حذاء الماء…قصة:عزة كامل المقهور


تغزو أفواج السردين بحر طرابلس الدافئ كل صيف.. “كاوالي.. سردينة“.. يصيح البائع وهو يقود “الترشيكلو” تتقدمه مركبة خشبية مربعة تتجمع على سطحها أعداد كبيرة من الأسماك الملقاة على بعضها البعض، مغطاة بخيش بني مبلل، كلما رفعه يبرز ميزان معدني وبعض الأوزان الصدئة.

السردين سمك الفقراء، مزرق ظهره حد السواد وفضي البطن، ذو جسد صغير وناعم وأملس وحساس، ما أن تشقه بإصبعك حتى يفرغ جوفه الأحمر القاني.

يشق صيادو طرابلس البحر بحذر لجمع السردين في ليالي داهمة. يتسللون بمراكبهم الخشبية نحو الأفق ليلا، تضرب مقدماتها الموج وتزيحه فينقلب ثم يعود. يحملون “اللبمارات” المضيئة، يبتلعهم الظلام إلا من بقع ضوئية دائرية تزين صدره الممتد بامتداد السماء، يطفئون مولدات مراكبهم وسط الماء المختلط بالليل، يثبتون أضواءهم على حاشية مراكبهم ويفرشون ببطء وعناية شباكهم. تتجمع وتتكاثر العوالق تحت بقع أضواء “اللمبارات”، تجتذب أفواج السردين التائهة الباحثة عن غذائها والتي بدورها تجذبها أضواء “اللمبارة” المتراقصة على سطح الماء المرتعش.

في حرية كاملة، ينمو الظلام فوق البحر، وترقص أفواج السردين “فالسا” جماعيا في الماء، وتنزلق المراكب مع الموج، ويعلو صياح الصيادين حتى السماء، وتزركش أضواء المصابيح العتمة، وتتجمع العوالق بنهم عند بقع الضوء، ولكن في النهاية تعلق أسماك السردين في شباك الصيد، إنها رقصة الحرية نحو الموت.

ما أن يهجم السردين على العوالق في بقع الضوء، حتى يتحرك الغزاة بخفة وسرعة وحيلة فيطبقون الشباك عليهم ويجمعونهم، يرمون بهم على سطح المركب في أحواض بلاستيكية معبأة بثلج مجروش، يرتعش السردين وينتفض ويقاوم لكنه في نفضته الأخيرة تتوقف خياشيمه، فيما تظل اجساده طرية ودافئة وعيونه لامعة كأنها نقط سوداء داخل زجاج مسمط رغم نفوقه.


تحيط بالشاطئ صخور سوداء إلا من خليج ضيق يربط فيه عمي عليّ مركبه، أرضيته صخرية تنبت عليها بعض النباتات، تنزاح عنها الرمال مع حركة الموج فتخربش القدمين.

كان عمي عليّ طويل القوام، وسيم الملامح، يحمل على وجهه قناعا من البرونز، تبرز التجاعيد على زوايا عينيه دون أن يبتسم.

رمى إلينا عمي عليّ ذات يوم بأحذية بلاستيكية كثيرة الثقوب وصاح فينا “البسوها مادام ما تبوش تخشوا الميه.. اللي ما يخشش ماعاش يجي“. ارتديناها كيفما اتفق بعد أن تبادلناها فيما بيننا حتى تحصلنا على الأقرب إلى أحجام أقدامنا، وتشجعنا بتلك الأحذية المثقوبة ذات المربعات الفارغة من أسفلها في السير على الطبقة الصخرية في قاع البحر، وسبحنا معا كالسردين.


مرغ عمي عليّ قدميه في رمال الشاطئ، ثم نفضهما قبل أن يدخل الماء ليصعد إلى قاربه الأزرق. كنت أرى هيئته من بعيد، أتمعن في ساقيه. طويلتان وممشوقتان كساقي ظبي، تنبت عليهما شعيرات ملتوية سرعان ما تستقيم وتتنعم ما أن تتبلل بالماء.

لم أكن ممن يسمح لهن بصعود المركب الأزرق إلا بعد أن يعود من رحلته ويستلقي لاهثا على الشاطئ وقد همد المحرك تماما. حينها أصعد وسط الشباك، أمسك بالكرات الحمراء، أفتح الباب المؤدي إلى قاع المركب المظلم وأغلقه سريعا خوفا من سمكة كبيرة تلتهمني كما قال لي عمي عليّ. تنزوي في مقدمة المركب، ثلاجة بلاستيكية بيضاء، وترمس شاي وأكواب بلاستيكية فارغة مستعملة، استخدم بعضها مطفأة للسجائر.

ينزل عمي عليّ من مركبه بقفزة في الماء وهو يتكأ بيده على حاشيته، ثم يعود للمركب يمد إليه بذراعيه ليخرج منه صندوقا بلاستيكيا مليء بأسماك سوداء صغيرة الحجم، قليل منها ما يزال ينازع الموت.

“اليوم الغدي سردينة…”

يقبض عمي عليّ على رأسها الصغير ويقتلعه ثم يشق صدرها بأصابعه، يخرج ما في جوفها، ويرميها في كيس بلاستيكي. ما أن تفقد رؤوسها المتصلة بجوفها الأحمر القان حتى تتساوى جميعها، يسيّل عليها الماء وينظف جوفها بمنتهى الرفق، وهو يغمم ” السردينة ما تتحملش“.

استغرب من كلماته الهادئة الرقيقة وهو الذي خلع رؤوسها جميعا دون تردد ورمى بها في الكيس الذي بدأ يستقبل أفواج الذباب، يصرخ فيّ عمي عليّ “أربطي الشكارة باهي، لوحيها في البرميل”، وهو يشير بيده الملطخة بالدماء نحو برميل معدني كبير فاغر فاه ليبتلع أي شيء.

أعود مسرعة إلى حيث عمي عليّ وقد بدأ يطبطب مجددا على الأجساد السوداء الفضية الصغيرة برفق بعد أن يغمرها بالدقيق. كانت المقلاة السوداء المصهدة، بقالبها الفضي المخدش وحوافها البارزة بآثار الاستعمال، تحمى على نار “البريموس” الأزرق، بينما زيتها يفرز فقاعاته الصغيرة. انبعث هسيس الزيت المغلي وهو يستقبل الأجساد الطرية، الواحد تلو الآخر، يودعها عمي عليّ متجاورة بخفة ورقّة في السائل الأصفر المتناثرة قطراته وهو يستقبل الأجساد الطرية، ثم يقلبها بملعقة وشوكة وسرعان ما يخرجها ويضعها في سفرة المنيوم مستديرة وهي تنز، يعصر عليها قطرات من نصف ليمونة فتهدأ ويدعونا لأكلها.

“هيا سموا بسم الله“

تمتد أصابعنا إلى الأجساد البنية المصفرّة الساخنة وقد يبست، نضعها في أفواهنا، فيصرخ عمي عليّ وهو يلحظ ترددنا.. “ما هناك شي، هذه سردينة كولوها بشوكها.. حتى الحوت ياكل فيها“. نشعر بالشوك تطحنه اسناننا، لكن عمي عليّ يضعها وسط قطعة خبز ويلتهمها بسعادة غامرة.


ما تزال اسراب السردين تتوافد على بحر لا ينكف، لكن قلّة من الصيادين ينهجون طريقة عمي عليّ، رفقاء بالسردين طعام الفقراء وطعوم للصيد، عدته الشباك و”اللمبارة”، يستدعي العوالق ببقع الضوء الراقصة على الموج المتوسد مطمئنا بالليل، الراقص بدوره مع المراكب، في بحثها عن أفواج سردين تنتشي برقصة الحرية نحو الموت.

زرع الصيادون أصابع الديناميت في البحر، تفجر أجساد السردين الرطبة وتطفوا كالعوالق على سطح المياه، يجمعونها كيفما اتفق، يختارون منها القلة ممن احتفظت بأجسادها، يبيعونها طعوما للصيد دون الفقراء.

مضت السنون وابتعدت عن الأزرق المتوسط، تحولت إلى سمكة لا تشبه السردين، أكبر حجما، وأثقل وزنا، وأجرأ حركة، لا تكترث للأضواء ولا تتوجس الغرباء، حررت قدميها من حذاء الماء، لا تغريها العوالق حتى وإن ادلهم الليل.

أما عمي عليّ فقد غادر الدنيا ذات ليل شتوي حين صرخت زوجته بأعلى صوتها معلنة أنه مات. أهمل أولاده مركبه، فتشقق وتسربت إليه المياه المالحة، فتفكك وانقسم إلى قطع جرها الموج في رحلاته المكررة إلى الشاطئ وابتلعها البحر. ظل ذيل مركبه الأزرق مغروسا لسنوات في الرمال حيث مجلس عمي عليّ، لكنه انسحب بهدوء إلى جوف البحر النهم دون أن يشعر بغيابه أحد.

عزة كامل المقهور (2.5.2021)

3 رأي حول “حذاء الماء…قصة:عزة كامل المقهور”

  1. إنها رقصة الحرية نحو الموت …
    وحقيقة حياتنا…
    أحدهما تحول إلى سمكة لا تشبه السردين في شباك الحياة..
    أما الٱخر فقد غادر الدنيا في رحلة ذات ليل
    دكتورة عزة” ❤️ تحياتي

    Liked by 3 people

أضف تعليق