مستويات التغريب في رواية السفر: سيد الوكيل

حظيت تجربة السفر بحضور لافت في الرواية العربية ، وهو حضور يبدو أكثر إلحاحاً في الرواية المصرية ، ولاشك أن هذا الحضور تنامي بسرعة كبيرة منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، متزامنا  مع إرهاصات التجديد في الرواية المصرية والتي عبرت عن نفسها بقوة بداية من التسعينيات في نفس القرن ، بما يدلنا على أن رواية السفر شكلت جانباً من روافد التجديد الذي عرفته الرواية أو على الأقل أسهمت فيه  ، وبحيث يمكن القول إن السفر أصبح موضوعاً روائيا متفرداً وجديداً على الرواية العربية ،  يذكرنا بموضوع الرحلة في القصيدة العربية القديمة ، الذي انتهى إلى تحديد مقوماته الجمالية واللغوية ، فضلا عن التقاليد البنائية وما أنتجتها من صور وتراكيب ظلت قرينة التجربة الشعرية حتى تخلصت من عمودها .

فهل يمكننا العثور على مقومات جمالية مميزة لتجربة السفر في الرواية الجديدة ؟أم أنها تماهت في السياقات العامة لملامح الفن الروائي الذي يخضع لتأثيرات فلسفية وثقافية كبرى تشتغل على البعد الجمالى والأسلوبى دون الالتفات إلى التأثيرات الموضوعية ، وكأن الموضوع (المضمون) مادة محايدة، يمكن معالجتها في أنساق جمالية  مختلفة ؟.

ويسعى هذا البحث إلى تلمس مظاهر حضور موضوع السفر وما أنتجه من جماليات وطرائق في التعبير السردي، فضلاً عن زوايا النظر والرؤى المختلفة الذي حظي بها عبر تنوعاته المختلفة .  

وفي هذا السياق ، يمكن ملاحظة أن أكثر الكتابات التي تناولت موضوعة السفر ـ إن لم يكن كلها ـ عبرت في نفس الوقت عن تجارب حية وحقيقية عاشها كتابها ، نتيجة هجرات قاموا بها مدفوعين بظروف : بعضها سياسية على نحو ما نجد في رواية هالة كوثراني ( الأسبوع الأخير ) حيث وجد جيل ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية نفسه محطماً نتيجة لسيناريوهات سياسية معقدة، وأكثرها  اقتصادية تمثلت في طفرات التحديث وازدهار سوق العمل حول مناطق الثروة النفطية في الخليج العربي، في مقابل اضمحلال راح يأكل مناطق أخرى مثل مصر والسودان وبلاد الشام . مما أدى إلى مايشبه الهجرات الجماعية من مناطق الفقر إلى مناطق الثراء ،غيرت كثيراً من التركيب الثقافي والاجتماعي في تأثيرات متبادلة شديدة الفاعلية على نحو مارصدتها ( عزة بدر ) في رواية : في ثوب غزالة .

  ولعل هذا الرصيد من التجربة الواقعية لرواية السفر، يضعها جنباً إلى جنب مع رواية السيرة الذاتية ، التي شهدت ـ هي الأخرى ـ حضوراً متميزاً في نفس الفترة ، ومن ثم يمكن ملاحظة بعض التأثيرات المتبادلة بينهما ، كتلك التي نجدها في الاعتماد على السرد من ضمير المتكلم  واقترانه بدواعي النوستالجيا واسترجاعات للذاكرة، ومقاربة المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع كمحاولة لدحض دوافع الاغتراب،على نحو ما جسدته رواية ( الأسبوع الأخير ) لهالة كوثراني،  فضلاً عن استضافة أساليب وتقنيات سردية  توهم بحضور المؤلف في النص، وما يستدعيه ذلك من نزوعات توثيقية عبر أبنية مثل : اليوميات والتسجيلات والرسائل والاعترافات . وقد جسدت رواية ( أشجار قليلة عند المنحنى ) لنعمات البحيري، نموذجاً للطابع السير ذاتي للرواية السفر. وهنا يمكن الإشارة إلى أن اقتحام المرأة لرواية السفر على نحو مانجد عند (حنان الشيخ ـ نعمات البحيرى ـ عزة بدر ـ هالة كوثرانى ) مثّل إضافة لتلك التجربة من حيث سطوع الحس النسوي ليضفي على تجربة الاغتراب المكانى بعداً جديداً يتمثل في الاغتراب الذاتي . 

 لكن المؤكد ، أن التناول الأدبي لموضوعة السفر في الرواية ، أعمق زمنا من هذه الفترة التي نتوقف عندها في هذا البحث ، فلدينا تجارب أولى بارزة ، تناولت السفر إلى أوروبا على نحو ما يمثل لها بعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم ، وقنديل أم هاشم ليحيى حقي ، مروراً بموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح وغيرها من الروايات. ومع ذلك لا يمكننا اعتبار راوية السفر التي نتحدث عنها اليوم ، امتداداً طبيعيا لمثل هذه التجارب الأولى .

فالروايات الأولى ، التي سجلت تجارب السفر إلى أوروبا ، كانت مشغولة بصورة الآخر كوسيلة لإدراك لذاتها ،  كأن تجسد رغبتها في البحث عن نقطة التقاء مع الآخر ـ من حيث هو نموذج للحداثة والتفوق الحضاري والمعاصرة ـ لتؤسس من خلالها فهما جديداً لهوية متوازنة بين تطمينات الأصالة ومغامرات المعاصرة التي تطلع إليها المجتمع العربي في ذلك الوقت ،على نحو ما نجد عند توفيق الحكيم ويحيى حقى .

 وفي مرحلة تالية عبرت رواية السفر عن رغبتها في فضح صورة الآخر المستبد وكشف صور الاستعلاء التي مارسها الغرب المستعمر، كما نجد عند الطيب صالح في ( موسم الهجرة إلى الشمال )  والتي اعتبرت بداية ناضجة لرواية ما بعد الاستعمار ، فضلاً عن تنويعات هذه الصورة التي تناولت طابع الاغتراب، وجسدت ملامح العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب كما نجد في الكثير من الروايات المغاربية التي سجلت تجربة السفر أو الهجرة إلى الشمال الأروبى  ومازالت تجد أصداء من الفتنة لدى الكثير من كتابها. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن رواية السفر المغاربية ، قد أسهمت إلى حد بعيد في تشكيل ٌنسق جمالي خاص بها ، ويميزها عن رواية السفر في المشرق العربي على نحو ما نرصد لها هنا. وذلك التمايز يظهر على نحو خاص في موقف الذات الساردة ، وتنامي مشاعر الاغتراب بمعناه الحضاري والثقافي الذي يتجسد في مأزق اللغة .

وهذا الخط ، يمكن ملاحظته بنسب متفاوتة في كل الروايات التي سجلت لتجربة السفر إلى أوروبا ، ولكننا نراه أكثر اشتباكاً بالقضايا السياسية ، وأكثر تعبيراً عن أزمة المثقف العربى ذاته ـ لا الثقافة العربية  ـ بحيث يجسد صورة المثقف المأزوم كما نراه في رواية (الحب في المنفي ) لبهاء طاهر . فبطل بهاء طاهر ـ في الحب في المنفي ـ هو نفس المثقف المأزوم الذي أصبح حضوره علامة مميزة في كتابات بهاء طاهر.

أما رواية ( شهرزاد على بحيرة جنيف ) لجميل عطية إبراهيم ، فتشكل نقطة مفصلية في تاريخ رواية السفر إلى أوروبا، كما أنها تكاد تكون مميزة بين روايات السفر بهذه الصفة ( تجربة السفر إلى أوروبا ) فهي  تخط لنفسها طريقاً جديراً بالاهتمام والنظر على ضوء مفاهيم الكونية ومعطيات العولمة ، وظني أن هذه الرواية ـ التي بدت للبعض مجرد تأملات ساخرة لقضايا ساخنة تحتوى كثيراً من مظاهر التجديد التي نزعت إليها رواية ما بعد الحداثة. 

 في حين ركزت الروايات التي سجلت تجربة السفر إلى دول الخليج العربي، على  طابع النوستالجيا، فضلاً عن تنبيهات هينة  ومقارنات يسيرة  لطوابع ثقافية بين البيئات المختلفة، مع نبرة تميز أو تفوق تمجد موقف الذات الساردة وتعلي من قيمة بيئتها الحضارية والثقافية على نحو مانجد عند إبراهيم عبد المجيد في روايته المهمة ( البلدة الأخرى ) والتي تتميز بحضور واضح للذات الساردة يقترب بها إلى السيرة الذاتية وكأن إبراهيم عبد المجيد لم يكن مشغولاً بتجربة السفر نفسها، بقدر انشغاله بتجربته هو مع السفر، بما يمنح الذات الساردة درجة كبيرة من الوعى بموقفها وحساسية عالية بالمأزق  الحضاري الذي تنزلق إليه المنطقة العربية  في تركيزات هادفة على المغايرات السلوكية والثقافية التي تهدد الذات.

غير أن هذا الحضور الكثيف للروايات التي تناولت تجارب السفر الشرق العربى يفضى إلى تنوع جدير بالنظر، وهو تنوع يقوض نظرتنا التصنيفية لها كمجرد رواية عن رحلة سفرـ وإن بدت في ظاهرها ذات مقومات موضوعية متشابهة ـ نتيجة لاشتغالها على التفاصيل الصغيرة التي تسجل لمعطيات الحياة اليومية فضلاً عن الانعكاسات النفسية التي تجسدها . 

وليست لدينا بيبلوجرافيا واضحة عن الروايات التي تناولت تجارب السفر إلى الدول العربية ، غير أننا نظنها واسعة الانتشار والتعدد ، سواء في

 طرائق تناولها للتجربة نفسها ، أو بحسب البيئات التي تناولتها ، وهى وإن تركزت في محيط (الجزيرة العربية) إلا أنها طالت بلاداً أخرى مثل: العراق وليبيا.

 ويحضرنا في هذا الصدد رواية لافته على نحو بازغ للروائي فتحي امبابي (مراعى القتل) .التي حصل بها على جائزة الدولة التشجيعية ، وكانت تتناول تجربة الرحلة إلى ليبيا ، وما تعرضت له مجموعة الشباب المصرى ـ  الذين أنهوا حياة الجندية بعد عقد اتفاقية السلام ـ  حاولوا عبور الحدود في متاهة صحراوية بلا حدود .وفي سياق مجاور تكاد ترهص رواية ( بغداد لا أحد) لجمال عبد المعتمد، عن المأزق السياسي الذي أفضى إلى نفق مظلم تعيشه العراق الآن ، والجدير بالذكر أن الرواية كتبت في أعقاب الغزو العراقي للكويت ، ومن ثم عكست المأزق العربى ، حيث أصبح غزو الكويت بمثابة احتبار كاشف للذهنية السياسية التي تدير الواقع العربي .

أما رواية رواية ( دليل التائه ) لمحمد غزلان ، فقد عمقت دواعى الاغتراب العربي على مستوى تاريخي، يضعنا في سياق سردي محكم البناء في مواجهة مؤلمة مع مصير المنطقة العربية في غمار تناولها لتجربة أب سافر إلى العراق بحثاً عن ابنه الذي احتفي بعد حرب العراق وإيران،  ليعثر عليه ـ في النهاية ـ داخل أحد السجون العراقية، وبالتحدي سجن أبو غريب.

على أي حال، فإن نمو هذا الخط (رواية السفر)  في الرواية العربية صار أكثر وضوحاً، وتشكل بمنعطفات جمالية وفنية عديدة في رحلته الطويلة، بما يعنى أن تتبع هذا الخط يعمل مثل بطاقة جينية توقفنا على الكثير من ملامح الرواية وتطورها ، والمكتسبات التقنية والجمالية التي جسدتها الروايات الأخيرة منها.

 وهنا سوف نعرض لعدد من الروايات التي صدرت حديثا ، لكتاب اختلفوا في خبراتهم وزوايا نظرهم لموضوع السفر، وهو اختلاف يستدعى بالضرورة اختلاف آخر، تعكسه جماليات التجربة السردية لكل منهم. هذا التنوع سوف يفيدنا في الوقوف على وجوه مختلفة لتجربة السفر في الرواية، في نفس الوقت الذي يوقفنا على ملامح التجديد التي اكتسبتها رواية السفر، وميزتها عن الروايات الأولى .

 وسوف نعمل على قراءة  لخمس روايات ، بمثابة تنويعات مختلفة على معزوفة السفر / الهجرة ، في محاولة للبحث عن الملامح المميزة لأبعاد رواية السفر في مستوياتها الجمالية والدلالية ، والوقوف على مظاهر التحول والاختلاف والتجديد، في موضوع بدا لنا في كثير من الأحيان كيانا واحداً . ينظر إلية بوصفه رواية عن تجربة السفر:

1ـ المكان : من الموضوع إلى الذات، قراءة في رواية (الأسبوع الأخير) لهالة كوثرانى .

2ـ الذات كمعنى حضاري : قراءة في رواية (البلدة الأخرى ) لإبراهيم عبد المجيد .

3ـ التأثيرات الثقافية المتبادلة: قراءة في رواية (في ثوب غزالة ) لعزة بدر

4ـ دليل التائه ، وصورة الاغتراب العربي : قراءة في رواية ( دليل التائه) لمحمد غزلان

5ـ الكونية وغزو الآخر: قراءة في رواية ( شهرزاد على بحيرة جنيف ) لجميل عطية إبراهيم .

أضف تعليق