مراد ناجح عزيز

نداء شمس. قصة: مراد ناجح عزيز

………….

لم يكن ..

هُناك آليّة لتفكيك الوقت, سوى نبش أفكارنا عن لُعبة تلتهم السّاعات.

لُعبة( الإستغماية) احترفها الصِّغار في شتّي القُرى والمدن, بحثًا عن ضالّتهم مِن السّعادة, لا سيّما في بُقعة من الأرض, استدار وجه الزّمان لها, فطابت لأنياب الظّروف أن تنعم بها.

 (خلاويص) نداء يسبق استدارتي وفك رُباط المنديل القُماشي الذي يعصب عينيّا للبحث عن أصدقائي ومطاردتهم أينما وُجدوا والإمساك بهم قبل العودة إلى نقطة البداية, وماهي إلا خطوات قليلة لا تكفي للتجوّل داخل شقة مكونة من غرفتين ازدحما بقِطع الأثاث, مُندهشًا أحاول استعادة ذاكرتي للمكان, الذي بدا وكأنّه عالم آخر, يحمل نفس التّفاصيل, نعم, ربّما هو اختلاف بسيط, فبعض المحال التجارية

لم تكن موجودة من قبل, أعمدة الإنارة لم تكن بشكلها المعهود, يبدو أن يدًا ساحرة حوّلت الشّارع الطيني, لرصيف مسفلت دون شائبة من الحُفر, إذ لا يوجد أثر لأمطار تركت بِركًا من الماء, تتقافز أعلاها أقدام الرجال, بينما تحاول بعض الفتيات تفاديها بالسير التصاقًا بالبيوت أسفل البلكونات, في حين كان لبعض الأطفال رؤية أخرى للعبث داخلها.

تصفّحت وجه السّماء, لا أثر لغيوم بها, أطلت النظر إليها, نعم هي جارتنا, متسربلة بثياب سود, تُصفف بعض قمصان هي الأخرى غابت عنها بهجة الألوان, غير عابئة بما يدور وليس من عاداتها, إذ كانت تكيل لنا الكثير من الشّتائم, تحاول منعنا من اللعب بالقُرب من منزلها, حتى يتمكن زوجها من اخذ قسط من الراحة بعد عودته

من العمل.

ثمة سيّارة بغير اكتراث تخوض في بركة ماء, ربّما كانت حُفرة عمل ما تركها العمّال دون عناية في تغطيتها, وقد تناثر الطين ليلطّخ ما استقر على جسد طاعن, لم يستطع تفاديه بخفّة أو الابتعاد دونما خسائر, نعم هو احد أصدقائي لعلّه اختبأ في وجه رجلا خمسيني, تقوّس ظهره قليلًا, تنحت في الأرض خطواته التي تبدو زاحِفة, يسعل كثيرًا كلّما أفضى ببعض أنفاس سيجارته زفيرًا, لا لا ليس هو, أين مرونة جسده إذًا؟ التي طالما أبهرنا بها خِفّة ومهارة, أين وملاحة وجهه؟ وقد اعتراها عبوس, يكاد ينطق إذا ما تحدّت إليه, ولما ذا لم يُعرني اهتمامًا؟ وبالأمس تقاسمنا قطع من حلوى( الجلّاب) في ساحة المدرسة, ماذا حدث؟ لعلّي أهدرت طاقتي في البحث عنهم في المكان الخطأ, نعم هو كذلك, فلا وجه يتكشّف لرؤية حقيقيّة,

ولا هو صوت شجار عائلي تقذفه النوافذ خارجًا, ليهبط على مسامع البعض ممن اعتادوا مثل هذه الخلافات بنوع من البرود, حتى وان تحطم زجاجها.

هززت رأسي في محاولة خلق مناخ أفضل للبحث عنهم, ساقتني قدماي لعبور الطريق, أحاول انتهاز الفرصة للمرور منتبهًا لحركة السّيّارات, فلربّما كدّرت خطواتي المتعجّلة صفو مرورها, فانهال صاحبها بالسباب والشّتائم زجرًا, وربّما كانت الفاجعة بسقوطي أسفل عجلاتها, للتّو وقع بصري عليها, تحاول هي الأخرى المرور مكبّلة بطفل على يسراها وأخر على يمناها, تتأفف من طول الطريق, تتصبب عرقًا, تتصاعد أنفاسها في ضيق, بينما تنتفخ بطنها بأخر لم يرى النور بَعد, هي الأخرى لم تعُد هي, ولم تبادلني أي شعور بمعرفة, رغم سؤالها إذا ما كانت تحتاج إلى مساعدة. عبثًا ما يحدث, أظن ذلك, مُسرِعًا بما يسمح لخطواتي, أتحسس الطّريق إلى منزلنا, فلربّما هو الأخر أصابه ما أصابني, لا سيّما وأمام المرآة عاينت انحسار شعر رأسي على جانبيه تمامًا, مغارة لا تشي بوجود أثر لشيء, إلا من بقايا أضراس وأنياب تفرّقت, مِنضدة بالقُرب من فِراشي, تكوّمت عليها صنوف أدوية تعددت أغراضها, صِورًا تُغلّف بعض مساحات من الحائط, وتوثّق لأزمنة غضّة.

(خلاويص) أظنّه نداء شمس, كان مقصِدها أن يستفيق الكون من غفوته, في حين جلست أُتابع ابتسامتها, تكشف عن وجه أخر, لا يدع مجالًا لمرور الوقت, يستنزف طاقته في البحث عن طفولة غائبة ووطن بعيد.

أضف تعليق