البكاءُ في لوحاتٍ (قصة اونلاين) للكاتب أحمد حنفي

تناقش القصة في أمسية قصة اونلاين الخميس الأخير من نوفمبر 24/11/2022

اللَّوحةُ الأولى

صيَّادٌ تقتُلُهُ أرواحُ طَرائدِهِ في كُلِّ مساءٍ

حَكَت لي جَدَّتي فيما حَكَت عن صَيَّادٍ دَأَبَ على صَيدِ الأفيالِ من غاباتِ إفريقيا، وكانَ شديدَ البأسِ، عظيمَ الحيلةِ، واسعَ الدِّرايةِ بعاداتِهم وأماكنَ تَجَمُّعِهِم، أنيابُهُم العاجيَّةُ التي يبيعُها لبعضِ ذوي الشَّعرِ الأشقر كانت تُدِرُّ عليهِ ربحًا وَفيرًا، لكنَّهُ، وفي كلِّ مساءٍ، يقومُ من نومِهِ فَزِعًا؛ كانت الأفيالُ التي قتلَها وخلعَ أنيابَها تُطاردُهُ بينما الدِّماءُ تسيلُ من جميعِ أنحائِهِم، أحدُهُم، وهو الأكثرُ ضخامةً، كانَ يعتصرُهُ بخرطومِهِ حتَّى تختلفَ ضُلوعُهُ، يتألَّمُ.. يبكي.. يصرخُ.. يقومُ من النومِ على سُبَابِ امرأتِهِ التي مَلَّت من ذلكَ الكابوسِ اليوميِّ، ذات ليلةٍ، أجبَرَتهُ أن ينامَ خارجَ الكوخِ، لم يكن يملكُ بيتًا من الإسمَنتِ؛ لأنَّ الأموالَ التي حصدَها من العاجِ كانت رائحتُها تُشبهُ رائحةَ المَوتِ، لم يكن أحدٌ من سُكَّانِ قريتِهِ يقبلُ بتلكَ الرَّائحةِ المُقبضةِ، تَمَدَّدَ على دِكَّةٍ خشبيَّةٍ خارجَ الكوخِ، الشَّيءُ الوحيدُ الذي لم يكن يعلمُهُ عن الأفيالِ أنَّها تُوَرِّثُ ذَاكرتَها، وكانَ الحزنُ مِمَّا تُوَرِّثُهُ الأفيالُ مع صورةِ ورائحةِ قاتلِها، بالصُّدفةِ، كانَت جماعةٌ من الأفيالِ تعبرُ المُستنقَعَ المتاخمَ، وتنَفَّسوا رائحةَ الصَّيَّادِ التي ورثوها، الأفيالُ لا تُجيدُ التَّسَلُّلَ، ولا التَّخَفَّي، لكنَّ سُكَّانَ القريةِ الذينَ سمعوا ضجيجَ أقدامِهِم تركوهم يَمُرُّونَ حتَّى يغسلوا ذاكرتَهم من رائحةِ الحزنِ للأبدِ، الصَّيَّادُ كانَ في مُنتصفِ كابوسِهِ اليوميِّ، يتألَّمُ.. يبكي.. يصرخُ، لكنَّهُ في ذلكَ اليومِ قامَ من كابوسِهِ بينما خرطومُ الفيلِ الأكثر ضخامةً يعتصرُهُ وتختلفُ ضُلُوعُهُ، الأفيالُ تعودُ إلى المُستَنقعِ وَديعةً هادئةً في الوقتِ الذي قامَت فيهِ امرأةُ الصَّيَّادِ بإغلاقِ نافذةِ الكوخِ التي تَصدُرُ من خارجِها أصواتُ ألمٍ.. وبكاءٍ.. وصراخٍ كُلَّما حلَّ المساءُ.

وبعدَ أن فرغَت جَدَّتي من الحكايةِ سألتُها: “لماذا تقولينَ لي تلكَ الحكايةَ السَّخيفةَ كُلَّما أردتُ أن أسمعَ حكايةَ الجميلاتِ الكثيراتِ والفتى الوحيدِ؟”، نَظَرَت لي وتركتني، وكنتُ أبكي بشدَّةٍ، ليسَ لأنَّها قالت لي: “أنت ولدٌ كثيرُ الأسئلةِ”، ولكن لأنَّني خشيتُ عندما أكبر أن أكونَ ذلكَ الصَّياد الذي تُقتُلُهُ أرواحُ طرائِدِهِ في كلِّ مساءٍ.

اللَّوحةُ الثَّانيةُ

العائدُ من الجَنَّةِ

حكايةٌ سمعتُها عن شاعرٍ كانَ أيَّامَ أفلاطون، وهو الشَّاعرُ الوحيدُ الذي سمحَ له أفلاطون بدخولِ مدينتِهِ الفاضلةِ بعدَ أن اتَّفقَ معهُ أن يخفي صِفتَهُ كشاعرٍ، ولا تسيئوا الظَّنَّ بأفلاطون؛ فلم يتقاضَ رشوةً منهُ، بل كانَ أفلاطون أسوأ من ذلكَ الظَّنِّ بكثيرٍ، الحقيقةُ، إنَّ أفلاطونَ كانَ يُحبُّ فتاةً من إسبرطة، كانَ يختلسُ النَّظرَ عليها وهي تتدَرَّبُ على القتالِ عاريةَ الصَّدرِ، نهداها الصَّغيرانِ اللذانِ يرتجَّانِ كُلَّما قفزَت تُسَدِّدُ رُمحًا كانا يُشعرانهِ بحرارةٍ ودَفَقٍ غريبينِ، أفلاطون سمحَ لها أن تكونَ ضمنَ طبقةِ الجنودِ، ورُبَّما مستقبلاً يرفعُها لطبقةِ الفلاسفةِ الذينَ يحكمونَ المدينةَ مقابلَ استثناءٍ صغيرٍ يفعلُهُ لمرةٍ واحدةٍ، الشَّاعرُ يُجيدُ كتابةَ قصائد الغزلِ، وأفلاطون الذي كانت لغتُهُ لا تمنحَهُ مجازًا مناسبًا لتلكَ المواقفِ كانَ مُحتاجًا إليهِ في مدينتِهِ، والاتِّفاقُ أن يسمحَ لهُ أفلاطونَ بدخولِ المدينةِ الفاضلةِ مقابلَ أن يكتُبَ لهُ مائةَ قصيدةِ غزلٍ لحبيبتِهِ الإسبرطيَّةِ دونَ أن يُخبرَ أحدًا بذلكَ وكأنَّ أفلاطون هو مَن كتبَها، لا أعرفُ لماذا العددُ مائة على سبيلِ التَّحديدِ؟!

طلبَ منهُ الشَّاعرُ -وقد كانَ ذَكِيًّا بما يكفي- أن يُعَرِّفَهُ عليها حتى إذا وصفَها؛ أصابَ، وافقَ أفلاطونُ وقَدَّمَهُ لها على أنَّهُ مَن سيُعلِّمُها الحكمةَ حتَّى تصعدَ للطَّبَقةِ الحاكمةِ، في اليومِ التَّالي كتبَ الشَّاعرُ قصيدةً يصفُ فيها طعمَ نهديها؛ مِمَّا أثارَ شكوكَ أفلاطون، وفي يومٍ آخر كتبَ قصيدةً يصفُ فيها طعمَ شهدِها الذي هو أطيبُ من العسلِ، أدركَ أفلاطون أنَّ الشاعرَ الخبيثَ وقعَ في غرامِها وضاجَعَها؛ فأبلغَ عنهُ الجنودَ أنَّهُ شاعرٌ ولا يحقُّ لهُ البقاءُ في المدينةِ الفاضلةِ، الجنودُ الذينَ اقتادوهُ إلى خارجِ المدينةِ وسمعوا منهُ حكايتَهُ قالوا لهُ: “ألم يكن من الأفضلِ أن تكتبَ عن نهديها وشهدِها دونَ أن تتذَوَّقَ؟”؛ فأخبَرَهم عن أمورٍ تتعلَّقُ بالصِّدقِ الفَنِّيِّ والخيالِ ولَذَّةِ التَّجربةِ، وجميعِها مِمَّا لا يفهمونَهُ، تركوهُ على أبوابِ المدينةِ، وظلَّ يحومُ حولَ أسوارِها الشَّاهقةِ خمسينَ عامًا ينتظرُ الفتاةَ الإسبرطيَّةَ أن تلحقَ بهِ، لكنَّها اكتَفَت أن تُلقي لهُ رسائلَ الحُبِّ من فوقِ أسوارِ المدينةِ عندما يصيرُ القمرُ بدرًا.

في مساءٍ، وقد صارَ الشَّاعرُ مُسِنًّا، شرعَ في كتابةِ قصيدةٍ يبكي فيها فتاةً إسبرطيَّةً مَنَحَتهُ الصِّدقَ الفنِّيَّ والخيالَ ولَذَّةَ التَّجربةِ، تلكَ الفتاةُ دَفَعَتها الظُّروفُ للاستسلامِ للحكمةِ القائلةِ: “فيلسوفٌ في اليدِ خيرٌ من شاعرٍ لا يدخلُ الجَنَّةَ”.. ثُمَّ ماتَ قبلَ أن يذكرَ في قصيدتِهِ ماذا قالت لهُ عن أفلاطون عندما أرادَ أن يختبرَ دِقَّةَ الشَّاعرِ في تذوُّقِ طعمِ نهديها وشهدِها الذي هو أطيبُ من العسلِ.

اللَّوحةُ الثَّالثةُ

أكلتُ حُزنًا، وكتبتُ مُعجَمًا

يبدو أنَّ الشَّاعرَ المُسِنَّ الذي ماتَ على أسوارِ مدينةِ أفلاطون الفاضلةِ قد أورَثَني ذاكرتَهُ، تمامًا كما تُوَرِّثُ الأفيالُ صورةَ ورائحةَ قاتلِها، لذا؛ فأنا من القلائل –ورُبَّما الوحيد- الذي يعلمُ ماذا قالَت الفتاةُ الإسبرطيَّةُ عن أفلاطون عندما أرادَ أن يختبرَ دِقَّةَ الشَّاعرِ في تذوُّقِ طعمِ نهديها وشهدِها الذي هو أطيبُ من العسلِ، قالت الإسبرطيَّةُ للشَّاعرِ: “وعندما ضَمَّخنَني بالعطرِ والطيبِ، وألبَسنَني قميصَ النَّومِ المفتوحِ، دخلَ أفلاطون ولم يتخلَّ عن قلمِهِ وأوراقِهِ، وتَجَرَّدتُ لهُ لَمَّا أشارَ، لم يُقَبِّلني، ولم يَشُمُّني كما كنتَ تفعلُ، تَذَوَّقَ نهديَّ مباشرةً، ثُمَّ تركني إلى قصيدتِكَ التي وصَفتَ فيها طعمَهُما، وكتبَ على هامشِها “طعمُهُما مُرٌّ من العطرِ، الشَّاعرُ لم يكن صادقًا”، ثُمَّ عادَ لي وتَذَوَّقَ شهدي، ثُمَّ تركني مُتأفِّفًا إلى قصيدتِكَ التي قُلتَ فيها أنَّهُ أطيبُ من العسلِ، وكتبَ على هامشِها “بل هو لاذعٌ، الكاذبُ خَدَعَني، من الجيِّدِ أن تكونَ المدينةُ الفاضلةُ بلا شُعراءٍ”، ثُمَّ اعتزَلَني، لكنَّهُ تركني في طبقةِ الفلاسفةِ لأنَّهُ تَوَرَّطَ في ذلكَ وخشي أن يبدو أمامَ سُكَّانِ المدينةِ ليسَ حكيمًا بما يكفي”.

لم يكن أفلاطون يعلمُ أنَّ الشاعرَ قد تَذَوَّقَها بقلبِهِ، والقلبُ أصدقُ مَن يتذَوَّقُ، ولم يكن يعلمُ أيضًا أنَّ المرأةَ عندما لا تُحبُ؛ لا تُفرزُ العسلَ، كما لم يكن يعلمُ أنَّ الشُّعراءَ يرثونَ العالمَ، والعالَمُ حياةٌ من الحزنِ تكفرُ بمدينتِهِ الفاضلةِ، تمامًا كما لم أكن أعلمُ سببًا لرفضِ جَدَّتي المُتكَرِّرِ عندما كنتُ أطلبُ منها أن تَقُصَّ لي حكايةَ الجميلاتِ الكثيراتِ والفتى الوحيدِ؛ ذلكَ أنَّها أرادَت أن تُلقِّنَني درسًا بحكايةِ الصَّيَّادِ الذي تقتُلُهُ أرواحُ طرائدِهِ في كلِّ مساءٍ؛ لَمَّا رأت في عينيَّ بخبرتِها المُستَعسِرَةِ شَبَقًا غريزيًّا للصَّيدِ، وهو ما علمتُهُ مُتأخِّرًا، وأصبحتُ أبكي كثيرًا.. وآكلُ حُزنًا.. وأتحدَّثُ لغةً لا تنتمي إلا لهُ؛ فكتبتُ لها مُعجَمًا، ولكنَّني لم أتوقَّف عن الأسئلةِ.

أضف تعليق