مجزرة خيرية..قصة: فكرية شحرة

 

وقفت تنتظر البائع المتجول حتى يعد لها ما طلبت من فاكهة الرمان وعيناها تجولان في الشارع الخالي من الزحام المفترض؛ اعتادت الخروج باكرًا لجولة صباحية وشراء ما تحتاج إليه من خضار وفاكهة قبل ازدحام الشارع .

ظلت تتأمل الأكياس البلاستيكية الفارغة وهي تتكوم فوق بعضها بفعل الريح كأنما تهرب من برد ديسمبر قبل أن تصطدم نظراتها به!

عارياً إلا من مِزق ثوب يكشف ولا يستر؛ يحاول تطويع قطعة كرتون قاسية علها تعتنق جسده البارد وتبعث فيه الدفء؛ عبثاً يحاول أن يرتديها أو يلتحفها فتظل على صلابتها كقطعة كرتون صلّبتها الأوساخ .

صدمها المشهد. كان فاقدًا لعقله. لكنها فقدت قدرتها على مساعدته.

منذ وقت طويل لم تعد تفكر بمساعدة محتاج أو تكسو عارياً كهذا. ولن تفعل ..

ستبكي حزنًا لمشهد البرد الذي أثّر على حركاته المضطربة، وستتذكر ذلك اليوم المروع والدامي الذي كانت سببًا في مجزرة ذهب ضحيتها ثلاثة رجال.

يومها حملت كيسين كبيرين فيهما ملابس رجالية لم يعد زوجها يستخدمها؛ ملابس كثيرة تكومت في خزانات الثياب في الوقت الذي لا يجد الكثير ما يستر أجسادهم من برد أو حر.

 استقلت سيارة أجرة فقد كان الكيسان ثقيلا الحمل، وذهبت إلى ذلك الرصيف الذي دائمًا ما تشاهد فيه العمال انتظارًا لطالبي العمل؛ كلما مرت من أمامهم آلمها كثيرًا رؤية الفقر جليّاً في ثيابهم ونظراتهم وملامح وجوههم التي أنهكها العوز..  

وقفت بعيداً. تفكر كيف تناولهم أكياس الثياب. وأخيراً أهتدى تفكيرها إلى طريقة لا تسبب إحراجًا لها أو حرجًا لهم .

 لاحظت وجود أحدهم يبدو كأنه مسؤول عنهم بطريقة ما فقد كان أكبرهم سنًا.

 

طلبت من أحد الأولاد المارين أن يدعوه إليها وأشارت إليه فأسرع الولد وأخبر الرجل أن سيدة تقف في ركن الشارع تدعوه لأمر ما.

أقبل الرجل والدهشة بادية على وجهه؛ فلم يسبق أن أتت امرأة تبحث عن عمال بنفسها؛ وصل إليها وقد زادت دهشته وهو يرى الكيسين الكبيرين على الرصيف .

شرحت له بسرعة عن رغبتها أن يتفضل عليها بتوزيع الملابس على العمال بحيث يأخذ كل شخص ما يناسب حجمه .راجية منه ألا يشير لوجودها فهي ستذهب لتوها .

أكملت حديثها وتحركت مبتعدة والعامل المسن يلاحقها بالشكر والدعاء على صنيعها .

لا تدري لماذا فكرت أن تملأ عينيها بمشهد السعادة البسيطة في عيون وحركات العمال وهم يتقاسمون الثياب الثمينة والجميلة .

وقفت بعيدًا تراهم يتحلقون حول الكيسين بلهفة وكل واحد يتأمل ما صادفت يداه.

حتى الآن لا تفهم كيف أنتهي الأمر بتلك الصورة المروعة ..

حين جذب أحد العمال قطعة ملابس من يد رفيقه عنوة كأنها أعجبته وأرادها لنفسه وأستمر الجذب وأرتفع الصراخ وانهالت صفعة في وجه أحدهم؛ ثم تلك المطرقة التي استقرت في رأس الصافع؛ وأخيرًا تدخل ثالث حين فقد صوابه ضربًا بأداة معدنية من أدوات العمال على رأس القاتل الأول ..

حتى الآن لم تخبر أحدًا أنها كانت سبباً في تلك المجزرة ..

وأن قتيلين دُفنا ذلك اليوم؛ والثالث ينتظر حكما بالإعدام ..

لكنها في طريق العودة إلى منزلها كانت ذاهلة تحمل أثقالًا من الحزن والندم لا تقارن بثقل أكياس الثياب في طريق ذهابها.

 

* فكرية أحمد علي شحرة كاتبة يمنية

 

     

 

 

 

 

 

م 

أضف تعليق