عن الوحدة وتداعياتها. في قصة (حكايتي الوحيدة) لإسلام أبو شكير. بقلم: سيد الوكيل

في سياق الانهمار الروائي الذي نعيشه، تسعى القصة القصيرة لأن تجدد وعيها بذاتها. إن أبرز ملامح هذا التجديد، أن يتجاوز السرد كونه طريقة للتعبير، ليصبح طريقة للتفكير، وعليه يصبح النص بحثًا رأسيًا في أزمة أو موقف أو فكرة .. الخ.  متوسلاً بكثافة الدوال، وحركية العلامات اللغوية، والقدرة على حشدها بالرموز والمعاني ذات الطابع التأملي لتغوص لأبعد ما يمكن في أعماق التجربة الإنسانية.  الوحدة تجربة إنسانية، على الرغم من العنوان المخاتل، الذي ينسب الوحدة إلى الحكاية وليس إلى المحكي عنه. لكن هذه مجرد مناورة فنية لينفتح فضاء النص كله على موضوع الوحدة. …..

فالقصة تنهض على شخصية وحيدة، تعيش حكاية وحيدة هي (الوحدة) ومكان وحيد معزول في أطراف الريف، بل وسلحفاة واحدة، تصبح في حد ذاتها معادلاً رمزيًا للوحدة. نحن نعرف أن السلحفاة تحمل بيتها على ظهرها، هكذا بطل قصتنا يعيش.    

ليس على الإنسان أن يعيش وحيدًا ليشعر بالوحدة، إنها مأزق وجودي سكن الإنسان الأول قبل أن يعرف معاني الاجتماع والتشارك. ومع الوقت أصبح هذا مبرمجًا في جهازه النفسي، ويسكن لا وعيه العميق، لكنه يخرج إلى سطح الوعي، كلما شعر الإنسان بخواء العالم حوله.  “الوحدة بطبيعة الحال قاسيةٌ رغم ميزاتها ” هكذا تخدعنا قسوة الوحدة بميزاتها على نحو ما يرى باشلار في (جماليات المكان) عندما يقع الطفل في غواية الوحدة فيختار مكانًا قصيًا وضيقًا ليلعب، ويتحدث إلى دميته.. إنه يمارس حنينًا أبديا إلى الرحم. حيث: العزلة والصمت والظلام. لكن هذا يصبح سمة شخصية ترافقه طوال العمر. هكذا.. للوحدة معنى غريزي، نبدأ به حياتنا وننتهي إليه في قبر مظلم. هذا هو التفسير الوجودي الجدير بالنظر في القصة.

يبدأ المأزق الوجودي كغواية، تزحف إلينا ببطء كسلحفاة، تتضخم مع الوقت لتبتلعنا كحوت يونس عليه السلام. هكذا كانت سلحفاة الوحدة. تتضخم يومًا بعد يوم. لقد جرب بطلنا ضرورة الاجتماع بزواج لم يصمد سوى ثلاثة أشهر. هكذا يبدو الاجتماع استثناءً بينما الوحدة هي أصل الحكاية، حكاية الوجود الإنساني في قصتنا هذه.

فالوحدة هنا ليست شعورًا عابرًا، يُعالج بتعبيرات غنائية على نحو ما اعتدنا في كثير من القصص والقصائد التي تعزف على آلام الوحدة. إنها متلازمة ذاتية أفضت إلى موقف وجودي واضح باختيار العزلة بعد زواج فاشل. نحن لا نعرف عن حياة الشخصية شيئًا. ما عمله؟ في أي البلاد يعيش؟ لماذا فشل زواجه؟

الواقع.. أن اكتناز النص بالمسكوت عنه، بمثابة محفز حيوي للدوال التي على القارئ أن ينتجها بنفسه. هكذا يحضر القارئ بذاته في النص، ويتوحد معه. ذلك الحضور يفسر لنا  هذا التناوب بين ضميري المتكلم والمخاطب. التكلم إلى الذات، أو إلى حيوانات لا صوت لها كالسلاحف. تلك التي تحمل بيتها على ظهرها، ويمكنها أن تعيش وحيدة فيه لأرذل العمر. هكذا تصبح السلحفاة رمزًا للوحدة، ومعادلاً موضوعياً لحياة الشخصية. ويصبح موتها المأساوي نذيرًا بموته.  

غير التفسير الفلسفي (الوجودي) ثم تفسير علمي للوحدة. إنها متلازمة عصبية تنشأ عند انغلاق دائرة كهربية في المخ ومن ثم تكرر نفسها.  ومع الوقت تصبح برنامجًا يسيطر على كل ممارساتنا. لهذا لا يدهشنا هذا الربط بين بطل القصة والسلحفاة وتضخمها، حتى أنها كلما اختبأت في مكان ما راح  يبحث عنها بشغف. إن ميتتها المهينة أرته ميتته ومع ذلك شرع في اقتناء أخرى على هيئة دمية.

 الإنسان يكون على درجة من الوعي بمأزقه الوجودي، لكن هذا الوعي لا يعني القدرة على تجاوزه. هكذا يتضخم الألم الناتج عن الإحساس بالعجز. لا يفسر لنا هذا وعي الكاتب بآليات عمل الشعور بالوحدة في الدماغ فحسب، بل هو يشير إلى أن الوحدة حينما تتحول إلى متلازمة نفسية تشعرنا بقسوة الحياة، في مواجهة إحساسنا بالعجز كما أن كل محاولة لكسرها تشعرنا بالاغتراب حتى في وجود آخرين. ربما لهذا لم ينجح الزواج في كسر دائرة الوحدة.  

القصة ليست معزوفة شكوى جراء الشعور بالوحدة. بل بناءً سردياً يسعى لفهم معاني الوحدة عبر ممارسات إنسانية تبدو أليفة ومعتادة كاقتناء كائنات غير بشرية على سبيل الائتناس “كلاب، وقطط، وببّغاوات، وفئران، وسلاحف، وسواها ” وقد ينتهي الأمر إلى كائنات متخيلة تسكننا نستعيض بها عن الواقع المعاش. عندئذ ننفرد بذواتنا ونرى تضخم عجزها ومهانتها تماما كما رأي تضخم السلحفاة  وموتها. تلك هي الوحدة في أعمق معانيها.

في علم النفس، توصف هذه الشخصيات بـالشيزويدية (شبه الفصامية) إنها مهددة بالفصام الكامل، حتى إذا ما تمكن منها ابتلعها لتعيش في عالم خيالي مرعب. لهذا تأتي نهاية قصتنا، بأن تستبدل الكائنات الحية بدمى “لا تأكل. ولا تشرب. تستمع فقط. ولا تملّ من حكايتي الوحيدة التي لا أعرف غيرها..” إنه الغرق في اللاوجود.. هكذا النص،  يسبر أغوار التجربة الإنسانية.

أضف تعليق