محمد عبد المطلب في ذاكرة القصة المصرية(ملف خاص).

بيت قصير القامة

قصة: محمد عبد المطلب

1) حديث الصغار:

  خرجوا من البيوت الواطئة الترابية. تبادلوا الصيحات والنداءات المتفق عليها. حركوا أجسادهم النحيلة فى فراغ الحارة الضيقة جلباً للدفء. شبوا بقاماتهم الضئيلة يرمقون الشمس التى تعلقت بقمة البناية الجديدة. نفخوا أنفاسهم فى أيديهم الباردة . قذف أكبرهم الكرة إلى أعلى. سخر أحدهم منه :

  – لن تصعد كرتك إلى منتصف البناية. حرك الطفل الأكبر يده فى بذاءة. انفض من حوله الأطفال يرمقونها فى دهشة وذهول. فترت همتهم في الجري وراء الكرة . ارتمى بعضهم فوق أكوام الرمل يبني بيوتا ويحفر أنفاقا. صعد عدد قليل منهم فوق أكياس الأسمنت . تسلق أكثر الأطفال … جراءة على السقالات والحبال الممدودة داخل البناية. تمتلئ نفوسهم بخوف من صاحب البناية وظهوره المفاجئ . لكن أحد الأطفال صاح من فوق تل الرمل:

  – إننى لا أخاف عبد الموجود صاحب البناية. أغرقت الدهشة معظم الأطفال. تناول أحدهم قبضة رمل وقذفه بها فى بطنه:

  – لكنك أول من يجرى عندما تراه داخلا الحارة. قال الصبى وهو يغوص فى حفرة استوعبت نصف قامته:

  – أمى قالت لى عنه أشياء كثيرة نحن لانعرفها. بزغ في نفوسهم فضول طفولي . تنتصب صورة عبد الموجود فى أذهانهم مخيفة ومرعبة. تقافز الأطفال حول الصبي وهو فى عمق الحفرة وتصايحوا:

  – قل لنا يا بن أنيسة القذرة ماذا تعرف عن عبد الموجود؟ صمت قليلا مستشعرا أهميته وقال: – عبد الموجود مثلنا، ولد فى هذه الحارة، وكان فقيرا مثل كل أب لنا، وكان عاطلا لم يكن يملك غير جلباب من الدمور، وكان ينام فى الخرابة التى اشتراها وبنى عليها تلك البناية الكبيرة. حملقت أعين معظمهم من الدهشة والمفاجأة، رفع رأسه قليلا متخلصاً من وهم يؤرقه:

  – لقد سمعت أنه يأكل لحما كل يوم. تبادلوا نظرات الذهول وعدم التصديق،أضاف وقد تغيرت معالم وجهه:

   – أمى قالت أمامى إنه متزوج من امرأة بيضاء مثل اللبن وطريه مثل الملبن. غرس أحد الأطفال يده فى الرمل بحركة قبيحة، عبث بعضهم بأعضاء ذكورتهم ثم أضاف:

  – ويسكن فى بيت به ماء وكهرباء ومعه صفائح مليئة بالفلوس. تأوه معظمهم، هزوا رؤوسهم الصغيرة فى حيرة، صاح أحد الأطفال فى فزع مشيرا إلى مدخل الحارة:

  – إلحقوا عبد الموجود .. عبد الموجود. قفز كل الأطفال ، ودخلوا بيوتهم الواطئة.

2) حديث صاحب البناية:

  بعد أن أوقف عربته فى الشارع العمومى دلف إلى الحارة مقتربا من البناية، فوجىء بالأنفار يتحلقون حول الموقد الصفيح من أجل الشاى الأسود، صعد الدم إلى رأسه الصغيرة ، صرخ:

  – يا أبناء العواهر تفلحون في سف النقود؟ هل أغرف من بحر؟ هرع الأنفار إلى أدواتهم، جرى بعضهم إلى حمل الأسمنت اللين،عاد يصيح:

  – هل هذا كلام الرجال؟ (أضاف بفخر) أليس من عمل ورائى غير رقابتكم؟ لمس ساعته الرقمية مبديا أسفا على الوقت المهدر، أشعل سيجارة طويلة من التبغ المستورد، رفع طرف جلبابه الصوفى الفخم وهم بدخول البناية:

 – هل أصابتكم الحارة بلعنتها؟ أعرف أن كل نساء الحارة عاهرات، ورجالها غير ذكور . قبل أن يضع قدمه اليمنى فى البناية، اصطدم به رجل ضرير، تحسس بيديه الخشنتين ثيابه الفاخرة، اكتسى وجهه المجدور بابتسامة، قال فى غبطة مفتعلة:

  – صباح الخير يا عبد الموجود. صرخ الأخير: يا حظى الاسود، بدأت الصباح بوجهك البرصى. ترك طرف جلبابه الصوفى . بصق على الأرض فى غيظ مكتوم، وطأ السيجارة فى تأفف بحذائه اللامع ، صرخ فى العمال بانفعال جنونى:

  – يا أبناء الزناة … حافظوا على نعمتكم أمامكم عمل طويل. خطأ إلى داخل البناية مرسلاً شتائماً مبهمة إلى العمال الذين صاروا يعملون بنشاط وقتى، مد بصره إلى جوف الحارة متأملا بيوتها الترابية الواطئة المتلاصقة فى خوف، دق بيديه فى فخر أحد الجدران الأسمنتية الصلبة، عاد ينظر من جديد إلى الحارة وأكوام الرمل التى تحمل آثار الأطفال، صاح بصوت عال قاصدا كل أناس الحارة:

– يا أبناء الكلاب عليكم أن تنظفوا أنفسكم حتى تصيروا جيرانا صالحين لسكان العمارة الجديدة. بصق فى عصبية من فوق أحد الشرفات.

3) حديث المرأة العجوز:

 على سجادة الشمس الصغيرة جلست بجوارها صندوق يرتفع منه صوت الكتاكيت الصغيرة، ألقت إليها بقبضة أرز مجروش، رفعت وجهها المتغضن ثم أرمشت عينيها الكليلتين، أبصرت امرأة ليست بعيدة عنها فنادت عليها:

  – أليس هذا ابن زكية ؟

 – نعم يا جدة. قالت بتعجب : صار يأمر وينهى.

 – كل هذا بنقوده يا جدة. دقت صدرها الأمسح ثم صاحت:

 – هل كل نساء الحارة عاهرات ورجالها غير ذكور؟

 – قد قال منذ قليل – وهو ما يقوله دائما.

 – استدعه لى ابن الخادمة. – لماذا يا جدة ؟

 – سأذكره بأنه قفز فوق سطحي وسرق دجاجتين ببيضهما.

4) حديث صاحب البناية وقت الصعود:

 رفع رأسه الصغير يرمق البناية فى فخر، مسح صدره فى غبطة، منح الأنفار نظرة رضاء، خطا نحوها فى لهفة طفولية همس للأنفار:

 – هكذا يكون شغل الرجال. صعد إلى الطابق الأول، أطل من أحد الشرفات، أسقط نظرة احتقار إلى البيوت المجاورة ، قال محدثا نفسه: (تظنونني مجنونا أن أحول خرابة كنت أبيت فيها تغمرني مهملاتكم وفضلاتكم ورائحة بول رجالكم وبرازهم) . صعد إلى الطابق الثالث، أسقط نظرة احتقار ثالثة ثم قال محدثا نفسه: (بنايتى فوق رؤوسكم جميعا، يلقى سكانها الجدد من طوابقها العاليات فضلاتهم فوق رؤوسكم التى تستحق الدق من نعلى غالية الثمن) صعد إلى الطابق الرابع. أسقط نظرة احتقار رابعة ثم قال لنفسه: ( من فوق آخر طابق لها .. سأتبول عليكم إن شئت) صعد إلى الطابق الخامس، أسقط نظرة احتقار خامسة ثم قال لنفسه: (لن يدخل الهواء أو النور إلى بيتك يا أنيسة يا ابنة صالحة، لأننى رجل ضائع ولا أملك إلا جلباباً من الدمور وطوب الحارة اشتكى من قدمي الحافيتين، لن ترى السماء من نافذتك الضيقة) صعد إلى الطابق الأخير، أسقط نظرة احتقار كبيرة، ثم قال محدثا نفسه: (أعرف أنكم حاقدون، لكن ستنكسر نظرات الحقد على حوائط بنايتي، الصلبة وسيبقى الغيظ فى قلوبكم ولتموتوا بغيظكم).

5) حديث النافذة الضيقة:

دفعت النافذة فى عصبية، رمقت البناية التى تنتصب أمامها فى شموخ يحجب عنها رؤية السماء، رفعت يديها إلى أعلى وصرخت فى غيظ:

  – إلهى تنهد فوق راسك يا ابن زكية، حرمتنا من نور الله ونسمة الهواء النقية. مصمصت امرأة تجلس امامها شفتيها وقالت بخبث:

  – طلب يدك يوما .. حظوظ. تلون وجهها بانفعال صاخب ، صرخت:

  – أكان معه شىء غير قملات يحسن تربيتها فى رأسه الصغير وقدماه الحافيتان، شكى منهما طوب الأرض. بصقت من النافذة الضيقة على البناية.

6) حديث الرجل العجوز:

اتكأ الرجل العجوز على عصاه العجراء، جذب نفسا صغيرا من عقب سيجارته الرخيصة، مسح صدره العاري، قال للنسوة اللائي يقف بجوارهن:

 – سمعت أن البناية منعت الشمس عن أن تفرش أسطح منازلكن فأنتن تجمعن الغسيل مبتلا ولا تجدن ركنا دافئا تمشطن به شعوركن.. صباح كل معاشرة، وسمعت أيضا أن النسمة الطرية لن تدخل من نوافذكن الصغيرة مثلما كانت تدخل أيام كان عبد الموجود يرقد فى الخرابة التي صارت مئذنة، ولأني رجل ضعيف لا أستطيع أن أوقف ارتفاع البناية، فقد سمعت بأن عربات جديدة ستأتى لتحمل المونة والطوب لطوابق أخر، كأنما عبد الموجود يريد أن يصعد بها إلى السماء ليلقى ربه الذى لا يعرفه أبدا، لأني رجل ضعيف وبقيت لي خطوات صغيرة نحو القبر، فأنا لا أملك غير الدعاء بأن يموت عبد الموجود مثلما ماتت أمه زكية ولم تجد من يمنحها ثوبها الأخير ولم تجد موضعا إلا فى مقابر الصدقة. اللهم اجعل ابن زكية ينتهى نهاية مثل زكية التى خدمت فى البيوت وقال البعض أنها … أستغفر الله. ثم جلس الرجل الضرير على الأرض وسط النسوة .

7) حديث صاحب البناية الأخير:

  بعد توهج البناية بألوان زاهية هم عبد الموجود بدخولها وقد صارت شامخة مثل مئذنة لكن فوجىء برجال ونساء وأطفال الحارة يسدون الطريق نحو الباب، تغير لون عبد الموجود وصرخ:

  – يا حشرات .. ماذا تريدون؟ صاحت إحدى النسوة:

  – كفاك يا عبد الموجود بنيت بيتا يجثم على بيوتنا ولو وقعت منه طوبة لهدمت أسطح بيوتنا. بصق فى الهواء.. قال لها:

 – أيتها المجنونة .. هل تسمون هذه بيوتا؟ أشار إلى بنايته، توهج بالفخر:

 – ماذا تكون هذه إذن؟ تقدم رجل نحيف .. هتف بغضب:

  – اتق الله .. ولا تنس أنك كنت تبحث عن الشمس لأن جلبابك الدمور لم يكن يحميك من البرد. بصق عبد الموجود على وجهه، أثارتهم بصقته،حاول الرجل أن يمد يده المعروقة ليجذب عبد الموجود من طوق جلبابه الصوفى، هم بعض الشباب أن يتضامن مع الرجل الذى استقبل بصقة عبد الموجود، لكن أحد العقلاء همس:

  – حذار من أذية عبد الموجود،لقد صار شيئا آخر، له كلمة فى الحكومة. تلون وجه عبد الموجود بانفعال جنونى وصاح:

  – هل هي مؤامرة منكم؟ أستعمل حذائى إذن، ومعي رجال سيزنون نساءكم. غلت صدورهم بالضيق، جرى الدم نافرا فى عروقهم الثائرة، مرق عبد الموجود من بينهم داخل البناية، أرسل شتائم متلاحقة لهم ولكل من يقف فى طريقه، أطل عليهم من أحد الطوابق ثم صاح:

   – يا حشرات ابتعدوا عن بناية عبد الموجود. رفع أحد الشبان رأسه ثم هتف فى غضب:

  – إن سكينا صغيرة تكفى لإنهاء كل شىء، أغرسها فى بطنك يا ابن زكية. سخر من قول الشاب، واصل صعوده إلى طابق أعلى:

  – أيها الزناة.. ابن زكية صار سيداً لا يكلم رعاعاً مثلكم. حركت إحدى النسوة رأسها فى عصبية ورفعت إليه وجهها فى غضب:

 – رحم الله أيام زمان، لم نكن نعرف لك أبا. واصل عبد الموجود الصعود إلى سطح البناية، أسقط بصره فى حشدهم الذى يتكدس تحت البناية:

 – إن عبد الموجود سيد، وحذاؤه فوق رؤوسكم، ومن لايعجبه فعليه أن يشرب من بولى. رفع طرف جلبابه وتبول على الحشد الذى تفرق ساخطا تطارده القطرات والرذاذ.

8) أحاديث أخيرة لرجال الحارة:

  من أسفل البناية رفع الرجال رؤوسهم المعروقة إلى قمتها ثم رفعوا أيديهم:

 – اللهم اعطنا حذاء مثلما أعطيت عبد الموجود.

 – اللهم اعطنا جلبابا مثلما أعطيت عبد الموجود.

 – اللهم اعطنا لقمة طرية تصير لحما على عظامنا مثلما أعطيت عبد الموجود.

 – اللهم اعطنا نقودا لنحول الخرائب التى نعيش فيها إلى بنايات تضاهى بناية عبد الموجود.

9) أحاديث أخيرة لنساء الحارة:

من خلف الرجال وقفت النسوة، بغضب رفعن أيديهن وصدورهن تغلى:

 – اللهم اهدم هذه البناية على رأس ابن زكية.

 – اللهم اجعلها خرابة كما كانت يلعب فيها الأطفال ويقضى فيها الرجال حاجاتهم كما كانت بيتا لعبد الموجود.

 – اللهم أسقطه من حالق ليحمله أربعة إلى القبر.

10) أحاديث أخيرة لصغار الحارة:

 قبل أن يخرج عبد الموجود من الحارة تجمع الأطفال وراءه، هتفوا بصوت واحد:

 – عبد الموجود يا عبد الموجود ياذيل الكلب. على وابنى وأنت برضه ذيل الكلب… وتجرأ أحد الأطفال وقذفه بطوبة حمراء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(مجموعة قصصية: بيت قصير القامة، للقاص محمد عبد المطلب، صادر من: مطبوعات الكلمة الجديدة بالسويس، ..و أقلام الصحوة بالأسكندرية ، يوليو 1981م، ص ص 18:7 )

قراءة نقدية لعمر شهريار في قصة بيت قصير القامة 

 تتكون قصة “بيت قصير القامة” للقاص محمد عبدالمطلب من عشرة مقاطع سردية، كل مقطع منها يرصد جزءا من الحكاية، عبر زاوية نظر مباينة عن المقاطع الأخرى، سواء من حيث شخصية الرائي أو موقعه المكاني.

تنهض القصة بالأساس على تقنية تعدد الأصوات، فرغم إن ساردا وحيدا هو الذي يسرد القصة، فإنه أشبه بكاميرا متحركة تنقل لنا وجهات نظر متباينة، وأصوات متعارضة، كل منها يرى الحدث المركزي من زاويته الخاصة. فهناك صوت عبدالموجود، وصوت الأطفال الصغار، وصوت الرجل العجوز، وصوت المرأة العجوز، فضلا عن صوت رجال الحارة، وصوت نساء الحارة.

 الشخصية المركزية في القصة هي شخصية “عبدالموجود”، ذلك الرجل العائد إلى المكان (الحارة الفقيرة)، لكنه عائد بهيئة مناقضة تماما لهيئته القديمة التي عرفها بها أهل الحارة، فقد كان رجلا فقيرا أقرب إلى شحاذ، ينام في الخرابة، ولا تحميه ملابسه الرثة من برد الشتاء، وقد اشتكى طوب الحارة من قدميه الحافتين، هكذا غادر الحارة، لكنه عاد إليها رجلا غنيا ذا مال وسلطة وجاه، عاد وقد اشترى الخرابة التي كان يبيت فيها، وقد شيد عليها بناية عالية جدا، تمنع الهواء والشمس عن بقية البيوت الطينية الواطئة في الحارة.

 الأمر، إذن، أشبه بتحرش معماري، إذ يتحرش عبدالموجود بمنازل جيرانه القدامى، قاصدا صناعة تاريخ جديد وهوية جديدة له، غير تلك التي كان عليها، متعمدا إيذاء بقية أبناء الحارة الذين كانوا شهودا على فقره وفقر أمه (زكية) التي دفنوها في مدافن الصدقة. إنه في لحظة تشييده هذه البناية العالية يسعى لتشييد هويته الجديدة، على أنقاض الخرابة/ الهوية القديمة التي كان عليها، فيعيد هندسة المكان وصياغة الفضاء، الفضاء المكاني أو الطبقي أو الهوياتي.

 هذه الهندسة الجديدة للفضاء وهذا التشييد للبناية العالية، لن يكتما سوى بالنقيض، وأعني المحو، محو بيوت الجيران، محو الخرابة، محو التاريخ القديم، ليتسنى له تأسيس تاريخ جديد يكتبه هو بطريقته، حتى على مستوى الداء اللغوي سنجد عبدالموجود يعمد إلى سب أبناء الحارة بشتائم جنسية تنتهك شرفهم وأخلاقهم، مثل: (“أيها الزناة”، و”معي رجال سيزنون نساءكم”، و”يا أبناء العواهر”، و”كل نساء الحارة عاهرات، ورجالها غير ذكور”، و”يا أبناء الزناة”) ولعل هذه هي طريقته في محو تاريخ أمه “زكية”، التي يقول عنها الرجل العجوز الضرير “زكية التى خدمت فى البيوت وقال البعض أنها.. أستغفر الله” في إشارة إلى انحرافها الجنسي، وفي لحظة المواجهة بينه وبين أهل الحارة قالت له إحدى النسوة في غضب: “رحم الله أيام زمان، لم نكن نعرف لك أبا.” وكأنها تؤكد له أن التاريخ القديم سيظل حاضرا أبدا ولن يستطيع محوه.

تبدأ القصة وتنتهي عبر صوت الأطفال، ففي البداية نتعرف على شخصية عبدالموجود عبر حكي الأطفال عنه وهم يلعبون في الرمال المستخدمة في تشييد بنايته الشاهقة، صانعين له صورة أسطورية غذتها مخيلاتهم الصغيرة، مدعومة ببعض المعلومات التي سمعها أحدهم من أمه، فهو “يأكل لحم كل يوم”، و”متزوج من امرأة بيضاء مثل اللبن وطرية مثل الملبن”، و”يسكن فى بيت به ماء وكهرباء ومعه صفائح مليئة بالفلوس”، هكذا يراه الأطفال، لكنهم رغم ذلك يعرفون سيرته الأولى وتاريخه القديم، إذ يقرون أنه “ولد فى هذه الحارة، وكان فقيرا مثل كل أب لنا، وكان عاطلا لم يكن يملك غير جلباب من الدمور، وكان ينام فى الخرابة التى اشتراها وبنى عليها تلك البناية الكبيرة”، هكذا تنتقم الحارة بآلياتها الخاصة من عبدالموجود، فتحول تاريخه القديم إلى شيء أشبه بالسيرة الشعبية التي يتناقلها الرواة ويحفظها الابن عن الأب.

إذا كانت القصة بدأت بصوت الأطفال ومنظورهم، فإنها أيضا تنتهي بهم. فعلى النقيض من رجال الحارة الذين اكتفوا بالدعاء أن يمنحهم الله حذاء وجلبابا ولقمة ونقودا مثلما منح عبد الموجود، وعلى النقيض –أيضا- من نساء الحارة اللائي اكتفين بالدعاء غلى الله أن يسقط البناية ويعيدها خرابة كما كانت وأن يسقط عبد الموجود من أعلاها ميتا، على النقيض من هؤلاء الذين اكتفوا بالدعاء وطلب الخلاص من السماء، فإن الأطفال لجأوا إلى الفعل، وساروا وراءه يهتفون “عبد الموجود يا عبد الموجود ياذيل الكلب.. على وابنى وأنت برضه ذيل الكلب”، فيما يشبه طقس “التجريس” المعروف شعبيا، ولم يكتفوا بذلك، بل “وتجرأ أحد الأطفال وقذفه بطوبة حمراء”.

لعب السارد على دلالات العناوين ومراوغاتها، بدءا من عنوان القصة ومرورا بالعناوين الجانبية، فالعنوان الرئيس “بيت قصير القامة” يبدو مرواغا، إذ لا نعرف هل “قصير القامة” وصف للبيت أم مضاف للبيت ومن ثم يصبح وصفا لصاحب البيت، بما يجعل القراءة محتملة في الحالتين، لكن ما يرجح إحداهما أن قصر القامة عادة ما يكون وصفا للإنسان وليس للأشياء. كما يتلاعب بالعناوين الجانبية التي تبدأ عادة بمفردة “حديث” أو “أحاديث”، وكلاهما يحتمل أن تكون “حديث” بمعنى “كلام”، كما تحتمل كذلك أن تكون بمعنى “سيرة”، إذ إن “حديث الصغار”، مثلا، يشتمل على كلامهم وخطابهم، لكنه كذلك يتضمن سيرتهم، على غرار “سيرة عيسى ابن هشام”، مثلا.

تبدو القصة، إذن، وحسب هذه المراوغات في تشكيل العناوين، حاملة لحزمة من الخطابات المتقاطعة للشخوص المروي عنهم داخل النص السردي، وفي الوقت نفسه تبدو حاملة لعدد من السير لهؤلاء الشخوص المروي عنهم، وإن بشكل شديد التكثيف.

شهادة أدبية ( احتراف الحنين)

الدكتور مصطفى الضبع

24068227_1501155763325307_176152866420398778_n

‎د. مصطفى الضبع

احتراف الحنين 

محمد عبد المطلب رابعهم ورائعنا

أربعة يحملون الاسم نفسه جمع بينهم الفن والأدب:

– الشاعر محمد عبد المطلب الملقب شاعر البادية.

– المطرب محمد عبد المطلب.

– أستاذنا الدكتور محمد عبد المطلب.

– القاص السوهاجي محمد عبد المطلب.

لم أعايش الأول، ولم أقابل الثاني، تتلمذت على يد الثالث في النقد والدراسة الأكاديمية، وعايشت الرابع وتتلمذت على يديه في القصة القصيرة خاصة والأدب عامة.

بداية الثمانينيات من القرن الماضي، غادرت جهينة إلى كلية الآداب بسوهاج، مسافة لا تزيد عن الثلاثين كيلو مترا لكنها كانت نقلة نوعية في حياة لم تبدأ بعد، كانت الخيارات قليلة، وكانت الآمال والطموحات لا تحد.

قادما إلى سوهاج في مهمة ظاهرها الالتحاق بكلية الآداب وباطنها مكاشفة العالم، والبحث عن ذات لم تحدد معالم طريقها بعد، جئت سوهاج محملا بطموح انعزلت من أجله عن العالم سنوات منفردا بكتاب، قبل مغادرتي جهينة كنت قد انتهيت من قراءة ما تحويه مكتبة مدرسة جهينة الإعدادية المشتركة، ومن بعدها مكتبة مدرسة جهينة الثانوية المشتركة، ثم مكتبة بيت ثقافة جهينة، وكنت قد بدأت كسر القيود المفروضة حول اقتراب الصغار من مكتبة جدي عبد الحليم فريجة التي فتحت لي بوابة التراث العربي واسعة.

كان هناك شيء ناقص، شيء لن تجده في الكتب، ولن تتوصل إليه بسهولة البحث وصعوبته، شيء ترتبه الأقدار ويجود به الزمن.

في كلية الآداب جمعتني الدراسة بمن اجتمعت معهم على حب الأدب، وكانت لنا ندواتنا المصغرة قرب مبنى إدارة الجامعة الذي لم يكن قد اكتمل وقتها: الشاعر ياسر الزيات، والأخوين أحمد وجلال غازي من قسم اللغة الإنجليزية، والشاعر كمال عبد الحميد من قسم الصحافة، لاحقا انضم الصديق الشاعر عبد الناصر هلال المنتقل من دار العلوم مستكملا مشواره في قسم اللغة العربية بكلية الآداب.

كنا في حاجة إلى من يضعنا على الطريق أو من يساعدنا في رسم خارطة طريق مصغرة ، وكانت الجامعة (أخشى أنها ماتزال) غير قادرة على أن تسيطر على شغف مقيم، أو تكشف كل مساحات الكون من حولنا، أو تمنحنا بعض خيوط تتطلبها حياة أرواح باحثة عن يقينها.

وقتها عرفنا الطريق إلى نقابة الزراعيين، أو نادي الزراعيين كما يعرفه البعض، كانت هناك ندوة الثلاثي: فاروق حسان (رحمه الله)، محمد عبد المطلب، ومحمد محمود عثمان أطال الله بقاءهما، كان الثلاثة يعقدون ندوة حوار التي كانت بمثابة مؤسسة ثقافية تدير حوارا مع مجتمع مغلقة نوافذه إن وجدت من الأساس.

كانت الندوة نافذة جيلي من أبناء جامعة سوهاج، وأصبحت ملتقانا الأسبوعي بوصفها الندوة الأولى المنتظمة التي نشارك فيها في حياتنا، نلتقي أسبوعيا، نلتف حولهم نقرأ نصوصنا الغضة، نستمع لآرائهم، ونقف عند ملاحظاتهم التي كنا في أمس الحاجة لها.

كانت بوابتنا لعالم الأدب، والتعرف على أدباء سوهاج وقتها: أبو العرب أبو اليزيد – خيري السيد إبراهيم – عبد الحميد رباب – جميل عبد الرحمن – محمد الربيعي، الدكتور مصطفى رجب، الأخوين علاء رمضان وبهاء رمضان، محمد خضر عرابي ، والدكتور بهاء مزيد، وآخرين ،  أو الذين أخذتهم القاهرة للدراسة أو العمل: أوفي عبد الله الأنور – السماع عبد الله الأنور – فولاذ عبد الله –الدكتور مشهور فواز -الدكتور عبد الحكم العلامي – عمر نجم – المنجي سرحان – الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب – محمد مهران السيد – الدكتور حسن طلب – الدكتور محمد أبو دومة –وغيرهم ممن مروا من ثقوب الذاكرة .

جمعتني الندوة بممثلي جيلي من كتاب سوهاج وقتها:

– الدكتور شرف الدين عبد الحميد القادم من كلية الحقوق عابرا إلى الفلسفة (درس الفلسفة متفوقا فيها ومتدرجا في طبقاتها حتى حصل على الدكتوراه وانتقل للعمل بكلية الآداب بسوهاج).

– حسين علام القادم من كلية الشريعة والقانون.

– عبد السلام عارف القادم من وزارة التربية والتعليم.

، والصديق القاص عماد الشيمي.

رعى محمد عبد المطلب خطواتنا الأولى، وكان داعما لجيل بكامله تفتحت على يديه آفاق أقلامه، وهو دور لم يتوقف عنه حتى اليوم.

حد العشق أحب محمد عبد المطلب سوهاج رافضا كل المقترحات للانتقال إلى القاهرة، وظل متخندقا في سوهاج محتميا بالنيل، عارفا طريقه أمام أجيال الكتاب قرابة خمسين عاما لم يبخل خلالها عن تقديم الكثير مما تحتاجه الخطوات الأولى أو تتطلبه قوامة الأيام على البشر.

كل أبناء سوهاج الذين عبروا إلى الأدب مروا بمحمد عبد المطلب، أدركتهم شخصية مثقف من طراز خاص، لم تشغله الحياة عن التواصل مع الآخرين، راهب جعل من الساحة الأدبية على اتساعها صومعته، لم يتوقف عن القراءة ومتابعة الأجيال المتوالية على سوهاج البعيدة عن القاهرة وأضوائها، ولم يتوقف الجميع عن الالتفاف حوله واستثمار العلاقة به .

تعليقا على قصة لي من قصص البدايات همس لي: أنت قادم من بيئة ثرية بالحكايات لماذا لا تنتبه لها، عشها وعايشها لتكتبها، الغيطاني يكتبها وهو لم يعشها فلماذا لا تكتبها وأنت فيها؟.

لسنوات كانت ندوة حوار قاعة الدرس الثانية التي تعوض مالم متاحا في قاعات الدرس الجامعي، قاعة درس لا تقف عند حدود كتاب أو ضفاف مرجع أو مساحة محدودة لمقرر دراسي عقيم، وحين تكشفت الحقائق تبدلت المواقع عندها عرفنا الطريق الصحيح .

تخرجت في كلية الآداب بسوهاج (1986) وانتقلت للقاهرة دون أن تنقطع صلتي بسوهاج، وعندما بدأت رحلتي في الدراسات العليا كنت أعود إليه، مفيدا من نقاشات طويلة بيننا ، في السنة التمهيدية للماجستير بجامعة عين شمس اخترت البحث التمهيدي تجربة العبث في القصة المصرية القصيرة ، وتطلبت رحلة البحث الاشتغال على نصوص الكاتب الراحل ضياء الشرقاوي ، ولما كانت المادة المتاحة عنه شحيحة دلني الأستاذ محمد عبد المطلب على الكاتب الراحل محمد الراوي الذي كان صديقا للشرقاوي (كان ال كان موضوعي في الماجستير (صورة الفلاح في الرواية المصرية من 1953- 1973) ، في أول لقاء بيننا بعد استقراري على الموضوع دلني على رسالة الماجستير أفدت منها كثيرا : الأدب والقيم الاجتماعية في رواية الأرض ، فالرسالة في قسم الاجتماع وماكنت لأعرف عنها شيئا لولاه .

بعد سنوات كان مقررا أن أشارك في ندوة بسوهاج عن الإبداع القصصي توقعت أن يكون موضوعها أعماله القصصية لكنه آثر أن يكون الموضوع إبداعات الشباب من جيل جديد لم أكن قرأت لهم من قبل، مؤكدا على واحد من مبادئه: الإيثار والدفع بالشباب.

في كل مرة تلتقيه تجده على معرفة بالجديد كأنه جالس على بحر تأتيه أمواجه بكل جديد من الأدب العالمي والمحلي.

سرديا قرأت له ثلاث مجموعات قصصية:

– بيت قصير القامة 1981.

– مدن الأعمار القصيرة 1985.

– ثرثرة رجل طموح 2001.

تصرح المجموعات القليلة بأنك أمام كاتب مقل، لكنه يعرف كيف يخطط لنصه وإلى اين ينتهي به، ناحتا جملته التعبيرية بطريقة تصنع جمالها قبل أن تمنحك دلالتها، بين وقت وآخر وفي ظروف تتطلب مساحة من التأمل الوجودي أتذكر جملة الاستهلال في قصته مدن الأعمار القصيرة: ” في البدء قالت: الأمهات كانت ولادتكم عسيرة….. عسيرة “.

بقدر كبير من الهدوء يبدع، وبقدر من هدوء يليق بمثله يعيش محمد عبد المطلب، وبالقدر نفسه من الهدوء يتفاعل مع الواقع من حوله، متجاوزا الصخب، ومتأملا المشهد من حوله، لذا تأتي كلماته في هدوء يليق بحكيم، وفي تعمق يليق بمثقف من طراز خاص.

سيظل محمد عبد المطلب مساحة من المودة تحتوي الجميع، وقلبا يتسع للعالم، وعقلا يليق به أن يستوعب الوجود، سيظل محمد عبد المطلب علامة على وجود عرفناه، وعلى مساحة من الزمن عشناها، وعلى زمن نتوق للعودة إليه والركون إلى تفاصيله الأثيرة.

سيظل محمد عبد المطلب علامة على وجود واختزالا لعصر وشهادة على حقائق لا تغادرنا، سيظل تجربة عشناها ويليق بنا أن ننقلها إلى أجيال هي في أمس الحاجة لرجال من طراز لم يعد متاحا.

سيظل محمد عبد المطلب هو محمد عبد المطلب الذي عرفناه وأحببناه وبادلناه حبا يليق به ، ويليق بنا أن نتمسك به إخلاصا وتقديرا .

تعريف:

الاسم : محمد محمد عبد المطلب                      311933_366380296763932_1650433223_n

مواليد يناير 1953 م .  حاصل على : ليسانس الآداب قسم علم النفس / جامعة المنيا . الإصدارات : – بيت قصير القامة .. ( مجموعة قصصية ) بالاشتراك مع مجموعة أقلام الصحوة بالأسكندرية والكلمة الجديدة بالسويس .1981م . – مدن الأعمار القصيرة .. ( مجموعة قصصية ) مطبوعات حوار بسوهاج 1985م. – ثرثرة رجل طموح .. ( مجموعة قصصية ) مطبوعات قصر الثقافة ( طبعة أولى ) 2001 م ، مكتبة الأسرة ( الطبعة الثانية ) . – المؤتمرات الأدبية والحقائب الخاوية ( دراسات عن فكرة المؤتمرات الأدبية ) بالاشتراك مع الأساتذة : فاروق حسان ، محمود عثمان . نشرت أعماله في مجلات : إبداع ، القاهرة ، القصة ، سيسرة ، روز اليوسف ، الإنسان المتطور ، مينا ، أخبار الأدب ، الشاهد الليبية . – أسهم في تأسيس مجلة أقلام 1977 ورأس تحريرها لعدة سنوات . – تولى إدارة تحرير المطبوعات التي كانت تصدر في سوهاج اعتبارا من 1998 وحتى وقت قريب – تولى رئاسة نادى أدب سوهاج من 2009 وحتى 2012 . – انتخب رئيسا لاتحاد الكتاب – فرع جنوب الصعيد مرتين متتاليتين من 2012 حتى 2015 ومن 2016 حتى 2019 م. – أسس صالون محمد عبد المطلب للقصة القصيرة الذى يعقد بمنزله أسبوعيا . – قام بتنفيذ ورشة القصة القصيرة بنادي أدب سوهاج فى الفترة من 2009 وحتى 2012م. – يشارك بالإشراف على صالون المرأة الذى يعقد شهريا بقصر ثقافة سوهاج – قام بتأسيس ورشة أدب الطفل بقصر ثقافة الطفل بسوهاج من 2014. الجوائز والمؤتمرات : – فاز بالمركز الأول فى مسابقة نادى الأدب بالطائف وبريدة وجيزان السعودى عدة مرات فى سنوات مختلفة . – المركز الأول فى مسابقة القصة القصيرة بمجلة تضامن التى تصدر من لندن . – المركز الأول فى القصة القصيرة جدا المكونة من 100 كلمة 1986 م . – كرم فى مؤتمر أدباء الأقاليم الحادى عشر بالسويس من الهيئة العامة لقصور الثقافة . – شارك فى مؤتمرات أدباء الأقاليم بالمنيا ، ودمياط ، وبورسعيد ، والغردقة، والسويس ، والأسكندرية. – رأس مؤتمر فاروق حسان الذي عقده فرع جنوب الصعيد الثقافى 2012 م

الملف من إعداد: علاء عبد السميع

أضف تعليق