اللحن الذي أوصل بليغ إلى الباب العالي للغناء

892050_0

 

هو حب ايه…

بقلم: محمود الحلواني

 

دبّر محمد فوزى، ذلك الفنان النادر، لقاء كان بمثابة الجسر الذي عبر عليه الشاب بليغ حمدي إلى الشاطئ الآخر من المجد، عبر عليه من الأنهار التي كان يعوم فيها إلى المحيط ذات نفسه. بالمختصر، دبر فوزى ذلك اللقاء الذي  كان بمثابة الجسر الذهبي الذي عبره الملحن الشاب ، والموهوب، الذي لفتت ألحانه لعبد الحليم و فايزة ونجاة وشادية وغيرهم من المطربين والمطربات أسماع  وأنظار السميعة، إلى صوت أم كلثوم. كان اللقاء مدبرا، أرادت أم كلثوم أن تتعرف – ربما من باب الفضول –  على ذلك الشاب الذي أعجبتها ألحانه، فقام فوزى وكان صديقا لبليغ بتدبير الأمر واصطحبه معه إلى سهرة جمعته بأم كلثوم.. هكذا وجها لوجه.. يقول بليغ عن تلك المقابلة : أذكر أن الكلفة ارتفعت بيني وبين المطربة العظيمة من أول لحظة.. وأحسست و كأنني أعرفها من زمن بعيد.. وخصوصا عندما طلب منها أحد الساهرين أن تسمعنا شيئا.. فالتفتت إلى أنور منسي ودعته إلى العزف على كمانه.. ثم طلبت عودا وأعطته لي وقالت: تفضل وأسمعنا شيئا من ألحانك.. وأسرع محمد فوزى يطلب مني أن اسمعها أغنية “حب إيه”… واستعادت اللحن مرة، مرتين ، وثلاثا، وطُربت له، وسألتني: لماذا لم تكمل اللحن؟ فأجبتها بأني لم أجد سببا للاستعجال.. وهنا طلبت إلىّ أن ” أفوت عليها بكرة ” وقد كان( أم كلثوم معجزة الغناء العربي ـ رتيبة الحفنى)

ومع ذلك لم يخطر على بال الملحن الشاب أن “الست” عينها على ألحانه، وظن أنها تطلبه غدا لأمر آخر .. يقول بليغ : ذهبت إلى بيتها، وليس فى ذهني إلا تصور واحد، وهو أن سيدة الغناء العربي تريدني أن أقوم بتلحين بعض الأغاني لابن شقيقها إبراهيم خالد، الذي كان يفكر في احتراف الغناء آنذاك.. وبالفعل أول ما وصلت قابلتني بالترحاب وحكينا في شأن إبراهيم، واتفقنا

ان أعمل له لحنا، وبعد قليل التفتت إلىّ قائلة: ما تيجى نتسلطن شوية.. سمعنى اللى قلته امبارح.

وأ سمعها “بليغ” “اللى قاله امبارح” أسمعها المذهب فقط وهو ما كان يحفظه، سألته عن بقية الكلام، فقال لها لا أحفظه، سألت عن الشاعر فأجاب أنه صديق يعمل في شركة ” شل” اسمه عبد الوهاب محمد، قالت:  كلمه يأت.. و قال عبد الوهاب محمد عندما اتصل به بليغ: انت بتهزر

 فحدثته “الست” بذات نفسها فقال سمعا وطاعا يا ست.

لك أن تتخيل ياسيد يا محترم كيف جاء عبد الوهاب محمد إلى منزل الست! سأترك لك أن تتخيل ذلك. ومع ذلك فسوف أساعدك: تخيل نفسك أنت عبد الوهاب محمد الشاعر المغمور، الموظف في شركة شل، تنام وتصحو على صوت الست تشدو بأعذب وأرق أغنياتها، وبعد أن تتسلطن تقوم تنام حتى تستيقظ صباحا لتذهب إلى عملك قبل أن يحضر المدير أو قبل أن يرفعوا دفتر الحضور والانصراف فتعود إلى بيتك أو تكمل اليوم في العمل ولكن بلا أجر، أو تخرج لتتسكع على المقاهي حتى لا تعود إلى المنزل مغموما. طبعا لم تفكر أبدا ولم يخطر على بالك أيها الموظف الذي يكتب الشعر والأغاني والذي غنت له بالفعل بعض المطربات كما غنى له بعض المطربين، أنه من الممكن أن تمر من أمام باب أم كلثوم.. محيط الغناء وبابه العالي وكوكب الشرق.

 ربما لو كان خطر ذلك على بالك لكنت استرجعت سطور إبراهيم ناجى في أطلاله: أين من عيني حبيب، وأين منى مجلس أنت به، وكده يعني. لم يخطر الأمر على بالك طبعا. بليغ نفسه وكان قد أصاب بعض الشهرة لم يفكر في ذلك، وظن عندما دعته أم كلثوم لأن “يفوت عليها بكره” أنها تطلبه ليلحن لقريبها، ولم يخطر بباله أن تطلبه للتلحين لها. ما قولك يا عزيزي وقد وضعت نفسك مكان عبد الوهاب محمد ؟ كيف وصلت إلى بيت أم كلثوم؟  عموما سأترك لك أن تفكر فى هذا وتتخيله فى وقت فراغك ولكن الآن تعال لنكمل الحكاية..

وصل عبد الوهاب محمد إلى منزل “الست” وقرأ أغنيته وأعجبت بها أم كلثوم ( سأترك لك أيضا فرصة أن تتخيل شعورك وأنت تقرأ قصيدتك أمام أم كلثوم، بل وتستمع أضا إلى كلمات إعجابها وترى بأم عينيك نظرات الإعجاب تلك.. أضف ذلك إلى أجندة تخيلاتك التي تدخرها لوقت فراغك من الحدوتة. أو انتظر، هناك صفحة أخرى ستضمها أنت الآن إلى أجندة تخيلاتك وأنت تضع نفسك مكان عبد الوهاب محمد وبليغ حمدي . لقد قالت أم كلثوم بعد أن سمعت بقية الكلام، كلمتها .. تلك الكلمة التي لم ينسها بليغ الشاب كما لم ينسها صاحبه الشاعر.. قالت: اسمع يا بليغ.. من غير زيطه.. ولا حد يعرف.. اشتغل في الأغنية دى. فقاطعها بليغ ولم يكن حتى الآن، وبعد كل ما حدث أمامه، يريد أن يصدق أن الست ستغنى له لحنا: هو حضرِتك حاتغنيها؟

– أيوه.. لكن ما تحملش همي.. خليك زى ما انت.. اشتغل في اللحن على راحتك!

ما رأيك ياسيد يا محترم.. هل وضعت نفسك مكانهما: الملحن الشاب والشاعر الموظف؟!

المهم انتهى بليغ حمدي من وضع تصوره اللحني فى عشرة أيام، لتغنيه “الست” في افتتاح موسمها الشتوي. هكذا جاء اللقاء الأول بين الشاب الموهوب والست وتلته لقاءات فنية أخرى وصلت لعشرة ألحان. ولكن قبل أن نغادر هذا اللقاء أريد أن أتوقف كثيرا أمام موقف الفنان النادر محمد فوزي، ذلك الفنان الكبير الذي كان يقف بجانب كل موهبة شابة ويبذل المحبة للجميع بلا حساب.. يقول بليغ حمدي فى ختام سرده لقصة لقائه الأول مع الست: وكان محمد فوزى الذي جاء خصيصا ليحضر البروفة الأولى في طليعة المهنئين.. وهو بالمناسبة كان يحمل الحب لكل فنان .. وقد مهد لى الطريق للتعرف إلى السيدة ام كلثوم.. حتى على حسابه .

 

أم كلثوم وبليغ  خلوا البساط أحمدي  

وكطبيعة الحكايات التي يكون أحد  أطرافها أو المشاركين فيها من العظماء الذين تنسج حولهم الأساطير وتختلف الروايات فإن حكايات كثيرة تحكى عن ذلك اللقاء الأول بين الملحن الشاب وكوكب الشرق، ولا تعرف مّن تصدق؟  عموما أنصحك أن تستفتى  قلبك يا محترم إذا كنت ممن لا يريدون” مثلي” وجع الدماغ في البحث في الكتب والمراجع.. لنترك هذا للمتخصصين ونستمتع نحن بالخيال، مادام اللقاء قد تم بالفعل. فمن بين ما يروى عن ذلك اللقاء أيضا أن “ أم كلثوم ” كانت  تريد ان تخرج أو أن تتحرر قليلا من اللون السنباطي لذا طلبت من محمد فوزي أن يلحن لها إلا أنه اعتذر بكل أدب ولباقة وقال لها : «ح أعرفك على حتة ملحن حيجنن مصر، حتغنى ألحانه أكتر من ٦٠ سنة قدام” ..  كان اللقاء الأول في حفلة في منزل الدكتور زكي سويدان أحد الأطباء المعالجين لأم كلثوم.. وهناك بدأ بليغ في تلحين “المذهب” وهو جالس علي الأرض وسط ذهول الحاضرين، فما كان من أم كلثوم إلا أن فعلت مثله وجلست بجواره وطلبت منه أن يكمل اللحن، ولكنة قال انه لم يكمله فقالت انها سوف تتصل به ويكون قد جهّز اللحن، ليشاء القدر وتغني أم كلثوم أغنية (حب إيه) في ديسمبر1960 وتحقق نجاحا ساحقا. ومما روى أيضا أن بليغ حمدي قرأ كلمات الأغنية عند صديقه الملحن محمد فوزى وكان الأخير يعدها لأم كلثوم من تلحينه هو، في الزيارة التالية أخبر بليغ  صديقه محمد فوزى أنه قد أعد لحنا لنفس الكلمات فطلب منه أن يسمعه له فأعجبه ..  يقول بليغ: (حسب هذه الرواية) إن فوزى أخذ تسجيل اللحن كما وضعه بليغ وأسمعه لأم كلثوم فقبلته على أنه من ألحان محمد فوزى، لكنه أخبرها أن اللحن ليس له بل لملحن جديد شاب اسمه بليغ حمدي. لكن هذه الأخبار لم تجعل أم كلثوم تغيّر رأيها واستدعت بليغ للتعرف إليه وبدء البروفات. طبعا كان محمد فوزى ضحية لإخلاصه لصديقه فقد صعد نجم بليغ بتلحينه لأم كلثوم وضاعت فرصته الوحيدة فى التلحين لها، حيث دخل بعد ذلك في صراع مع المرض وتوفى بعدها بسنوات قليلة. استفت قلبك ولا مانع من أن تستمع إلى حكايات أخرى وتبتسم.. المهم أن اللقاء قد تم بين الملحن الشاب والكوكب، ومن يومها لم يعد الموسيقار شابا فقد أصبح شيخا من شيوخ التلحين فى مصر حتى ولو كان في العشرينيات من عمره.بالله عليك :لا تخرج قبل أن تطلب لهم الرحمة جميعا. 

 

ألحان بليغ لأم كلثوم

 

ـ حب إيه: كلمات عبد الوهاب محمد ـ

ـ أنساك: كلمات مأمون الشناوي

ـ ظلمنا الحب: كلمات عبد الوهاب محمد

ـ كل ليلة و كل يوم: كلمات مأمون الشناوى

ـ سيرة الحب: كلمات مرسى جميل عزيز

ـ بعيد عنك: كلمات مأمون الشناوى

ـ فات المعاد: كلمات مرسى جميل عزيز

ـ ألف ليلة و ليلة: كلمات مرسى جميل عزيز

ـ الحب كله: كلمات أحمد شفيق كامل

ـ حكم علينا الهوى: كلمات عبد الوهاب محمد

– إنّا فدائيون: كلمات عبد الفتاح مصطفى  

أضف تعليق