في التاسعة صباحا سَمَعتْ صوت تسلم هاتفها لإيميل، أرجأته لحين انتهائها من إعداد الفطور لعائلتها، ربما مرت ساعة ثم فتحته وهي تأخذ قهوتها، وجدته من “ضحى” إحدى طالباتها بالجامعة أرسلت مشروع تخرجها لتقييمه، باستعراضه وجدته مكونا من أربع لوحات، نظرت جيدا في الاسكتشات فلفت نظرها أن المرأة التي تحتل بؤرة كل لوحة مغلفة بشيء ما يشبه الغشاء الذي يلف الجنين قبل ولادته، محاطة في ثلاث لوحات بتشكيلات تشبه الدائرة، لكنها ليست الدائرة التي نعرفها، ربما استطال بعضها أو انبعج، ربما قد خمشته أظافر ما فثقبت بعض أجزائها، كما أن الألوان في مجمل اللوحات ترابية، والموجودات كثيرة لكنها مبعثرة في فراغ كبير، يستشعر الناظر كأنها تسبح في تغريبة كبرى. في اللوحة الأولى لا توجد أرض ولا سماء، شقوق كثيرة فقط تنتشر بجسد المرأة المغلف الجاف.
في اللوحة الرابعة ميزت حيوانا يشبه القنفذ وهي تتفحص بؤرة اللوحة ، قنفذ برأسه الصغير لكن الغريب أن لعينيه أهدابا طويلة ..، في طرف الثالثة أعضاء بشرية مرمية دون أن تدفن.
نسيت أثناء المكالمة أن تسألها عن المرأة المقيدة باللوحة الثانية، وكيف أطارت ريش المروحية رأسها؟ خافت من الدماء البنية التي توزعت على الرقعة كلها.
ربما مرت ساعة أخرى وإذا بها تشعر بأنها لا تستطيع أن تلتقط أنفاسها جيدا، انتبهت كأن الدوائر ــ التي ليست دوائر كما نعرفها ــ تُحلق نصف مهترئة في أسقف الغرف من حولها، لاحظت أيضا أنها كلما مرت بجوار شيء علق بها بعضٌ منه، نظرت نحو ذراعيها فاندهشت من أشواك صغيرة مدببة تنفذ من جلدها، ربما نفذت أيضا من ظهرها وأكتافها، استنكرت شعورها، واستمرت تؤدي أعمالها اليومية حيث لا تنتهي.
توقفت يداها عن كتابة أحد التقارير فجأة حين هفت روحها إلى بيت أبيها البعيد، ربما أرادت مواجهة الغربة التي باللوحات، أو الهروب من الدماء البنية تلك.
قادت سيارتها إلى أن خرجت من دوامات الغبار والضوضاء في المدينة التي تسكنها، حين خلا الطريق نسبيا من الزحام الشديد التقطت بعض أنفاسها. لكن شيئا يكتم صوت موتور السيارة، ويطفئ أنوار شاشاتها، شيء يجعلها لا ترد على هاتفها.
قررت ألا تعود، وصلت للربوة التي على حافة البحر، لم تشعر بالوقت وهي تجلس أمام الأمواج والزرقة إلا مع الغروب. بحثت عن المفتاح المخبأ للبيت بسيارتها دائما إلى أن وجدته، دخلت البيت ثم فتحت أبواب الغرف جميعها، وقفت طويلا أمام صورة لوالدها، ودت لو أنه لم يمت مبكرا هكذا، ودت لو قبَّل أطراف أصابعها كما كان يفعل في صباها وهو يقول: “لا تعاركين عالما بمفردك”. تحسست أصابعها فراعها الشوك الذي نما فوقها، جلست في مقعده المفضل بعد أن ارتدت أحد فساتينها القديمة التي حاكتها أمها بيديها، احضرت أوراق كتاباتها الأولى وبدأت في البحث عن شيء لا تعرفه، عن مساحة بهذا العالم أبدا لم تجدها، ربما تبحث عمّا كانته، نظرت للجدار الذي تحتله لوحة الجوبلان التي تحاكي رحلة صيد الغزلان، تذكرت عدد المرات التي سألت فيها والدها وهي صغيرة كيف تركهم يصطادونها بكل هذه الوحشية؟
ذهبت لتتأكد من أن الأبواب موصدة، وعاودت النظر في الحجرات، ربما كانت تبحث عمّن لم تجدهم، وقعت عيناها على إحدى المرايا فوجدت أهدابها قد استطالت على نحو غريب، لاحظت أيضا أن صوتا يصدر من اللوحة التي فوق الجدار الكبير، صوت يردد: لا تكترثي فجميعنا عابرون، وآخر يقول: “غادري، هنا ليس مكانك”، لم تعد ترى شيئا من أهدابها التي تتمدد سريعا، فقط قبل العتمة التامة، رأت شفرة حادة تنقل رأسها لمكان لا تعرفه، رقعة بلا أرض ولا سماء.