تنفك تدور عليها، تقرأ لهنَّ الطالع المختبئ بين ثنايا الخطوط المتعرجة، تُبَشِّرُ إحداهنَّ، وتُنذر الأخرى، وسناء بينهنَّ تحاصرها بنظرات يقتلها الانتظار.

تنفرد بها الخالة:

– يا ابنتيِ، لا حيلة لدي..

– خبرتك تكفي..

– ربما هناك حائل بينك وبين رسائله!

***

تهجر مخدعها وترقد في الغرفة الأخرى.. تغفو للمرة الأولى منذ زمن بعيد.. ترى كابوسًا.. الشوك يغطي جسدها.. والنار تخرج من صدرها..

في الصباح، ترتدي الأبيض.. وتزور قبر ولدها الوحيد.. تفترش التراب أمامه.. تضاحكه وقد أحضرت ألعابه القديمة.. والعنب الذي كان يُفضِّلُهُ.. وظلَّت تغني له وتروي قصصًا.. وتبتسمُ!

الليل يدفعها إلى بيتها، تُحضِّر الطعام لزوجها ولا تأكل معه، تكتفي بالوحدة في الغرفة الصغرى، وتشعر بتلصصه عليها، لكنَّها ما عادت تكترث.

ظلَّت على هذه الحال شهر كامل نفد  فيه صبر زوجها.

– لننس حزنًا وننجب طفلاً.

– لطالما تمنَّيتَ موته..

– تمنَّيتُ الراحة له ولنا.

تُديرُ وجهها عنه، وتعود لصمتها الطويل.

***

اعتادت أن تُغلق الغرفة بالمفتاح، وأن تبكي دموعًا صخرية، تعاودها ذكريات مريرة، حاول زوجها كثيرًاأن يقنعها بأن إعاقة طفلهما الجسدية والعقلية قدرًا لن تُغيِّره  أموال الدنيا، وأنَّ موته كان حتميًّا، لكنها كانت تزداد تكوُّرًا وانتحابًا، وفي أيام مرضه الأخيرة قذف في وجهها جملة لا يزال صداها في أذنيها.. “الولد مات”..

تدفعها الكراهية خارج الغرفة، تراه جالسًا على مقعد بجوار الباب.. “أكرهك.. طلِّقني”.

في الصباح، يترك لها البيت.

تشعر بالراحة، للمرة الأولى التي يخلو لها البيت مع روح صغيرها.. “هل تزورني الليلة؟”

***

كرامات الخالة تتنامي لخارج القرية، وقد اعتادت الجلوس أمام منزلها؛ لتشهد الغروب، وتمضغ أوراق التبغ، وبينما هي كذلك، إذ فاجأتها سناءكالريح الغاضبة، وفي لمحة خاطفة تقبض على كتفيها بوجه يزوم.. “أنت كاذبة ودجالة..الموتى لا يبعثون الرسائل”.

***

سناء تشعل البخور، وترتدي الأبيض، تمشط شعرها، وتتركه مسترسلاً حتى منتصف ظهرها، تجهز سلة من العنب الأحمر، تُرتِّب الألعاب القديمة، وترفع صوتها بأغنيته المحببة، وتُجبر الخالة على البقاء معها حتى تصل الرسالة وإلا فليكن ما يكون.

وكامرأةٍ مُجرِّبة تعرف الخالة أنَّ أُمًّا فقدت طفلها الوحيد ببطءٍ لن تتراجع عن تهديدها، وبالرغم من ذلك تحاول تهدأتها قدر المستطاع.

– لماذا تجلسين كالصنم هكذا؟ افعلي شيئًا..

– يا ابنتي، لا أفعل شيئًا، الرسائل تصل بإرادة مُرسليها..

تثور سناء.. تُحطِّمُ ما تطوله يديها.. تحاول أن تخنق الخالة بمنديلها الحريري، بينما لا تقاومها.. تركَت نفسها كالجسد الميتِ، وفي الحقيقة لم تكن سناء قد أحكمت المنديل حول عنقها.. مجرد ثورةٍ تنفِّث عن مرارة الانتظار وطول الفراق وحسب..

“ماما”..

لقد كانت نبرة صوته.. إنه هو بالفعل.. تُقَبِّل رأس الخالة وقدميها، وتسألها السماح، لكنها لم تنبس بكلمة واحدة.. فقط، تركتها ورحلَت.

أغمضت سناء عينيها؛ لتتشبع بصوته.. لقد أبصرته بالفعل.. رأته واقفًا كما لم يحدث من قبل، جسدهمشدود، ووجهه بلا ألم.. تحتضنه.. وتبكي.. تتشمم رائحته وتتحسس شعره الكثيف، وتغيب في بريق عينيه.. “انتظرتك طويلاً يا ابن قلبي”.. يُجفِّف دمعها؛فتناوله عنقودَ عنبٍ.. لا يأخذه منها؛ فراحت تغني له وتحكي بعض القصص.. ينام على فراشه وقد حوَّطته بذراعيها، ما عادت تعرف الوقت، ونامت من فورها بقسمات مرتخية.

***

بعد أن عرفت الطريق ما عادت تطوف حول كآبات الطوب اللبنيِّ، صوته يتمدَّد في أذنيها، وروحه تسري في روحها، تحتلُّها.

يعود زوجها للبيت رغمًا عنها.. حزن ثقيل يجثو على قلبها؛ فبعودته يغادرها طيف ابنها.. تفكر سرِّ التنافر بين الأب وابنه..

الحزن لا ينفد!

الحزن يتجدد!

تنظر للفراغ وتُتمتمُ.. “لماذا تكره أباك؟”

في المنامِ، ترى ابنها في ساعته الأخيرة مُمدَّدًا على سريرٍ أبيض والأجهزة المزروعة في جسده النحيل بالكاد تعمل بخفوت، ورأت زوجها يُمرِّرُ أصابعه في خصلات شعره وقد تحدَّرَت من عينه دمعةً قبل أن يغادرَ الغرفة مع صوت توقف الأجهزة.

6

أضف تعليق