تقنيات عرض الحدث الروائي عند سيد الوكيل.د. نجدي عبد الستار

31 مارس، 2021 مرفت يس أضف تعليقا تحرير

تعددت التقنيات المستخدمة في أعمال الوكيل، كتقنية الإحالة، وتقنية المحاكاة الساخرة والتفكيك، الذي قاده المؤلف الضمني في التعبير عن الحدث، بوصفه لقطات مصورة، دون الاتكاء على عقدة واحدة، تاركًا الحدث يتنامى في أعماله التي ترك نهايتها مفتوحة؛ يرجع ذلك لتشابك أعماله برباط دقيق، يحتاج من القارئ بذل المزيد من الجهد رابطًا إياها، من خلال أنساقها الدالة على هدف سعى له المؤلف، وهو الحديث عن معاناة الإنسان، الإنسان وحده الذي يعيش الواقع بما فيه من أزمات تحيطه بصفة عامة، والمبدع بصفة خاصة، هذا الاتجاه فُهم من السياق، فالمؤلف الضمني وضع نصب عينه أن يتحدث عن واقع مغلف بالسخرية المضحكة حد البكاء، وعن الظروف التي يعيشها المبدع وبين خياله المجنح نحو طموح لا يجد له سبيلاً، إنها الإشكالية بين الجمال الذي تهدف له الكتابة الأدبية وبين الواقع المعيش، وما فيه من قسوة تدفع حينًا للمطاردة وحينًا للمعاناة وحينًا للحديث عن اغتراب مؤرق للأرواح، حتى وهي تعيش بين الزحام .

إننا أمام حضور قوي للسارد، منذ بداية الأعمال حتى نهايتها، متداخلاً في النصوص، منظرًا مرة وشاهدًا مرة، ومشاركًا في الأحداث مرة أخرى، ولعل استخدامه لتلك التقنيات، تعني وجود عملية سردية، ذات شفرات خاصة تحتاج من القارئ المشاركة للسارد في نصه، أو بالمعنى الصحيح في نصوصه، الذي استخدم معه تقنية الإحالة، بعودته لنصوص خارج سرب رواياته، بمعنى آخر جاءت في مجموعاته القصصية.

فهذا جزء من التقنيات المستخدمة في نصوص الكاتب، هو وجود المروي الضمني أو الوسيط بين السارد والقراء عامة[1]، هذا الأمر الذي جعله يقدم ثلة من الآراء النقدية ليعبر عن رؤية “روب جرييه “حين قال: “على كل كاتب جديد ينأى عن التقيد بالأشكال الثابتة أن يحاول تكوين القواعد التي ترسم ديناميكية في نفس الوقت الذي ينتج فيه عوامل تحطيم هذه القواعد نفسها “.[2]

لقد استمع الكاتب جيدًا، للعلاقة الشائكة بين الإنسان ومصيره، بل جعلها شاغله، الذي ميزه من أبناء جيله، وعلمه معنى الدقة، لكن الأمر لم يكن واضحًا بالشكل الذي يرتضيه، فلا يمكن لمن شغل بتلك الحالة أن تتضح أمامه الدروب المعتمة، لكنه على كل حال يحاول، أليس هو من أهدى إبراهيم أصلان متواليته الثانية كما سبق ذكره” إلى إبراهيم أصلان الذي علمني الدقة لا الوضوح “.[3].

فوق الحياة سيد الوكيل

سيدالوكيل777

 فسيد الوكيل يواجه سيد الوكيل نفسه، في محاولة لاحتوائه من أجل خلق ذات يروي عنها، هذا الحضور القوي الذي أشار له الباحث “مهدي صلاح” في بحثه عن حضور المؤلف داخل الأعمال السردية إذ يقول:” ومنذ الصفحات الأولى في الرواية يبدو السارد مجسدًا ومعلنًا عن شخصيته ووجهة نظره”.[4] هكذا هو في (فوق الحياة  قليلا)  “قرر وبشكل حاسم ومن وجهة نظري كل قراراته حاسمة ما لم يحتج لتنفيذها وهو اتخذ القرار منذ أول الصباح أن يتخلى عن كونه شاعرا” .[5]

  إننا أمام سرد مختلف، باختلاف صاحبه، الذي حاول أن يختار لنفسه طريقًا ارتاده وحده، متحملاً وعورته ومجاهل عوالمه، كي يصبح متفردًا، وما أجمل أن يعبر الأديب مطبات التقليد! ويبتعد عن السقوط في هوة الابتذال، لقد كان الكاتب بمثابة العلامة الدالة على التطور الذي حدث للسرد في العقدين الآخرين، ولست في هذا محصيًا لما كتب، إنما هي محاولة الوقوف على تقنية جديدة بأن ثمة علاقة تماه ٍ بين السارد والمؤلف في الكتابة الروائية الجديدة، وأن هذا التماهي بوصفه علاقة بين طرفين: مجازي (السارد) وحقيقي ( المؤلف)، يدفع إلى رؤية السارد بوصفه صوتـًا فنيـًّا للمؤلف، هذه العلاقة مشروطة بتصور أن النص الروائي الجديد وما يتصل به من خبرات حياتية ووقائع حقيقية، وأشياء موجودة في عالم المؤلف الحقيقي الخارجي، لا تمثل المؤلف عينه إلا بشروط خطابه الأدبي، وأول هذه الشروط إعادة بناء ما هو واقعي أو حقيقي، ليصبح علامة نصية مجازية لها قوة الحقيقي أو الواقعي. ومن ثم يصبح النص الروائي الجديد بخطابه الأدبي هو مصدر التعرف على السارد (المؤلف) الذي صار علامة، أو عنصرًا نصيـًّا، ومع هذه الصيرورة تنتفي الإحالة إلى السيرة الذاتية للمؤلف أو العالم الخارجي، لنرى ذلك من خلال النصوص[6].

في أعمال الوكيل المتصلة جاءت طرائق عرض الحدث مختلفة، ذاك الاختلاف الذي يكمل وليس الاختلاف الذي يولد الانفصام، إنه يكمل بعضه كعقد جميل مختلفة حباته، لكن كل واحدة لها دورها في إبراز هذا الجمال وأبرز ما يميز طرائق عرض الحدث، في هذه الأعمال، هو مستوى التوالي الكتابي، لوحدات القول، باعتباره مدخلا ًلالتقاط الإيقاع العميق للنصوص، وعاملاً مثيرًا لاهتمام القارئ، ينبه حساسيته لإدراك المنظومة الكلية للمتواليات النصية، ويضمن فعاليتها الجمالية من ناحية أخرى، وهذه الفاعلية هي ما توصل له[7]،

ويسعى الرّاوي إلى التّفنن في سرد الأحداث، من خلال نسج الخيوط، التي تزملت بالجمال حينًا، أو بالروح الساخرة من أجل منح النص الروح والحيوية، والنسق يعتبر الهيكل البنائي الذي يعتمد عليه الراوي في إرسال مرويه، والطريقة التي يختارها من أجل إيصال الحدث للمروي له، وقد تكون بطرائق مختلفة.

 طرائق العرض أي ما يختاره الراوي من طريقة تساعده في إيصال الأحداث للمروي له، متبعًا لذلك عدّة طرائق، فهو تارةً يسعى إلى عرضها بأسلوب تتابعي منطقي، وتارة أخرى يعرضها بشكل تضميني، أو دائري، أو فوضوي. وهكذا على وفق ما يراه منسجمًا مع نصه السّردي، الذي يشتغل عليه. وتأتي أهمية النّسق بوصفه عنصرًا بنائيًّا من أنَّ الأحداث لا يمكن لها أنْ تنسجم أو تنتظم دون أنْ تُبنى على وفق أنساق معينة.

لقد تنوعت الأنساق التي استخدمها المؤلف الضمني، ومنها نَسَق التّتابع، ويعدُ هذا النّسق البنائي من الأنساق المعروفة منذ زمن بعيد، مهيمنا لمدة طويلة على السرد القصصي بمختلف مستوياته وأجناسه.

والنسق التتابعي هو عرض الأحداث من خلال ترتيبها الزمني دون أي خلل، وهذا اللون من الأنساق التي يعبر فيها عن البدايات التي لا تحمل المفاجأة، ولا تعطي انطباعًا مغايرا للقارئ، لذلك فإن الروايات الحديثة حاولت التنصل منه، إلا في بعض الحالات التي يجب أن تسرد به من أجل توضيحها بشكل لا يجعل القارئ ينفلت من العمل، فالأحداث تروى جزءًا بعد جزء دون أن تتداخل مع أية قصة أخرى، وكما اتفقنا أنه من الأنساق الشائعة قديمًا، هذا النسق الذي يتكئ السرد فيه لمنطق السببية، فاللاحق نتيجة مباشرة للسابق وهكذا دواليك، ما يجعل القارئ في حالة توقع للقادم، مما يفقد العمل الأدبي أهم ما يميزه، وهي حالة التحفز التي تنمو في عقل المتلقي، وتجعله دومًا على استعداد لما هو قادم من خلال توقعه، الذي فرضه عليه السرد إلا أن الكتابة الحديثة قد تخلت عن هذا النوع التقليدي في السرد، وهو تكنيك يعتمد على الزمن في أوضح صوره، وفي عرضنا لأعمال مربوطة بخط دال على هدف العمل الأدبي الذي لا يستطيع المتلقي الوصول له إلا ببذل الكثير من الجهد ، نرى أن الراوي لم يكن حريصًا على نقل الأحداث بشكل تتابعي لذلك فإن المؤلف قد لجأ إلى بعض الطرائق الأخرى، فهو يعرض الحدث داخل قصة يتخللها مجموعة من القصص المتداخلة والتي تخدم الحدث، ومرتبطة به من خلال البناء المتشابك أو فلنقل البناء التضامني.

والبناء التضامني يسمى بنسق التضمين وإن كنت أميل إلى تسميته للنسق المتشابك لأن المتلقي لا يستطيع فصل القصص المتداخلة عن الحدث، بل هم مربطون بدال يسير خلفه المتلقي ويعمد له الراوي – لهذا النسق- في محاولة سد فراغ داخل العمل السردي أو بحثًا عن تنوع في طريقة عرض حدثه ، وإن كنت أميل إلى لجوء الكاتب لهذا النسق ليس من قبيل سد فراغ أو عميلة تنوع لكنها حالة متلبسة للكاتب يعبر فيه عن حدثه من خلال العيش مع الحدث، فيحاول تنميته بشكل تلقائي عندما يربط بينه وبين أحداث متشابهة في المعنى ومختلفة في الشكل أو حتى حدوثها الزمني.

ولست مع الآراء التي تهدف إلى تهميش العمل بأنه وجد للإمتاع، لكن العمل الأدبي له حضور قوي في تغيير مسار الحياة، بل وتعبيد الطريق أحيانًا للسير عليه من خلالها، فالتقنيات ليست أبدًا دفعًا للملل والسأم، كما يذهب إلى ذلك البعض، لكنها تعبير عن حالة الإنسان وما يعانيه، وهو كما اتفقنا القضية الكبرى لكاتبنا، التي وضعها هدفًا له من البداية، إنه لن ينشغل بالقضايا الوجودية، ولكنه سينشغل بالقضية الأهم، ألا وهي قضية الإنسان.

        وفي نسق التّضمين تتفرع عن القصة الأم قصةً أو قصصًا أخرى فرعية إلا أنَّ تعدد القصص هذا ليس مشروطًا “بتعدد الرّواة فبإمكان راوٍ واحد أنْ يعقد علاقات بين مقاطع حكائية مختلفة”[8] كما حدث عند الكاتب، ولاسيّما وإنْ كان الكاتب ممن امتلك ناصية موهبته ولديه من الدّقة في اختيار الجزء الذي يعمد فيه إلى توليد القص، مما يسمح بدوره في إيجاد سرد متفرع من القصة الأوّلى إذ تنمو القصص ويزداد  النّص وتزداد الدّلالة.

ففي روايته الأولى (فوق الحياة قليلا) تتوالد القصص من بعضها وفي كل واحدة تزداد الدلالة ففي الفصل الأول فوق الحياة قليلاً يعبر عن المطاردة من خلال قصص متوالدة ينمو معها الحدث فيقول على لسان الراوي الذي يتحدث عن الشاعر المنغمس في عالمه الذي يحاول أن يعيش ولو لحظات في الواقع المعيش وهو المشتت بينهما معبرًا عن حالة سائدة في المجتمع وإعلاء ما هو لهو على ما هو جد فيقول: “علم بموعد المباراة من حديث مساعديه، ولأنه يحفظ بعض أسماء اللاعبين ويعرف شيئًا عن انتصاراتهم وإخفاقاتهم، ضمن لنفسه مشاركة معقولة في الحديث. يخشي أن يظنوه متعاليًا، أو راغبًا في العزلة، فكلما دخلوا عليه وجدوه دافنًا وجهه في كتاب[9]” ، إنه يعود ليأخذنا لقصة أخرى وهي حالة الإحساس بعدم القيد وأنه يفر من مطاردة الوقت، فيترك سوار ساعته مفتوحًا ما يجعل الآخرون ينبهوه لذلك فيضحك سخرية منهم، إنها اللحظة التي يحلق في عالمه الخاص تلك التي يشده فيها الواقع المعيش فيقول: “لا يرفع عينيه عن الكتاب إلا لينظر في ساعته التي اعتاد أن يترك قفل سوارها مفتوحًا، فتتدلى على كفه، حتى ينبهه الساذجون، أو الذين يعرفونه للتو: احذر.. فالساعة ستسقط يضحك، فتظهر كل أسنانه، ويدرك الآخر.. كم هي دعابة سخيفة [10]” في استخدامه لهذا النسق التضمني أو التوالدي يتدخل فيها الراوي مباشرة بآرائه التي تساعد على المشاركة والتي تأخذنا لسبب تداخل تلك القصص، وهي العلاقة السببية فيقول: ” ومن وجهة نظري، كل قراراته حاسمة ما لم يحتج لتنفيذها، قرارات كثيرة اتخذها في حياته بشكل حاسم، لكنه لم ينفذها”[11]،هذا الرأي يقودنا لقصة أخرى معبرة عن حالة المطاردة المعيشة بين الواقع والحلم والتي تدفعه لتأزم أحيانًا فيقول:” والقرار الوحيد الذي لم يكن جادًا فيه، نفذته له قوى غيبية، عندما دفعته ليغازل فتاة سمراء تمشي وحيدة على شاطئ البحر”[12].

في الفصل الثاني (كان محتاجًا لمن يسكب قهوته) من رواية فوق الحياة قليلاً تتوالد القصص وتتشابك، لينمو الحدث في داخلها، فهو الذي أشرك المتلقي الملم بأعماله مستخدما تقنية الإحالة، والإحالة في عند هاليداي ورقية حسن هي «علاقة دلالية تشير إلى عملية استرجاع المعنى الإحالي في الخطاب مرة أخرى، فيقع التماسك عبر استمرارية المعنى.»([13]) و «الإحالة أكثر وسائل الربط النحوي شيوعًا، وهى في العربية عديدة تدخل فيها الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وبعض العناصر المعجمية الأخرى من قبيل نفس، عين، بعض.»([14])

وترجع أهمية الإحالة إلى أنها تشكِّل الخطاب بوضوح حين تحيل الأحداث التي تقوم بها الشخصيات في بنية زمانية ومكانية إلى واقع متخيَّل داخل العالم الروائي يعبر عن الحدث الذي تتعايشه الشخصيات بأنواعه الناتجة عن أحداث الحياة المختلفة. إذا كانت هذه الأهمية للإحالة تظهر في التماسك النصي داخل النص فإنها عند الوكيل جزء من التماسك النص الروائي والقصصي، فالوكيل يشير دائما إلى شخصياته في أعماله المختلفة مؤكدا أنها تمثل الحياة ، وهي حيلة استخدمها الروائي لربط متلقيه بأعماله ثم ينتقل مستخدما تقنية التضمين أو كما قلت التشابك فيقول: ” تذكرون هدى كمال التي تركناها جالسة أمام ثلاجة مفتوحة، وضوء خفيف وحده ينسال باردًا على جسدها العاري، ويشكل ظلال النهدين والفخذين”[15]، هذه الإحالة لم تكن وحدها مع هدى كمال لكنه استخدمها أيضا في فصله (مدار السرطان) الذي تحدث فيه عن سيد عبد الخالق لقصة سابقة (كل ما عليك أن تموت)، كتبها الوكيل يصفه فيها بأنه تحول لكائن شفاف، هذا الكائن الذي ودع الدنيا حين اختار أن ينظر في الاتجاه المخالف للكادر، ليعود في فصل (مدار السرطان) في روايته (الحالة دايت) يصف فيها الشخص الذي يراه وهو يصلي بجواره في المستشفى بنفس الصفات، وكأن الموت يطارده وهو يواجهه ولكن بالكتابة.

 مازال الكاتب يربط متلقيه برباط شفيف يجبره فيه على العودة إلى أعماله السابقة ويتضح ذلك من خلال إحالتنا لقصته (جراح رمضان الأخيرة) التي كتبها عن حمدي سعيد، الكاتب في هذا الربط يحاول أن يصحح ويضيف و يجعل العمل متماسكًا أكثر، فهو كتب ليوثق، وهو أمام خيار لا بديل له، بعد أن قرر أن يكون مرآة صادقة لحيوات المبدعين ومماتهم؛ ليظل في حالة توحد مع ما كتب، وأن يعيده بشكل أفضل فالإنسان خلق ليصحح ما أخطأ فيه ويصحح ما هو مصحح؛ ليكون أكثر قدرة على التعبير، هذا النهج الذي تأثر به الكاتب في توثيق ما مر به من خلال سيرته الذاتية لهو الأمر الذي يصل به لبر النجاة في تقديم” حياة حقيقية وليست بروفة” [16].

يتضح أن الكاتب استخدم تقنية الإحالة التي قادتنا نحوالمحاكاة الساخرة تلك التي” تمثل في استعادة حرفية لنص قصد إكسابه دلالة جديدة فيها بعد ساخر وذلك باللعب على الكلمات حسب الحاجة والإمكان”[17]، وفي أكثر من مناسبة من خلال محاكاة أعمال معروفة أو حكايات شهيرة ومناقشتها بهدف تفكيكها، والكشف عن مناطق المفارقة فيها، فمثلاً في رواية فوق الحياة قليلاً، كان كلامه عن كتاب محمد جبريل الذي كتبه عن نجيب محفوظ، وتغير معالم المقاهي الأدبية أو واقعة مقهى المثقفين، ومواجهة نجيب محفوظ وكلود سيمون أو المقارن بين شخصية القاص الجنوبي، ويحيى الطاهر عبد الله، أو الحديث عن نعمات البحيري ومحمد مستجاب هذه السخرية التي علت فيها ترانيم الأسى والوجع.

 لم تكن السخرية هدفها الإضحاك، إنما تفكيك الأفكار التي ثبتتها الثقافة، ورحلتها إلى قيم عليا، مثل سخرية الطيب صالح من القاص الجنوبي وهو نائم في بيت عمه، وتبوله على روحه، وفي مشهد يأتي الطيب صالح ليسخر من القاص، أو ليقول له أنت مجرد نسخة تكرر ما فعله مصطفى السعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال.

        إن استخدام المحاكاة الساخرة ليس مجرد إشارة أو استشهادًا أو الإفادة من عمل آخر، بل هي أكثر عمقًا لأنها تشترك بفاعلية في الشفرة الخاصة بالنص أو العمل الذي تتم محاكته، ولا تكتفي بذلك بل تشترك في الشفرة الأساسية الخاصة بالمحاكاة بشكل عام، وتشمل مجموعة من التلميحات التي تنشط البنية المعرفية الخاصة بالعمل السابق وكذلك العمل الحالي في الوقت نفسه.[18]

 والتقنيات السابقة ساعدت على وجود النسق التضميني فعند ذكر قصة هدى كمال أخذنا لقصة أخرى تعبر عن المطاردة التي عاشتها في غربتها ومدى الحزن الذي سيطر عليها قالت:” إن المصور الهندي طلب منها أن تبتسم، وقال لها إن الابتسامة تحفف كثيرًا من نظرتها الحزينة.”[19]، ليعود مرة أخرى لقصة اللقاء الأول بقوله:” وعندما قال لا شيء تغير، كان يسبح في حزن عينيها بلا نهاية.”[20]

هذه السباحة التي بدأها أول مرة حين وقفت تعتذر، وتكرر الاعتذار، كانت تشير لابنها وتقول إنه مجرد طفل، وإنه لم يقصد الاصطدام بمائدته، وأن البط أفزعه لما خرج عن سباحته الهادئة دفعة واحدة، وأخذ في الصياح، أما هو فقال: ” لابد أن البط كان في حاجة لشيء يثير غضبه”[21].

لم يكن هذا النسق الموجود في روايته الأولى (فوق الحياة قليلا) بمنأى عن أعماله الأخرى، فقد ظهر في عمله الثالث (الحالة دايت)، ففي كتاب الموت بفصله الأول مقبرة عائلية كانت القصص تتوالد من القصة الأم وهو يعبر عن حالة الموت غريبًا، والاغتراب الذي يصيب الإنسان وهو يفقد حياته وتتساقط أوراقه ورقة ورقة في فكرته المعبرة عن الوجع وعدم وجود العدالة والتي يعاني منها المفكرون في جميع مناحي الحياة، حتى أنهم لا يقدرون على وجود مقبرة تحمي أجساد من يحبون من غبن السرقة، وتشريحها أمام الطلاب لتكون مادة يتعلمون بها، كانت القصة الأم هي موت الأب ودفنه في مقبرة تليق به وتوالدت القصص معبرة عن حالة أبيه فيقول: “في أيامه الأخيرة، أبي كان يفقد شيئًا من ذاكرته كل صباح، كأنها أوراق جافة لا تستقر على أغصانها، تتأرجح قليلاً ثم  تسقط في بحيرة راكدة، نوبات من خرف الشيخوخة تراوده وترحل كأطياف خفيفة، فتكشف في وعيه عن بؤر قديمة لحب لم ينطفئ بعد[22]” هذه النوبة بدأت للمرة الأولى” بدأت النوبة الأولى بعد منتصف الليل برغبة في الرحيل، سمعته يحاول فتح باب الشقة. كانت زوجتي قد نامت فعلاً، وأنا غفوت وتركت التليفزيون يعرض صورًا بلا صوت عن انتفاضة شباب الضواحي في فرنسا”[23]  علاقته مع زوجته التي أصبحت في تحسن بعد قيامها بدور عظيم وإنساني، فهي التي تعامله كابن لها”  في صباح ما، استيقظت زوجتي فوجدته ممدًا على الأرض، لاحظت أن بقعة ماء كبيرة على بنطلون بيجامته، ربما خجلت من لمسها، لكنها شمت رائحة النشادر بوضوح، ثم نادتني”[24]، ففي الحقيقة هي التي “تتحمل العبء الأكبر في رعاية أبي منذ جاء ليعيش معنا تفعل ذلك بصمت وحب، لا تمن علىّ به مهما أسأت معاملتها؛ لهذا كنت أشعر بالخجل من نفسي كلما فقدت أعصابي أو تنرفزت عليها كما كنت أفعل دائماً”[25] فهي التي تعاملت معه كأم تحدث صغيرها، وهي تحاول أن تهدهد حزنه فتقول:” أنا لو مكانك أخاصم الولد ده.. وما لعبش معاه تاني ..دا بيحمرأ فى اللعب…- آه.. هو حمرَؤتي.. وعياط  كمان…  لم أفهم، كيف تفرح امرأة شابة بأمومة رجل فوق السبعين؟ “[26]وهكذا توالدت القصص في هذا الفصل مساهمة في تنامي الحدث دون الاتكاء على عقدة، وظل هذا التناسق موجودًا في كل الرواية.

         في عمله الثاني (شارع بسادة) في فصل الغرباء الذين يعرفون طريقهم جيدًا حتى في الظلام، ينتقل الكاتب من القصة التي يعبر فيها عن حالة الاغتراب، تلك التي يعيشها الكثير من البشر، وحالة التمزق والتشتت المسيطرة نتيجة الصراع بين الطاهر والمدنس إلى قصص متوالدة من القصة فيعبر عن الجدة فيقول: ” في نفس اللحظة تتثاءب الجدة، ربما تكون قد نعست فعلاً، وخطفت حلمًا أو حلمين قبل بضع آيات، فقد حصلت على جرعة روحانية تمكنها من الحلم بالملاك الذي يقبلها وهي نائمة.”[27] لينتقل لقصة أخرى وهي عودة الغرباء فيقول: ” في تلك اللحظة سيكون كل شيء في نفق المحطة معدًا لاستقبال الغرباء الذين وصلوا للتو في قطار هو الأخير، وسيقف حصان بني بغرة بيضاء في انتظار رجل يقول له الناس: ياحاج وهدان”[28] لينتقل لقصة العربجي رجب وانتظاره في محاولة الفوز بليلة مختلفة”  أما العربجي رجب فسيبقى قليلاً في انتظار رجل لم يظهر بعد مع أن رجب جاء خصيصًا من أجله، سيغفو قليلاً فوق عريشته، وسيحلم غالبًا – بوجبة عشاء دسمة ومضاجعة خرافية تعوض خيباته السابقة.”[29] ينتقل لموظف السجل المدني “”ستتعرفون عليه بسهولة بدين أصلع، له بنطال واسع يتدلى تحت كرشه، فيترك براحًا لخصيتين مصابتين بالدوالي، مبتسم بلا سبب… في غفلة من الكبار الذين يحترمونه بالرغم من مخاوفهم أن تنخدع النساء بالذي بين فخذيه يتدلى “[30] لينتقل إلى مدير بنك ناصر وهكذا تتوالد القصص معبرة عن حالة الاغتراب والأرق الذي يعيشه هؤلاء بين الطاهر والمدنس إنهم جميعًا يشتركون في هاجس واحد كبارًا كانوا أو صغارًا حتى شيخ الأزهر وقصته مع الفتاة في هذا الفصل توالدت قصص من القصة الأم المعبرة عن حالة الاغتراب والصراع المعيش بين المدنس والطاهر.

        الكاتب حين يلجأ لنسق التضمين يكون له هدف توزيع الحدث على المستويات السردية، فحين يسرد الراوي جزءًا من القصة الأم ويتوقف؛ ليتفرع لمجموعة من القصص المتفرعة التي تساعد على تنامي الحدث في القصة الأساسية والقصص المتفرعة تعمل على الكشف عن الاتجاهات الفكرية للقصة الأساسية، بل أحيانًا يكون هناك اختلاف في الرؤية وذلك للتأكيد على فكرة الحدث الأساسي.

هذا الاتجاه يساعد على عدم الإفصاح المباشر ما يجعلها محاطة ببعض الغموض الذي يجعل المتلقي في حالة انجذاب لمعرفة القادم فيتتبع الحدث بشيء من الـتأني، وهذا الاتجاه تعتمد عليه القصة الحديثة التي تبتعد عن رتابة التتابع الذي قد يدفع إلى توقع النهاية دون بذل المزيد من المثابرة لمعرفة ما هو قادم، وهذه الأنساق المتبعة في القصة القصيرة أصبحت مستخدمة في الروايات التي تعتمد على مجموعة من الأحداث المختلفة والتي تتجمع في النهاية لحدث واحد؛ وكأنه جداول تأتي من اتجاهات مختلفة لتصب في نهر له مجرى واحد.

                     *    *    *

        إن استخدام النسق التضمني أو التتابعي لا يعني أبدًا أنهما بمنأى عن الأنساق الأخرى بل متشابكان معها للمساعدة على توالي الحدث ومنها النسق الدائري؛ ذلك النسق الذي يبدأ من النقطة صفر في الحدث ثم تتوالى الأحداث ؛ ليعود مرة أخرى للنقطة صفر، هذا النسق الذي لا يأتي منفردًا بل مكملاً لبقية الأنساق الأخرى كالتتابعي أو التضمني والحقيقة أن هذا النسق استخدمه الكاتب في أعماله الثلاثة، فهو الذي تحدث في عمله الأول عن المطاردة المعيشة في حياة الأدباء وعن الأزمات التي لا تتوقف، فهو يبدأ بحياة الشاعر الذي يعيش المطاردة بين الواقع المعيش وبين الخيال المجنح بالحلم، محاولاً إثبات أنه يعرف ما يعرفون بل يمكن أن يتكلم معهم في كل ما يشغلهم سواء كان ذا قيمة أو كان تافهًا لا جدوى منه غير أنه عبث فيقول:” علم بموعد المباراة من حديث مساعديه، ولأنه يحفظ بعض أسماء اللاعبين ويعرف شيئًا عن انتصاراتهم وإخفاقاتهم، ضمن لنفسه مشاركة معقولة في الحديث. يخشى أن يظنوه متعاليًا، أو راغبًا في العزلة، فكلما دخلوا عليه وجدوه دافنًا وجهه في كتاب، وثمة جدية مثيرة للبغض على وجهه، لا يرفع عينيه عن الكتاب إلا لينظر في ساعته التي اعتاد أن يترك قفل سوارها مفتوحاً”[31]، ليدخل إلى المطاردة التي يعيشها الشاعر من خلال استخدام النسق التضمني والتتابعي، ليصل مرة أخرى لنفس الموضوع في نهاية الفصل حين يقول:” وهكذا كان قراره حاسمًا في أن يعيش يومًا عاديًا، على الأرض وبين البشر، بلا قلق. وبعدها لم يتمكن من إيقاف سيل القرارات البشرية، كأن يخوض مع مساعديه في الحديث عن مباراة كرة القدم المتوقعة، أن يبدي رأيه في بعض اللاعبين مستعينًا بأفكار عن مهارات رياضية مارسها في صباه، ثم شاركهم في التنبؤ بنتيجة المباراة، آملاً في حدسه كشاعر، ينجح في تنبؤات كثيرة قد تتعلق بمصائر الشعوب.”[32].

        إن هذه العودة ليست تكرارًا لنفس الحدث الذي يدفع إلى حالة من التوقف، لكنه التكرار الذي يدفع لنمو الحدث وعودته لمساره الذي يهدف له الكاتب من خلال المطاردة والتي سبق وإن تحدثنا عنها، لم يكن فقط هذا المثال، لكننا وجدنا هذا الأمر متكررًا في عمليه (شارع بسادة والحالة دايت).


[1]– سيرد الحديث عنها لاحقا في علاقة الراوي بالشخصيات.

[2]– ( آلان روب جرييه) نحو رواية جديدة، مرجع سابق، ص20.

[3]– فوق الحياة قليلا، ص31.

[4]– أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر، الباحث مهدي صلاح ـ صدر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة عام 2006م، ص193.

[5]–  فوق الحياة قليلا، ص12.

[6]– انظر مؤتمر أدباء مصر في دورته الثالثة والعشرين ( أحمد أحمد عبدالمقصود ) ( 23 ).

[7]– انظرد. صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، دار نشر المدى 2003، ص20.

[8]– حميد لحمداني ، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي للنشر، لبنان، ط1 ،1991ص39.

[9]– فوق الحياة قليلا، ص11.

[10]– السابق، ص11.

[11]– السابق، ص12.

[12]– السابق، ص12..

[13]( Halliday & Hasan: Cohesion in English, London, Longman.1976, p.31.

[14] – الأزهر الزناد: نسيج النص (بحث في ما يكون به الملفوظ نصًّا)، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، هامش 4، 1993، ص 76.

[15]– السابق، ص33.

[16]– الحالة دايت، ص56.

[17]– محمد القاضي ومجموعة من الباحثين، معجم السرديات، دار محمد علي للنشر تونس، ط1، سنة، 2010، ص336.

[18]– انظر. شاكر عبد الحميد، الفكاهة والضحك رؤية جديدة، عالم المعرفة 289 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، ص447.

[19]– فوق الحياة قليلا، ص33.

[20] – السابق، ص33.

[21]– السابق، ص 36.

[22]– الحالة دايت، ص9.

[23]– السابق، ص9.

[24]– الحالة دايت، ص9.

[25]– السابق، ص11.

[26] – السابق، ص14.

[27] – شارع بسادة، ص 9.

[28] – السابق، ص 10.

[29] – السابق، ص 11.

[30] – شارع بسادة، ص12.

[31]– فوق الحياة قليلا، ص9.

[32]– السابق، ص9.

الإعلانات

في بعض الأحيان، قد يرى بعض من الزائرين إعلانًا هنا،
بالإضافة إلى شعار الخصوصية وملفات الارتباط في أسفل الصفحة.
يمكنك إخفاء هذه الإعلانات تمامًا عن طريق الترقية إلى واحدة من الخطط المدفوعة لدينا.

قم بالترقية الآن استبعاد الرسالة

أضف تعليق