شاهد تحت الطلب. قصة: محمد فيض خالد

ي

لم اعرف من جنس البشر رجلا يبدي كل هذا التساهل، يبيع ضميره لمن يدفع مقابله ،فاحت سريعا دناءته بين الأهلي كوغد لئيم، لا يعرف للمروءة قدرا، ولا يسحب للشرف حسابا، يتنكر لكل فضيلة ، لايجيد من فنونالحياة سوى أن يكون طوع أمر الجنيه.

يعرفه الناس منذ زمن بعيد يتردد على المحاكم والنيابات ونقاط الشرطة ، وفي مندرة العمد تتعالى أيمانه المغلطة يرددها في استبسال :” والله العظيم تلاته ، وحياة عيالي” ،ثم يشرع في سرد تفاصيل شهادته الملفقة ، وعلى قدر الأجر تلتهب الأيمان، وتشتد وطأته على الخصم، بطاقته  حاضرة في محفظته الجلد الكالحة، ما أسهلها حين ينتزعها من جيبه ، وابتسامة مفتعلة تغرق سحنته المغبرة ، ويده تكر حبات مسبحته الخشبية في خشوع ، وتنهيدة طويلة تنفلت من صدره ، تحتك بأخشابه فتحدث فحيحا كفحيح أفعى عجوز.

صدقني ، حين أخبرك فانا لا أعرف له مهنة غير هذا العمل ، يتكسب منه ما يكفي شؤون بيته ، يأكل قلبه الفضول حين تعلن زوجته في اقتناع ورضاها الكامل عن صاحبها، تقبل ظهر كفيها تقول ممتنة :” الحمد لله الأحوال عال ، وربك لا ينسى أحدا ” ، كشاهد زور لم يكن ليرضي أبناء عمومته ، يرون في افعاله ما يشين العائلة ويهز مكانتها ،ويجعلها أضحوكة بين الفلاحين ، لكنه يمضي مدفوعا برغبة عارمة ، يضرب بتحفظهم عرض الحائط في كبرياء، لا يتوقف عن امتعاضه ، ولا يتورع عن الانتقاص من قدرهم على الملأ ، يلعن الرحم التي ربطته بهذه الشرذمة الحاقدة ، ينتفخ في خيلاء حين يصرح بأنه محسود من أقرب الناس إليه لنجاحه.

تتزاحم زبائنه عليه آناء الليل وأطراف النهار مثنى وثلاث ورباع ،يستقبلهم في حفاوة ، ويشيعهم في ثقة وتلطف ، يعرف جيدا ما يتوجب عليه فعله ، يحفظ الأسماء عن ظهر قلب ، ويسترجع الأحداث في خفة ومهارة ، يطوف بين يدي الحكم بلا تواني ن فكلامه غاية في الاقناع ـ وجمله المرصوصة محبوكة قد تمرس عليها وتعودها ، لا يهتز جنابه ولا يتململ ، ولا ترهبه هيبة القاضي ، اعتاد طقوسا غريبة قبل كل شهادة ، ينضح وجهه بالماء البارد وهو يغمغم في هدوء :” كلنا ولاد تسعه ،يا شيخ سيبها على سيدك ” ، يجهل أغلب الناس اسمه كاملا وأنا أولهم ، فهم لا يهمهم من الأساس في شيء ،فشهرته الكبيرة أغنت عن التدقيق ، ما إن تذكر ” محروس الزور ” إلا وينفلت مخزون الأفواه في رشقات متلاحقة ، متبوعا بعبارات منتقاة من أقذع الشتائم وأقساها من قبيل :” اخص الله يخيبه البعيد” ” شاهد الزور الضلالي ” ” دا ابن حرام مصفي ” وغيرها كثير من النعوت التي لا تليق إلا بوغد حقير.

تعود الا يفارق المقهى إلا لضرورة ، صديقا تراه يندس بين رجال المباحث فهم يألفوه، يتردد بانتظام على مكاتب المحاماة ، يطلبونه بالاسم فهو رجلهم المفضل وقت الحاجة ، يتباهى في سخف بهذه الصداقات المهلهلة ، يعتبرها من دلائل محبة الله لعباده ، فمن أحبه مولاه حببه لخلقه .

في صباح يوم غائم ، اهتز على غير العادة باب البيت تحت طرقات يد غليظة ،اندفع رجال غرب في ثياب ميري ، ارتفع بكاء صغيره فوق كتف أمه التي ألجمتها المفاجأة ، قال لها كبيرهم في عنف :” المحروس جوزك فين ؟ ” وفي المركز كانت في انتظار الضيف قائمة طويلة من الشكاوى ، أصنافا من التهم الكيدية ، ليستمر  خمسة أشهر في دوامة التحقيق قبل أن يفرج عنه بكفالة.

أضف تعليق