شـــاى الأصدقــــاء قصة: طلعت رضوان

 

إلى أم الشاعرعبدالصبورمنير

طلعت رضوان

    حطـّ بصرى عليها فرأيتها كتلة سوداء من الصمت وسط معزوفة العويل، يجمعها بباقى الكتل المُلتصقة سواد المآزر وزرقة الوجوه.

    رقد الجسد فى مثواه الأخير ورشّ التربى الماء ونثر الأهل الأزهار، وانتشرأطفال الرحمة.

    تحلــّـق المقرئون حول المدفن، تتمايل الرؤوس والأجساد، يتوحّد إيقاع الحركة، ويتناثر الترتيل فى غيرنظام.

    أطلقتُ عينىّ للبحث عنها. رأيتها جالسة بين النسوة المولولات ولا تبكى. قامتْ وهى تغرزأصابع كفيها فى الأرض. فكــّـتْ اشتباك الساقيْن فانغرزتْ الركبتان فى توازٍ مع أصابع كفيها. علا الظهرالمُقوّس تدريجيًا. نزعتْ ابنتها ثديها من فم رضيعها وجرتْ إليها. تناولتْ يدها وساعدتها على القيام. صلبتْ الأم عودها الهش. همستْ ابنتها فى أذنها. دفعتها الأم بطول ذراعها. حاولتْ ابنتها منعها من الحركة. وكزتها الأم بكوعها واندفعتْ نحونا.

    خطاها كبكبة. ينغرزمشطا قدميها فى التراب فيتناثرمُـزوبعًا. أحسستُ كأنّ كرات نار تتــّجه نحونا. هل تـُحرّم علينا وداعه، كما كانت تـُحذره من صداقتنا؟ وقفتْ أمامنا بهامتها الهشة، تلك الهامة التى أحببناها وخشيناها. تخيلتُ أنها تتساند على تيارات الهواء المُعربدة فى خلاء الحوش. مشتْ بعينيها على وجوهنا وقالتْ ((عاوزاكم الليله فى بيتى))

    صوتها فى أذنى يحمل طابعه وتفرده: تلك الحدة القاطعة التى تــُـخفى فى طياتها شيئــًا أخفقتُ دومًا فى تحديد اسمه. تتبعتها عيناى، رأيتها تــُـوزّع نقودها على المُقرئين وأطفال الرحمة.

    التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. سرنا فى اتجاه باب الحوش. أوقفنا صوتها ((ماشيين ليه ؟))

    تراجعنا إلى حيث كنا. انحسر ظلُ النخلة واتسعتْ بقع الشمس. قال عادل ((فاكرين وصيته لنــا؟)) حام الصمت حولنا. أخرج عادل القنبلة الموقوتة من عقولنا. دارتْ العيون فى حومة الصمت. أكانتْ وصية حقــًا؟ كان يُمازح الموت، وكنا نطرب من فكاهته ونستخف بوصيته.

    ذات مرة أوقف ضحكاتنا. غطى كتفىّ بكفيه وقال ((إنتَ تقدرتنفذها)) قلتُ ((بلاش نخلط الجد بالهزل)) اختفتْ سمات وجهه البشوشة. طالتْ أصابع كفيه عظام الكتفيْن. قال ((إزاى أقدرأقنعكم برغبتى؟)) قلتُ ((طلبك هوّ المستحيل بعينه)) خلــّـص أصابعه من كتفىْ. جرتْ الدماء فيهما. ابتعد عنى قليلا. بدا صوته ساخرًا ممرورًا ((تحلمون بالحرية والمساواة، وتعتبرون الموسيقا وقراءة الشعرعلى قبرى من المُستحيلات؟)) تدخل أمك الحجرة. يتجسّد ماحدث أمامى كأنى أرى حلمًا يتكرر. أراكَ تجلس حزينـًا شاردًا. وأرى عيون الأصدقاء مُعلقة على جدارلحظة توقف الكون عندها. نختنق بالصمت. نتنفس بوهن. تتقدّم هى بصينية الشاى. نـُـتابع جسدها النحيل المُقوّس. تضع الصينية على مكتبك وتسألنا ساخرة ((مين مات لكم ؟)) أكابد كبت ضحكة مُتفجرة. تستدير وتواجهنا ((السياسة ياما خرّبتْ بيوت)) تخرج أنتَ من حزنك وتــُـداعبها كعادتك،  فتلكزك فى صدرك كعادتها وتقول ((إنتم شباب. انتبهو لمستقبلكم)) هاهى تحمل أعقاب سجائرنا. نتأهب للتنفس. عند باب الحجرة قالت ((أنا عارفه إنكم موش مجانين ولا دراويش))

    تأملتُ أصدقائى، فارتطمتْ العيون بجدارالصمت.

    صديق يرحل وجرح يسد فوهة الحزن. أتداوى ببعض كلماته ((أنا شمعة. بقايا احتراقى ليستْ نفايات. إنها تتجمّع. تنتصبْ من جديد))

    عاشق الحياة يُمازح الموت دومًا ((سوف أراكم من قبرى  حيث تتسلل موسيقا الطفل المُعجزة موتسارت أوصوت خالد الذكرسيد درويش. أو وأنتم تتلون على قبرى أبياتــًا من شعرناظم حكمت أو..)) نقطع عليه استرساله فقال (( لماذا تضحكون؟ ألا يحق للإنسان أنْ يختارطقوس عزائه؟)) أكنتَ تـُمازح الموت أم تــُـمازحنا؟ ولكنك كنتَ تؤكد دائمًا ((إنها وصيتى الوحيدة للأصدقاء)) تذكرتُ بعض أبيات الشعرالمُحبّبة إليه. نظرتُ فى عيون أصدقائى، كانت مُغلقة. أغمضتُ عينىّ وأدركنى يقين أنّ كتل الصمت تتفتـــّـتْ تحت أقدامنا.

                                                      000

    بيوتنا مُتباعدة وضيقة. جلسنا فى مقهى نتشاور فى أمرالذهاب إليها. حلّ المساء ولم نحسم أمرنا. صوتها يقتحم غرقى فى بحرالسكون ((عاوزاكم الليله فى بيتى)) قرّرنا الذهاب إليها: نفتقد القدرة على التراجع، ونفتقد القدرة على المواجهة. ونفتقد القدرة على عصيان أوامرها.

    يستقبلنا الوجل ونحن نقترب من الحارة التى ألفتْ أقدامنا. شغل الرجال نصف الحارة، وعلى بُعد خطوات تلاصقتْ كتل السواد فلمحتها بينهنّ. نصبتْ عودها وأقبلتْ نحونا. أشارتْ إلينا أنْ نتبعها. حرّكتْ كبكبة خطاها شيئـًا غامضـًا فى وجدانى لم تمسكه ذاكرتى. فى الممرالضيق جلستْ بعض النسوة وقد وسدّنَ أفخاذهن لصغارهن. جلابيب الصغارمُشجّرة وزاهية على كتل السواد. اقتربنا من الغرفة التى شهدتْ ضحكاتنا وأحلامنا. فتحتْ الباب فأخذنا نتبادل النظرات. أشارتْ لنا بالدخول وتركتنا ومضتْ. جلستُ على أقرب كرسى وأغمضتُ عينىّ غيرقادرعلى التحديق فى محتويات الغرفة. كنتُ أفكر فى أشياء كثيرة ولا أمسك بشىء.

    طال انتظارنا فأدرتُ بصرى علــّـنى أوقف طنين الصمت: المكتب الذى تبادلنا الجلوس أمامه. الرفوف التى صنعناها معًا للكتب، الكتب التى اشتركنا فى شرائها، السريرالذى امتصّ متاعبنا.

    دخلتْ تحمل صينية الشاى فانتصبنا وقوفــًا. خفّ سميرإليها وتناول الصينية وأسرعتُ بتقديم كرسى لها. سبقنى الأصدقاء والتفوا حولها. مدّتْ ذراعيها لرأفت الذى أراحها على الكرسى. تراجعنا إلى الوراء وانتظرنا. شدّتْ ذراعيها على فخذيها فاستقامتْ القامة وأصبح الجسد قوسًا مُنفرجًا. رفعتْ رأسها إلى مستوى وجوهنا وقالت ((المرحوم ساب لى وصيه تخصكم)) ودسّتْ كفها فى طوق جلبابها. التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. خرجتْ الكف من الصدر بورقة كراسة مطوية. مدّتْ ذراعها نحو بهاء وأمرته بقراءة الوصية. ركــّـزتُ بصرى على بهاء فرأيتُ الورقة ترتعش بين يديه وهو يفرد طياتها، ورأيتُ عينيه تــُـطاردان الكلمات. تنحنح. قالت بصوتها القاطع ((إقرا)) أخذنا نُتابع صوته الذى بدأ مُتحشرجًا ثم مُتهدّجًا ثم رائقـًا:

    أوصيكِ يا أمى..

    إنْ دام صمتى ورحيلى..

    أو استقر سكنى على صدر سحابة فضية..

    أو تناثرتْ ذراتى فوق سنابل القمح..

    أنْ تفتحى غرفتى للشمس وللأصدقاء..

    أوصيكِ يا أمى بأصدقائى..

    لاحـُرموا شايك.. لاحـُرموا حنانك..

    لما توقف بهاء عن القراءة ساد صمت سميك. أحسستُ كأنى شربتُ خمرتى الأولى، وسرى فى رأسى خدرغيـّـم الوجوه والوجود، حتى انتبهتُ على صوتها المُميزفى أذنى ((جرى لكم إيه؟)) التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. لم تـُمهلنا. صوتها يشدنا إليها ((دى رغبة ابنى. كلمنى عنها كتير. وصّـانى بيها فى جواباته. مره فى جواب من جبهة القتال، ومره فى جواب من المعتقل، والتالته فى جواب من غربته)) تفاعلتْ أذنى مع طبقة الصوت. أدركنى ذاك الشىء الذى أرهقنى تحديد اسمه، كان فيضـًا من شجن يسرى فى طيات الحدة القاطعة.

    أشارتْ إلى رأفت أنْ يقترب منها وطوّقتْ رسغيه بكفيها. تحاملتْ بهما على ساعديه حتى انتصبتْ. مشتْ بقامتها المقوّسة ورفضتْ مساعدته. عندما اقتربتْ من الباب أدارتْ وجهها إلينا وقالت ((اشربوالشاى قبل مايبرد)) بعد خروجها نبّهنا بهاء إلى أكواب الشاى المُستكينة فى أيدينا.  عندما رفعتُ كوبى إلى فمى، سرى بخار واهن فى أنفى. كان السائل قد برد قليلا، لكننى استشعرتُ الرائحة والطعم المُميّزيْن. أصغيتُ لأصوات الرشفات شاردًا. انتبهتُ على صوت سميرالرائق يتلو قصيدة الراحل (ما تيسّر من سورة العبور) عندما انتهى أخرج عادل علبة سجائره ودار بها علينا. تجمّعتْ الأكواب فى الصينية ودارعود ثقاب يُـشعل سجائرنا.

                            

أضف تعليق