أنسنة الأشياء في قصة وأعود إلى طاولتي للكاتبة نرمين دميس

 

 

قلم: منال الرويني

 

لم أجد مفتتحاً  لهذه القراءة أفضل من كلمات  الدكتور/ مصطفى الضبع في دراسته النقدية التي تحمل عنوان تشكلات الأشياء في القصة القصيرة حيث يقول:

 

 “” تظل الأشياء على حيادها في الواقع حتى يأتي الفن ليجعلها في سياق قادر على إخراجها من حياديتها.إنها تقيم حواراً صامتاً بينها و بين الإنسان ،تعبر عن كثير من طبائعه و أحواله و قادرة على الإشارة إلى حالته الاقتصادية والاجتماعية و النفسية.مع الأشياء تتسع مساحة الرمز ، عندما يكون على المتلقى بذل الجهد التخييلى لملء المسافة الفاصلة بين الإنسان والشيء ، من حيث دلالة الأشياء على الإنسان ، أو بعبارة أخرى يكون على المتلقى إدراك العلاقة القائمة هناك في العمق بين الشيئ من حيث هو رمز يحيل إلى الإنسان في النهاية فالإنسان في النص يحيل إلى نفسه ، مقصود لذاته قد يجسد قيمة ولكنه في النهاية أنانى يحيل إلى نفسه “”

 

*******

 

كان الكاتب ولايزال متعاطياً مع الأشياء من حوله ينتمي إليها و تنتمي إليه ،تصنع عالمه و تشكل بيئته ،قد يعاديها أحياناً إذا كانت عقبة في طريقه و قد تنبني عليها سعادته إذا إرتأى إنها تمثل له أهمية أو معنى ما و عندما لجأ الأدباء قديماً إلى استخدام تقنية أنسنة الأشياء و الكائنات الغير عاقلة و التحدث على لسانها   متكئين على أسلوب الرمز و اللعب على قدرة القارئ على  حل شفرة الرمز المقصود و إحالته للإنسان سياسياً تارة و إجتماعياً تارة أخرى فإن الكاتب المعاصر له شأن آخر لا يلغي فكرة الرمزية و إنما يتماشي معها بجانب فكرة أخرى  و هى التواصل مع الأشياء و رؤيتها من منظور جديد يمد حبل الصلة بينه و بين جميع الموجودات من حوله  وسط عالم ينحو إلى تحويل الإنسان إلى آلة مبتعداً عن محيطه معزولاً عن الطبيعة من حوله .

في اكثر من نص اعتمدت الكاتبة فكرة أنسنة الحيوان  ففي  قصة بعنوان ديجاڤو و من  خلال الراوى العليم استطاعت التعبير عن مشاعر الحيوان   و اضطراب العلاقة بينه و بين صاحبه في ظل أحداث فيروس كورونا   و في قصة لها بعنوان عجز مر وظفت الراوي العليم أيضاً للتعبير عن مشاعر شجرة تقف عاجزة عن مد يد المساعدة لإنسان يحاول الإنتحار بإلقاء نفسه في النيل ، و في قصة تحمل عنوان طبق فول نقلت لنا إحساس هذا الطبق بالغياب و افتقاد  أحد أفراد العائلة الدي كان يحب تناوله على مائدة رمضان ،أما في في قصة اليوم التي تحمل عنوان ” و أعود إلى طاولتي” فإن الذات الساردة نفسها و هى الوردة هي التي تتولى الحكي من البداية للنهاية   تاركةً لنا حرية التأويل

 

 

** العنوان**

و أعود أعود لطاولتي… عنوان استباقي ينبئنا أن  كل ما سنقرأه  الآن هو ما حدث قبل حرف العطف الواو أي   قبل أن تعود  إلى طاولتها . كلنا يعلم تلك الأغنية الشهيرة للفنانة ماجدة الرومي التي كتبها نزار قباني بعنوان كلمات التي تنتهي بجملة ” و أعود أعود لطاولتي لا شئ معى إلا كلمات”  . إنها تحمل معنى الخزي و الخذلان، أما هنا فلا نعلم تحديداً المعنى المقصود إلا بعد قراءة النص ..سنرى!

 

**تأويل النص**

تأخذنا الذات الساردة في رحلة  داخلية تبثنا محنتها الوجودية ..سطور قليلة و ندرك أن الراوي هو وردة في زهرية على إحدى طاولات أحد   المقاهى ،تنفخ الكاتبة الروح النابضة بالحياة لفي تلك الزهرة الوحيدة التي يعزف الرواد عن الجلوس الى طاولتها فتزفر أنات الفقد و الاغتراب فلا ندري هل تشكو آلامها أم آلامنا نحن ؟

إنها ذات يوجعها التماثل و انعدام الشعور بالتميز “أقبع وأخواتى فرادى فى زهريات بيضاء مستديرة الجسد، ذات رقاب طويلة ورفيعة، نطل منها برؤوس حمراء صغيرة، هكذا أرادنا مهندس الديكور الأحمق هو الآخر، توائم متماثلة لا يميز إحدانا شيئا”.

نحن أيضاً يوجعنا أننا أصبحنا نسخ مؤدلجة ،نسخ لا معنى و لا قيمة لها في عالم لا يمل اسنتساخنا لأجل خدمة المادة و دوان تروسها الطاحنة بلا رحمة ….من منا يستطيع الخروج من  الإطار و ترك القطيع؟

 

**وردة حمراء مهجورة على طاولة قصية ما زالت تنظر أزمتها الوجودية ، تبحث عن أى إنسان يقترب منها ليجالسها  لا ليجلس إليها ..إنه افتقاد  الأنس و الإيناس في ظل عالم موحش عزلها و عزلنا عن  بعضنا البعض كلُُ في فقاعته الخاصة حتى داخل المنزل الواحد .. مأساة إنساننا المعاصر  ! لا معنى لشئ كان بعيداً عن الفعل الإنساني فالجماد نفسه يكتسب روحاً من صاحبه  لا تستغرب  و إسأل نفسك ماذا تشعر عند زيارة منرل جدك الراحل البعيد و أنت تتلمس مقتنياته ؟

 

**ماذا تفعل و قد عافها الناس و هجرها الجميع  لائذين بطاولات أخرى خارج المقهي يتلمسون عليها تسمة صيف عابرة ؟ لم يبقى غير الذكريات ،الماضي الذي تستعيده وتغوص فيه هرباً من قبح الحاضر و قسوته ،تتذكر ذلك المثقف الذي إئتنست به و هو بصحبه كتابه و قهوته التي يتصاعد بخارها في الجو   و ذلك العجوز الثرثار الذي لم يكف عن الحكايات عبر تليفونه المحمول و تلك الأسرة الصغيرة بأطفالها الصاخبين العابثين . 

 

** الاستغراق في الذكريات لا بفيد انه مجرد مسكن مؤقت يلهينا للحظات و سرعان ما نعود إلى مواجهة اللحظة الآنية بكامل قسوتها!

 

أخيراً جاءت اللحظة المرجوة  ،أخيراً ستجد صحبة من البشر تستمع  إليهم و تستشعر ما يدور بداخلهم ،ينثرون كلماتهم في مجالها و يتجاذبون أطراف الحديث من فاه إلى فاه فتلتقط وقع أنفاسهم و صدى نبضاتهم  .. .

” شاب و فتاة قد دبرت لهما أمهاتهما لقاءً للتعارف عسى يسفر عن خطبة و إرتباط .اقتربا من الطاولة ،جلسا إليها و بدأ بينهما حوار يشي بإختلاف وجهات النظر و عدم التلاقي في شئ .. بداية غير مبشرة للأسف  ثم يكتمل المشهد  بذلك الفأل السئ  و هو انسكاب كوب المانجو و تلويث الطاولة و غرق الوردة في في مساحة من الظلمة حيث يطوي النادل المفرش  و داخله الفازة و الوردة و كوب العصير المسكوب و ينتهي الأمر بهم إلى صندوق القمامة

 

 “

غاب عنى الهواء وأظلمت الدنيا، وصار جسدى يتقلب رغما عنه فى بقايا المانجو، ترى إلى أين تذهب بنا مهرولة هكذا؟! لا بد أنها ستقوم بتنظيفنا وما هى إلا لحظات حتى أعود إلى زهريتى على الطاولة، أفقت على جسدى يهوى ساقطا فى حفرة عميقة مظلمة، تزدحم بالصلب واللزج، تفوح منها روائح لم أشم مثلها من قبل، وفى حركة مباغتة وبينما لم أع مستقرى بعد إثر سقوطي، سدت فوهة الحفرة، فخيم علينا ظلام دامس، بات الأمل يراودنى كلما انفتحت الحفرة وتسلل منها بصيص من نور، لأكتشف أنها مراسم استقبال ضيف جديد، ورغم تراكم الزوار فوق رأسى الصغير، إلا أننى ما زلت أنتظر بينما يأتينى صوت «ماجدة الرومي» تشدو قائلة:��« وأعود أعود لطاولتي».

 

** الخاتمة**

نعودإلى العنوان الذي يحمل نفس الجملة الخاتمة و الذي يعتبر  الخبر  الذي يغلق النص بإعتبار أن ما قبله هو المبتدأ  الذي أوصلنا لتلك النهاية  .هنا نلحظ أن التناص الحادث بين أغنية ماجدة الرومي و القصة قد يبدو متضمناً نفس الألفاظ  و لكن  ليست نفس الدلالة  ففي حالة الأغنية  تعود البطلة محملة بالخذلان و الافتقاد فهى لا ترغب في العودة إلى طاولتها خالية الوفاض مبتعدة عن حبيبها الذي  عايشت معه  حالة شعورية لا تود الخروج منها  حيث تقول ( و أعود  إلى طاولتي لا شئ معنى إلا كلمات) .إنها لاتريد أن تعود إلى طاولتها ، بينما الوردة  التي لقيت مصيرها بإلقائها في صندوق القمامة تود لو ترجع إلى طاولتها  لتأتنس بهولاء البشر  و حكاياتهم  لدرجة إنه في كل مرة يفتح أحدهم صندوق القمامة و تري بصيص الضوء تظن أنه الفرج و إنها ستعود إلى مكانها الطبيعي لكنها تصطدم أنَّه زائر جديد مثلها يتم إلقائه في الصندوق ثم يغلق عليهم جميعاً .

 

 

 

.

أضف تعليق