يسري أيو العينين

السَّرد النَّفسيّ في رواية “متاهة الغرف المتداخلة”  للكاتب يسري أبو العينين, بقلم: كرم الصباغ

.

قراءة نقديَّة بقلم: كرم الصبَّاغ

استهلال:

في البداية أودُّ أن أشير إلى ضرورة إعادة النَّظر إلى التَّصنيفات الجامدة للرواية، وفق ما هو متعارفٌ عليه من تقسيمها إلى رواياتٍ: تاريخيّة، واجتماعيّة، ونفسيّة… فالمتأمل للمنجز الروائيّ العالميّ والعربيّمنذ نشأة الرّواية إلى وقتنا الرَّاهن يكتشف تداخل هذه الأنواع، واتّسام الرّواية الواحدة بسماتٍ مختلفة تنتمي إلى  أكثر من نوع في الآن ذاته؛  لدرجةٍ يصعب معها التَّصنيف الجامد،  وفق شروط مسبقة أشدّجمودًا وصرامة،  وعليه تبقى الرّواية العظيمة من وجهة نظري هي الرواية الثّريّة الَّتي تتمرد على القواعد الجاهزة؛ لتقدم  خلقًا جديدًا، ينتصر للفن والإنسان. وأستطيع أن أقول مطمئنًا: إنَّ رواية “متاهة الغرف المتداخلة”  تنتمي إلى هذا النَّوع الثَّريّ؛ فرغم اعتماد الكاتب على السَّرد النفسيّ في فصول الرواية السبعة، فإننا نلاحظ وجود الملمح الغرائبيّ، والملمح الفلسفيّ، والملمح الاجتماعيّ الواقعيّ،بالإضافة إلى  الملمح النفسيّ؛ إذ نجح الكاتب وفق تجربتي الخاصة التي عايشتها أثناء  قراءة  الرّوايةفي جذب القارئ إلى عوالمه الخاصَّة التي تتسم بالعمق، تلك العوالم الَّتي سبرت أغوار الشَّخصيّات، وغاصت داخل أعماقها  في محاولة جادّة لفك بعضٍ من ألغاز الحياة، وفهم بعضٍ من أسرار النَّفس البشريّة الحَرِية بالتَّأمل،ويدعّمثراء الرّواية من وجهة نظرينجاح الكاتب فيتحقيق المتعة والتَّأثير في  قارئه عاطفيًّا، على اعتبار أن التأثير العاطفي هو الأثر الباقي من أيّ عمل فنيّ. بالإضافة إلى ما أكسبته الرّوايةقارئها من رصيدٍ معرفيّ، ضمنه الكاتب روايته بطريقة فنية ابتعدت  عن التقريريّة والمباشرة؛  إذ وظَّف الكاتب  في بنية روايتهخبراته النَّفسيّة والحياتيّة، والثقافيّة، ومعارفه، التي استقاها من علم النّفس،  والفن التشكيليّ.

*** في رحاب رواية متاهة الغرف المتداخلة:

١-العنوان الرَّئيس والعناوين الفرعية والتَّصديرات: يعتبر العنوان المدخل الرَّئيس للعمارة النَّصية، باعتباره سؤالا إشكاليًا يتكفَّل النَّص بالإجابة عنه؛ فالعنوان يعلن عن طبيعة النَّص؛ ومن ثَمَّ يعلن عن نوع القراءة التي يتطلَّبها هذا النَّص؛ إنَّه البهو الَّذي يدلف من خلاله إلى النَّص، ودونه لا يمكننا الدُّخول إلى حجراته. هذا وقد نجح  عنوان “متاهة الغرف المتداخلة” في إثارة هذا السُّؤال في ذهن القارئ عن ماهية تلك المتاهة، وتلك  الغرف، الَّتي جاءت بصيغة الجمع؛ لتدلَّ على كثرتها، والتي وصفت بالنَّعت ” متداخلة” ذلك الوصف الذي يدعم ما يشي  به المبتدأ متاهة، والذي حذف الكاتب خبره عمدًا، ليحيلنا إلى لونٍ من ألوان الحيرة والغموض، يعمّق الأثر النَّفسيّ الَّذي يتركه العنوان في نفس القارئ، وبعد قراءتنا الرّواية يأتي الجواب المتمثّل في أنَّ تلك المتاهة إنّما هي ذات الشّخصية الرّئيسة والرّاوي المشارك ذاته،  متاهةٌ  تفضي إلى غرفٍ معتمةٍ ترمز إلى العقد والعذابات الّتي كابدها الرّاوي في حياته، والّتي تسلمه إلى جحيمٍ من القلق والتَّوتُّر والشَّك، وضبابية الرُّؤية، والشُّعور بالاغتراب. بينما جاءت العناوين الفرعية للفصول، وما تبعها من اقتباساتٍ؛ لتدلَّ  على ما يعتمل داخل نفس الكاتب من ألم الفقد والاغتراب، والتَّوق إلى الخلاص، والرغبة الجارفة في التَّخلص من أغلال ذلك العالم، و الانعتاق من  الواقع الكابوسيّ، وقد جاءت العناوين كما يلي:  صرخةٌ، الملاذ والملجأ، هند التي علمتني البكاء، أمي، سقوط ٌحرّ، الموجة التاسعة، صافي حبيبتي. وسوف نكتشف بعد القراءة المتمعنة أن تلك  العناوين الفرعية جاءت معبرة عن مضمون الفصل المنضوي تحتها.

****ومن الاقتباسات التي أعقبت العناوين الفرعيّة، مقولة شمس الدّين التّبريزي: “بين الواقع والخيال، هناك برزخ أنتمي إليه” و مقولة جلال الدّين الرّومي: ” إلهي خذ روحي إلى ذلك المكان الّذي يمكن فيه أن أتحدَّث من دون كلماتٍ”. ونلاحظ أن الكاتب  اقتبس المقولتين السابقتين من كلام علمين من أعلام الصُّوفية، وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ تعدّ الصّوفية في حد ذاتها دربًا من دروب السَّعي الإنساني الحثيث إلى الخلاص من الأغلال والأدران، والسُّمو والارتقاء، وبهذا يكون العنوان الرَّئيس، والعناوين الفرعيّة والاقتباسات قد أدَّت الدور المنوط بها الّذي هدف إليه الكاتب كمفاتيح تحفز القارئ على الولوج إلى نصوص الرّواية لاستنباط الدلالات المخبوءة بين طياتها.

٢-الشَّخصيَّاتوالتداخل مع علم النفس: بالعودة إلى رواية “متاهة الغرف المتداخلة” نجد أنَّ الكاتب قد نجح في رسم شخصيَّاته الرَّئيسة؛ فقدَّم نماذج إنسانيةً معقَّدةً، صوَّر أبعادها النَّفسيَّة والاجتماعيَّة، وكشف عن دواخلها ومكنوناتها النَّفسيَّة بدقّة، ولم يغفل ذكر تاريخ نشأتها، وشحنها بمحمولات معرفيّة و فكريّة ونفسيّة ساهمت في تنامي الأحداث، ومساعدة القارئ في اكتشاف الرَّسائل الضّمنيّة، الّتي أراد الكاتب أن يوصّلها إلى القارئ بطرائق فنيَّة، ابتعدت  عن التقريريّةوالمباشرة، وسوف أعرض هنا لنماذج لتلك الشّخصيات؛  وأولها شخصيّةسليمان الفنان مرهف الحسّ، الذي يرمز إلى ما يتعرض له الإنسان المعاصر من ضغوط ومشكلات وقسوة وفقد وحرمان، والذي تؤكد شخصيته وسيرتهعلى أن لا وجود حقيقي فاعل للإنسان ما دامت تنتهك كرامته وآدميته، في ظلّ واقعٍ كابوسيٍّ، تسبَّبفيإصابته بمرض تعدُّد الشَّخصيَّات، الذي يقع وفق ما  حدَّدته الجمعية الأمريكيَّة للأطباء النَّفسيّين تحت ما يسمى بالاضطرابات الانشقاقيَّة، والَّتي تنقسم إلى ثلاثة أنواعٍ، يهمُّنا منها النَّوع المسمى ب” اضطراب الهويَّة التَّفارقيّ” أو التَّبديل بين الهويَّات، أو ما كان يعرف قديمًا باضطراب تعدُّد الشَّخصيَّات، كأنْ يشعر المريض بأنَّ شخصين أو أكثر يتحدَّثون، أو يعيشون داخل عقله، وقد يشعر بأنَّه خاضعٌ لسيطرة هويَّات أخرى، يكون لكلّ هويَّةٍ منها  اسمها الفريد وتاريخها الشَّخصيّ وصوتها وسلوكياتها المميزة.

الامر الذي تحقَّق في رواية “متاهة الغرف المتداخلة”  باستحواذ عدَّة شخصيَّاتٍ أو هويَّاتٍ على عقل سليمان، المتمثّلة في  شخصيَّة ربيع الوحش، وشخصيَّة الأمّ، والجنّيّة هند، وشخصيَّة أخرى مبهمة   يتحدَّث إليها الرَّاوي المشارك سليمان طوال الوقت رغم أنَّه لم يصرح بكنهها. ونلاحظ أن سليمان تعتريه نوبات من تشوش الذاكرة ونوبات أخرى يسيطر فيها على عقله هويَّات متباينة من حيث الصَّوت والنوع والسلوك؛ فتارة نسمع صوت الأم الرفيع الحاد، وتارة أخرى يصدر منه صوت غليظ أجش هو صوت ربيع الوحش.

وتجدر الإشارة إلى أن مرض اضرابات الهويَّة التفارقيّيصيب الإنسان نتيجة تعرضه للقسوة المفرطة الإيذاء النفسي أو البدني أو الجنسي في مرحلة الصّغر الأمر الذي تحقق في الرّواية بتوضيح غلظة وقسوة الأب و إقدامه على إيذاء سليمان بدنيًا بكرباجه بدعوى محاولة إخراج الجنّ من جسده، ونفسيًا بإبعاد الطفل عن أحضان أمّه،وعزلهبعد موتها في غرفة الخزين العلويَّة. ومن الأسباب التي قد تؤدي إلى هذا المرض تعرض الطّفل لصدمةٍ عنيفةٍ نتيجة فقد أحد الوالدين.  وقد كان لموت الأم ماري أو أمينة أثرًا بالغ السُّوء في نفس سليمان، الّذي فقد بموتها الملاذ ، الأمر الذي تسبَّبفيسيطرة شخصيَّة الأمّ على عقله؛ ممَّا أسهم في تعميق مرضه النفسيٌ، وميله الدَّائم إلى الانعزال بعيدًا عن بيئته الفيزيائيَّة، وميله إلى الجنوح إلى عوالم متخيَّلةٍ، وسيطرة شخصيَّاتٍ خارقةٍ على عقله، الأمر الَّذيتحققفي الرواية بسيطرة  الجنّيّة هند على عقل سليمان، واصطحابها إيَّاه إلى عوالم الجنّ، حيث الشَّجرة أم الشَّعور والنَّهر.

 هذا وجاءت شخصيّة الأب الشَّيخ؛ لتعبّر عن الجمود الفكريّ والعاطفيّ، والفكر الظلاميّ، والأنانيَّة، والرَّغبة في الاستحواذ على كلّ شيءٍ، والتّدني الفكريّ والأخلاقيّ، فهو الأب القاسي، الّذي لم يحسن الاعتناء بأولاده؛ فأوردهم موارد الهلاك، وهو التّابع الأمين لأصحاب الفكر الظلاميّ، الَّذي طرب، وسعد بهزيمة وانكسار الوطن في أعقاب حرب ١٩٦٧، وهو الرَّافض لمن يخالفه فكريًّا وعقائديًّا؛ فأقدم على قتل تريزا برعونة استجابةً لوحشية أبيه جدّ سليمان، وأجبر ماري على تغيير ديانتها، ومحو الصليب من معصمها بماء النار، وهو الشهوانيّ الَّذي خالفت  أقواله أفعاله؛ إذ  كان الخطيب الواعظ، لكنَّه  لم  يتورَّع  على الرغم من ذلك عن ارتكاب الخطيئة، ومعاشرة عائشة زوجة خادمه ورجله المقرّب ربيعٍ.  في حين رمزت شخصية صافي من وجهة نظري إلى الحياة ببهجتها وجمالها و انكساراتها وأحزانها في الآن ذاته. فهي المقبلة على الحياة الّتي تدعو إلى التَّحرر من القيود في سبيل أن نحيا أحرارًا  كالطّيور، وهي المعتدًَة بجمالها وجسدها وكرامتها، تبدو امرأة لعوبًا سهلة المنال، لكنَّها لا تسمح لأحدٍ بأن يمسّها من قريبٍ أو بعيدٍ، وهي المعذَّبة القلقلة، الَّتي تكابد الوحدة، وتخشى ظلام اللَّيل، ولا تنام إلا مع تباشير الصّباح، وهي المرأة المشبَّعة بالغيرة، الّتي ترفض بأن تقاسمها امرأةٌ أخرى  حبيبها، حتَّى لو كانت مجرد رسمٍ لامرأةٍ في لوحةٍ. أمَّا شخصية الخالة فاطمة فقد رمزت من وجهة نظري إلى المرأة المصريَّة، الّتي تعد عمود الخيمة، ومصدر الحبّ والعطاء رغم ما تتعرّض له من ظلمٍ وقهرٍ وتهميشٌ واستلابٍ لحقوقها، فهي لم تتردَّد لحظةً في احتضان ماري بعد أن أتى بها زوجها إلى المنزل رغم علمها بأنَّه سيتزوجها، ولن يدعها تفلت من يديه، وهي التي شملت سليمان بعطفها بعد موت أمّه، وهي الّتي تغلَّبت على مشاعر الكراهية تجاه زوجها الشّيخ، واستمرت في أداء رسالتها، وهي الأمُّ الثَّكلى، الَّتي تجرَّعت مرارة فقد الابن، في حينترمز شخصيَّة طارقٍ من وجهة نظري  إلى انكسار أجيالٍ كاملةٍ بعد هزيمة يونيو ٦٧ تلك الهزيمة، الّتي تركت شرخًا عميقًا في وجدان الشّعب المصريّ، خاصَّة الشَّباب، الذين تبدَّدت أحلامهم؛ لينكشف أمام  أعينهم قبح الواقع، وزيف الشّعارات الرّنَّانة.

٣-الأحداث:يدور  الحدث الرَّئيس  للرواية حول جريمة قتل صافي حبيبية الرَّسَّام سليمان، الّذي يعاني من مرض تعدُّد الشَّخصيَّات، الَّذي أفضى إلى دخوله إحدى مصحَّات الأمراض النَّفسيَّة عقب قتله لزوجته متوهمًا أنَّ من قتلها هو ربيع الوحش إحدى الشَّخصيَّات، الَّتي تستحوذ على ذهنه المشوَّش. ومن خلال تقنيات السَّرد النفسيّ، وتقنيات الاسترجاع، يتوجه الرَّاوي المشارك بحديثه إلى إحدى الشَّخصيَّات المسيطرة على عقله؛ ليحركَ الأحداث، عن طريق استرجاععلاقته بصافي: نشأتها وتطورها، وخاتمتها الدراماتيكية. ويسترجع كذلك مرحلة طفولته وعلاقته بأبيه، الَّذي تسبَّبت قسوته في اصابة سليمان ( الشخصية الرئيسة والراوي المشارك)بالمرض النفسيّ، ويسترجع كذلك علاقته بأمّه، التي مثل موتها لحظةًفارقةً في حياته، وصدمةً عنيفةً عمَّقت مرضه؛ إذ فقد بموتها الملاذ والحضن الدافئ، كذلك أستعرض الكاتب تاريخ الجدّ والأب، فضلًا عن تاريخ سبعاويّ، ورجل الأمن عمّ حسنين، واصفًا توتُّر العلاقة بين الرجلين، انتهاء بالنهاية المأساويّة بموت الرجلين المتنافرين معًا في اللحظة ذاتها إثر سقوطهما من أعلى المبنى، وقد تشبَّث كلٌّ منهما بالآخر، في إشارةٍ إلى وحدة المصير وأن لا خلاص للبشرإلا بالتَّآلف. وقد اتَّصفت الأحداث بعدم التّسلسل الزّمنيّ، بل جاءت متناثرة وفق مبدأ التَّداعي الحرّ، الذي تتشابه فيه الرّوايات ذات الصّبغة النفسيَّة مع روايات تيار الوعي.

٤- الرّواية تعالج مجموعة من القضايا الاجتماعيّة والفكريّة: عالجت رواية “متاهة الغرف المتداخلة ”  بين ثنايا السَّرد عدّة قضايا، نجح الكاتب في إثارتها، والعرض لها بطريقةٍ فنيَّةٍ، ابتعدت عن التقريريَّةوالمباشرة، ومن تلك القضايا قضية التّربية القمعيّة للأبناء من خلال توضيح الآثار السَّلبيَّة لقسوة الأب الشّيخ، الَّتي أدَّت إلى تردّي   سليمان، وقضية عنف الأزواج، والعقاب البدنيّ واللفظيّ للزوجة من خلال غلظة الأب الشّيخ مع ماري، وإقدامه على التنكيل  بها،  وإيذائها، وعالج الكاتب قضية حريَّة الاعتقاد  من خلال توضيح ممارسات الأب الشيخ الظلاميّة، الَّتي أجبر من خلالها ماري على تغيير ديانتها، واسمها، ومحو الصّليب من معصمها بماء النّار، وعالج كذلك  قضية التَّطرف الدينيّ؛ فالأب الشَّيخ لديه علاقة سريَّة بإحدى الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهو  في الوقت ذاته يقدم ولاءه لتلك الجماعة على ولائه للوطن.  وعالج الكاتب أيضًا قضية الحريَّة من خلال شخصيّة “سبعاويّ”  الّذي تعرَّض للتَّعذيب في المعتقل كسجين فكرٍ بتهمة الانتماء إلى الماركسيّين، ووضَّح الكاتب مدى الوحشيَّة، الَّتي مورست ضد سبعاويّ، في ظلّ مجتمعٍ يجهل ثقافة الاختلاف، وليس أدلّ على ذلك من وصف حسنين لسبعاويّ بأنَّه كافر ملحد ابن كلب.  كذلك عالج الكاتب قضية التَّنمر من خلال توضيح الآثار السَّلبيَّة، الَّتي كابدها سبعاويّ من جرَّاء تنمر البنات في الكلّية على جسده الضَّخم، ونعت البعض له بالغول والبقرة.

٥-تداخل الرّواية مع الفنّ التَّشكيليّ:

   قد استفاد الكاتب من إلمامه بتاريخ الفنّ التَّشكيليّ ومعرفته بأسرار هذا الفنّ، ووظَّف ذلك في روايته؛ فالشَّخصيَّة الرَّئيسة سليمان رسَّامٌ، وصديقه فارسٌ رسَّامٌ مثله، وحبيبته صافي موديل تُرسَم، وتكسب قوتها من ذلك العمل. ويجب أن نؤكّد أولًا  على الفكرة، التي  وضَّحها ” برنارد مايرز” في كتابه ” الفنون التَّشكيليَّة وكيف نتذوقها”  حينما يقول: “إنَّ إحدى الوظائف الرّئيسة لكثيرٍ من الأعمال الفنيَّة هي مسرحة الحقيقة أو الارتقاء بالمعنى؛ إذ ينتقي كل عمل مظهرا معينًا للوجود، ويركز اهتمامنا عليه بكلّ قوةٍ ممكنةٍ”

   ومن هذا المنطلق ربط    الكاتب بين لوحة “الماجا” العارية للرسَّام الإسباني  جويا فرانسسكو ومرويته، و إن كانت الكتابة الرّوائية هي في حقيقتها إيهامٌ بالواقع، وليس الواقع ذاته إلا أنّها تدلُّ على خبراتٍ حياتيّةٍ أو نفسيّة عايشها الكاتب، وأضاف إليها من مخيّلته الكثير أو القليل؛ ليقدمَ في النّهاية خلقًا جديدًا، إلَّا أنَّ ذلك الخلق -شئنا أو أبينا-  سوف يظلُّ يحمل جينات روح الكاتب وبصمته، الَّتي تشرَّبت من معين بيئته وخبراته الحياتيّة  والنفسيّة،  وثقافته، وتكوينه.  وبعد مطالعة رواية “متاهة الغرف المغلقة” سوف نكتشف أنَّ الكاتب قد اتَّخذ من لوحة “الماجا” العارية محورًا ومحرّكًا للأحداث، تلك اللَّوحة التي تسبَّبت في إثارة غيرة صافي حبيبة سليمان  ممَّا دفعها  إلى تمزيق اللَّوحة؛ وما ترتَّب على ذلك من إقدام سليمان على قتل صافي بيدي ربيع الوحش، تلك الشَّخصيَّة التي تستحوذ على عقله كما سبقت الإشارة. وقد ربط الكاتب بين تعلُّق سليمان وهيامه بلوحة “الماجا”  العارية وتعلّقه وافتتانه بحبيبته صافي لدرجةٍ تماهت فيها  الدّوقة ألبا السَّيدة المرسومة في اللّوحة مع صافي؛ فرأى الكاتب أن تمزيق اللَّوحة إنّما هو تمزيق للعلاقة بينه وبين زوجته صافي، ولمَّا كانت فكرة اختفاء صافي من حياته قد أرعبته، استحقَّ مَنْ مزَّق اللَّوحة الموت، حتَّى لو كان الفاعل صافي ذاتها. هذا هو الدَّافع الذي ساقه الكاتب لإقدام سليمان على  ارتكاب جريمته، في لحظةٍ سيطر فيها ربيعٌ الوحش على عقله، تلك الجريمة التي سنكتشف في نهاية خالفت توقعات القارئ، إلى أنّها لم تحدث من الأساس، وأن صافي مازالت على قيد الحياة، تداوم على زيارة سليمان في المصحّة النَّفسيَّة، تلك النّهاية التي  حققت من وجهة نظري قدرا منالدهشة. وتجدر الإشارة  إلى أنَّ لوحة  “الماجا” العارية قد اكتملت عام ١٨٠٠. وقد رسمها “جويا”  للدوقة “ألبا” واسمها الحقيقيّ دونا كاياتانا دي توليدو، وهي إحدى أجمل وأشهر وأغنى نساء إسبانيا في زمانها، وقد عرفت بسحر شخصيتها وسلطتها الطَّاغية، وتبدو في هذه اللَّوحة وهي تطل بنظرتها الشهوانيَّة، الَّتي أشار الكاتب في روايته إلى أنّها كانت فقط لحبيبها جويا، وليست رمزًا لخطيئة المرأة كما توهَّم البعض. ويمكننا القول أنَّ ألبا العارية وصافي قد قدمهما الكاتب في روايته كمعادل موضوعيّ للحياة نفسها، بما تحمله المرأة من فتنةٍ وطاقةٍ وجمالٍ، تلك الأشياء الّتي  تحفز على أن نحيا الحياة، ونستمتع بجميع تفاصيلها المثيرة الّتي تشبه تفاصيل جسدي الدّوقة ألبا  وصافي الجميلين. 

***أما اللَّوحة الثَّانية الَّتي وظَّفها الكاتب في ثنايا سرده فهي لوحة “الموجة التاسعة” للرسَّام الرُّوسي    الرُّوسي “إيفان إيفازوفسكي” رسمها عام 1850، وتعتبر أشهر أعماله،  وتمثّل تعلُّق مجموعة من النَّاس بسارية سفينةٍ،  تغرق وقت الفجر. هذا وقد ربط الكاتب بين تلك اللَّوحة ومشهد غرق الكارتة والحصانين وأبيه الشَّيخ وخفيره ربيعٍ الوحش، وما قد صاحب ذلك المشهد من نظرات الفزع الَّتي انتابت الحصانين، وتشبُّثهما اليائس  بالحياة. ذلك المشهد الَّذي أثار من وجهة نظري العديد من التَّساؤلات الوجوديَّة حول فلسفة  الموت، وفكرة العقاب، والانتقام، والحياة نفسها، وما رسخ في ذهن سليمان من أنَّ أمَّه كانت وراء قتل أبيه بإفزاع  الحصانين وإجبارهما على الجنوح إلى النهر ممَّا أدَّى إلى غرق الجميع، بينما رأت الخالة فاطمة أنَّ ما حدث إنما كان انتقامًا من الله، وقد تباينت وجهتا نظري سليمان والخالة فاطمة، تبعا للتكوين النفسي المختلف لكلتا الشَّخصيتين.

٦- اللُّغة: جاءت لغة رواية “متاهة الغرف المتداخلة” شعريَّةً موحيةً، والأساس في شعريّة اللُّغة هو الانزياح  بحيث يقوم الشِّعر بتنظيم الألفاظ وتنسيقها بطرائق تبعث على الدَّهشة والافتتان بما تحدثه من مفارقة وانزياح، وبما تضمنه من انفعالات ومشاعر تدفع القارئ إلى الافتتان  بمجازيتها، ذلك أن للغة الشّعر القدرة على الإيحاء بما لا تستطيع اللُّغة العادية أن تتوصل إليه. وإليكم بعض النَّماذج من رواية “متاهة الغرف المتداخلة”، حيث يقول الكاتب: ” كانت شعاع الضّوء، الّذي يدخل قلبي، ويضيئه، هل رأيت؟! بمجرد أن أتى ذكرها نبتت بعض الزُّهور في صحراء الرُّخام المترامية” ويقول: ” لقد عاد معناها الآن يرفرف في رأسي كحماماتٍ بيضاء، تخطف القلب، عندما تعرفها لن تسلاها…. تلتصق ببعضها البعض، وتتغازل، ثم تطير إلى العلالي، تلفُّ، وتدور كأنها ملاءة بيضاء تنبسط فوق الأرض أمامي، هذه الحمامات عندما تحطُّ على نافذتي أحسَّها الفرح اليوميّ للمحبَّة” ويقول أيضًا: ” كانت تستلقي على مخدع من قماش حريريّ أورجوانيّ  اللّون، الغرفة على اتساعها خاليةٌ من الضَّوء عدا شمعةٍ صغيرةٍ مضاءةٍ،  وُضِعت في ركنٍ قريبٍ. كان الوقت ليلًا، وضوؤها يتماوج عاكسًا لون المخدع فوق جسدها شبه العاري، أتذكَّر أنَّه في تلك اللَّحظة كأنَّ كأسًا من النَّبيذ انسكب على جسدها في مشهدٍ  خياليٍّ”  ومن خلال المقاطع السابقة نلاحظ أن الكاتب نجح في الارتقاء بلغته إلى مستوى  اللُّغة الشِّعرية الموحية، الّتي تحقق فيها  الاختلاف والمفارقة والخروج عن المألوف والبعد عن التَّقليد والرَّتابة، بطريقة حققت المتعة والدَّهشة في كثيرٍ من المواضع.

٧-رواية “متاهة الغرف المتداخلة  والسَّرد النَّفسيّ وطرائقه:يُعرَّف السَّرد النَّفسيّ بأنَّه”حكاية العالم الدَّاخليّ للشخصيَّات من أجل تفسيره وتأويله وفضح خباياه” هذا وقد اعتمد الكاتب يسري أبو العينين في روايته على طريقتي السَّرد  النَّفسيّ: المشتركة والخاصة، ويعرَّف السَّرد النَّفسيّ المشترك بأنَّه أسلوبٌ للكشف عن العالم الدَّاخليّ للشخصيَّة، وحكاية باطنها وتحليله بعدّة وسائل. ويعتبر مشتركًا لأنَّ مجالاته من الممكن أن تُحكَي وتُؤدَّى بطريقةٍ أخرى كالحوار الدَّاخليّ المباشر أو التَّحليل الدَّاخلي أو المناجاة النَّفسيَّة، ويكون السَّرد فيه بلسان الراوي المشارك، وبضمير المتكلم.

 وتتضح مجالات السَّرد  المشترك  في رواية متاهة الغرف المتداخلة فيما يلي:

١-السَّرد المشترك للتعبير عن  الانفعالات الدَّاخليَّة  للشخصيَّة: يقول الكاتب يسري أبو العينين في روايته واصفًا توتُّر العلاقة بينه وبين حبيبته صافي وانعكاس ذلك على باطنه” ولن أكذب عليك فقد عشت أيامًا مرعوبًا من فكرة فراقها كان ذهني مشغولًا أيضًا بالصَّرخة الَّتي صدمت إدوارد مونش، وهو يقف فوق الجسر كأنَّها جزءٌ من اضطرابٍ وجنونٍ. طبيعةٌ قاسيةٌ أحاطت به، كنت أيضًا أشعر بأنَّ صدى تلك الصَّرخة بدأ يتردَّد في رأسي، تهزُّني، وتربك ملامحي، ولا أستطيع كتمانها. كان هذا الإحساس قد اجتاح مفاصلي، وأنا أقف في ذهولٍ مفاجئٍ، أصابني عندما وقفت في فسحة البيت. غامت الدُّنيا في عيني، ودهمني دوارٌ، راح يزداد قوةً. ترنَّحت، وكدت أسقط مغشيًا عليَّ، حاولت أن أستند إلى شيءٍ قريبٍ مني؛ فلم أجد؛ فعدت من مكاني، وأنا أرى جمجمة مونش يتردَّد صدى صرختها بين جدران البيت” ومن المقطع السَّابق يتضح أنَّ الكاتب نجح في نقل مشاعر  شخصيَّته الرَّئيسة سليمان الذي يعدُّ في الآن ذاته الرَّاوي المشارك بدقَّةٍ في لحظاتٍ حاسمةٍ،وموقف كان  له وزنه في تنمية الحدث الدّراميّ وتفسيره.

٢- السَّرد النَّفسيّ المشترك المعبّر عن تبدُّل المشاعر تجاه شخصية أخرى:

يقول الكاتب: “يتطاير الشَّرر من عينيه، وهو يحمل كرباجه، ورذاذ الغضب الهيستيريّ يخرج من فمه، وهو يتوعدني بالعذاب الأليم،  سأقتلك يا ابن القحبة. كنت أسبُّه في سرّي، وأنا أرتجف بين يديه، ألعنه بأقذر اللَّعنات، أسبُّ أمَّه وأباه، وأنا غير قادرٍ على أن أفلت من قبضته. أفكّر أنَّني سأقتله ذات يومٍ عندما أكبر، كما أقتل أيضًا كلَّ الأولاد الذين يقذفونني بالحجارة كلَّما ذهبت إلى المدرسة. أتخيَّل نفسي قاتلًا لا يهاب مثل ربيع الوحش.

ومن المقطع السابقنكتشف أن  الكاتب  قد أبرز جانبًا آخر من جوانب السَّرد النفسيّ المشترك المعبّر عن الانفعالات الدَّاخلية للشخصيَّة، وهو التَّعبير عن تبدُّل مشاعر الشَّخصيَّة تجاه شخصيَّةٍ أخرىمن خلال تبدل مشاعر سليمان تجاهشخصيّة الأب الشَّيخهذا التَّحوُّل،الَّذيتركالعديد منالعلاماتٍ والآثار السَّلبيَّة في نفس  سليمان.

٢- السَّرد المشترك للتعبير عن  إحساسٍ عامٍ أو طبعٍ تشكَّل لدى الشَّخصية بفعل مكونات الباطن:

   يقول الكاتب: ” حين وصلت إلى هنا كانت الوجوه شائهةً بلا ملامح واضحةٍ، وحين كنت ألتقي بأحدهم في الطرقات أو الأماكن المفتوحة كنت أتحاشى النَّظر إليهم، وعندما نترافق بالصدفة كنت أنظر  بريبةٍ إلى وجوههم الغريبة، وأتساءل: من هؤلاء؟! وأين أنا الآن؟! كان القلق يعصف برأسي، وأنا أبحث عن إجاباتٍ لعشرات الأسئلة، الَّتي تتقافز في ذهني كسمكاتٍ حيَّةٍ….. في كلّ مرَّةٍ كنت ألتقيهم أنظر إليهم بحالةٍ من التَّوجس نفسها، كأنَّني لم أرهم من قبل” المقطع السَّابق نجح الكاتب في التعبير عن إحساس سليمان بالتَّوجس والشَّك والقلق حيال نزلاء المصحَّة، هذه الأحاسيس الَّتي تحوَّلت إلى طبعٍ لازمه، وجعله عزوفًا عن الكلام.

٣– السَّرد المشترك للتعبير عن  الفكر والعقيدة: يقول الكاتب: ” لظني أنَّ العتق هنا لا يحدث إلا بإرادة شخصٍ آخر. غير أنَّ  (انعتاق) كلمةٌ تحمل في ذاتها قدرتنا على الرَّاحة وقتما نريدها نحن؛ لذا فالانعتاق أسرع من العتق؛ لأنَّنا وليس الآخر نمتلك قدرة انعتاقنا” ويقول أيضًا: ” لكنّي ساعتها اعتقدت أن أفكار الفن مثل النُّجوم كلّ النَّاس تراها، لكنَّها لا تتحول فنًّا إلا عندما يراها شخصٌ مثل حبيبتي صافي”ويقول: ” التَّأمل هنا تعبيرٌ مجازيٌّ غير صحيحٍ. التَّأمل ابن الانسجام والهدوء، بينما أنا كنت أشتعل بالرُّعب” ويقول: ” فالمسافة بين الوجدان والقلب يشغلها العقل، وعندما يغيب هذا العقل تنقطع الصّلة بينهما، تعترينا برودة الموتى، وتصبح قلوبنا أشبه بصحراء جليديَّةٍ”. من خلال المقاطع السَّابقة نكتشف أن الكاتب نجح في حكاية باطنسليمان، ونجح في سرد الخواطر، الَّتي وردت  على ذهنه، معبّرا  عن فكره وعقيدته ورؤيته للأشياء والحياة بشكلٍ عامٍ.

٤- السَّرد المشترك للتعبير عن الخيالات والهواجس والتَّطلعات:

يقول الكاتب: “هيه المراكب بتمشي في السَّماء ولا البحر يا ابني أنت؟! أنا أيضًا تذكَّرت ملامح وجهه، الَّذي احمرّ حتَّى كاد يغمى عليه، حين فوجئ بردّي بأنَّني فعلًا أراها تسبح في السَّماء، وأقسمت له أنَّني رأيتها فعلًا كذلك”

ويقول:” لا أفهم كيف وصلت السّكين إلى يدي؟! كيف تلوَّثت بدمائها؟! ومن أيّ كهفٍ مظلمٍ جاءت تلك اليد الآثمة المملوءة بالغضب، وغرست نصلها في جسدها”. ويقول: ” ومن بعيدٍ يأتي صراخٌ ونباح كلاب لا يتوقَّف، وصافي معشوقتي الجميلة ممدَّدة أمامي، وجسدها يغمره الدَّم. من قتلها؟! وأين كنت أنا؟! أسمعهم يقولون: قتلها المجنون. قتلها الوحش. لا لا لم أقتلها، وربما أكون قد قتلتها، لا أعرف، لكن إذا هم رأوا الأمر على هذا النَّحو، فلم لا؟! والجنون يأتي أحيانًا خلاصًا لعذابات الرُّوح”.

ومن خلال المقاطع السابقة نجح الكاتب في التَّعبير عما تعيشه شخصيَّته الرَّئيسة سليمان من خيالاتٍ جعلته يرى المراكب تسبح في السَّماء، تلك الرُّؤية الحالمة الَّتي عرَّضته لعقاب المدير ذي الفكر المتحجّر، ويعبر عن الهواجس الَّتي تعتري سليمان حيال مقتل  صافي، وهنا تجلَّت أعراض مرضه النَّفسيّ، الَّذي جعله مشوَّشًا غير قادر على الفصل بين الحقيقة والوهم، وجعلته عاجزًا عن اكتشاف ما تجهله شخصيَّته عن نفسها.

٥- السَّرد المشترك للتعبير عن  نشأة الذكريات وانثيالها: يقول الكاتب:  ” لا أنسى تلك اللَّوحة، الَّتي كانت ستتسبَّب في فصلي من المدرسة، حينما ضبطها ناظر المدرسة في أثناء مروره علينا، ونزعها من كراستي، وهو يصرُّ على استدعاء ولي أمري.  أتذكَّر أنَّني ارتعبت من فكرة استدعاء ولي أمري هذه لدرجة أنَّني رحت أتبوَّل على نفسي، وأنا أجري خارج الفصل، كانت الرَّسمة عبارة عن شجرةٍ كبيرةٍ، جذعها امرأةٌ عاريةٌ، وثمارها أثداء متدلّيةٌ، وأوراقها كثيفةٌ وارفةٌ بألوانٍ برتقاليَّةٍ بلون الغروب”.

ونلاحظ من المقطع السَّابق أن الكاتب  عبَّر عن  ذكرياتسليمان  معتمدًا على الاسترجاع  والتَّداعي الحرّ وتجميع علامات مختلفة من ماضي سليمان  لتفسير الغامض والاستدلال على الخفيّ في تكوينها النَّفسيّ والفكريّ وأثر ذلك في  زمنها الحاضر.

السَّرد النَّفسيّ الخاصّ:   يطلق عليه  هذا  الاسم  كونه غير قابلٍ للتَّشارك مع وسائل حكاية الباطن الأخرى. وهو عادةً ما يعبر عنه بصوت الرَّاوي العليم في حالة عدم استطاعة الشَّخصيَّة كشف باطنها عبر الحوار الدَّاخلي المباشر بسبب عدم الرغبة، أو العجز عن البوح عمَّا بداخلها، وهنا يتولَّى الرَّاوي العليم حكاية باطنها وتحليله وتفسيرهمتحدّثًا عنها بضمير الغائب.

يقول الكاتب متحدّثًا عن نزيل المصحَّة الشَّاعر الملقب ب”أوفيليا”: ” كان أوفيليا ضئيل الحجم، ويتحرَّك في هزلانه كأنَّه شبحٌ، يطلُّ من عينيه إحساسٌ دائمٌ بالعجز والانكسار، يمشي بطيئًا، لا يلتفت إلى أحد، دائمًا ما كانت هناك نقطةٌ في الفضاء ينظر إليها، كأنَّه ينظر إلى فراغٍ قائمٍ، لا يحيد عنه، يرتجف من أيّ صوتٍ، ينطلق عاليًا إلى جواره”ويقول متحدثا عن نزيل المصحة سبعاوي” يبدي ضيقه من لفائف الأسلاك الشَّائكة، الَّتي تعلق بها الأشياء، الَّتي طيَّرتها الرّيح مثل قطع القماش البالية والاكياس البلاستيكية. كنَّا نشعر بأنَّ هذه الأشياء التَّافهة تؤلمه بعد أن سكنت في حبسها، عالقةً بالسلك الشَّائك زمنًا طويلًا. كان فعلًا يتوجَّع حين يراها، وقد كستها الأتربة، وبليت بفعل المطر أو حرارة الجوّ، وهي لا تملك حيلةً في انعتاقها. تشعر بخفقان قلبه، وهو يلمحها ترفرف مع نسمات الهواء، كأنَّها تناديه أن يساعدها، تستنجد به أن يعيد إليها روحها، وهي في قبضة تلك الأسلاك المتوحّشة”.

ومن خلال المقطعين السابقين. نلاحظ أنَّ  الكاتب قد اعتمد على  الراوي العليم في وصف مكنون  شخصيتي أوفيليا وسبعاوي، متحدّثًا عنه بضمير الغائب؛ إذ بداأوفيليا وسبعاويعازفين عن البوح عاجزين عن التعبير عما يعتمل داخلأعماقهما من مشاعر.

أضف تعليق