معالجة جانبية للفتنة “3”   قصة/ أحمد عبده

                        

يقفُ على أرجوحته، اقتربتُ بفمي من فتحات أسلاك القفص، فالتقطَ عود البقدونس من بين أسناني، جلستُ على الكرسي المقابل له، رحتُ أتتبع طريقته في أكل الخضروات؛ وقد ظهر عليه التلذذ بالعصارة الخضراء.

تذكرتُ ضرورة تصوير المنظر الرقيق، قمتُ لإحضار الموبايل، وحينما عدتُّ كانت عشبة صغيرة – هي ما تبقى بين منقاريه، ولا يزال يعالج التهامها, سال لعابي لتقبيله في فمه/ منقاره,! فم مدبب دقيق كطرف نبتة زنبقة، تحبُ أن تمسكهُ بين أسنانك الأمامية، وتظل هكذا, وأنتَ تنظرُ في عينين كفقاعتي زئبق على زجاج أخضر فاتح، كلون ريشَهُ، أو تضعه بين شفتيك وتمتصه لدقائق!

اقتربتُ بوجهي من أسلاك القفص، شفتاي تسبقان أنفي، تحرك من مكانه وجاء نحوي؛ مد منقاره, ربما ظن أنني أُخبيءُ له شيئًا آخر داخل فمي، أو ليشكرني على الوليمة الخضراء الطازجة، نقرني في شفتي السفلى, شفتي سمينة وقرمزيتها طبيعية وباستمرار، هل يعاقبني لأنه لم يجد شيئًا هذه المرة؟

سال الدم على قميصي القطني الصيفي الفاتح؛ فتكونت عليه بقعٌ متفرقة، ليبدو كأنه “مَحرمة” لفتاة من فتيات القرية القديمة ليلة دُخْلتها على عريسها.

وبعيدًا عن أمور العواطف أو الاستلطاف- سألتُ نفسي بعد أن صرختُ، وفور رؤيتي لسرسوب الدم المنسال على صدري:

ـــــــ  بالذمة ! هل هناك امرأة عاقلة تُقبِّل عصفورًا في فمه، أقصد في منقاره؟

المنقار لطيف، ورقيق، مثل مِرْوَد الكحل، يُغري بأن تضعهُ بين شفتيك وتبخّ فيه حبات الدنيبة؛ كي يتغذى العصفور أكثر، فينمو جسده ويصير سمينًا!  

ولأننا نساء، ولنا قلوب في رقة ألسنة اليمام، وأحيانًا في قسوة غرس سِنّ منقار العصفور في شفتي – تجدُ المرأة منِّا تجاه موقف كهذا، وقد انقسمت إلى نصفين يتصارعان، صراع  بين عاطفة وعاطفة:

 عاطفة من حديد تقول لي: أخرجيه من القفص, وأطلقي سراحه إلى الفضاء، فهو خائن، ولا يستحق أن يعيش في قصر كهذا, وينال مني هذه المحبة والرعاية – وعاطفة من الملبن تعترض وتقول: لن تتحملي غيابه ساعة واحدة، فأنتِ دائمة الجلوس أمام قفصه؛ تناغشينه وتلاغينه وتلاعبينه، وأحيانًا تُخرجينه من القفص وتضعينه على صدرك، برجليه وأظافره الدقيقة وأنتِ نائمة, أو يقفُ على أحد أصابعك, فلايحاول الطيران أو القفز.. لا يفكر في النزول من عليه!!    

تُوجعني شفتي، وأرى الدم على القميص؛ فأُصرُ على طرده وتسريبه لخارج القصر. ويؤلمني تخيل فراقه؛ فأُصرُ على وضعه في القفص!

أحبُ أن يكون أمام عينيَّ باستمرار، ولو في الحبس! 

العاطفة الأولى تقول: نقرَ شفتكِ هذه النقرة الغبية: شفتكِ التي تناغيه، وتخاطبه، وحملت له عود البقدونس الأخضر, فلماذا تُبقي عليه؟

فيما العاطفة الثانية تقول: الخطأُ خطأُكِ! وإذا أصررتِ على طرده، أخرجيه من القفص، ودعيه يمرح في أجواء القصر، فالفراغ محكم، لا يوجد فيه ثقب تخرج أو تدخل منه ذبابة، والأبواب وهي مغلقة نحسبها مفتوحة! وهي مفتوحة نحسبها مغلقة!, وكان تبريرها لذلك أنه بدلا من حبسه في السجن الصغير، فليمرح بجناحيه في السجن الأكبر، فالمفروض أن حريته على الأشجار، وفي الحقول، فعلى الأقل يمرح على أطراف الستائر، وحواف النجف والثريات، فلماذا تميَّز عن البشر بالجناحين؟

وأقول في نفسي: لكنه ليس من عصافير البيئة الخارجية؛ لكي نطلق سراحه, هو غريب عن هذا العالم, تميَّز بشكله الأجمل والأرق؛ ليكون حبيسًا هكذا! هو مثل طفلي” قرنفلة ” تمامًا, فلو أُطلقنا سراحه، وخرج معه “قرنفلة” إلى الشارع- فكلاهما لن يعرف طريق العودة إلى القصر!

وحياته في القصر هي ما جعلته هكذا: محدود النطاق، محدود النظر، غشيم التصرف! حتى وأنا أمُدُ  له اليد بطعامه.

 فلا نحن تركناه مع فصيله الذي يمتلك شواشي الأشجار وأسلاك الهاتف وحبال الغسيل! ولا نحن تركناه يمرح في أجواء القصر؛ فيطول باع جناحيه، ويقوى ريشه على مقاومة الطيران كما يقوى منقاره من كثرة النقر في الأرض. وهل ما جعله لا ينتمي لبيئة الأشجار والنقر في الحقول – إلا أننا جعلناه تربية قصور؟ 

هو، ومن كثرة الأُلفة معنا في القصر نقر شفتي، مثيله البري على طرف شجيرة، يطير هاربًا لو هشَّهُ  الصغير” قرنفلة”.

لكن كلما نقح عليَّ الثقب الذي أحدثه في شفتي، أشعر بغلظة نحوه فأقرر طرده خارج القصر, تخفت هذه الغلظة شيئًا, فأقرر إطلاقه في جو القصر مع  حرمانه من الطعام يومًا، فسرعان ما تلين تلك الغلظة أمام بكاء “قُرنفلة”، فهو لا يريد لعصفوره أن يغادر القفص؛ ولا القصر, فأرى أن رأيه أصح مهما حدث، فنحن أتينا به ليكون أقرب لنا من نجفة السقف: نتكلم معه، ننظر في عينيه، ننقله من مكان لمكان بسهولة، آخذه معي إلى غرفتي وأنا ذاهبة إلى سريري! يوجد أكثر من عصفور في أقفاص أخرى: في الصالة، في الشرفة، لكن القلب وما يهوى، فإذا أطلقناه في جو القصر- فأين سنجده؟ مره نجده مختبئًا وراء ستارة، ومرة على سلك نجفة، ومرة يطوي فراغات القصر بألعاب بهلوانية: من غرفة! إلى بهو! إلى صالة! ثم يختفي كجن! وأنا لا أطيق غيابه عن عيني، بودِّي أن أعلقه في صدري دلَّاية.

ومن بين أسلاك القفص، مددتُ له عود بقدونس آخر بيدي هذه المرة، ظل واقفًا على أرجوحته، لم يتحرك، هل يريده من فمي، من بين أسناني، شفتي؟

ظللتُ مادةً له العود الأخضر، كأنني أُلحّ عليه، أو أتوددُ له قائلة:

 لا تحزن! أنا سامحتك!

حشر العصفور منقاره بين خشبتين من خشبات أرجوحته، وانهمك في ثنيهِ شمالاً ويمينًا, حتى سقط منه طرف الزنبقة!، ثم رفع رأسه وهو ينظر لي بعينين لامعتين.. بسائل شفاف.

                                  ***

                                               مايو 2022 

أضف تعليق