الناطق..قصة:أمل الفاران

الناطق

 

لم يكن منصور يحيي الموتى، لكنه كان يخلق الأشياء بكلمة منه. أدرك ذلك صبيّا فتعلم كيف يخزم لسانه. لن يكون أبكما تماما فللغلام حاجاته.

ذات صباح شتوي بعد أن ملّ القفز فوق أطناب بيت شعرهم المنفرد قال “كلب” فانهد طفحان من خلف شجيرة عشرق. استلقي الجعري بين يدي سيده الجديد جذلا. من يومها غدا رفيق الولد وظله.

بعدها بفترة صاحب منصور والده للأفلاج، رأى فتية يسابقون الريح على عجلات والرمل لا يمس أقدامهم، قال الكلمة فتشكلت دراجة حمراء صقيلة في حوض سيارة والده. عاد منصور بها وصارت تسابق طفحان في المسيل الجاف كل ضحى.

في سن السبع سنوات قال: مدرسة!

نظر أبواه لبعضهما: أين المدارس من بيت شعر بين كثيبين تزاور الشمس عنهما؟ كرر منصور الكلمة فنبت مبنى حكومي مترب وراء الشعيب، نهضت جدرانه، ارتفع سقفه، انفرشت سجادة إسفلتية سوداء حتى بابه واكتظ بالسبورات والأولاد والمدرسين.

كان لحياة منصور أن تكون سهلة جدا، لولا أنه وفي حالات نادرة ينطق ما يخشى أن يراه فيتحقق. في التاسعة قال موت فخرّت أمه صريعة، وتزوجت شقيقاته من غرباء ذهبوا بهن.

بعد أن صار منصور في طول أبيه طوى الإثنان بيت الشعر واستقرا في السليّل. لم ترهب بيوت الاسمنت وأبواب الحديد الشاب لكن والده ذوى بسرعة.

في السليّل صار لمنصور أصدقاء وقلب. لا في غمضة عين، فهو كما تذكرون لا ينطق بسهولة، والناس لا يرون إلا ما يقال. ظل أسابيع يفحص وجوه الجيران. ما إن تجرأ فقال صديق حتى التصق به حمّاد. أحب منصور رفقة نحيل الوجه غزير الشارب. أحب ضحكاته المجلجلة ولفتاته السريعة، أحب قصصه المكذوبة، وأحب أكثر من كل شيء ضجيجه الذي يجعله لا ينتبه أن منصورا لا يتحدث كثيرا. بعد أن اعتادت قدم منصور بيت صديقه خشي على علاقتهما الكنز أن تنهار. انبجست الكلمة من شفتيه كفقاعة، قال: مشكلة. نطقها فلطمه حمّاد لطمة مدوية وطرده من مجلسه. كانت المشكلة أخت حماد الجميلة جمالا يؤلم في البطن، في الحلق، وفي محجر العين.

مرت سنوات على لطمة أخرجت منصورا من الديرة. لم يقل مثل بدوي قديم:

” يا ذلولي ذبّي الفرجة وخلّي خريمس على بابه”

منصور ذهب بقدميه للأبواب الكبيرة الشاهقة، سجّل نفسه في دفاتر الحكومة، كتبوا الاسم، واسم الأب ثم سألوه عن أمه فدفن اسم مزنة تحت لسانه، وسماها شنبش. من يومها جفّت غيوم ديرته المنسية ومديّها الوحيد، مات الحرمل بين الكثيبين وعافت الإبل السائبة شعبانها.

منصور التحق بوظيفته في أمن الطرق، أعطوه لباسا يوحّده مع رجال آخرين وأركبوه الجيب. أحب عمله ورفاقه وراتبه، ثم سحرته قطعان الإبل التي تسابقه الدوام مهما تغيرت ورديته.

ذات أصيل وهو يمشط وصلة من طريق بري بين بلدتين أسره منظر ناقة مطفل تتأخر عن الذود لتواكب حوارها الصغير. تعبر الصرمة الطريق، يتبعها شاص يوجهها لتقطع الإسفلت سالمة من السيارات المسرعة. رأى منصور شاحنة مقبلة، لمح وراءها سيارتين صغيرتين تبغيان تجاوزها. خشي على الحوار وأمه فهتف: حادث..

ارتطمت الشاحنة بقوائم بعير عبر قبل الناقة فتحطمت أرجله. انطرحت الشاحنة على جنبها فخبطته الكورلا الحمراء. البعير الميت عجن الكورلا. وسط أصوات تهشيم الحديد والعظام عبرت الناقة بسرعة لكن حوارها انفصل عنها مرعوبا، ارتد وسط الطريق باتجاه الموت. جرى منصور صوبه ثم رده.

مغامرة منصور الصغيرة رواها الشاص لبطن الوادي ورددتها أشجار السمر. قيل إن الفحل منصور حمى إبل شيخ لا يعرفه من سطوة الحديد على إبله ومن أمور نظامية أخرى.

استضافه الشيخ وأهداه ناقة. سخر زملاء منصور من الصامت الذي له طبع حضري يقود ناقة: ما أنت فاعل بها؟!

سكت منصور، ثم نطق: راعٍ، ومرعى فزاحمت إبله إبل الشيخ الذي زوجه ابنته.

بعد خمس سنوات باع ناقة بعشرة ملايين، وفي العام التالي اكتسح مهرجان أم رقيبة.

كانت هذه سنواته الضاحكة، كل كلمة ينطقها ترفعه درجة، حتى لم يعد في السلم مرتقى.

انتبه لذلك وترمّد وجهه.. لم يستصعب الصمت فهو أدوم أهله. ما كان صعبا هو أن يستيقظ كل فجر ناسيا أن شفاهه التصقت ببعضها.

أضف تعليق