التوازن بين تقنية السرد ورؤية العالم في “زمن الجنرال”لمحمد القصبي

بقلم / جمال الدين عبد العظيم

أولاً : توطئة
ليس للفنا ن ، أيا كانت أدواته ، أورؤيته للإبداع ، أو مذهبه الفني – أن يغفل هموم مجتمعه ، أوأزمات عالمه ؛ فإذا كان الكاتب ليس في حِلٍّ من ذلك الالتزام ، في زمن نشوء فنّ الكتابة النثرية – فما بالنا به في زمن انفتح فيه العالم ، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ؟ زمن ينتقل فيه الأفراد والجماعات والأموال ، بسرعة مذهلة ، وتُتَدَاول فيه الأفكار والمعارف والأخبار، بسرعة تفوق خيال البشر..
ناهيك عن تشابه كثير من أزمات الإنسان ، وتقارب مشكلات الشعوب ، بل وتماثلها أحياناً ، وتعقُّدها وتشابكها إقليمياً ودولياً غالباً .
وفي خضمّ كل هذا – نهضت أممٌ ، وانسحقتْ شعوب ، وتطاوست قوى عظمى وتغطرست !
ونظراً لإدراك الفنان لتحديات زمنه ، وللعالم الذي يعيش فيه – ” يصبح هو، صوت أولئك الذين لا يستطيعون أن يصوغوا أويعبِّروا عن رؤيتهم للواقع” (1) ، وأنّى لمبدع يبحث عن مصداقية لقلمه – أن ينعزل عن كل هذا العالم ، بتفاصيله المزعجه لضمير أيّ فنان واعٍ برسالته؟
فالواقع الإنساني مرير ، وفي العالم الثالث أشدّ مرارة ! أمّا الذي يجعل مرارته بطعم العار – فكونها من صنع طهاة مهرة ، إقليميين ، أوعالميين ، أو هما معاً . ومحمد القصبي ، شأنه شأن أي كاتب صادق – يتشكّل فنّه ” في واقع اجتماعي ملبِّد بالعواصف والأعاصير والزلازل والبراكين ” (2) ولا تسأل : من هم ضحية هذا الواقع ؟ إلا بعد أن ندرك خيوط المحنة ، وملامح الأوجه ، وكباراللاعبين بساحتها .
ثانياً : الضمير السردي
” زمن الجنرال” ، مجموعة قصصية ، لمحمد القصبي (3) – تضمّ إحدى عشرة قصة ، وهي على الترتيب: ( زمن الجنرال – انتصار الزعيم – الرجل البقية – موت جمجمة – أحلام المرضى – ذات صباح ممطر- اتحاد ملاك الحروسة – إمام هذا الزمن – منيون – الكوَّة – الواقعية الجديدة)..
واعتمد فيها الكاتب لغة فصحى ، مُنضَّدة بعناية مدهشة ، بلا أي لغط سرديّ ، أوفائض لغوي أو تصنُّع بلاغي ؛ سواء على صعيد الوصف أو الحوار .
والأكثر دهشة من تلك اللغة القصصية – انتقاؤه البارع للضمير السردي الملائم للمحتوى ، في قصص المجموعة كلها :
فقد التزم ضمير المتكلِّم في في ستّ قصص ( زمن الجنرال ، وانتصار الزعيم ، والرجل البقية ، واتحاد ملّاك المحروسة ، منيون )، وفي إيثارالقصبي ، لهذا الضمير السردي ” الأنا ” في تلك القصص – ما يشهد على حِرْفيته العالية في القصّ ، وخبرته المتفرِّدة بأروقة السرد ؛ لأن ذلك الضمير ” له القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن ، فيستحيل السارد إلى شخصية مركزية”(4) .
ففي قصة ” زمن الجنرال”- أزال ضمير المتكلم الحاجز بين المؤلف وشخصية المرأة الهاربة ؛ كي تبوح لها بهواجس مابعد الهروب لصديقتها ، وتفضفض لها بمخاوفها مستقبلاً ؛ مما أسهم في ” تعميق اللحظة السردية ؛ فأضفى عليها مسحةً من شعرية القصّ”(5)
وفي قصة ” انتصار الزعيم”- لم يكن هناك بدٌّ أمام الطبيب البيطري ، من أن يُوْدِع عالم الزعامات الكاذبة بكلّ أسراره ، في دهاليز ضمير المتكلم . وفي قصة ” الرجل البقية” – التي بلورت شخصية اللامنتمي لـ ” بشير العقل” ؛ بسبب الفجوة الفكرية الهائلة بينه ، وبني وطنه ، أوأهل قريته ؛ فهو يمثِّل الغد الجديد بديناميته الذهنية ، أما بنو وطنه فهم يمثِّلون الماضي بأفكاره الجامدة وحفرياته المتكلِّسة ؛ والمنطقي أن يلوذ بـ” الأنا ” ؛ تكريساً لعزلته هو ، وإدانةً لبني جِلْدته ، فهو يجعل المتلقِّي يلتصق بالعمل السردي ويتعلَّق به ؛ ” لتوهُّمه أن السارد بهذا الضمير -هو المؤلف نفسه.(6) .
وفي قصة ” الكوّة” – امتلأت جوانيّة ” متولي” بشتّى الضغوط النفسية ومُثبِّطات العيش : فهو مدينٌ بسُلْفة للملهى ، وابنه مُستقْطَبٌ بفكر ديني متشدِّد، وما يراه في الملهى من سفهٍ ومفاسد ، كل ذلك لا يبرح له متنفَّساً ، يحيا من خلاله حياةً طبيعية ؛ فجاء البوح والحديث مع النفس من خلال ضمير المتكلم منجاة له .
وفي قصة ” منيون”- يتعرّض كاتب معروف بإحدى المجلات – لخدعة من كاتبة ناشئة، بعد أن تنبّأ لها بمستقبل أدبي مشرق ، واختار لها اسما مستعاراً ، تتعامل به في مجال النشر والمنتديات وهو ” منيون” : وهو عنوان قصيدة لشاعر فرنسي عن حبيبته..انقطعت رسائل الأديبة الشابة لفترة عن الكاتب المخضرم الذي تبناها ، وفجاة ! يقرأ قصة لها بإحدى المجلات وبتقديم ناقد آخر ، بنفس الاسم الذي اختاره لها مُتَبَنّيها الأول ” منيون” ونراها تخاطب هذا الناقد الدخيل ، بنفس ما كانت تنتوي قوله لمكتشفها أو مُتَبَنّيها !
إذن ! هي الصدمة ! التي صاحبها انهيار من الداخل – لا يستوعبه إلا فيضان النفس بمكنوناتها المدمّرة ، من خلال ” الأنا”..ذلك ” الضمير الذي يذيب النصَّ السرديّ في الناصّ” ..(7)
أما النصوص القصصية الأخرى في المجموعة – فقد انتظمها ضمير الغائب ؛ إنه يمثِّل ” الحياة المتخيَّلة القائمة على صورة الحياة التي نحياها ” (8) – فقد طرحت هذه القصص قضايا سياسية واجتماعية غاية في الأهمية ، والأجدر لها فنياً دور الراوي العليم ، كما في قصة ” اتحاد ملاك المحروسة” التي تعكس صراع القطط الآدمية المفترسة ، حول الذهب والأراضي والعقارات، وقصة ” موت جمجمة ” بما فيه من اقتتال عشائري متخلّف ، على حساب النضال الوطني. هذا الضمير يضع المؤلف على مدى ملائم من الأحداث ؛ ليراها بعين واعية محايدة أو متحيِّزة ، وفقاً لمقتضيات الرؤية الفنية والبنية المزاجية للشخوص.
ويحسب لمحمد القصبي ، أنه طرحها بجرأة شديدة ، وحِرْفية قصصية عالية ، في آن واحد ، ومن الصعب على كثير من المبدعين تحقيق التوازن بين طرفي تلك المعادلة : فهناك من يحرص على صنعة السرد وغرابة الشَّكْل – خاصّة إذا كان من دعاة التجريب – في نصوص لا تقول شيئاً يُذْكَر، وآخر يتناول قضايا هامّة: سياسية واجتماعية وفلسفية ، ولكن ! في سرد خطابيّ في لُغُته ، وهَشٍّ فنياً !
ثالثاً : رؤية العالَم :-
أ- قصة ” زمن الجنرال” –
وقبل تناولها فنياً – نرى ضرورة الالتفات إلى أن القوى الكبرى في عالمنا- قد دأبت على أن تتصيّد مآربها في أوقات الأزمات الدولية :
ففيها تصبح العلاقات بين البلاد – في أسوإ حالاتها ؛ إذْ تتكدّر فيها الصلات ، وتتضارب المصالح ؛ فتتألَّب الشعوب على بعضها البعض ،
حتى إن هذه القوى الكبرى ، لتتعمّد – متوسِّلَةً بأيادٍ خفية ومن بعيد – تعكير صفو العلاقات بين بعض الدول ، إنْ رأت في ذلك تعجيلاً بمصالح ومنافع اقتصادية لها ، أو نفوذاً ، أوتمدُّداً استراتيجياً لها ، أولأذنابها من دول صغرى!
حينئذٍ ، تشتعل الفتن ، وتُحْمَى مراجلُ الحروب ، وتنشط مبيعات أدوات الفتك والقتل ، تلك المكدَّسة في مرابض الغرب ، المُوْشِكَة على الصدإ؛ كل ذلك يصبّ في غاية واحدة ، مليئة بالتداعيات الخطيرة :
إذْ تضعُف قبضة القانون في أي إقليم ، فتغادر طُغَم الخارجين عليه كهوفها ، لتعيث فساداً في مجتمعاتها ، وتصطنع لنفسها جماعات ذات شوكة ، تزاول تحت مظلّتها ، ما يُعْرَف بـ “المهمات القذرة” ، أو يمكن تسميتها بـ” جرائم الياقات البيضاء” (9)- تهريباً لثروات وآثار، وجلباً لمرتزقة ، ولحم أبيض، واتجاراً في ممنوعات؛
وكل مدخولات هذا الاقتصاد المُشِين وثماره – ذاهبة لا محالة إلى خزائن الغرب ، ذلك الرأس المدبِّر ومشعل فتيل الأزمات من بعيد !
والمضحك إلى حدّ البكاء ، أن هذا الغرب- موكولٌ إليه، حفظ حقوق الإنسان وكرامته في ربوع الأرض..
هذا ما قاله محمد القصبي في قصته ” زمن الجنرال” التي صدَّر بها مجموعته القصصية المعنونة بذات الاسم .(10)
فقد نجحت امرأة في الفرار من سيطرة زوجها الخارج عن القانون ، أو ذلك المجرم المتربِّح من أعمال مشبوهة خارج الحدود ، وهي أعمال لاتنشط إلا في غيبة القوانين . وبعد أن هربت من براثنه – أرسلت صديقة لها برسالة ، تحكي فيها وقع خبر الهروب على الزوج ، وما ينتظرها من عذاب وتنكيل في حالة الظفر بها ..
ها هم المُغَرَّر بهم ! يساقون – بشعارات مضلِّلة – إلى الانخراط في “ميلشيات” ، تقاتل في معارك خارج حدود أوطانهم ،
يموتون في حروب لا ناقة ولا جمل لهم فيها …تغدو نساؤهم أرامل ، يتحوَّلن إلى زوجات أو محظيّات لرؤوس عصابات ، تزاول أنشطة مشبوهة بين البلاد!
يختارون البدينات محظيّات لهم ، وإن اختاروا “الروسيّات” – فهو جنس سياسي ؛ لأنهم بذلك يعتقدون أنهم ” يعتلون الكرملين العظيم” (11)
مما يذكّر بذهنية متخلِّفة ، لدى بعض أهل الشرق : ألم يقل مصطفى سعيد في ” موسم الهجرة إلى الشمال : ” إنه سيحرِّر إفريقيا بـ…” – يعني آلته الجنسية ! (12) وذلك عندما تهافتت عليه شقراوات أوربا ،
ناسياً أن رحلته إلى الغرب ، غرضها أن يبهرعلماءها ، بذكائه الخرافي وعقله اللوذعيّ!
والزواج منهُنَّ– أي أرامل قتلى الحروب- ليس مودّة ورحمة – بل استقطاباً واحتواء ؛ لتظلّ تلك المرأة تحت السيطرة ، وفي قبضة المجرم العابر للحدود ، فتظلّ مؤتمرةً بأمره أياً كان ؛ تذعن وترضخ ؛ فلا منجاة أمامها إلا الفرار من براثن هذا الرِقّ ، رقّ الجنرال ..
أما الإجابة عن السؤال الذي بدأنا به – من الضحية ؟
لا شكّ إنه الإنسان في العالم الثالث ، وخاصة ذلك الذي يُستثار بشعارات أغلبها دينية – إلى صراعات دولية مصطنعة ؛ لاحتواء القوى واستنزاف الثروات ، وشَغْل الفراغات التي تستجدّ ، في الفضاء الاسترتيجي العالمي.
قصة مهمة فكراً وفنّاً ، من كاتب ذي رؤية جريئة ، وبصيرة سياسية حادّة.
ب – قصة ( موت جمجمة) …
ونرى فيها محمد القصبي قاصّاً ، ذا وَلَهٍ فنّي وفكري بالقضايا القومية ، ويحمل أماله العروبية في وعيه ومخيلته المبدعة دوماً ، سواء كانت تلك الآمال يانعة ، في يخضورها النَّضر ، أم كانت في تهافت وانكسار ..
هو يتصيّد أفكاره بحرفية عالية ، من أثير الأحداث الملبِّد بالغموض والأقنعة الزائفة ، والشعارات الهلامية ؛ ليصوغ منها رؤيته السردية بأعلى مستويات الشاعرية : لغة ورمزاً وتكثيفاً ومجازاً …
والقصبي في قصته القصيرة ” موت جمجمة ” ، ومن خلال لوحتين سرديتين – قد تمكن من تعرية الذات القومية بوعيها الجمعي ، إبَّان سقوطها وانهيارها في وهدة ” الأنا القَبَلِيَّة ” بلحائها البدائي المتأخّر..
ففي اللوحة الأولى ، ممثَّلةً في نداء ” أمجاد ياعرب أمجاد” ، بما له من أصداء ظاهرية باعثة على الفخر أحياناً ، وأصداء عميقة في خبيئة الوجدان العربي، مفعمة بالزيف والخيبة والارتطام
المدوِّي بالأرض ، أحياناً أخرى .
أما اللوحة الثانية- فهي تمثّل احترابا عائليا قبليا ، يستنزف الطاقات والأرواح ، وينسف المزاج الوجداني السويّ بين الشرائح الاجتماعية ، ويباعد بين الأمة وآمالها ؛ لأن الجماعات عندما تحررمن حسّ المسئولية ” يصبح الأفراد مُعبَّئين بقوة هائلة..وفي الغالب شريرة” (13)
وقد أحسن القاص ، بأن جعل اللوحتين متداخلتين ، في النسق اللغوي, ولم يأت بها بشكل تراتبي متتابع ؛ وكأنه يريد أن يقول لنا من خلال بِنْية قصته : إن تداخل البِنَى السردية -عائدٌ إلى التباس مدخلات المشهد السياسي العربي ومخرجاته ، و تشابك مفرداته الإقليمية والدولية بشكل مُلْغِز ومخيف ؛ كل ذلك ينذر باستحالة بزوغ أية حلول بالأفق ، على المدى البعيد ، طالما انتصرت غرائز القبيلة وإحَن العشيرة ، على ما تصبو إليه الذات القومية ، حالَ مثاليتها السياسية – بسموّها ونبلها ، من تطلُّعات ورؤى…
ففي هذه القصة – طالب كلية الطبّ ، يتأمّل جمجمة أمامه ليلاً ، أحضرها له ” طنطاوي ” حارس المقابر؛ لأهميتها له في دراسته، جمجمة لرجل يُدْعَى ” سيّد الطحش” الذي قتل سبعة من شباب عائلة الطالب…مما أدّى إلى مقتله على يد ” سعد الجوهري” ، ببندقيته التي ” سلبها خلال ثورة عرابي” (14)
وقد خُيِّلَ للطالب ذات ليلة -أن الجمجمة تهتزُّ ! وأن روح القتيل عادت لها ! فما كان منه إلا أن أمسك بمسدَّسه وأطلق رصاصة على الجمجمة ! فإذا بدماء تسيل منها ، فازداد هلعه ورعبه ؛ ظنّاً منه بعودة الروح للقتيل ، فندَّت عنه صرخة هائلة ؛ أتى على إثرها حشدٌ من قبيلته ؛ فيخبرهم مزهوُّاً بأنه قتل “سيد الطحش” غريم العائلة اللدود ، بعد عودة الروح إليه حسب زعمه ! ، بعد ذلك يتبيَّن أن الدم السائل من الجمجمة – كان لفأرٍ كان يعبث بداخلها !
ثم يختم السارد قصته بهذه اللوحة : ” بينما كان المطرب العتيق يردّد بغير ملل في الراديو: ” أمجاد ياعرب أمجاد”…مؤذِناً بانتهاء الإرسال لتلك الليلة “(15)
ولو عقدنا مقارنة بين اللوحتين – لفضضنا شفرة النص ، واقتربنا من احتواء رسالة المحتوى، شريطة قراءة الملامح الخفية ، لفضاء السرد الذي تنتجته المقارنة ، بما يعضِّد الرؤية الجريئة والخصبة للقاصّ :
إذْ ينبئنا ذلك الفضاء ، بضياع مجد العرب ، وسط مستنقع القبلية ، بعد أن استلب الاحتراب الأهلي والاقتتال العشائري – قواهم ومواردهم وطاقاتهم ، بعد أن أصبح ميراثاً ، يستقطب العقل الجمعي ، ويشتِّت الذات القومية ، بدلا من موقف نضالي قومي موحَّد ؛ يجابه ما ينخر في الكيان ويهدِّد الوجود ذاته. ومن ينسى تبدُّد حلم الوحدة العربية ؟ ، أوإجهاض بدايتها الجنينية ، في مطلع ستينيات القرن الماضي بين مصر وسوريا ؟
لذا ، يجب على الناقد الدارس ألا يستهويه اللِّحَاء الظاهري للنص ، فلا يكتفي بمنتوج القراءة الأولى – بل عليه أن يتعمَّقها ” باعتبارها مكوِّنات خطابات تاريخية توجد داخل وخارج النصوص ” (16)
فالبندقية ، برمزها التاريخي – تلك التي أوْدَتْ بحياة ” سيد الطحش” – قد سلبها القاتل” سعد الجوهري” في زمن ثورة عرابي : أي أنها بندقية وطنية ؛ للدفاع عن تراب الوطن – استحالت إلى أداة احتراب أهلي وثأرعشائري، ينال من الإطار الحضاري لأي مجتمع ، ويُوْدِي بهويّة الوطن .
وإنصافاً ! وحتى لا يتحول الطرح النقدي إلى جلدٍ للذات – يتعيَّن القول بأن غريزة الانتقام – هي من ملامح الأدب العالمي ، مع اختلاف دوافعه وآثاره ! حتى الأدب الحديث منه : على سبيل المثال مسرحية ” زيارة السيدة العجوز” لمؤلفها ” فريدرش دورينمات” (17)..تلك السيدة المليونيرة التي استغلّت فقر مدينة ” جولن” ورصدت لأهلها الفقراء مليارفرنك ؛ مكافأة لهم إذا ألقوا القبض على عشيقها السابق ، وأسلموه لها ؛ لتنتقم منه بسبب خيانته لها ! ونظراً لحالة البؤس وانحطاط معيشة أهل المدينة – أسلموه لها للتشفِّي والانتقام منه!
أمّا الخرافات – ممثلةً في رسوخ فكرة عودة الموتى إلى الحياة في أي وقت ؛ للتنكيل بأعدائهم – فقد أكلت أدمغة العشيرة ، ولم يترك العلم أثراً في ذهنيتهم ، حتى طالب الطبّ نفسه ، استمرأ تلك الخرافات!
ولم يشأ القاص أن ينهي سرده ، إلا بأن يَصِمَ هؤلاء بالدَّجَل ، والاعتقاد بالعالم السفلي ، ممثَّلا في العفريت ” شمهورش” الذي تقتنع العائلة بقدرته على الانتقام من الأحياء ، إن لم يرضَ عنهم !.. إنها جماعات وطوائف تهيمن على أفعالها – رواسب ، أو قل : ” اتّجاهات نفسية ثابتة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعواطف والغرائز” (18)
القاص محمد القصبي – فنان مهموم بقضايا مجتمعه وأيضاً مَعْنِيٌّ بقضايا أمّته وعروبته ، ولا يرى مجتمعه من وجهة محلِّية ضيِّقة ، بل يتّسع برؤيته ؛ ليراه من منظور قومي أشمل وأرحب ، ليس بغرض دعاية لشعارات ، بل حمايةً لوجود كليهما : المجتمع والأمّة ، وتلك معادلة لا يقوى على تحقيق التوازن بين طرفيها – إلا فنان يدرك غاية كلَّ حرف يكتبه .
ج – قصة ” الكوَّة”…
وفيها ، تحوّلت فكرة الوحدة العربية ، إلى أرق سياسي ضاغط على مخيلة محمد القصبي ، بأن جاءت في هيئة لوحات سردية متناثرة كالكوابيس ، من داخل ملهى ليلي ، يقوم السارد برصدها بصرياً من خلال ” كُوَّة ” ،في أحد جدرانه ..
ويُرينا ” متولي ” من تلك الكوّة – غرائب مجتمعه ، بما يعوزه من وَعْيٍ بأولويات المرحلة الحضارية ، وما يمرّ به من تحدِّيات كبرى على كل الأصعدة ، بتسليطه كاميرا السرد على روّاد الملهى وزبائنه .
لقد جعل القصبي من الكوّة مجازاً فاصلاً بين حياتين ، أو بَرْذخاً مخيفاً ترى من مداه عالَمين : عالَم يكابده البسطاء ، وآخر ينعم به المعزولون اختيارياً بثرواتهم عن الواقع المحلِّي والإقليمي .
والقصبي – حال تخطيطه لحدود مملكته القصصية – نجح في تحويل هذه الكوَّة إلى كاميرا سردية ، في وَضْعٍ نَشِطٍ ، لخاصّيّة الـ zoom ؛ لتقريب صورة مجتمعه الانفتاحي ، بتداعياته الخطيرة على الطبقات الوسطى والفقيرة – إلى أعين القرّاء وأذهانهم .
وهل هذا الحيز المكاني – الملهى – سوى صورة مصغَّرة لذلك المجتمع ؟ ها هو السارد يعكس من خلال “الكوّة” – تناقضات مشينة ، ومقاربات ساخرة ، وفوضى عابثة ، تضرب جوهره وتفاصيله على السواء :
فالراقصة “زينات” تغني للوحدة العربية ! ويطوِّق شابٌّ عنقها ، بعُقْد من الأوراق المالية . ومتعهِد الجُبْن الفاسد يحجز ثلاث موائد له وحاشيته ؛ احتفالا ببراءته ! المتعهِّد الذي قتل أحد عشر تلميذاً .
ولم يَغِبْ عن كاميرا السرد – مشهد حريق شركة الأدوية ، الذي أودى بحياة زوجة راوي القصة ! وقد حدث نتيجة شبهة فساد ، بعد تنفيذ وصلات كهرباء رديئة ، أغمض المسئول عنها عينه!
ولم ينسّ السارد – ومحمد القصبي يتخفَّى من ورائه بلا شكّ – أن يشير إلى ظاهرة مؤلمة ومقزِّزة لأي ضمير : وهي تقديم ما أُسَمِّيه بـ” المجرم البديل” ، ودائماً ما يكون بريئاً، ومعدَماً اجتماعياً ؛ كي يتلقَّى ضربة العدالة وعقابها المُوجِع ، بدلاً من ” المجرم الحقيقي ” ، وعادة ما يكون شخصية نافذة :
فقد زُجَّ بموظف صغير في السجن سبع سنوات ! بدلاً من متعهِّد الجبن الفاسد الملقَّب بـ ” ملِك الملاهي ” .
ويعاقَبَ المحاسب المتقاعد الطاعن في السنِّ ، بالفصل من عمله ! على خطإ مالي ، تسبَّب فيه المحاسب الكبير.
وقد يفلت المجرم من إثمه دون عقاب ! كما هو حال المهندس المسئول عن حريق شركة الأدوية.
إنها القيم الهجين ، التي تمثِّل عصر الانفتاح وما بعده في مصر ، منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين : تلك القيم التي أنتجها التلاقُح المباغت بين غروب اشتراكية الستينيات ، والبريق المراوِغ لانفتاح السبعينيات .
فقد أصبح الانفتاح أشبه بنظام موازٍ وغريب ، وسط اقتصاد ” يغلب عليه سيطرة القطاع العام وقيود السلطة وأوامرها ” (19) ولم ينتفع بثمار ذلك العصر- سوى من هرولوا بقلب جسور، صوب المال العام أوالخاص ، مثل : متعهد الجبن الفاسد ، يليهم وفي إثرهم ذوو التطلُّعات البرجوازية ، مثل : ” سيد صابونة ” الذي يربح مائة جنيه كلَّ ليلة ! ولديه شقة تمليك وسيارة ” بيجوه “؛ حتى تجاسر مُقْدِماً على خِطْبة فتاة جامعية ، فالتمس منه أهلها إرجاء الزفاف ، ريثما تفرُغ من دراستها .
ولم يتأذَّ من تلك المرحلة ، معيشيا ونفسياً – سوى البسطاء والسائرين لَصْقَ الجدران ، وعلى طوار الطريق ، مثل المحاسب العجوز والزوجة المحترقة في شركة الأدوية!
ولا نغفل تقنية ” العلامات ” في هذه المجموعة القصصية ؛ باعتبارها إحدى مراحل الاستدلال على المعنى في الأنساق السردية المعاصرة ، والحداثية منها بخاصة (20) ، فقد برع محمد القصبي في تحويل جملته السردية إلى المستوى الدلالي للعلامة ، نائياً بها عن دلالتها المعجمية وعن إيحائها المجازي والكنائي ، متجاوِزاً كل ذلك إلى الإبلاغ والقصدية ، مثل قوله واصفاً صالة الملهى الليلي :
” الموائد مفتوحة على بعضها البعض ” (21) ، فكلّ مائدة من الموائد بالملهى – محدّدة بحيّز مكاني ، غير أن هناك تماهياً فكرياً وطبقياً وسلوكياً ، بين الجالسين عليها ؛ يستلزم ذوبان الفواصل بينها ، واندماج زبائنها من كبار الفسدة المتخمين ، وتوافقهم على غاية واحدة ، داخل الملهى وخارجه ، الغاية هي : نحن أولاً ! ومن دوننا لاشيء !
فلا أبلغ دلالةً من قول الكاتب ( الموائد مفتوحة على بعضها).
ويأتي قول المؤلف ، واصفا الأب في حواره مع ابنه الذي يطالبه بترك عمله في الملهى ؛ لأنه يقدّم الخمور لروَّاده :
” فَزِعَ (البنطلون ) من يدي..أجذب (البنطلون) إلى أعلى مرة أخرى ” –
وإذا كان ” الأدب عند ” بارت ” نظاما من العلامات ، ووجوده في هذا النظام ” (22) – فإننا نجد لفظة ” البنطال ” كعلامة، في هذا النسق اللغوي ، منتقاةً بعناية ؛ لأنّها إيماءة حادّة إلى ” الشرف” ، فهي مرادفة للقطعة الأهم لدى الأبّ ، في ستر عورته .
وبمجرد أن نهاه ابنه بغطرسة ، لا تليق بمنزلة الأبوّة ، ووقارها ؛ بقوله ” لا تكن ملعوناً يا أبي ! “– فإذا بالبنطال يسقط من يد الأب! بل تسقط معه منظومة القيم كلها ، في إِثْرهذا التخاطب الهابط تربوياً من جهة الابن!
ثم يجذب الأب (بنطاله) مرّة أخرى؛ ستراً لحيائه ، مدافعاً عن نفسه ، ومستكملاً ارتداء ملابسه.. إنه – أي البنطال – معادِلٌ لكرامة المرء ، وسياجٌ للذات وعفّتها ..
أما قوله : “يرفع يديه بعلامة النصر” – فيرسم به الكاتب في أسى ، تلك اللوحة المُحْبِطة ، أوالهزْلية السوداء ! التي غدتْ علامة لواقع بعض الشبان العرب ، الذي جعل من المراقص – ساحات نضال ! يتبادلون فيها التحايا ، ويرفعون علامات النصر, وسط قرع الكؤوس وشرب نخب الهزائم !
أي نصر؟ ومن المُنْتَصِر؟ ومن المُنْتَصَر عليه؟ الإجابة المثالية – وليست الواقعية ، على تلك الأسئلة – هي السكوت ، وإن كان مزلزِلاً للنفس ، ومُضْحِكاً حتى البكاء !
وهذه اللوحة السردية بقدر ما هي هزلية وكابية ، وبقدر ما هي محزنة ومريرة – فهي قادرة على المدى البعيد على تطهير الذات القومية والضمير الجمعي ، من شتّى صور التردِّي والنكوص والعِلَل ؛ نظراً لما تنضح به تلك اللوحة من شجن عميق ، وتأنيب للضمير ؛ لعل هذه الحالة تؤهِّل الذات القومية والضمير الجمعي – لمحاسبة النفس ، ذات يوم ؛ فيثوبا إلى رشدهما ، وينهضا من تلك العثرة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش ومصادر
(1)النحت في الزمن – أندريه تاركو فسكي – ترجمة/ أمين صالح –المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت –ط1- 2006م – ص 157 ، 158 ( بتصرُّف)
(2)الرواية السياسية- د/ طه وادي-الشركة العالمية للنشر-لونجمان-2003م – ص84
(3) ” زمن الجنرال” – محمد القصبي (مجموعة قصصية) ، صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1995م
(4) في نظرية الرواية – د/ عبد الملك مرتاض – سلسلة عالم المعرفة – عدد240- ديسمبر – 1998م – ص184
(5) شفرات النص – د/ صلاح فضل – دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – ط1 – 1990م -ص211
(6) في نظرية الرواية – سابق- ص184
(7)نفسه – ص 185
(8) نفسه – ص182
(9) موسوعة الفكر الأدبي- د/ نبيل راغب –ج2- الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1988م – ص 45- ( المصطلح للكاتب سذر لاند )
(10) زمن الجنرال – من ص9 : ص18
(11) زمن الجنرال – ص14
(12) رواية ” موسم الهجرة إلى الشمال” الطيب صالح – روايات الهلال – عدد245- مايو1969م – ص100
(13) علم نفس الجماهير – سيجموند فرويد- ترجمة / جورج طرابيشي – ط1 – 2006م – دار الطليعة للطبع والنشر – بيروت ص15
(14) زمن الجنرال – ص40
(15) زمن الجنرال ص44
(16) التاريخانية الجديدة والأدب – غرينبلات ، وآخرون ..(تأليف مشترك)- ترجمة / لحسن لحمامة – المركز الثقافي للكتاب – الدار البيضاء – ط1– 2018م ص86
(17) موسوعة الفكر الأدبي د/ نبيل راغب – ص50، ص51
(18) النظرية في علم الاجتماع – د/ سمير نعيم أحمد – دار المعارف – ط2 – 1979م – ص137-
(19) دور الدولة في الاقتصاد – د/ حازم الببلاوي- مكتبة الأسرة – الأعمال الفكرية – 1999م – ص11
(20) قراءة النصّ – د/ عبد الرحيم الكردي – كتابات نقدية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – عدد 209– القاهرة – ط1- 2013م – ص 30
(21) زمن الجنرال – ص 98
(22) البلاغة الجديدة – د/ صلاح فضل – ص58

أضف تعليق