ـ بين شغف البدايات وقسوة النهايات في قصص المجموعة ، يرسم الكاتب عالماً يفتح فاهاً لابتلاع كل شيء وطمس كل جميل ، ولا سبيل في النجاة منه ، والهرب من أسواره المنيعة ، وأبوابه التي تحليها الجنازير والأقفال ، ولا أمل في قمع الظلام ولو بشعاع ضوء يتسلل من ( خرم إبرة ) ، لتأتي الأحلام في الوقت المناسب في محاولة لفهم هذا العالم بطريقة مبسطة وأكثر شمولاً واتساعاً ؛ فتعيد له توازنه حتى يسلك الطريق الصحيح ، طريق المعرفة الذي هو مفتاح كل خير .
فيصور لنا في مجموعته : ( لمح البصر ) : تجربته الشخصية مع الحياة ، ومع موهبته التي لم يكن مهتماً بها ، أو ربما لم يكن يعرفها وسط عثرات الحياة الكثيرة ، والتي اكتشفتها ( الأم ) المبدعة ، وكف أنها تصرفت معه بطريقة أكثر إبداعاً ، دون زجر أو نهر متحلية بعاطفة الأمومة في أول قصة في المجموعة وهي قصة ( حبر على ورق ) ، حيث تحذره من الكتابة بالحبر ، وهذه هي طبيعة الكبار وقتئذ في التعامل مع الكتابة ، ودليل على أن النص يحتاج إلى جهد حتى يمكن تنقيحه والاطمئنان إلى أنه خال من الأخطاء ، كما دعته للبعد عن الإهمال في حق نفسه والذي رأته في لحيته وفي نظارته ؛ فأخذته إلى سينما مسرة وتركته هناك ، وعادت إلى البحر .
” كانت حزينة ، وربما مريضة ، وغير قادرة على الكلام . أشارت إلى لحيتي المهملة ، ونظارتي ؛ ففهمت . ثم نهضت ، ومضت . فتبعتها إلى شارع شبرا . لكنها تجاوزت المدرسة ، وبيت جدي ، وعندما اقتربنا من سينما مسرة ، تركتني هناك ، وعادت إلى البحر ” .
ـ الفقرة السابقة تؤكد على مدى وعي الأم ، فهي تريد أن تثقل مواهب ابنها الفنية بطريقة غير مباشر ، يتعلم ويرفه عن نفسه . فالسينما هنا بمثابة المدرسة التي يتعلم منها الفن على أصوله ، وعليه أن يرى ويشاهد ويقرأ ، وألا يستعجل الكتابة .
الارتباط الوثيق بين القصة الأولى والقصة الأخيرة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ هناك ارتباط وثيق بين القصة الأولى ( حبر على ورق ) والتي تحدثنا عنها ، وبين القصة الأخيرة في المجموعة وهي قصة ( لمح البصر ) .
ففي ( لمح البصر ) يبدو أنه أعجب بالترفيه وركن إليه ، وتمادى حتى نسي نفسه وموهبته ، بل نسي حقيبته التي ربما كانت حقيبة المعرفة ، والمرأة التي أرشدته إلى الطريق هي نفسها ( الأم ) التي نصحته بعدم الكتابة بالحبر ، وهي التي وصلت به عند ( سينما مسرة ) . وهي التي وصلت به عند ( محفوظ ) ، وكأنها تقول له : ( انت محتاج قرصة ودن من راجل كبير له سطوته ) . وهذا يتفق مع صمت ( محفوظ ) وغضبه منه لأنه يقصر في حق موهبته ، لكن ابتسامة وجهه تؤكد فرحته بوصوله ، وكأنه يقول له : أخيراً .
” فمضيت بينهم وهم لا يحفلون ، وأنا أراه منكفئاً كأنما يقرأ في كتاب بين يديه ، ورأسه مغطى بغترة من شاش أبيض ، وما إن انتهيت إليه حتى رفع رأسه ؛ فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسماً ، فلم أدر ماذا أفعل ؟ غير أني ناولته الحجر الذي طرقت به الباب ؛ فأخذه مني ووضعه في خرج بجواره ، وعاد ينكب على كتابه ، فوقفت مرتبكاً ، لا أدري ، إن كنت أجلس بينهم ، أم أعود من حيث جئت ” .
ـ الحجر الذي ناوله ل ( محفوظ ) هو صناعة الأم أيضاً ، وكأنه واسطة منها ، تماماً مثلما يقدم ( سيد الوكيل ) كاتب مثل / محمد عبدالقادر التوني إلى مجموعة من الكتاب الكبار ! .
ـ الطريف : أن النهاية في القصتين , القصة الأولى ( حبر على ورق ) ، والقصة الأخيرة : ( لمح البصر ) تكاد تكون واحدة ، أو ذات هدف واحد ، وهو الاعتماد على النفس ! . ففي الأولى : تركته الأم عند السينما ، وعادت إلى البحر . وفي الثانية : تركه ( محفوظ ) وعاد ينكب على كتابه ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كانت القصة الأولى ، والقصة الأخيرة ، قد صنعا ما صنعا من كشف السر ؛ فماذا عن بقية القصص ؟ وماذا عن نهاياتها ؟ . وبغض النظر عن نهايات بقية القصص على كثرتها ؛ فإن ما فيها من ألم ، وضيق ، وسخف ، وأنفاق وتعاريج كثيرة ، والتضليل الإعلامي في النهوض بأنصاف المبدعين ، و … و إلخ ، ما هي إلا مبرر لسنوات الضياع التي أخرت وصوله طويلاً منذ نصيحة الأم في ( حبر على ورق ) وصولاً إلى ( لمح البصر ) ، والتي أشار إليها بثلاثون عاماً في قصة ( حق العودة ) : ” حملت زوجتي حقيبة ملابسنا ، حقيبة صغيرة بما لا يليق بثلاثين عاماً من الزواج ، وعندما اقتربنا من الباب ، ألقيت نظرة على أثاث البيت ، وتساءلت : كيف عشنا كل هذا العمر نتنقل من بيوت ليست لنا ” .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك ارتباط وثيق بين قصة ( حقيبة المعرفة ) ، وهي القصة قبل الأخيرة ، والقصة الأولى ( حبر على ورق ) ، والقصة الأخيرة ( لمح البصر ) .
فمثلما شُغل في الأولى وأهمل نفسه ( اللحية والنظارة ) ، نجده في قصة ( حقيبة المعرفة ) قد وصل إلى حالة من التذمر ، ربما يترك معها كل شيء ، وهو ينظر في العادات والتقاليد التي تغيرت في بلده ، والتي جعلت الرجال يشبهون النساء . والذي كان من نتائجه : أن سبقه رفقاؤه ، الذين لم تشغلهم مثل هذه الأمور ، لتظهر له المشنة التي أكل منها حبتي تين ، في حين أخذ يبحث عن صاحبتها فلم يجدها ، هي نفسها المرأة ، هي نفسها الأم جاءته مستترة تحمل له علاجاً وغذاءً ، وتقوده إلى الحكمة مثلما قادته إلى سينما مسرة ، ومثلما قادته إلى محفوظ ، تقوده الآن إلى الشيخ الملتحي .
” أخرجت نقودي لأترك لها ما يناسب ، لكنه أمسك بيدي وأخذ النقود كلها ، فتركتها حانقاً ، وأنا أحادث نفسي ، كل هذا في حبتي تين ؟ فقال : لا تنسى ( برطمان ) العسل الذي دسسناه في حقيبتك ” .
وهنا كأن الشيخ يقول له : لا عليك ؛ فكل هذا هين ، الأهم أن تعود إلى حقيبتك ، حقيبة المعرفة ؛ فالخير كله فيها حتى وإن أفلست ! . فإفلاس المال ليس افلاساً ، ولكن الإفلاس الحقيقي هو إفلاس المعرفة والتي فيها تكمن كل العلوم والأخلاق . والتي بها فضل الله آدم على الملائكة وأمرهم بالسجود له . وعندما جهل بها وأكل من الشجرة ، كان عقابه شديد بالشقاء في الدنيا .
ـ وفي قصة ( أمر هدد ) تأكيد على أن قوة الإنسان تكمن في علمه ومعرفته ، لكن على النقيض نجد من يتربصون بهؤلاء ، ويحاولون قدر المستطاع إطفاء شمعتهم التي تكمن في العلم والمعرفة ، وذلك بطرق ملتوية يحار العقل في فهمها ؛ فهو يقتل وكأنه يقدم خدمة ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي قصة ( ترام آخر الليل ) ، تأتي النبوءة من قامة أدبية كبيرة ” يوسف السباعي ” الذي كان أول من قدر موهبة ” سيد الوكيل ” ومنحه جائزة على أول قصة كتبها . يشجعه على الاستمرارية : ” القارب في انتظارك ” . وكأنه ينتشله من الضياع أ يخشى أن تضيع موهبته في معمعة الحياة وضغوطها .
وهناك ربط جميل بين هذه القصة ( ترام آخر الليل ) ، وبين قصة ( لمح البصر ) ، فكلاهما في الإسكندرية . كما أن هناك ربط جميل في القصتين ، بين سؤاله للمرأة : أين الطريق ؟ ! في ( لمح البصر ) ، وبين : ” القارب في انتظارك ” في ( ترام آخر الليل ) . وبين : سيد الوكيل ، ونجيب محفوظ ، ويوسف السباعي ) .
ـــــــــــــــــــــــ
وإذا قرأنا الومضة القصصية التي جاءت لسان / سيد الوكيل في صدر المجموعة :
قلت : ما الحلم ؟
قالت : أن تنظر بداخلك .
قلت : وما الرؤية ؟
قالت : أن تحدق في النار .
قلت : يا لها من وحشة .. يا له من ألم !!
قالت : ها أنت في الحقيقة تعيش .
ــــــــــــــــ فقد استطاع سيد الوكيل في هذه الومضة ، أن يرسم العالم الذي صورته كل قصص المجموعة في لحظة أو في لمح البصر ! . وفيها تأكيد على أن المعرفة تحتاج إلى جهد كبير ، وصبر مرير ، وقوة صلبة لا تهزها مطبات الحياة .
ــــــــــــــــــــــــــ
النتائج التي انعكست على ” سيد الوكيل ” من هذه المجموعة :
1 ـ ولاءه للكبار والاعتراف بفضلهم ( يوسف السباعي ـ نجيب محفوظ ) .
2 ـ أكسبته إنسانية قلما وجدت عند أحد غيره . فهو يأخذ بيد المبتدئين من المواهب الحقيقية ويضعهم في الطريق الصحيح أو يرشدهم إليه ، وكأنه دين عليه . وقد لمست فيه ذلك شخصياً من خلال تعاملي معه ، فهو المعلم ، وهو الأخ ، وهو الصديق الذي لا يتعالى ولا يتكبر رغم تقصيرنا .
ــــــــــــــــــــــــــ وفي الأخير .. فهذه القراءة ما هي إلا لمحة بسيطة بالنظر في هذه المجموعة الزاخرة التي تتسع لقراءات وتأويلات كثيرة لا تتسع لها الصفحات ، وحسبك أسلوبه الفني في معالجة القصص ، فما من كلمة إلا ولها دلالتها ؛ ففي سطور قليلة ، وبكلمات محدودة ، يخلق حدثاً كبيراً مشحوناً بالأزما