شهادة قصة: لويجي بيراندللو. ترجمة: أحمد الغماري

بذات نبرة الصوت وحركة العينين واليدين، ينحني كالذي يتحمل مذعناً ثقلاً وضع على كاهله لا يمكن تحمله، أعتاد القاضي النحيف ديّ آندريا أن يقول

مردداً: – آه، يا ابني العزيز! – لكل من يبدي له بأية ملاحظة، مازحاً على طريقة عيشه الغريبة!

لم يكن قد بلغ الكهولة بعد؛ بالكاد دخل سن الأربعين، لكن على المرء أن يتخيل أشياء غاية في الغرابة، وتقريباً من الصعب تصديقها، من انصهار

عشوائي للأعراق، ومخاض عجيب لعدة قرون، لكي يصل إلى تفسير مقارب لذلك المنتج البشري الذي يسمى القاضي ديّ آندريا.

يبدو أنه، علاوة على فقر، وتواضع، وذيوع تاريخ عائلته، لديه علم راسخ بذلك الانصهار العشوائي للأعراق، الذي يُحتمل أن يكون قد جلب له ذلك

الاحتشاد من الشعر المجعد، كشعر أصحاب البشرة السمراء على وجهه الأبيض الضامر والمنهك ؛ وربما يكون مدركاً لذلك المخاض اللامتناهي عبر

القرون، الذي راكم على جبهته العريضة والناتئة كل تلك التجاعيد المتشابكة، التي كادت أن تطفئ نور البصر في عينيه الرماديتين الصغيرتين، وشوهت كل

ما في شخصيته الضعيفة البائسة.

بذلك الميول، كتفٍ أعلى من كتف، كان يسير في الطرقات متمايلاً كما تسير الكلاب متمايلة. إلاّ أنه على المستوى الأخلاقي، كان يُسطر استقامة لا أحد

غيره كان قادراً أن يسطر مثله. هذا ما يقوله عنه الجميع.

كونه فاهمٌ، ففي الواقع، ثمة الكثير من الأشياء لم يكن باستطاعته فهمها، لكن القاضي ديّ آندريا؛ بالطبع كان قد فكر في الكثير منها مليئاً، عندما يكون

التفكير ثير الكثير من الكدر، أي عند آخر الليل.

حتى أنه لم يكن باستطاعته النوم من جرائها.

يقضي الليل كله تقريباً عند النافذة، يفرك يده فوق تلك الكومة الصلدة من الشعر المجعد، بينما عيناه تتوجهان نحو النجوم، التي يكون بعضها هادئ

ويتلألأ، كأنها ينابيع للنور، وبعضها الآخر متوثباً ولاسعاَ؛ فيشكلُ من الأكثر توهجاً علاقات مثالية لأشكال هندسية، لمثلثات ومربعات، وهو مغمضاً نصف

جفنتيه من وراء تلك العدسات، يحتضن بين أهدابه النور المنبعث من إحداها، وبين العينين والنجمة ينسج علاقة من خيطٍ رفيعٍ ومضيء، ومن ثم يطلق روحه

لتهيم فوقه كالعنكبوت الهائم.

لكن التفكير بهذه الطريقة، حتى ساعات متأخرة من الليل، لا يتوافق مع الحالة الصحية. غير أن مهابة الغموض الذي ينكفئ عليه التفكير، سيما لدى

أولئك الذين لديهم يقين داخلي لا يطمئنون إليه، يقين من عدم إمكانية معرفة كل شيء ومن عدم الاعتقادي في أي شيء لا يمكن معرفته، ينجم عنه بشكلٍ شبه

دائم إمساك خطير. إنه الإمساك الروحي طبعاً.

وعندما يظهر النهار، يبدو للقاضي دي آندريا، أنه أمراً سخيفاً وفي الوقت ذاته قاسٍ، أن يتحتم عليه الانتقال إلى مكتب التحقيق لتحقيق – بقدر ما يهمه –

العدالة في أولئك الرجال الصغار الفقراء والشرسين.

ومثلما أنه لا يغفو له جفن، فهو كذلك لا يترك أبداً أي ملف من الملفات التي تتكدس فوق طاولة مكتب التحقيق يغفو ساعة، حتى لو كلفه ذلك تأخيّر تناوله

وجبة الغذاء لساعتين أو ثلاث، أو أنه يؤجل في المساء، قبل تناول وجبة العشاء، عادة التنزه مع زملائه عبر الطريق المحيطة بسور البلدة.

حرصه الزائد هذا على المواعيد، الذي ينظر إليه على أنه واجبٍ لا يمكن التهاون فيه، زد من عذباته بشكل رهيب. فليس تحقيق العدالة الأمر الوحيد

الذي يهمه؛ بل تحقيقها هكذا، وبكل تفانٍ.

ولكي يخفف من التزامه بالمواعيد، اعتقد أن عملية التأمل في المساء سوف تساعده في ذلك. لكن، دون إرادة منه، بمجرد أن يبدأ في الليل بفرك يده على

ذلك الشعر المجعد والنظر إلى النجوم، حتى تهبط عليه كل تلك الأفكار المخالفة لما ينبغي أن يفكر فيه، سيما وأنه يتولى دور قاض التحقيق؛ هكذا، وفي اليوم

التالي، بدلاً من أن يكون قد ساعده التفكير الليلي، يجد أنه قد أوقعه في المصيدة وعرقل مواعيده الأخرى وزاد من تضخم غريزة تمسكه البغيض بدوره قاض

التحقيق بشكل كبير.

ومع ذلك، وللمرة الأولى، يصادف أن ثمة ملف يغفو منذ حوالى أسبوع على طاولة القاضي ديّ آندريا،. فهو بسبب هذا الملف القابع هناك، منتظراً منذ

أيام عدة، قد وقع فريسة غضبٍ طافحٍ، وكآبة خانقة.

غرق في كآبة، إلى الحد الذي جعل من عيناه الواجمتين، في لحظة معينة انغلقا. وبقلم في يده، مستنداً على جدعه، بدأ في النعاس، بداية تقلص، ثم انكمش

مثل دودة القز التي لم تعد قادرة على نسج شرنقة.

وبمجرد أن استيقظ، ربما بسبب بعض الضوضاء وإما بسبب تهاونٍ قوي لرأسه، ذهبت عيناه إلى هناك، إلى تلك الزاوية من الطاولة، حيث يغفو ملف

القضية، فشاح بوجهه عنه، وزام شفتيه، واستنشق بصريراً صادراً عن فتحتيِّ منخاره كمٍ من الهواء والهواء والهواء، مرسلاً به قدر ما استطاع إلى الداخل،

لتتوسع أمعائه المتقلصة بسبب غيظه، ثم أخرجه فاتحاً فمه على مصرعيه مع تكشيرة بسبب الغثيان، ومباشرة رفع يده ممسكاً بنظارته، التي بدأت تنزلق

بسبب تعرقه من على أنفه المعقوف.

كانت بحق مجحفة تلك المحاكمة: مجحفة لأنها تنكفئ على ظلمٍ قاسٍ، يحاول رجل مسكين أن يثور عليه بشكل يائس، دون أن يكون لديه أمل في أي

مخرج. في تلك المحاكمة كان ثمة ضحية لا يمكنه أن يتهم أي أحد. لكنه أرد أن يتهم شخصين، إنهما أول شخصين وقعا تحت قبضته، و كان على العدالة –

نعم أيها السادة – أن تحكم ضده وتعاقبه، تعاقبه، نعم أن تعاقبه دون أن تتسامح معه، وبذلك تؤكد، وبشكل وحشي، الظلم الذي جعل من هذا الرجل المسكين

يقع ضحية.

أثناء مرافقتهم، حاول أن يتحدث حول القضية مع زملائه؛ لكنه وبمجرد أن ينطق باسم كياركّيرو، أي اسم الشخص الذي رفع الدعوى، حتى تتغير ملامح

وجههم ويقومون على الفور بدس أيديهم في جيوبهم ليمسكوا بالمفاتيح، أو أنهم من تحت لتحت يبسطون الأصبعين السبابة والخنصر لعمل علامة قرني

الشيطان، أو أنهم يمسكون بالأحدب الفضي (1) المعلق على صدرياتهم، أو بالمسامير، أو بقرن المرجان المتدلي من على سلاسل ساعاتهم. بل إن أحدهم،

وبأكثر صراحة وغيضٍ قال له:

– بحق قداسة العذراء، ألاّ يمكنك أن تبقى صامتاً؟

إلاّ أن القاضي النحيف ديّ آندريا لا يمكنه أن يظل صامتاً. لقد باتت بالنسبة له تلك المحاكمة هاجساً حقاً. يحوم ويحوم، ويعود بالضرورة للحديث حولها.

لكي يتحصل من زملائه على بصيص من النور – على حد قوله – ليناقش هذه المسألة بشيء من التجرد.

لماذا، لأنها في الواقع، كانت قضية فريدة ومراوغة للغاية، تلك المتعلقة بالمنحوس الذي رفع دعوى لتشويه بسمعته ضد أول شخصين وقعا تحت بصره،

لحظة قيامهما بالتميمة المعتادة أثناء مروره.

تشويه سمعته؟ أية سمعة قد شوهت لسيء الحظ هذا، إذ كانت سمعته على أنه شخص منحوس منتشرة ومنذ سنوات على لسان كل من يسكنون هذه البلدة؟

وإذ كان ثمة شهود كثر يمكنهم أن يأتوا إلى المحكمة وأن يحلفوا على أنه في مناسبات عدة كان قد ألمح إلى اعترافه بتلك السمعة، ثائراً محتجاً بشكل عنيف؟

ثم كيف للمرء أن يدين، بضميرٍ، هذين الشابيّن بتشويه سمعة شخص، فقط لأنهما قاما بحركة اعتاد الجميع منذ زمن القيام بها بشكل علني عند مروره، وأول

هؤلاء – ها هم – القضاة أنفسهم؟

كان ديّ آندريا يتلهف؛ يتلهف لأن يلتقي في الطريق بالمحاميِّن، اللذين وضع أولئك الشابين نفسيهما بين يديهما، مع المحامي النحيف والصبور غريلي،

بمظهره الجانبي كالطير العجوز من الطيور الجارحة، والبدين مانينا باراكا، الذي يعلق منتصراً على بطنه قرن كبيراً اشتراه لهذه المناسبة ويضحك بجسده

المترهل كالخنزير الأشقر ويفصح واعداً المواطنين بأنهم سوف يشهدون عما قريب حفلاً رائعاً في المحكمة.

إذن، لكي لا يسمح تحديداً بإقامة تلك »الحفلة الرائعة« في هذه البلدة على أكتاف سيء الحظ والمسكين، اتخذ القاضي ديّ آندريا في النهاية قراراً وأرسل

البواب إلى بيت كياركّيرو يدعوه للقدوم إلى مكتب التحقيق. ولأنه أيضاً سيدفع الثمن ذلك، أراد أن يثنيه عن الاستمرار في الدعوى، مبيناً له أن هذين الشابين

– من الواضح – أنهما لا يمكن إدانتهما وفق العدالة، وأن تبرئتهما حتمية وسوف تؤدي إلى أن يقع عليه بالطبع أذٍ كبير، واضطهاد أكثر قسوة.

لكن للأسف، من السهل حقاً أن تقوم بعملٍ سيء بدلاً من أن تقوم بعمل خيّرٍ، ليس فقط لأن العمل السيء يمكن فعله مع الجميع والخير فقط لمن يحتاجونه؛

لكن أيضاً، بل وفي المقام الأول، لأن هذه الرغبة في القيام بالعمل الخير تجعل نفوس أولئك الذين يحتاجون المساعدة فظة وحادة، حتى يصبح عمل الخير لهم

أمراً صعباً للغاية.

لقد تفطن مباشرة القاضي ديّ آندريا في تلك اللحظة، وبمجرد أن رفع عينيه لينظر إلى الداخل عليه في مكتبه بينما كان مستغرقاً في الكتابة أنه كياركّيرو.

فانفجر بغضب قوي ورمى بالأوراق في الهواء، ووقف على قدميه صارخاً في وجهه:

– من فضلك! أية قصة هذه؟ ألاّ تخجل من نفسك!

كان كياركّيرو قد اتخذ شكل المنحوس، حتى بدت رؤيته على تلك الشاكلة أمراً عجيباً. ترك لحية كثيفة تنمو على تجويف خديه المصفريِّن، كأنها من

العشب، وأسرج أنفه بنظارة كبيرة إطارها على هيأة عظام متشابكة، فبدت ملامحه كالبوم، ثم أنه أرتدى ثوباً لامعاً، رمادي اللون، جعله يبدو منتفخاً من جميع

الجوانب.

لم يفقد رباطة جأشه أمام غضب القاضي. بل إن مناخيره اتسعت، وكشر عن أسنانه المصفرة وقال بصوتٍ منخفضٍ:

– إذن فحضرتك لا تؤمن بذلك؟

– من فضلك! – كرر القاضي ديّ آندريا. – ليس الوقت مناسباً للمزاح عزيزي كياركّيرو! أم أنك قد جننت؟ هيا، هيا، أجلس، أجلس هنا.

أقترب منه محاولاً أن يستند يده على كتفه. لكن كياركّيرو انتفض كالبغل مبتعداً:

– سيدي القاضي، لا تلمسني! وإذا نظرت إلي بتمعن! فإنك – كما أن الله حق – سوف تصاب بالعمى!

ظل ديّ آندريا ينظر إليه ببرود، ثم قال:

– عندما تهدأ… لقد أرسلتُ ورائك لأستدعيك من أجل مصلحتك. ها هنا ثمة كرسي، أرجوك أن تجلس.

بينما كياركّيرو جالساً، يدحرج بيديه عصا الخيزران الهندي على فخديه كأنه يدحرج الشُوبك (2) ، أخذ يهز رأسه.

– لمصلحتي؟ ها، وتتصور بأنك تريد مصلحتي، سيدي القاضي، عندما تقول بأنك لا تؤمن بأنيّ منحوس؟

وبعد أن جلس ديّ آندريا هو الآخر قال:

– هل تريد أن أقول لك بأنيّ أؤمن بها؟ حسناً، سأقول بأني أؤمن بذلك! أيرضيك هذا؟

– لا يا سيدي، – أنكر كياركّيرو بشكل قاطع، وبنبرة الشخص الذي لا يسمح بالمزاح معه قال: ينبغي أن يكون إيمانك جاداً، وينبغي أن تُظهر أيضاً بأنك

بدأت في الإعداد للمحاكمة!

– سيكون هذا أمراً صعباً بعض الشيء، – ابتسم ديّ آندريا متأسفاً. – لكن دعنا نتفاهم، عزيزي كياركّيرو. أود أن أبين لك أن السبيل الذي تسلكه ليس

السبيل الذي يمكنه تحديداً أن يقودك إلى النتيجة المرجوة.

– سبيل؟ نتيجة؟ عن أية نتيجة وعن أي سبيل تتحدث؟ – تساءل كياركّيرو، وهو عابساً.

– لا هذا الذي في صدده الآن،- رد ديّ آندريا،- ولا ذلك المتعلق بالمحاكمة. فهما الأول والثاني، أعتذر، فالأمر هكذا بينهما.

ثم جعل القاضي ديّ آندريا سبابتا يديه مواجهين بعضهما لبعض ممثلاً ما معناه أن الأمران يبدوان متعارضان.

فانحنى كياركّيرو ومرر سبابته، التي كانت ممتلئة ومُشعرة ومتسخة بعض الشيء من بين سبابتي القاضي اللتين كانتا متقابلتين.

– لا شيء صحيح فيما قلت، سيدي القاضي! – قال، وهو يهز ذلك الإصبع.

– كيف لا؟ – تمتم ديّ آندريا.- فأنت هناك تتهم شابين بأنهما شهرا بك لأنهما يعتقدان بأنك منحوس، ثم ها أنت هنا تحضر بذاتك أمامي وبثياب المنحوس

وتطلب مني أن أؤمن بأنك منحوس.

– نعم يا سيدي.

– ألاّ يبدو لك أن ثمة تناقض بين الأمرين؟

هزة كياركّيرو رأسه عدة مرات وابتسم ابتسامة صامتة بشفقة مستخفة.

– ثم قال، – يبدو لي سيدي القاضي، على الأقل، أنك لم تفهم شيئاً. فنظر إليه ديّ آندريا لبرهة، وهو مندهش.

– قل ولا تتردد، قل ولا تتردد، عزيزي كياركّيرو، فربما تكون حقيقة مقدسة هذه التي سوف تخرج من بين شفتيك. لكن ليكون في صدرك سعة لتشرح

لي لماذا لست فاهماً أي شيء.

– نعم يا سيدي. هأنذا سوف أوضح لك،- قال كياركّيرو، وهو يدني الكرسي. – ليس فقط سوف أريك كيف أنك لم تفهم شيئاً؛ بل أيضاً كيف أنك عدوي

المهلك. أنت يا سيدي، نعم أنت يا سيدي. الذي يعتقد أنه يعمل لمصلحتي. ألد أعدائي! أتعلم أم أنك لا تعلم بأن المتهمين قد طلبا من المحامي مانينا باراكا أن

يدافع عنهما؟

– نعم. أعلم ذلك.

– إذن، بالنسبة للمحامي مانينا باراكا، أنا روزاريو كياركّيرو، شخصياً ذهبت إليه وقدمت له دليلاً على المسألة: أي، أنيّ ليستُ فقط تفطنتُ منذ أكثر من

عام أن الجميع، عندما يرونيّ ماراً، يقومون بعلامة القرون، بل ثمة دليلاً آخر، دليلاً موثق وشهادات على الأفعال المخيفة التي لا يمكن أن تتكرر قد بنيت

عليها، وبشكل لا يتزعزع، بشكل لا يتزعزع، هل فهمت يا سيدي القاضي؟ سمعتي على أنيّ شخص منحوس!

– تقول أنت؟ لباراكا؟

– نعم يا سيدي، أنا.

– نظر إليه القاضي باندهاش أكبر من ذي قبل وقال:

– لقد ازداد عدم فهمي. ولكن كيف؟ هل لكي تضمن بشكل مؤكد براءة هؤلاء الشابين؟ إذن فلماذا اشتكيتهما؟

احتدم كياركّيرو غضباً بسبب تصلب تفكير القاضي ديّ آندريا؛ فقام واقفاً، صارخاً وملوحاً بيده في الهواء:

– لأني أريد، يا سيدي القاضي، اعترافاً رسمياً بقوتي، ألم تفهم بعد؟ أريد أن يكون ثمة اعترافاً بقوتي المخيفة هذه، وبشكل رسمي، وهي التي أصبحت

رأس مالي الوحيد!

منزعجاً، مد ذراعه، وضرب بعصا الخيزران الهندي بقوة على الأرض وظل لبرهة على هذه الهيأة من التصرف المتعجرف الغريب.

انحنى القاضي ديّ آندريا، وأمسك برأسه بين يديه، منفعلاً، ومردداً:

– يا لك من مسكين يا عزيزي، يا لك من مسكين يا عزيزي كياركّيرو، يا له من رأس مالِ! ما الذي ستفعل به؟ أخبرنيّ ما الذي ستفعل به؟

– ما الذي سأفعل به؟- ردّ كياركّيرو مفحيماً. – أنت، يا سيدي، لكي تمارس هذه المهنة كقاضٍ، حتى ولو أنك تمارسها بشكل سيء، قل لي، ألم يكن عليك

أخذ شهادة لذلك؟

– شهادة، نعم.

– حسناً، فأنا أيضاً أريد شهادتي! شهادة بأنيّ منحوس. بطابع الدمغة، بل وبطوابع كثيرة من الدمغات الرسمية! المنحوس المشهود له من قبل مملكة

العدالة.

– ومن ثم؟ تساءل القاضي.

– من ثم؟ سأضعها كعنوانٍ لبطاقة التعريف. سيدي القاضي، لقد قتلونيّ. كنتُ أعمل. فطردوني من البنك الذي كنتُ أعمل فيه كاتباً، بحجة، أنه لم يعد يأتي

أي أحد ليأخذ سلفة أو أن يطلب قرضٍ، لوجودي هناك؛ لقد رموا بيّ في الشارع، ولدي زوجة مقعدة منذ ثلاث سنوات وبنتيِن عفيفتين، لم يعد يرغب أي أحد

في خطبتهما، لأنهما ابنتاي؛ ثم إننا نعيش على مساعدة يرسلها إلينا أبني من نابولي، الذي هو الآخر لديه أربعة أطفال، ولا يمكنه أن يقوم بهذه التضحية لفترة

طويلة من الزمن من أجلنا. يا سيدي القاضي، لم يبقَ أمامي إلاّ أن أقوم بعمل المنحوس! متوشحاً بهذا المظهر، بهذه النظرات، وبهذا الثوب؛ وقد تركت لحيتي

تنمو؛ والآن أنتظر الشهادة لكي أدخل إلى ميدان العمل! وأنت تسألني كيف؟ ولكنك تسألني، ها أنا أكرر، لأنك عدوي!

– أنا؟

– نعم يا سيدي. لأنك تظهر عدم إيمانك بقوتي! لكن هل تعلم، لحسن الحظ أن الآخرين يؤمنون بها؟ الجميع، نعم الجميع يؤمنون بها! ففي هذه البلدة ثمة

نوادٍ كثيرة للقمار! يكفي أن أزورها؛ ودون الحاجة أن أتلفظ بأية كلمة. حتى يقومون بدفع المال لكي يجعلوني أنصرف من هناك! ثم أقوم بالطنين في محيط

المصانع؛ وأزرع الكآبة في جميع المحال؛ فسترى الجميع، نعم الجميع يدفعون لي الضريبة، هل ستقول بأنها نتيجة جهل؟ أما أنا سأقول لك بأنها ضريبة

للحفاظ على الصحة! لأنه، يا سيدي القاضي قد تراكم في داخلي كماً كبيراً من السخط والكثير من الكراهية، فأنا، في مواجهة كل هذا القرف الإنساني، أصبح

لدي اعتقاداً حقاً بأن ثمة في هاتين العينين قوة ستجعل هذه المدينة تنقلب بأكملها رأساً على عقب!

بينما لايزال القاضي ديّ آندريا يمسك برأسه بين يديه، منتظراً لبرهة حتى تسمح تلك الكآبة التي تطبق على أنفاسه لصوته أن يخرج. لكن صوته آبى أن

يخرج؛ فاخفض عندئذ من خلف العدسات عيناه الرماديتيِن الصغيرتيِن، ومد يديه واحتضن كياركّيرو بقوة مطولاً.

فتركه هذه المرة أن يفعل ذلك.

– هل تريد حقاً مصلحتي؟ – سأله. – إذن لتُحضر على الفور للمحاكمة، وبشكل الذي يجعلني أتحصل وفي أقرب وقتٍ ممكن على ذلك الذي أرغبه.

– الشهادة؟

ومد كياركّيرو يده مرة أخرى، وضرب بعصا الخيزران الهندي على الأرض رفعاً يده الأخرى إلى صدره، مردداً بفخر تراجيدي:

– الشهادة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذه القصة للمرة الأولى في جريدة Corriere della Sera في 9 أغسطس 1911، ثم ضمن المجموعة القصصية La trappola الصادرة عن دارFratelli Treves سنة 1915.

(1) – الأحدب الفضي. هي تعليقة على شكل رجل أحدب يمسك في يده سلة لحمل البضاعة، يكون مصنوعاً من معدن الفضة. يعتقد أن هذه التميمة التي تكون أحياناً على هيأة قرن من الأسفل تجلب

الحظ لمن يعلقه على صدريته أو على سترته. هو تقليد يوناني قديم أنتقل فيما بعد إلى الثقافة الشعبية النابولية، ليصبح فيما بعد معروفاً في إيطاليا بأنها تميمة تحصن ضد الحظ السيئ وتجلب الوفرة

والخير. [المترجم]

(2) – الشُوبك أو الشوبق، كلمة معربة حسب موقع ويكيبيديا، وتعني أداة على شكل أسطوانة بمقبضين تستخدم في المطبخ لفرد العجين وبسطه. تعرف أيضاً باسم المدلاك أو المطلَمة أو المِدْمَك أو

المِلطاط أو المِحور. [المترجم] رابط النص الأصلي: https://w

أضف تعليق