أرشيف الأوسمة: دكتور مجدي توفيق

أدب المهمشين. د. مجدي أحمد توفيق

لستُ أعرفُ مَنْ ابتكر العادةَ التي ألِفها الباحثون حين يفتتحون دراستهم لأي موضوعٍ بأن يستشيروا المعجم، ويعرضوا المعاني اللغوية المختلفة التي نصت عليها المعاجمُ حول المفردة التي يدور البحث حولها، لكي يحددوا المعنى اللغوي، قبل أن يتناولوا المعنى الاصطلاحي الذي هو مدارُ البحث الحقيقي ومناطُهُ وهدفُهُ . وأغلبُ ظني أن هذه العادة عربية لأن ما طالعته من مؤلفات اليونان لم أجد فيه الحرصَ نفسَهُ على الابتداء بالتمييز بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي . وإذا تذكرنا إشارة أرسطو، على سبيل المثال، إلى الأصل اللغوي لكلمة دراما نجده قد التفت إلى الجانب اللغوي بعد أن أقام الدلالة الاصطلاحية، وكان التفاته إلي اللغة عرضياً وقاصراً على ما يتصل بموضوعه، ولا ينظر إلى الدلالات المختلفة للكلمة . وكنتُ كثيراً ما أرى هذا الاستفتاح بالمعجم استطراداً غير مفيد، يعزز رأيي أن كثيراً مما تقدمه لنا المعجمُ من مادةٍ لاصلة له بموضوع البحث . ومع هذا فقد وجدتُ نفسي أتجه بدايةً إلى لسان العرب أستشيره عن كلمة ” المهمشين “، ولكني فوجئتُ بأن المادة ليس بها شيءٌ ذو صلةٍ واضحةٍ بمعنى التهميش الذي يريده الناس . كنتُ أتوقع أن أجد في المادة اللغوية معلوماتٍ كثيرةً لاصلة لها بالمعنى المراد، ولكني لم أتوقع أن تكون خاليةً مما له صلةٌ بالموضوع المراد . ذلك أن مادتها تتوالى هكذا :

” هَمَشَ : الهمـشـة : الكلام والحركة، هَـمـَشَ وهَـمـِشَ القـومُ فهم يَهْـمـَشُون ويَهْـمِـشُون وتهامـشوا . وامرأةٌ هَمَشَى بالتحريك: تُـكْـثـِرُ الكــلامَ وتُجَـلِّبُ . والهَـمـِش : الـسـريع العـمل بـأصـابعـه …. “(1).

فالمادةُ لاتشير إلى معنى التهميش المقصود . ولقد حاول من قبلُ علي فهمي ماحاولتُ ولم يجد في المعاجم العربية ما يتصل بهذا المعنى الذي تشير إليه الكلمة العربية المستخدمة حالياً والتي هي ترجمةٌ للمقابل الأجنبي في اللغتين الإنجليزية والفرنسية مثلاً(2). وقد تكون حقاً ترجمةً لكلمةٍ مثلmarginal* ولكن اختيارها للترجمة لايبرر أن تحمل المادة اللغوية المعنى الجديد؛ فلابد من وضع لغويٍّ يرشح تحميلَ المادة بالمعنى الجديد . ومايبدو لي فرضاً حسناً في هذا الشأن هو أن تكون صلةُ المادة اللغوية بالكلام سبباً لأن يسمِّيَ الناسُ الحواشي باسم الهامش . وإذا صح هذا الفرض فلابد أن تكون هذه النقلة اللغوية حديثة تاريخاً؛ لأن الغالب على التأليف العربي القديم أن تستخدم كلمة الحاشية، والمؤلفات العربية التي ظهرت في عصور التأليف المتأخرة المشغولة بالملخصات والتعليقات على المؤلفات السابقة كانت تفضل كلمة حاشية، مثلما فضَّلها الصبَّان في حاشيته المشهورة . وإذا صح هذا كله فإنه يقتضي منا تعليقين أو حاشيتين . التعليق الأولُ هو أن اختيار مادة همش لتسمية الحواشي ثم نقلها إلى تسمية المهمشين ينطوي على تقدير سلبي للحاشية، وهو أمرٌ يؤكده الشكوى المتكررة من الحواشي الكثيرة، وميل بعض الباحثين إلى استخدام نظم حديثة في الكتابة تخفف الحواشي وتقللها أو تلغيها . وهذا التقدير شديد الخطأ لأن الحواشي شديدة الأهمية في كل نص؛ ذلك أن الحواشي هي ما يوثق المادة المعرفية ويردها إلى أصولها الصحيحة، والعناية بالتوثيق هي الشرط الضروري لأي خطاب علمي باحث عن الحقيقة. وهذا التصحيح لتصورنا للحاشية يمكن – وهذا هو التعليق الثاني – أن يصحح لنا تصورنا للتهميش المقصود؛ فبدلاً من أن نرى المهمشين ليسوا قوةً تافهةً في المجتمع نراهم القوة التي تصنع الطبقات الأعلى في المجتمع، الطبقات غير المهمشة التي تتصدر العلاقات الاجتماعية والتي لولا ما تجنيه من الطبقات المهمشة ماحققت وضعها الأعلى .

وهنا نجد أنفسنا أمام التناول الاجتماعي لمفهوم التهميش في ظل علم الاجتماع، مضطرين إلى أن ننظر فيه على الرغم من أن موضوعنا الأصلي أدبي لا اجتماعي .

استمر في القراءة أدب المهمشين. د. مجدي أحمد توفيق