بورخيس العائش على الحافة.. بقلم: أحمد رجب شلتوت

كان المترجم المصري الراحل “خليل كلفت” واحدا من المفتونين بالكاتب الأرجنتيني “خورخي لويس بورخيس”، فكتب عنه المقالات وترجم نصوصا نشر بعضها في كتاب “مختارات من الفانتازيا والميتافيزيقا”، كما ترجم دراسات لعدد من الكتاب اللاتينيين من الأرجنتين وبيرو و الأوروبيين من بريطانيا وفرنسا  ونشرها في كتاب بعنوان “عوالم بورخيس الخيالية”، وأخيرا صدر له عن دار الباهية بوهران وهي دار متخصصة بالنشر الإليكتروني ثالث كتبه عن بورخيس، والكتاب للناقدة الأرجنتينية المتخصصة في أدب بورخيس “بياتريث سارلو” وعنوانه “كاتب على الحافة”.  

 

المدينة  والحواف  

يبدأ الكتاب بفصل “صورة عامة لبورخيس” لكن صفحاته ترسم صورة عامة للعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في عشرينات وثلاثنات القرن الماضي، وهي البيئة التي نشأ فيها وتأثر بها بورخيس المولود في 1899. ففي تلك الفترة نسجت بعض الأساطير السياسية حول بوينس آيرس باعتبارها آلة مركزية جاذبة وشرهة تقوم بتفريغ بقية البلاد التي لم يكن بوسعها أن تكون حضرية، وكانت الثقافة الأرجنتينية يتقاسمها الرغبة والمدينة والخوف منها في نفس الوقت.      

وبدت بوينس آيرس حينئذ  بقدرتها على استقطاب الأوروبيين مدينة كوزموبوليتانية  لكنها تعاني من عدم التجانس نتيجة الامتزاجات الثقافية والاجتماعية الجديدة. وعن تلك الحالة تقول بياتريث سارلو ” في ذلك الحين كان يمكن النظر لبوينس آيرس نظرة محدقة استعادية وضعت في البؤرة ماضيا أكثر خيالية من المواقع تماما كما هو الحال مع بورخيس ابن المدينة في مرحلته الباكرة”.                                 

لذلك يمكن النظر لأدب بورخيس على أنه النموذج الأمثل للأدب الأرجنتيني فقد تم بناؤه كالأمة الأرجنتينية من مؤثرات مختلفة، أسهمت في تشكيل فكر وإبداع بورخيس، “لا وجود لأساطير في هذه البلاد وما من شبح واحد يجوس خلال شوارعنا وهذا هو عارنا, إن واقعنا المعاش باهر, غير أن حياة خيالنا حقيرة وبونيوس أيريس الآن أكثر من مجرد مدينة, إنها بلد, وعلينا أن نجد الشعر والموسيقا, والتصوير, والدين, والمتيافيزيقيا, الملائمة لعظمتها, هذا حجم أملي وأنا ادعوكم جميعاً إلى أن تصيروا آلهة لتعملوا على تحقيقه.‏ لذا عمد إلى صياغة منها مكانا مبهما تتماس عنده نهاية الريف مع الخطوط الخارجية للمدينة غير واضحة المعالم، وهو ما أسماه ” الحواف”، ولعب بورخيس على كل معاني لفظة “حافة, ساحل, هامش, حد” حيث كانت لفظة “حافة” تصف أحياء الضواحي الفقيرة التي كانت تقع في جوار قريب إلى سهول البامبا المحيطة بالمدينة آنئذ.‏ وتملك تلك الحواف سمات مكان خيالي, هو فضاء يتوسط السهول والمنازل الأولى للمدينة القديمة. في ضوء ذلك يبدو بورخيس كاتبا كوزموبوليتانيا بقدر ما هو أرجنتيني في ذات الوقت، بل إن بياتريث سارلو تقول عنه ” لا يوجد في الأدب الارجنتيني كاتب اكثر ارجنتينية من بورخيس”.             

 مجازات فانتازية       

تقول الكاتبة “لم يكن هدفي الإصرار على قراءة واحدة لبورخيس، بل كان هدفي أن أقدم طرقا مختلفة لقراءته تأخذ في الحسبان الطريقة المزدوجة والمتناقضة دوما لإنتاجه الأدبي. وأنا لا أريد أن أقدم تفسيرا لبورخيس يقوم على ايثار الكاتب الكوزموبوليتاني على حساب الكاتب الأرجنتيني، أو أن اختار بين كاتب القصص الفانتازية والكاتب الذي تستحوذ عليه مسائل فلسفية. والحقيقة أن أصالة بورخيس تكمن في مقاومته لأن يكون موجودا في المكان الذي نبحث فيه عنه. ويبقى شيء ما من الكاتب الطبيعي القديم في هذه المقاومة للرد على ما يجري السؤال عنه، أو سؤال نفسه عما يراد سماعه منه”.                                                

وهنا تتطرق بياتريث سارلو إلى ما تسميه “مجازات الأدب الفانتازي” عند بورخيس, حيث تعد قصص بورخيس الفانتازية أحد الأسباب الرئيسية, وراء شهرته الأدبية. حيث أن قصصه الفانتازية تعالج: مصادر المادة الأدبية, الاستراتيجيات التي تقوم عليها الحبكة والعلاقة بين اللغة والأدب والفن. وقد استبق بورخيس الكثير من الموضوعات التي تستحوذ على اهتمام النظرية الأدبية المعاصرة “الإنتاج المتناص, الطابع الملتبس للمعنى, وهم المرجعية”.‏ وقد اقام بورخيس فن الشعر على اساس مزدوج. من ناحية كانت هناك حاجة الى ابتكار حبكات مثالية، مثل تلك التي اعجبته عند كتاب مثل كيبلنغ وستيفنسون اللذين كانا بمثابة مثالين لقاعدة جمالية مصممة من اجل تفادي طابع الفوضى وعدم التنظيم للواقع كما يحاكيه الادب الواقعي. ومن ناحية اخرى كان هناك اغراء الحرية التي يتمتع بها الادب الفانتازي بالمقارنة مع العرض وفقا للمذهب الطبيعي ونظريات الابداع الادبي الواقعية، والمحاكاة الواقعية السيكولوجية.

وتضيف سارلو أن بورخيس كان يفضل دائما القصة القصيرة على الرواية كنوع أدبي، ذلك لأنه رأى في التفاصيل غير الضرورية عبئا على حبكة الرواية الحديثة التي يتخذها شبح التمثيل والمرجعية مأوى له بصورة لا يمكن تفاديها .                  

وكان بورخيس يرى في طول الرواية، مقارنة بالقصة القصيرة، قيدا شكليا يحول دون  كمالها،  كما كانت له مواقفة الرافضة لمحاكاة الواقع باعتباره المرجع، وأعلن كثيرا سخطه على الأدب الروسي وعاب على الرواية الروسية تقديمها لشخصيات  وصفها بأنها “تنهمك دائما في سلوك متناقض وفي كثير من الأحيان سخيف”.

 

مسألة النظام

تملك القصة القدرة على أن تبني نظاما أو معنى في مواجهة عالم مختل النظام، ليس فقط بتفسير الواقع عن طريق فك شفرة إشاراته الخفية، بل أيضا بتحدي منطقه السببي والمكاني والزماني بنموذج من نوع مختلف. وبهذا المعنى فإن القصة الفانتازية تبقى استجابة مستقلة للواقع. وهي تؤكد التوتر الماثل في فعل الكتابة، عندما تنساق بعيدا عن الخطاب الواقعي الذي لا يمثل سوى طريقة ممكنة واحدة لعقد علاقة بين الفن والحياة الاجتماعية. وقد انصرف بورخيس عن أية مناقشة مفتوحة للسياسة المعاصرة في أدبه، ومع ذلك فإن مسألة الطرق التي يفرض بها النظام نفسه على جماعات بشرية يمكن العثور عليها مُفْرَغة في بنية حبكاته. فهو يدرس الشروط الأيديولوجية والثقافية للمجتمع حتى عندما يوجز معالم عوالم خيالية تنتمي بصورة مشروعة إلى أنقى تقاليد الأدب الفانتازي. والحقيقة أن قصصا مثل “تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس”، و”اليانصيب في بابل”، و”مكتبة بابل”، وهي القصص التي ناقشتها الكاتبة في فصل مستقل، تقدم صورا بديلة للمجتمع. أنها كوابيس تشير إلى أن التنظيم المؤسسي يقوم على القوة العمياء، أو القرارات المتعسفة، أو الأساطير. وكثيرا ما يجري بحث مسألة القبول بالنظام، وكذلك الشروط التي تنتج الفوضى عندما يكون ذلك النظام، لسبب ما، ضعيفا أو غائبا. وثمة ثيمة بورخيسية يرصدها الكتاب وهي : “الإنسان هو نفسه وهو عدوه، القدر يسير في طريقه عبر النتائج العمياء لأفعالنا”.

أضف تعليق