لويس عوض في ذكراه “ملف خاص” إعداد ماهر طلبة

مفتتح

للقصة القصيرة شغف خاص  تركت أثرها على الكثيرين ، منهم الكاتب لويس عوض الذي عرفناه مفكرًا وناقدًا …لكنه  كتب رواية وحيدة هي العنقاء أو تاريخ. حسن مفتاح”التي كانت دليلا على تميزه كروائي لو كان سلك  طريق الكتابة الأدبية وتفرغ لها ، كتبت أحداث هذه الرواية بين القاهرة وباريس من أكتوبر 1946 إلى 1947 لتكشف عن قاهرة مابعد الحرب العالمية الثانية ، كذلك كان له  بعض التجارب الشعرية في ديوانه الوحيد” بلوتولاند بعض. ومسرحية وحيدة بعنوان الراهب التي تناولت الثورة الاستقلالية التي نشبت في الأسكندرية عام 296،بزعامة الوالي الروماني لوشيوس الذي لقبه الاسكندريون بأخيل وهى كانت إحدى ثورات المصريين ضد حكم الرومان ،  إضافة لكتابة القصة القصيرة ، هذه الأعمال الإبداعية  تكشف لنا عن حسه الإبداعي وموهبته الأدبية في الكتابة التي انشغل عنها بمشروعه الفكري والنقدي …. كل الشكر والتقدير للكاتب ماهر طلبة على هذا الملف

ماهر طلبة

مقـــــدمــة

لن نتحدث كثيرا عن لويس عوض هذا المفكر المصرى الكبير..  الذى ترك لنا ذخيرة كبيرة من الكتب حوالى 50 كتابا وعددا كبيرا من المعارك مازال دخان بعضها يغطى حتى الان ارض منطقتنا العربية والاسلامية وليس فقط مصر … لكن سنترك لبعض التعليقات البسيطة محاولة رسم صورة لهذا المفكر الكبير .. يقول عنه أيمن الحكيم عند مرور 28 عام على وفاته:

لم يكن لويس عوض الذى نحتفل هذه الايام بذكرى مرور 28 عاما على رحيله من النوع الذى يعتذر ويتراجع ويهادن وهو الذى جاء إلى الدنيا لكى يعترض وينتقد ولا يتوقف عن إثارة غبار المعارك حتى ولو أدمته الجراح

ويقول عنه سيد البحراوى : أنه حين يتاح لنقدنا العربى الحديث أن يدرس الدرس العميق، ويؤرخ لمراحله الأساسية، لابد أن يحتل لويس عوض منه مكانة مرموقة لأسباب عديدة .. (ويعدد لنا الاسباب)

أما لويس عوض نفسه فيقول فى كتابه “على هامش الغفران”:

ومن أراد فكرة مجملة عن صورتى فى ذهن نقادى، فهى أنى باختصار، فى يقين بعض أدباء اليسار قائد الفكر اليمينى فى العالم العربى، كما كتب عنى الشاعر المبدع عبد الوهاب البياتى وذلك الناقد اللبنانى الشريف القلم العف البيان حسن مروة، وإنى باختصار فى يقين بعض أدباء اليمين قائد الفكر اليسارى الماركسى الملحد فى العالم العربى كما كتب عنى نقاد مجلتى “الرسالة” و”الثقافة” وغيرهما، وفى يقين فئة ثالثة إنى آخر قنصل للعالم المسيحى فى مصر منذ الحروب الصليبية، كما كتب عنى الاستاذ محمود شاكر فى كتابه “اباطيل وأسمار” ، وهو الجزء الأول من مقالاته عنى فى مجلة الرسالة، وفى يقين فئة رابعة إنى داعية فكرى للقومية المصرية الفرعونية وعدو فكرى للقومية العربية كما روى عنى الاستاذ ميشيل عفلق وكما صورنى نقاد مجلتى “الرسالة” والثقافة”، وقد كان آخر نعت نعت به على سبيل الدعابة أنى قنصل اثينا واسبرطة فى ديار مصر، كما وصفنى صديقى الفنان المبدع سعد الدين وهبه فى مجلة “أخر ساعة “..

  • فقط ملاحظة تبدو غريبة .. انه عند ذكر  اعمال لويس عوض لا تذكر له قصص قصيرة .. وفقط يحدثنا الاستاذ نبيل فرج عن قصة قصيرة وحيدة تحت عنوان “احساس الحب الاول” .. نشرت فى مجلة الإنذاروهى مجلة كانت تصدر فى المنيا… اعاد نشرها الاستاذ نبيل فرج فى مجلة القاهرة بعد أن ذكر قصة العثور عليها… لكننا ايضا نجد له قصة اخرى منشورة فى مجلة اصوات تحت اسم “المصرع الأول”

118989754_1530716303795995_3716488718025762843_n

لويس عوض (1915 – أغسطس 1990) 

  • ولد في قرية شارونة، مركز مغاغة، محافظة المنيا. حصل علي ليسانس الآداب قسم “لغة إنجليزية” من جامعة القاهرة عام 1937 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وفي عام 1943 حصل على درجة الماجستير في الأدب الانجليزي من جامعة أكسفورد، وفي عام 1953 حصل علي الدكتوراه في الأدبين الفرنسي والإنجليزي من جامعة برنستون بالولايات المتحدة عام 1953.

بعد حصوله على هذه الشهادات عمل مدرساً مساعداً للأدب الانجليزي، وترقى إلى درجة مدرس ثم أستاذ مساعد في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، جامعة القاهرة في الفترة من (1940ـ 1954)، تولى رئاسة قسم اللغة الإنجليزية في عام 1954، ليكون أول مصري يتولى رئاسة قسم الأدب الانجليزي بكلية آداب القاهرة. اشرف على القسم الأدبي بجريدة الجمهورية في عام 1953. عمل بإدارة المؤتمرات في منظمة الأمم المتحدة في الخمسينيات وانضم لهيئة تحرير صحيفة الأهرام عام 1983.

اُختير لويس عوض مديراً عاماً لإدارة الثقافة بوزارة الثقافة عام 1958، كما عمل أستاذاً زائراً بجامعة كاليفورنيا للأدب المقارن عام 1974.

  • من مؤلفاته:
  • فن الشعر لهوراس (1945)
  • بروميثيوس طليقا لشلى (1946)
  • في الأدب الإنجليزى الحديث  (1950)
  • المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث (1963).
  • نصوص النقد عند اليونان (1965).
  • البحث عن شكسبير ، عام 1968
  • تاريخ الفكر المصري الحديث، عدة أجزاء (ج1 ، عام 1969)
  • أقنعة الناصرية السبعة (1976)
  • مقدمة في فقه اللغة العربية (1980)
  • أوراق العمر
  • الجوائز
  • وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي في عيد العلم 1969
  • وسام فارس في العلوم والثقافة وزارة الثقافة الفرنسية 1986
  • جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة 1988

نبيل فرج – عن لويس عوض

يعرف عن الدكتور لويس عوض (1915-1990) أنه كتب فى مراحل حياته المختلفة الشعر والرواية والمسرحية والمذكرات والترجمة الذاتية بالفصحى والعامية ، إلى جانب جهوده المتعددة فى الترجمة ، وكتاباته الأساسية فى الدراسات الأدبية والنقد وتتريخ الفكر.

وباستثناء إشارة خاطفة فى آخر كتبه “أوراق العمر” يقول فيها انه كتب قصة قصيرة فى جريدة محلية فى المنيا أسمها “الإنذار” لصاحبها صادق سلامة، فلم يرد قط ذكر أخر لكتابته القصة القصيرة على كثرة حديثه عن نفسه فى مقالاته وحواراته.

ويبدو أن لويس عوض أراد . بالاشارة الخاطفة ألا يلفت نظر القارئ إلى هذه القصة دون أن يسقطها من حسابه. ووجد الحل فى الا يورد تاريخ نشرها الصحيح ، رغم اهتمامه المبالغ فى كل كتاباته، بتحديد الأزمنة بدقة ، وذلك بقصد عدم تمكين أحد من الاطلاع عليها

ولست أظن أن باحثا يمكن أن يخطر على باله ، مهما أولى من النباهة والجلد أن الضبط الذى أخذه من لويس عوض صاحب الذاكرة الحديدية- مخالف للحقيقة، بتخطى التاريخ المذكور بأكثر من ثلاث سنين

ولولا المصادفة البحت وحدها لما أمكن لى العثور على هذه القصة القصيرة التى نشرت فى 7 أغسطس 1932.

ذلك أنى حين طلبت من دار الكتب القومية الأطلاع على مجلد السنة التى ذكرها لويس عوض، وهى 1929، خرجت بأن المجلد الذى قدم له، وهو المجلد الوحيد لهذه الجريدة السياسية الأسبوعية ، خاص بسنة 1932

وبدلا من أن أعيده، وجدت نفسى، بدافع الفضول وحده، اتصفحه بلا مبالاة وقد استبعدت من ذهنى الأمل فى العثور على هذه القصة التى يذكر كاتبها أنها نشرت فى 1929

وكم كانت دهشتى حين عثرت عليها منشورة فى صفحة كاملة فى هذا المجلد.ولهذا يعتبر العثور على هذه القصة القصيرة المجهولة ، التى مضى عليها الأن اكثر من ستين سنة، بمثابة كشف أدبى أو أثرى له خطره لانه العمل الأدبى الأول لهذا المفكر الكبير، والعمل الأدبى الاول يحمل عادة الكثير إن لم يكن كل خصائص المراحل التالية، التى يسرى فيها، بالنسبة لكل الكتاب والمبدعين ، صفات ومحاور واحدة من الأداء ومناهج التفكير

كما أن لهذا الكشف أهميته بما يثيره من تساؤلات حول ملكة الإبداع عند لويس عوض، والقيم الإنسانية والفنية التى وجهته منذ بداياته المبكرة فى سن السابعة عشرة ، تضئ إنتاجه وشخصيته التى يختلط فيها الجسمى بالروحى، والأرضى بالسماوى، على نحو ما يتجلى بحدة فى هذه القصة ، فضلا عما تثبته القصة من أن لويس عوض كتب أو جرب كل الأشكال الأدبية تقريبا.

118950345_375683620094526_788585685972830481_n

قصة : المصرع الأول

تقديم:  ماهر طلبة

يبدأ لويس عوض قصته بأننا أمام حادث تافه.. لنكتشف مع أحداث القصة أن هذا الحدث التافه ما هو الا غرق عدد من الأشخاص كانوا على متن مركب فى رحلة بحرية.. من أين يستمد هذا الحادث (الجسيم والكارثى) تفاهته، هل من كثرة تكراره.. فنحن نكتشف من خلال ذكريات النوتى أن الغرق فعل عادى، وذكرياته تحمل غرق لامرأة وغرق لصديق، كما أن زوج احدى الضحايا قد غرق واكله السمك..  أم من أن الطبيعة لا تتأثر بمثل هذه الكوارث وتظل على حالها جميلة وساكنة وهادئة وباردة.

يحاول لويس عوض فى سرده أن يفرض اسلوبا يشابه الحادثة فيكرر الجمل (الخطة الموضوعة، الجو الجميل، والميناء الجميل، والزورق الجميل…. ) ربما ليؤكد على تكرار الحدث وأن لا شئ يتغير فى الكون لمثل هذه الحوادث التافه..” فلا تزعجوا سكون الطبيعة بنقيق الضفادع”

قصة : “المصرع الأول”

ثم حدث له حادث تافه: ففى الصباح صحا حسن مفتاح وخرج فى نزهة بحرية. وخرج مع الجميلة مدام كلاداكيس صاحبة البنسيون والجميلة مدموازيل كابتناكيس ابنة اختها الجميلة مدام فوتيس من زوجها الأول الجميل الذى كان ضابطا بحريا ثم أكله السمك فى المنطقة ما بين داكار وجزائر الخالدات. وكان الجو جميلا طبقا للخطة الموضوعة. فخرجوا فى العاشرة طبقا للخطة الموضوعة، واشتروا الساندويتشات الجميلة من تورنازاكيس الجميل طبقا للخطة الموضوعة، وبلغوا الميناء الجميل طبقا للخطة الموضوعة، وركبوا الزورق الجميل طبقا للخطة الموضوعة، وبلغوا السلسلة الجميلة ذات الركام الجميل طبقا للخطة الموضوعة. ولكنهم لم يعودوا طبقا للخطة الموضوعة. لم يعد إلا النوتى الجميل الذى لم يشترك فى وضع الخطة.

فقد ارتطم الزورق بالصخور فامتلأ بالماء ثم توارى، وعرف النوتى واجبه فسبح إلى أقرب صخرة وتشبث بها. أما حسن مفتاح فلم يكن يعرف العوم، فضرب الموج بذراعيه جملة مرات ثم اختفى تحت المياه، ثم طفا مرة أخرى وضرب الموج بذراعيه جملة مرات وسعل سعالا ملحا جملة مرات، وكان آخر ما رآه مونا ربيع جالسة بين الصخور، ثم اختفى تحت المياه ولم يعد إلى الظهور. أما كلاداكيس فقد سبحت مترا ثم تخشبت ساقها اليسرى فى مياه يناير، واستغاثت باليونانية جملة مرات، ولكن النوتى الجالس على الصخرة لم يكن يفهم اليونانية فظل جالسا على الصخرة، ثم تخشبت بقية أعضائها واختفت تحت المياه. أما كابتناكيس فلم تضرب الموج ولم تسعل ولم تتخشب ولم تستغث باليونانية لأن ثوبها كان مشتبكا بالزورق فغاصت مع الزورق إلى الأبد. اختفى كل شئ تحت المياه، إلا بعض الساندويتشات وإيشارب مدام كلاداكيس وكيس تورنازاكيس وصحيفة حسن مفتاح والنوتى الجميل الذى لا يفهم اليونانية. لقد انتهى كل شئ فى عشر دقائق. انتهى بأقل جلبة ممكنة. إن البحر أزرق وجميل، والسماء زرقاء وجميلة، والصخور سوداء وجميلة، والشمس باردة وجميلة. وبقى لكل شئ جماله رغم ما حدث. وهل حدث شئ؟ جلس النوتى على صخرته يتأمل ما حدث. ولم يبد عليه أنه يتأمل حطام الدنيا. ولم يبد عليه أنه يفكر بتاتا. لقد نازعته نفسه مرتين أن يقفز فى البحر لينقذ الغارقين، ولكنه غالب نفسه الأمارة بالخير حتى غلبها، فقد ذكر أنه أوشك أن يهلك منذ شهر لأنه أراد أن ينقذ سيدة تغرق. إنه زاهد فى بطولة لا يشهدها أحد. بل هو زاهد فى البطولة ولو شهدها جميع الناس. بل هو زاهد فى الخير الذى يورد موارد التهلكة. لقد كان يحسب أن إنقاذ الغرقى أمر هين، فلما اختبره وجد أن الغريق لا يحب أن يغرق وحده. إن عباس الصعيدى بادر فى الصيف الماضى لانقاذ تلميذ رسب من الامتحان فألقى بنفسه فى الماء. فأين عباس الصعيدى الآن؟ إن أرملته تتسول الآن بعيالها الأربعة. هلك عباس الصعيدى ونجا التلميذ. إن مشيئة الله عجيبة لا يفهما أحد. (ولكن النوتى الجميل وأرملة عباس الصعيدى واخواته جميعا لا يعلمون أن التلميذ قد رسب فى الدور الثانى، ولو قد عرفوا لزاد عجبهم من مشيئة الله). جلس النوتى الجميل على صخرته السوداء يتأمل ما حدث. ولم يبد عليه أنه يتأمل حطام الدنيا. ولم يبد عليه أنه يفكر بتاتا. ولكنه كان يفكر. كان يفكر فى نفسه وفى عباس الصعيدى، فى المرأة التى أوشك أن يهلك فى إنقاذها وفى الأرملة التى تتسول بعيالها الأربعة. إن النوتى الجميل ليس له عيال أربعة ولكنه قد تزوج البنت خديجة الحلوة بائعة الفجل فى درب المحاميد، وهو الآن يذوق عسيلتها وهى الآن تذوق عسيلته. حسنا فعل النوتى الجميل.

ولكنه هز رأسه أسفا على الشباب. ونظر إلى البحر فرآه أزرق ولكنه لم يفهم أنه جميل كذلك. ونظر إلى السماء فوجدها زرقاء ولكنه لم يفهم أنها جميلة كذلك. ونظر إلى الصخور السوداء فإذا هى لا تزال سوداء، ولكنه لم يفهم أنها جميلة كذلك. ونظر إلى الشمس فهى فى السمت باردة ، ولكنه لم يفهم أنها جميلة كذلك. لقد بقى لكل شئ جماله رغم ما حدث. وهل حدث شئ؟ قال الموج الوديع: “لم يحدث شئ”. واحمرت الشمس البيضاء وقالت فى سمتها : “لم يحدث شئ، لم يحدث شئ البتة. أنا هنا منذ الأزل، وعينى ترى كل شئ. أنا أقول لم يحدث شئ، لم يحدث شئ، لم يحدث شئ البتة. قطع منا وعادت إلينا. فلا تزعجوا سكون الطبيعة بنقيق الضفادع”. وزال عن الشمس غضبها، فزالت حمرتها، وعادت بيضاء تشرق فى صمت على العالمين.

مجلة أصوات العدد 9 يوليو 1963

إحساس الحب الأول

قصة

لويس عوض

1

فى صحوات النفس أنسى كل شئ عنها ولا يبقى لى منها إلا ما يبقى للمغتسل فى بحر ضاحك من أمل تهب عليه زوابع الحياة فتذويه حتى قطرات الذكرى تفر وتشرد، وحين تأخذنى تلك النوبة التى تعتاد أصحاب الفن، تطيف بى حواشى الذكرى، وما آلمها وتهبط على من مناحى عقلى شوائب سوداء تحيل النفس إلى فن خالص لا غش فيه ولا حيوانية فترتاد النفس أقطاب الحياة.. وما بعد الحياة! فنكون مزاجا من فن باكٍ كئيب ومن فلسفات هى للفن أيضا وللحياة، وماذا فى الفن والحياة، حب وبكاء، وشئ من اللذة .. لعلها باكية أيضا.. وأما تلك الضحكات التى تخترق الصموت الواجم وذلك التعابث وذاك الهذر فما هو من الحياة.

حين تساورنى أطياف الذكرى تموج برأسى أشياء هى من الحياة.. أعنى سادرة باكية ، وفى تلك الشملة التى تلفنى كأنها  رداء الأزل تهزنى ذكريات أخرى.. ولكنها ليست من الحياة، ذكريات هى تضحك أو تكاد، فتضحكنى معها، فتنتهبنى  الحياة وما هو ليس من الحياة، ولكن تلك البارقة التى تشع فى جنوب النفس تبدد ظلمة الصدر، فأعود بفضلها هى أمرح الناس.

كان لى من الأنامل ما لزوزو الصغير أو لميمى الصغيرة.. (وسكينا) فى استرخاء، أو أنوثة إن شئت.. وأما هى فقد كانت، لا أدرى ما هى الأن، غادة لا أنضح منها، وكيف كنت أفهم النضوح فى هذه السن، ما كان بيننا لم يكن ما بين الولد وأمه.. كان يغرينى منها أشياء، وأنا مرهف الإحساس لكل نأتئ منها أو غائر.

كانت تأتى فتلقينى راقدا فى شرودى فتلقى على نظرة لا أفهمها، لعلها تهتف، انت صغير، أنت صغير.. أما أنا فكنت استنيم  إلى خيال لذيد.. أه لو فهمت ما برأسى.. تعالى إلىّ ، هنا ، هنا إلى جانبى ، تعالى أدفن نفسى بين أطوالك، أه ثديك هذا يغيظنى ، لو كان لى .. لى وحدى، ثم تسرى ببدنى سعادة سيالة فأتمطى وأقوم وقد نفضت عنى كل شئ، حتى تلك الصورة الناضجة

وتنادينى فأقبل نحوها فى هجمة وتعاودنى حمى الرقاد فأصرخ فى نار

–      أين أقبلك

فيقول والدى  فى يدها

وتقول أختى  فى جبينها

ويقول أخى مداعبا  بل فى شفتيها”

أما أنا فيهزنى شئ، لا أدرى ماذا، أندفع إلى ناحية وأطبع على ثديها قبلة كلها نار فتتراجع فى غنج.

–      اختش يا واد

أما والدتى فقد كانت تكسوها زرقة باهتة حتى يخيل إلىّ أنها تخرج من قبر! لا أدرى لماذا. هل يفعت حتى يغضبها هذا؟ أما اخى فكانت تأخذه هزة لعلها عنيفة ، ماذا؟ ألم أجد سوى الثدى أطبع عليه قبلتى، ما أفسح جسمها، هناك العنق، هناك الشعر، هناك اليد، هناك الفم، وهناك الخدان لمن يشاء! وتنصرم سويعات تنصرم معها أمال ، تبلى كأوراق الخريف.

كانت تأتى فتلقينى منكفئا على فراشى تطيف بعقلى الذى لا يفكر، إرادات يرسلها ذلك السيال الذى يطوف ببدنى فيورثه اللذة الخالدة، كانت تنادينى ولكن لا كما تنادى أخى، كانت تضم شفتيها فى استدقاق وترسل من بينهما صوتا مستطيلا، لا أدرى ماذا تعنى بذلك، لعلها كانت تحاكينى حين أنادى كلبتى “فيبى” . إذاً أنا كلب! ثم هى ذى تنادينى باسمى مرة أخرى ، اثنتين ، ثلاثا، وانا مازلت منكفئا على فراشى فى حرارة كلها لذة! أنت ، أنت تناديننى؟ تعالى هنا فى هذا الفراش الصغير فإنه يكفينا ، تعالى هنا، أرتوى منك وترتوين منى، أوه منك هذا الشباب يجرى ويتدافع ، كلى حرارة واحتراق وقد تبدر منى صيحات فى زيغ العقل وأنا منكفئ فى لذتى أكاد لا أبصر، وقد تنطلق كلمة تصبغ منها الوجنتين وتعيد تلك الزرقة الباهتة إلى والدتى ، وتلك الهزة التى أحسبها عنيفة إلى أخى .

كانت تأتى فتلقينى مستلقيا فى تأملى المحدود فأنفض عنى حتى ذلك الغبار وأقفز، لا إليها بل إلى خصرها!، ما كان أعذبه، لو كان لى وحدى، وتجلس ثم تجلسنى على ركبتيها ثم تقول فى غنجها.

–      ماذا يعجبك فىّ

فأصمت ، فتهزنى لا أدرى فى عنف وتهديد

–      ألا يعجبك هذا الشعر؟

فأصمت.

– ولا هاتان العينان.

فأصمت.

–      ولا هذا الفم.

فأصمت

–      إذاً ما يعجبك فى؟

فتأخذنى حمى ولهيب لعله كلهيب الشباب وتسرى فى بدنى تلك اللذة الهازة فأنتفض.

–      هذا الثدى. آه . لو كان لى . لى وحدى، و تحتثنى إليها حمى، فأنقض على ثديها ألصق به جسدى، فتحتجزنى غلالة كأوراق الورد، فانكص كالمخبول وأقف فى شدهة ذاهلة، منعطفا نحو ثديها تراودنى شتى الأحاسيس، وإذا بهمسة واجفة ” خذه” هو لك، لك وحدك، فينبجس من الأعماق هاتف يائس “نعم ولكن ماذا أصنع به”

2

كنت إذ ذاك جميلا لا كما أنا الأن، كانت تعلونى نعومة كاسية وطراوة تكسب الجسد تلك النضارة الفائضة، فكان وجهى يطالع من يطالعه فى إشراف وإشراق كأنه صفحة خالصة من بهاء، كنت استعرض نفسى فى المرآة، كما كانت تفعل تاييس، وأرفع منى الذراعين ثم أخفضهما أو أشيح بجانب منى إشاحة المستكبر أو اطأطئ منى الرأس فى خفر المستورة فضحها الزمان أو اصطنع نظرة من نظرات العابد الجاثى لربة فاجرة، أما شعرى فقد كان كدجوج الليل يتراخى ويتهدل، ما كان احلاه حين كانت ترف عليه النسمة فيبدو كأنه حلم طائرا.

كنت أغمض منى العين وأرخى منى الرأس على جانب من جوانب الكتف ثم اخلع عنى عذار الحياة، فإذا نحن فى جنة ورقاء الصور يحوطنا لحن تبعثه أطياف ما بعد الحياة، وسلسال من النغم تزجيه خالصا أفواه وعيون وقلوب خرساء لا تنطق ولا ترى ولا تعى، ولكنه ملكوت السحر العجيب وهى بروحها الخاتلة وجسدها الحامى راقدة لا على ظهرها بل على جانبها فى أثير المكان.

وأنا بهذا الوجه عينه، هذا الوجه الطافر والمشرئب وهذا الفم عينه، هذا الفم الذى ما خامرته بسمة ساخرة، وهذا الجبين المضئ تلفه تلك الكومة من ذلك الشعر، وأخيرا هذا القلب عينه، هذا القلب المدفون الذى ماجت به شتى الإرادات وطافت به شتى الأحاسيس والشهوات الماردة، كنت بهذا كله أتمدد لا إلى جانبها بل فيها، تحتوينى أعطافها، فمى إلى خدها ، وصدرى إلى ثدييها، تطوينى فى شملتها وتناد على ثم تتأطر، ثم تقبض بأناملها الهشة على شفتى وتدعونى أن أهتصر وتطالعنى بصفحة طاهرة، بكم تبيعنى هذه الشفة.. فأضحك فى سرى ما أحمقها، لتأخذ ما تشاء، فشفة واحدة لا تُقبل، ولكنى أعود فأتزن ثم يعلونى مبسم الهازئ وأهوى على شفتيها بقبلة متقطعة وأصرخ بهذا الفم كله.. فترتد كالميئوس وتكاد تطفر العبرة من مدمعها، ما أهون الثمن إلى.. ثم يعود إليها دمها الشارد وتعود إليها النضرة وتزدهى ثم تقبض على خصلة حماء من ذؤاباتى المتهدلة، وتدنى فمها من أذنى وتهتف فى إسرار وبكم تبيعنى هذه الغديرة.. فيعود إلىّ شعورى الهازئ وأنقض على رأسها الصغير فأغمر منه المفرق بفيض من قبل متهالكة وأتناول أذنها بهذا الشعر كله فتطوى عنى طلعة مكفهرة وتنحل غدائرها على منكبى وتهب لفحة من الريح ثم تسكن، أما هى فتهز رأسها، كأنما تنفض عنها ذلك الشعور القانط، ولا ألبث أن أبصر على شفتيها ابتسامة فيها خبث وزيف، وفى عينيها التماعات عجيبة كأنما اهتدت إلى سرالحياة ، ثم تأخذها ارتعاشة عنيفة ويرتد منها الجسد، وتهتف فى حشرجة غانجة، وقد كشفت عن ثديها، وهذا الثدى بكم تشتريه، أما انا فأتحسس موضع الثدى منى فلا أجده، وينتابنى ما اعتاد أن ينتابنى وتعاودنى حماى فتسرى ببدنى انتفاضة كانتفاضة الموت.. وأصرخ بالحياة.

وتهب لفحة أخرى من الريح هى أعتى، أفتح منى العين وأُقوّم منى وألبس دثار الحياة، فإذا نحن، بل أنا وحدى، منكفئ إلى كتابى الملعون، وهى قد طارت منى.. ولكن لا إلى الأبد بل فرت من مروج الأحلام المخصبة التى فيها حيينا بل حييت وحدى آمادا.

كانت تأتى فى خلوات من البيت وتخلع عنها كل شئ إلا سترا هو للحياء المحتضر، وكانت تراودنى الظنون أنها كانت تعنى ذلك، وماذا كان بينى وبينها حتى كانت تعنيه؟ بضع التفاتات واهتصارات وضغطات، لعلها كانت برئية أو لثمات تتراوح بين الثديين لا تعدوهما أو ارتعاشات متبادلة كأنما يبعثها سيال لا يبارح أو قبلات خرساء بين فمى المشتهى وثناياها العذاب أو دفئات لجسدى الناعم بين مطاوى جسدها الناعم مما كان يرسل فى بدنها غير الطهر. وهل – بعد كل هذا شئ، فقد كان هذا كل الحياة، ولم تكن الحياة إلا هذا. كانت ترقد وتنادينى فأندفع نحوها ولكن فى برود عجيب ليتها لم تخلع وتخامرنى  ثورة طاحنة بين التقاليد والاشتهاء، ولكن ليكن ما تريد الشهوة، وأنام إلى جانبها أو استنيم وتمضى هنيئة أو التصاقة متهالكة يتدافع فيها الدم الحامى. ولكنها لا تلبث أن تغمرنى بنظرة ميئوسة لو كنت كبيرا ثم تلقينى كأننى خرقة بالية وتتخاذل منى الجوارح! كأنها تغترف.

وتشب بين أعطافى ثورة أجرف وأعتى وتنتابنى حسرات القانط فأغمض منى العين فى لهفة وأرسلها زفرة خائرة، ثم أفتح عينى فلا أراها إلى جانبى ، لقد فرت منى إلى من يشبع منها الإحساس والعقل والعاطفة، لعلها فرت إلى أخى فهو فى ذلك أكفأ منى، ثم تعرونى نوبة ساخرة صامتة: لن تجده، لن تجده، ستعود إلى – ثم لا ألبث أن أراها وافدة تعض شفتيها وأشملها بنظرة قاسية منتقمة، فتجيب فى نظرة مستغفرة: لو كنت كبيرا، فيتراخى منى كل عطف وجارحة ويغفينى ستران من يأس ورجاء .

وبعد ذلك لا أذكرها إلا فى ليلتين، ليلة قمراء زاهية الكون حافلة بالذكرى، تلاشت فيها أشباح ما بعد الحياة وبددتها خيوط هزيلة وانية يرسلها قمر أبتر غير كالح، ولكنها كموجات السحر مبثوثة تبعث حولها طرفا من أطراف الأبد وتكشف ناحية من حقاقيه، وهى متكئة على ظهرها لا راقدة فى شرفة البيت تكسوها تلك الموجات فتغمرها بلون القمر ويتبدد ذلك اللون الخمرى الرقيق من خديها ولا يبقى لها سوى صفحة رائعة من فضة القمر، فتبدو كأنها مُلكٌ به  كل شئ حتى الطهر وإن كانت غير ذلك. وكأنها طرحت عنها ثوب العالم وكأنها فى يوم غير أيام الدنيا الفاجرة، وأما عيناها فقد تكسوهما ظلال شافة وأنية فتتبديان كأنهما ظلمة تخامر النور أو جريمة لوثاء تمازج الطهر.

وأما أنا بطلعتى المفكهرة عينها فقد كنت آجثو على قدميها فى صورة المستغفر من جريمة الحياة تحوطنى أجواء الغفران والتكفير بتضحية الموت. موت النفس لا موت الجسد. وهى فى موقف الغافر النادم. لا لغفرانه بل لتوبتى، هى لا تريدنى فى صورة النقى الصفحة، بل تريد منى صورة الفاجر الباذل. كل شئ لإحساسى وإحساسها، وكذا كنت أريدها ، لست أطيق أن اراها فى هذا الثوب طاهرة مغتسلة بالتوبة، بل أريدها للمتعة والشهوة، فلتكن هى بغياً، ولأكن أنا فاجراً.

وأما ليلتها الثانية، وهى آخر ما لها عندى فقد كانت ليلة ضريرة النجم ساقطة النواحى، تتراقص فيها أطياف الأزل والأبد وأشباح الحياة وما بعد الحياة وأرواح الليل والنهار على موسيقى حاكتها الطبيعة لنا وحدنا ولهذا اليوم وحده لا لغيره، بل ولتلك الساعة وحدها لا لغيرها.

هى تحتى تردد أنشودة الغرام الفاسق وكل ما فيها يلتهب. عيناها تلتمعان التماعات الشهوة الزائغة وشفتاها تنضحان جمرا وثدياها فائران كأنهما أتون شائط يرسلان فى بدنها أفاريق اللذة المتهالكة. أنا افترشها كما أفترش الآن البغايا وأعتصرها بين ذراعى الراعشتين وأكاد أتخلع شهوة كالذئب على الشاه جثم، كأن الدنيا ما خلقت إلا لتشهدنا وكأنه ما فى الدنيا سوانا، وهى فى تكالبها تدنينى ولا تنأى وتستفز منى كل إحساس وتئن طوراً فى ألم اللذة وتتراخى طورا فى فيضها، أما ألمها فلعله مفتعل كما تألم العاهر المتجرة، وأما تراخيها فى فيض اللذة فهو انتشاء فى غمرة الانعطاف نحو الجنس ، أما قبلاتنا الرانة فقد تقضى عهدها وصوحت تلك اللثمات الرائحة الغادية بين أثدائها وبادت تلك القبلات المتهالكة على مفرقها وراحت تلك السويعات المتألمة الشاغرة وسادت سويعات مستيقظة وتبدل الموقف فإذا بكلينا شئ غير المشتهى المكبوت وذى الغرائز الباكرة التمرد، بل أمسينا شبابا يتبادل مال الشباب كلانا فى جوف هذا الليل المتراكب الظلمة نؤدى واجب الشباب او جزءا من واجب الشباب، وهى فائضة الأنوثة، وأنا من ذلك اليوم أكاد أكتمل فى فتوتى أخذ منها حقى وأعطيها حقها وتهب علينا لفحات نسمات الصيف فتذكى نارنا والليل أيضا يخفى ما عليه أن يخفى وفى كل هذا تأخذنا الظلمة المستيقظة فتعمى عنا كل شئ  وتعمينا عن كل شئ، فنثبت فى بحور اللذة ثم نهتز كأنما نعتصر ماء الحياة وأنتفض كأنما استنزف دم الشباب.

مجلة القاهرة – يولية 1996 العدد 164

ttps://archive.alsharekh.org/Articles/212/16861/380308/4

مقالات

اللص والكلاب – لويس عوض (من كتاب دراسات فى النقد والأدب)

“من المستحيل تحديد مصدر النباح الذى ينطلق مع الهواء فى كل موقع ولا أمل فى الهروب من الظلام بالجرى فى الظلام” نجيب محفوظ

لكم ترددت قبل أن أكتب هذا المقال!..

ترددت أولا فى أن أكتبه أو لا أكتبه، فأنا لم أكتب عن نجيب محفوظ كلمة واحدة رغم كثرة ما كتب وكثرة ما كتبت. ترددت تردد المتهيب، ففى أكثر من مرة يصدر لنجيب محفوظ كتاب جديد كنت اقر ؤه، ثم أمسك بالقلم لأكتب، فيتوقف القلم تهيبا. ولم أكن أعرف لهذا التهيب علة الا خشيتى من أن أظلمه وأظلم معه نفسى، فما من مرة صدر لنجيب محفوظ كتاب جديد الا وانطلق كوراس النقاد من أنهر الصحف وعلى موجات الاذاعة وفى حلقات الندوات بتمجيده تمجيدا بلا حساب أو يوشك أن يكون بلا حساب. وما عرفت كاتبا من الكتاب ظل مغمورا مغبونا مهملا عامة حياته الأدبية دون سبب معلوم ثم تفتحت أمامه كل سبل المجد دفعة واحدة فى السنوات الخمس الأخيرة دون سبب معلوم أيضا مثل نجيب محفوظ.

وما عرفت كاتبا رضى عنه اليمين والوسط واليسار ورضى عنه القديم والحديث ومن هم بين بين مثل نجيب محفوظ، فنجيب محفوظ قد غدا فى بلادنا “مؤسسة” أدبية أو فنية مستقرة تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التى تقرأ عنها ولعلك لا تعرف ما يجرى بداخلها وهى مع ذلك قائمة شامخة وربما جاءها السياح أو جئ بهم ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة. والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التى هى نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التى تستمد قوتها من الاعتراف الرسمى فحسب بل هو مؤسسة شعبية ايضا يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار فى القهوة والبيت وفى نوادى المتأدبين والبسطاء.

بعد هذا كله لم يعد صعبا تفسير تهيبى العظيم كلما سولت لى نفسى أن أتناول نجيب محفوظ. فنجيب محفوظ عندى كاتب من أولئك الكتاب القلائل  فى تاريخ الأدب فى الشرق والغرب / كلما قرأته غلا الدم فى عروقى ووددت لو أنى أصكه صكا شديدا، ونجيب محفوظ فى الوقت نفسه هو عندى كاتب من أولئك الكتاب القلائل فى تاريخ الأدب فى الشرق والغرب كلما قرأته عشت زمنا بين أمجاد الانسان وقالت نفسى: ليس فن بعد هذا الفن ولا مرتقى فوق هذه القمم الشاهقة. وليس يجوز لمثلى أن يفسد على الناس أفراحهم كلما احتفلوا بوليد جديد، وليس يجوز لمثلى أن يشارك فى عرس عظيم كل من فيه منتش أن بأصفى السلاف و ان بمجرد الايجاء: فلقد اكتشفت فيما اكتشفت ان بعض من كتبوا عن “ثلاثية” نجيب محفوظ الشهيرة مثلا لم يقرءوا منها الا صفحات معدودات وانا شخصيا اعلن واعترف على الملأ أنى لم اقرأ منها الا جزءها الأول ، وأعلن وأعترف على الملأ أنى لن اقربها ثانيا الا حين يتاح لى أن اعتكف اسبوعين فى مرسى مطروح أو فى ظروف تتيح التفرغ لقراءة مثل هذا العمل الأدبى الخطير.

ورغم انى قرأت أكثر ما كتب نجيب محفوظ فلن أتحدث هنا عن نجيب محفوظ ، ولن أتحدث عن تطوره الفنى، وإنما سأتحدث عن شئ واحد هو قصته الأخيرة الصغيرة “اللص والكلاب” بلا زيادة ولا نقصان.

فإن أردت ان تعرف موضوع هذه القصة فى كلمات فقل أنها قصة جان ، فالجان فى القرن العشرين أو شئ من هذه القبيل. وجان فالجان هو بطل رواية “البؤساء” لفكتور هيجو، وهو نموذج اللص الذى يطارده المجتمع حتى بعد أن يستوفى قصاصه. كذلك الحال فى رواية نجيب محفوظ: فيها سعيد مهران، أو سعيد فالجان، لص شبه مثقف يدخل السجن فى اللصوصية، وحين يخرج من السجن تبدأ مأساته الحقيقية ، فهو يجد أن زوجته التى طلقته وهو فى سجنه قد خانته، وتزوجت من أخلص صديق له فى عصابته، ويجد أن ابنته الصغيرة سناء تنكره انكار الولد الذى لم ير أباه أبدا، ويجد أن أصدق أصدقائه بين المتعلمين وهو الاستاذ رؤوف علوان المحامى قد خان كل ما كان يبشر به من مبادئ لنصرة الفقراء وتأليبهم على الأغنياء، وباع تعاليمه الاشتراكية أو الشيوعية لا أدرى (فنجيب محفوظ لا يحدد لنا بالضبط هذه التعاليم) مقابل قصر جميل قرب الجيزة. وقد كان المحامى رؤوف علوان مثله الأعلى لأنه هو الذى فلسف لسعيد مهران اللصوصية وجعل من سرقة الفقراء للأغنياء مذهبا وعمق فى هذا اللص شبه المثقف نوازع النهب والسلب والسطو وقطع الطريق حتى غدا بفضله زعيم عصابة خطيرة.

ويبدو أن سعيد مهران قد تبلورت فى ضميره فكرة “روبين هود” أو اللص الشريف ، أو يبدو أنه رسم لنفسه مثلا أعلى فى الحياة هو أدهم الشرقاوى الذى جاء ذكره فى المواويل إنه يسرق الاغنياء ليعطى الفقراء ، أقول يبدو لأن نجيب محفوظ لم يرسم هذا الجانب من شخصية سعيد مهران بوضوح كاف.

أخلص اصدقائه يسلمه للبوليس ليخطف زوجته وماله، وأحب امرأة فى حياته تتخلى عنه للتزوج من تابعه الخائن الذى لا يساوى قلامة ظفر، وبنته الصغيرة ، محور أحلامه تنكره انكارها لرجل جاء من الطريق، وأستاذه وملهمه يبيع كل ما نادى به من مبادئ مقابل الجاه والحياة الناعمة، هؤلاء هم الكلاب الذين أحاطوا باللص ساعة خروجه من السجن. فلم يبق أمام اللص الا سبيل واحد هو مطاردة الكلاب وتدميرها الواحد بعد الآخر.

وفى عملية المطاردة هذه تبين أن القدر نفسه يقف فى سخرية مريرة إلى جانب الكلاب ، فحين يتسلل سعيد مهران ليلا ليغتال صاحبه اللص الخائن عليش تفتك رصاصاته بمجهول برئ استأجر شقته من بعده، وحين تسلل سعيد مهران ليلا ليغتال المصلح الاجتماعى الدعى رؤوف علوان تفتك رصاصاته بالبواب المسكين البرئ.

وهكذا يفر سعيد مهران كالقنيصة وقد خابت كل آماله فى تطهير الدنيا من الكلاب، ويبدأ طراد من نوع جديد، طراد المجتمع لهذا السفاح الجديد، فالبوليس وراءه لا يهدأ لأن هذا واجبه، والرأى العام وراءه لا يهدأ لأن الصحافة تستثيره ، أما هو فهو معتصم آنا عند بغى عاشقة له اسمها نور تعيش فى بيت على حافة المقابر، ومعتصم أناً بين المقابر نفسها حتى يحاصره رجال الأمن من كل جانب ويوشك أن ينزل بهم وبنفسه الدمار، ولكن قواه تخذله فى اللحظة الأخيرة فيستسلم للبوليس.

أما ماذا فعل نجيب محفوظ الفنان فى “اللص والكلاب” فهو قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه سيد من يبنى البناء فى أدبنا القصصى. فهو مهندس من أعظم طراز يعمل بالمسطرة والفرجار ولا أعتقد أنى أبالغ فى القول إن قلت أن بناء “اللص والكلاب” لا يقل احكاما عن بناء أعظم ما قرأت فى القصص الكلاسيكى العالمى. كل شئ فيها محسوب بأدق حساب، ولا أريد أن أقول البداية والوسط والنهاية كما يقول الاسطاطاليسيون ، ولكن اكتفى بأن اقول إن كل خصائص القصة الكلاسيكية وصلت فيه إلى حد الكمال فهو يعرف أين يتحرك واين يقف وأين يتكلم وأين يصمت، وهو يهتم بالصقل والصحة والسلامة والاقتصاد والتوازن اهتماما ليس بعده اهتمام وهو لا يتوه فى التفاصيل ولكن يركز على الجوهريات.

ولكن غريبة الغرائب فى “اللص والكلاب” أنها قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون. فهذا اللص الشريف إن صح هذا التعبير شخصية ملتهبة الخيال تستطيع أن تعيش بشهوة واحدة فى الحياة. هى شهوة الانتقام بعين القوة الملتهبة العنيدة التى سيطرت على شخصيات الأدب الرومانسى العظيم كشخصية هيشكليف فى “مرتفعات وذرينج” لاميلى بروونتى وشخصية أدمون دانت فى “الكونت دى مونت كريستو” لاسكندر دوماس الاب وغيرهما كثير فى أدب الرومانسيين حيث تسمم عقل البطل ووجدانه أو تسيطر عليه فكرة واحدة أو شهوة واحدة آكلة مدمرة تعصف به وبكل من حوله. فكيف أتيح لنجيب محفوظ، وهو على غير ما يذهب النقاد، عدو الواقعية اللدود، أن يصب كل هذا الوجدان الرومانسى فى هذا الإحكام الشكلى الكلاسيكى، هذه هى الظاهرة المحيرة حقا فى أدب هذا الأديب العظيم، وهى أيضا علة هذا الصدع الكبير فى هذا الأدب الكبير، الصدع بين مادة الفن وصورته، ذلك الصدع الذى نلمس آثاره فى باطن قصة “اللص والكلاب”.

وهذا الصدع يتجلى أول ما يتجلى فى بناء نجيب محفوظ لشخصياته. فهى بوجه عام شخصيات  مرسومة من الخارج، مرسومة بإحكام ولكنها مرسومة من الخارج رغم هذا الإحكام، باستثناء شخصية الصوفى الفقير إلى الله، وربما شخصية المومس “نور” إلى حد لا بأس به.

وحين اقول أنها شخصيات مرسومة من الخارج أقصد أن اللص الشريف سعيد مهران والمحامى المزيف رؤوف علوان وعامة اللصوص وقطاع الطرق الذين صورهم نجيب محفوظ لا يتكلمون بلغتهم وإنما بلغة نجيب محفوظ، ولا يفكرون بعقولهم وإنما يفكرون بعقل نجيب محفوظ. لست اقصد نجيب محفوظ الرجل وإنما اقصد نجيب محفوظ الفنان. كل هؤلاء ليسوا لصوصا ولا بغايا ولكنهم يمثلون فكرة نجيب محفوظ عن اللصوص والبغايا.

أنظر إلى هذا الحوار بين اللص الشريف وبين الشيخ الصوفى على الجنيدى:

“هل تستطيع أن تقيم ظل شئ معوج؟

فقال الشيخ برقة

  • أنا لا أهتم بالظلال!”

وأنا لا اعتقد أن لصا مهما كان شبه مثقف قادر على أن يجادل رجلا من رجال الله فى مشكلة تقويم ظلال الأشياء المعوجة. فاذا ما توغلا فى الحديث قال الشيخ:

  • قال سيدى انى لأنظر فى المرآة كل يوم مراراً مخافة أن يكون قد اسود وجهى.
  • أنت ؟
  • بل سيدى نفسه !

فتساءل ساخراً

  • فكيف ينظر الأوغاد فى المرآة كل ساعة”

أما الأوغاد فهم الكلاب الذين يطاردهم اللص أو يطاردونه، فالمطاردة فى نجيب محفوظ متبادلة لأن سعيد مهران فريسة وكلب صيد معا سواء قبل سجنه أو بعد خروجه من السجن والمجتمع فرائس وكلاب صيد معا. ولست أعتقد أن اللص مهما كان مثقفا أو شبه مثقف مستطيع أن يفكر فى هذه الوقفة الفلسفية التى تذكرنا بخوف “كاليبان” من أن ينظر إلى نفسه فى المرآة فى أوسكار وايلد.

ولو أنى أردت أن أسوق من أمثال هذه الخواطر والملاحظات والتعليقات ما يوضح رايى هذا لسقت مائة مثل ومثل.

ولكن كل هذا لا يغض من جمال هذا العمل الفنى العظيم. فنجيب محفوظ ومعه عامة نقاد الكلاسيكية مستطيع أن يقول : أنا لا أصف لك الواقع بحذافيره وبتفاصيله ولكنى أصف لك الواقع فى جوهره وكلياته. ليس من الضرورى أن أصف لك كيف واقع سعيد مرهان المومس نور، ولكن يكفينى أن أوحى لك بأن الليلة حين انتهت كانت قبلة امتنان “وكانت ثمة فراشة تعانق المصباح العارى فى تلك الساعة من الليل… “.

فإن أردت أن تعرف من بطل هذه القصة الجميلة قلت لك أنه ليس سعيد مهران ولكن شخص آخر لا يفكر أحد فيه ، وهو المومس نور ، بل أكاد أقول أن شخصية المومس نور من أجمل الشخصيات التى صادفتها فى أية قصة من روائع الأدب العالمى. ولا تعجب من هذا القول لأن نجيب محفوظ جعل منها البصيص الوحيد الذى يختلج (ولا أقول ينير) وسط هذا الظلام الحالك. أما رمزيتها فلا يجوز أن تخفى على أحد ، فهى شئ اشبه ما يكون إلى نور الخير، وسط غابة ظلماء لا مكان فيها الا للصوص والكلاب. نور هى النور الوحيد فى حياة سعيد مهران، نور خافت حقا ، نور لا يرغب فيه أحد حقا، حتى أحوج الناس إليه، نور لا يشع وسط الأحياء ولكنه يختلج كالنجم الباهت على تخوم الحياة حيث يلتقى الموتى بالأحياء عند مقابر الإمام. وهى أخيرا نور زائف ، زيفها من زيف هذا البغى ، التى تستطيع أن تجمع فى وقت واحد بين أطهر معانى الحب والتضحية وبين بيع الهوى كروتين يومى لا يدخل فى اختصاص على الأخلاق.

وحتى هذا النور البعيد الشاحب المختلج بين تخوم الموتى وتخوم الأحياء ، حتى هذا البصيص أطفأه نجيب محفوظ حين جعل المومس نورا تختفى فجأة لا أحد يعرف كيف ولماذا ، ولكن نرجح بسبب مهنتها وهى الدعارة إنها وقعت فى أيدى رجال البوليس، اختفت فى اللحظة التى كان فيها اللص المطارد أحوج ما يكون لا أقول إلى يد منقذة أو قبلة حانية ولكن إلى أربعة جدران يحتمى فيها ولقمة عيش يتبلغ بها بعيدا عن عيون مطارديه.

فهل رأيت تشاؤما أكثر من هذا التشاؤم الذى تفصح عنه قصة “اللص والكلاب” ؟ أنا ما رأيت تشاؤما من هذا التشاؤم الا فى قصص دوستويفسكى وبلزاك، ولا تستكثر على نجيب محفوظ صحبته دوستويفسكى وبلزاك فهو أخ لهما صغير مهما اختلف عنهما فى منهج فنه وفى صورة فنه.

وهل رأيت تشاؤما أكثر من هذه الصورة التى رسمها نجيب محفوظ للصوص أشباح وكلاب أشباح يطارد بعضهم بعضا بين القبور. فكأنما القرافة فى نجيب محفوظ هى رمز الدنيا كلها، ولا أقول رمز القاهرة وحدها أو هى الأرض الخراب التى حدثنا عنها الشعراء فى شعرهم الحزين، وكأنما البشر من الفصيلتين يعيشون فى مأساة طراد خائب من الجانبين ساحته ليست عالم النور ولا عالم الظلمات ولكن تلك التخوم التى يلتقى فيها الموت بالحياة لحظة ثم يشمل الكون كله الظلام ساكن عميق.

فن الابتسام

(من كتاب – دراسات فى النقد والأدب)

منذ أن مضى ابراهيم عبد القادر المازنى انطوى فن من فنون الأدب فى النثر العربى كان يشيع فى حياتنا البهجة ويعلمنا الابتسام. ولست أقول أن هذا الفن غريب تماما فى الأدب العربى، فألوانه الغامقة معروفة لنا فى آثار أدب الفكاهة وأدب النكتة وأدب السخرية وأدب الهجاء وكل أدب هازل أو ناقد يدفع إلى الضحك أو يدفع إلى الابتسام. نجده فى ملح الظرفاء وفى النواسيات وفى فكاهات ابن الرومى وفى نوادر ألف ليلة وليلة وما بها من أوصاف ماجنة، كما نجده فى الهجاء الساخر الكثير الذى اشتهر به الأدب العربى قديمه وحديثه من الجاهلية إلى المتنبى، ومن المتنبى إلى فارس الشدياق. والمهم فى كل هذا أن نذكر أن أدب الضحك كثير فى الأدب العربى، وأما أدب الابتسام فهو قليل. والمهم أيضا أن نذكر أن الأدب العربى لم ينح منحى غيره من الآداب الكبرى فيميز بين ألوان الهجاء الكثيرة. فهو يسمى هجاءً السبّ الصريح المقذع الموجع الغاضب القارس العابس الذى لا أثر فيه للفكاهة ولا يتخلف عنه الا التحقير واثارة التقزز. وهو يسمى هجاءً أيضا التعريض الهازل القائم على السخرية أو المعابثة، يستوى فى ذلك أن يؤدى إلى الإضحاك أو يؤدى إلى الابتسام، والهجاء العربى ككل هجاء فى العالم اساسه النقد، نقد الاشخاص أو نقد الطبائع والأحوال فى عمومها، ولكن هناك فرقا كبيرا بين النقد الصريح المباشرالذى يلهبه الغضب وبين النقد الساخر أو المتهكم الذى تلهمه مرارة الشعور. والمهم فى كل هذا أن نذكر أن الهجاء العربى كان فى مجموعه يجنح إلى الهجاء الغاضب أكثر مما يجنح إلى الهجاء الساخر أو المتهكم. رغم أن السخرة والتهكم شائعان فيه.

فالمتنبى مثلا حين يقول “نامت نواطير مصر عن ثعالبها” أو حين يقول: “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم” لا يسخر ولا يتهكم على أمة بل يسبها سبا صريحا، ولكنه حين يقول “لا تشتر العبد إلا والعصا معه”، أو يقول “من علم الاشفر المخصى مكرمة؟” انما يسخر من كافور ويتهكم عليه رغم أنه يسبه سبا صريحا. والمتنى ايضا حين يقول “والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة لعلة لا يظلم” لا يسخر من الطبيعة البشرية كلها وانما يسبها سبا صريحا. ومن هذا ترى أن الهجاء قد يكون لأمة أو لفرد أو للطبيعة الانسانية كلها، وهذا اللون الأخير كثير فى الأدب المصرى.ومنه ايضا نرى أن الهجاء قد يكون بالنقد السافر المثير للسخط أو الغضب أو الضيق، وقد يكون بالنقد الساخر أو المتهكم الباعث على الضحك أو الابتسام. والصورة المشهورة التى يرسمها ابن الرومى حين يقول فى رجل “قصرت اخادعه وطال قذاله فكأنه متربص أن يصفعا” من هذا النوع الأخير الذى يعتمد فى الإضحاك على التصوير الكاريكاتورى.

وليس فى نيتى هنا أن اتوسع فى شرح الفرق بين النكتة والفكاهة كما كان العقاد والمازنى يفعلان فى شرحهما لنظرية هازليت فيما يسمونه بالانجليزيا  “الويت” و “الهيومور” ، فالنكتة والفكاهة كلمتان غير محددتى المعنى فى اللغة العربية حتى يمكن أن نبنى عليهما نظرية فى فلسفة الضحك أو الابتسام، وإن كان من الممكن تحميلهما ما نشاء من المعانى لنعطيهما قيمة المصطلحات الاساسية فى علم الجمال ولكنى اكتفى هنا بقولى أن باب الهجاء باب واسع، وأن فيه طبقات كثيرة بعضها راق وبعضها متخلف وبعضها بين بين، واكتفى هنا بقولى أن فن الابتسام ارقى مرتبة من فن الضحك، كما أن فن الضحك ارقى مرتبة من فن السب الصريح، فالفرق بين الابتسام والضحك اشبه ما يكون بالفرق بين السعادة واللذة، الأولى دقيقة ولطيفة ودائمة، والثانية عنيفة وعصبية وموقوتة كذلك الفرق بين الضحك الساخر أو الضحك المتهكم وبين السب الغاضب الساخط هو الفرق بين العاطفة الموضوعية والعاطفة الذاتية أو بين المائل المنعكس كما يقولون وبين المباشر الغليظ.

فما السخرية أو التهكم الا ألوان من الغضب هدأت وصفيت من خشونتها وذاتيتها سواء فى الاحساس أو فى الفكر، فمكن الهدوء والصفاء صاحبها من أن يتعمق اسباب الغضب ويتقصى معادلاته الموضوعية وكلما ازداد الهدوء والصفاء ازداد العمق وازدادت القدرة على تقصى أسباب الغضب والهجاء وازدادت القدرة على الرؤية الموضوعية

ارقى أنواع النقد والهجاء اذن ما بعث على الابتسام واكثرها تخلفا وفجاجة ما كان سبا صريحا، وبينهما ما أثار الضحك الواضح العنيف. وهو عكس الفكرة الشائعة عن الكوميديا، وهى الاطار الشامل للنقد والهجاء فأكثر الناس يعتقدون أن أعلى أنواع الكوميديا ما فجر طاقة الانسان على الضحك  الهستيرى العالى الذى تسيل فيه الدموع من العيون، وان اردأها ما عجز عن الاضحاك الشديد ولم يبعث إلا على الابتسام والحقيقة هى عكس ذلك على خط مستقيم، لان الإضحاك يعتمد على التشويه المفتعل المجسم أكثر من اعتماده على التشويه الطبيعى المألوف، فهو يعتمد على النقائض والمفارقات الكاريكاتورية اكثر من اعتماده على النقائض والمفارقات الأمينة.

فالابتسام اذن فن صعب وليس فنا يسيرا، وهو أصعب من فن الضحك كما أن منال السعادة أصعب من منال اللذة، ولست ازعم بهذا أن الاديب العربى لا يعرف فن الابتسام أو لم يعرفه الا حديثا. ففى أدب الهجاء العربى، حيث لا يكون عنيفا أو مقذعا أو صريحا نماذج رائعة من أدب الابتسام، ولكن كل ما قصدت إليه هو أن المازنى، إن كان له فضل على الأدب العربى، فهو أنه عمق فيه أدب الابتسام واثراه وجدد فيه امكانيات لا تحصى كل هذا مقدمة اوردتها لاصف لك آخر كتاب من كتب يحيى حقى وهو كتاب “فكرة وابتسامة”. فمنذ أن انطوت صفحة المازنى وجيله من الظرفاء والمتظرفين ذبل أدب الابتسام حتى كاد أن ينقرض. ولكن هذه المدرسة الأدبية وجدت فى السنوات الأخيرة كاتبين لامعين جددا شبابها، كل على طريقته الخاصة، هما محمود السعدنى ومحمد عفيفى، ثم جاء يحيى حقى أخيرا فأضاف إلى ما فعلاه شيئا مذكورا. من أجل هذا كان طبيعيا ومنتظرا أن يهدى يحيى حقى كتابه الصغير الأخير “إلى محمد عفيفى ومحمود السعدنى.. لأنهما يحملان لواء الفكاهة فى بلدنا ويشيعان المرح فى قلوب أهله” ولو أن يحيى حقى كان يستخدم هذه اللغة التى استخدمها لقال : لانهما يعلمان الناس الابتسام

والحقيقة التى يجب أن ندركها فى الكلام عن هؤلاء الثلاثة، أنهم رغم انتمائهم إلى تيار واحد هو تيار الأدب الفكاهى، فإنهم فى واقع الأمر ليسوا أبناء مدرسة واحدة ولا هم أصحاب فن واحد. وأعتقد أن الأوان قد آن لكى يهتم النقاد بتحليل أدب الفكاهة بيننا جملة وتفصيلا. بما فيه أدب الكوميديا، لا تحليلا اجتماعيا أو تحليلا فلسفيا، ولكن تحليلا فنيا. فنحن نعيش الآن فى مرحلة انتعاش كوميدى، وأول ظاهرة تستحق التسجيل فيه هى أن روح الفكاهة قد انتقلت من النثر وتحددت فى المسرح، لولا محمود السعدنى ومحمد عفيفى ويحيى حقى مؤخرا وقلة غيرهم لقلنا أن مدرسة الابتسام فى النثر العربى سارت إلى زوال بعد ان بلغ فيها المازنى قمما عالية. نعم آن الآوان ليفسر لنا النقاد الفرق بين منهج كل من هؤلاء فى فن الابتسام.

اما يحيى حقى، فأعتقد أنه رغم تقصيره عن صاحبيه فى الرؤية الفكاهية الشاملة التى لا تكاد تقع على شئ فى الحياة الا وترى ما فيه من نقص ومن نقائض ومن مفارقات، ورغم تقصيره عن صاحبيه فى القدرة على ابتكار النقص والنقائض والمفارقات حيث لا وجود لها فى الحياة فهو اقرب منهما إلى روح الابتسام وبالتالى أقرب منهما إلى النقد الراقى العميق. وهذا الوجه  فى يحيى حقى ليس أهم وجوه أدبه، فيحيى حقى له خصائص اساسية جادة عرفناه بها طول حياته الفنية الخصبة هى خصائص الفنان الذى يخلق بالبناء والتركيب ولا يخلق بالنقد والتحليل، ولذا فان اتجاهه فى الفترة الأخيرة إلى أدب الابتسام أمر يستحق الدراسة حقا فى هذا الكاتب الذى يميل إلى العبوس اكثر مما يميل إلى الابتسام، ويميل إلى الماساة أكثر مما يميل إلى الملهاة.

وكتاب “فكرة وابتسامة” عبارة عن لوحات متتابعة ليست بينها صلة عضوية الا أن المفكر واحد والمبتسم واحد. وهذه اللوحات ليست جميعا على درجة واحدة من الهدوء والصفاء. وليست على درجة واحدة من ذلك الابتسام الوديع المشبع بالعطف، فإن منها لوحات تخفى وراء البسمة مرارة وغيظا وعواطف اخرى كثيرة أقرب إلى المآسى الفاجعة منها إلى التهكم أو السخرية.

انظر مثلا إلى لوحاته التى يرسم فيها النساء، ولا سيما لوحة “فاتن” ولوحة “لدغ اقسى من الصدغ ” ، فإنك لا تعرف بعد أن تفرغ من قراءتها أتبتسم أم تعبس. ففى لوحة “فاتن” يصور لنا يحيى حقى شخصية امرأة افسدها الشبع والبطر فى مواجهة خادمة جديدة تفنن يحيى حقى فى وصف قذارتها وإملاقها وقد اجتذب السيدة الموسرة البطرة فى الخادمة الجائعة القذرة رضاها بأجر شهرى اقل من القليل، وهو “أجر تصرف مثله وأكثر منه فى سهرة واحدة”، ولكن الخادمة رضيت به لشده املاقها، فلما قررت السيدة استخدام الخادمة، وكانت تحمل رضيعتها “فاتن” على صدرها، امرتها بأن تتخلص من ابنتها قائلة: “احنا عاوزينك وحدك، شوفى لك صرفة فى بنتك، انا مش عاوزة وساخة فى البيت” وعبثا حاولت الخادمة استعطاف سيدتها لتأذن لها فى استبقاء بنتها التى لا تعرف لمن تعهد بها اثناء عملها، فجاءها الجواب الذى لا يلين: ” ده شغلك مش شغلى” تارة و “آهى زيها زى غيرها”  تارة أخرى. وأخيرا: “اشاحت الست بوجهها وتناولت قطعة من الشيكولاته واخذت تمضغها كأنما عز عليها أن يضيع لها وقت فى انتظار رد تملكه خادمة

مدت الأم اصبعا نحيلا لأنه جميل إلى شفة ابنتها تحاول أن تداعبها لتبتسم وتمتمت لها بحنو عميق:

–  لو كنت تموتى.. “

وعند هذه النهاية الفظيعة لا نعرف انبتسم ام نعبس لهذا الوضع المجافى لأبسط معانى الانسانية، حيث يتمنى فقراء الناس الموت ليتخلصوا من مشاكل الحياة. واذا كان يحيى حقى قد نجح حقا فى أن يحملنا على الابتسام بما أظهره من لذة فنية فى وصف ذلة الخادمة وبطر السيدة فإنى اعتقد أنه قد هز فينا اوتارا حزينة حتى بنى المفارقة على التعارض بين حياة الأم وحياة ابنتها. أما المفارقة الكبرى التى رمى إليها برسم هذه اللوحة فهى أن صاحبة هذا القلب الضارى الغليظ الخالى من ابسط مظاهر الرحمة امرأة لا رجل، فالمأثور عن الإناث انهن يسلن رقة أمام الأمومة، حتى ولو كنّ من اناث الحيوان. وأنكى من هذا وأشد نكرا أننا نصدق يحيى حقى حين يقول لقارئه: “سأقدم لك بلا مبالغة لوحات شهدتها بعينى تقززت لها نفسى اشد التقزز، قوام كل لوحة منها امرأة، وهذا هو سبب بلواى” نعم، نعلم أن يحيى حقى لم يضف من عنده إلى الحياة شيئا، ونعلم أن “التقزز” هو الشعور الوحيد الذى يمكن أن تولده هذه الصورة الواقعية الفظيعة، ولكن السؤال الذى يجب أن نسأله: “أى نفس تشهد كل هذه المرارة ثم تحتفظ بقدرتها على الابتسام، اللهم إلا اذا كان قد ترسب فيها أن ابناء الحضيض يتوالدون كالارانب ويموتون كالذباب، وأن مشاعرهم وأحاسيسهم ازاء الحياة والموت والتوالد من مشاعر الأرانب واحاسيس الذباب”

ولكن ما ان نتقدم فى كتاب يحيى حقى حتى تخف المرارة ويكثر الابتسام:  الابتسام أمام نقائص الانسان ونقائضه الصغرى، أو نقائصه ونقائضه الكبرى التى لا تترك فى النفس غصة ولا تمزق الفؤاد، فهناك لوحات ولوحات حول بخل الناس أو تحايلهم لاقتناص مسرات الحياة ومنافعها، وهناك لوحات ولوحات حول قلة ذوق الناس وانانياتهم وتفاهاتهم. هناك صورة ممتازة عن متسولى الانفاس من الخرمانين، ومتسولى العشاء من الشرهين وقناصى المال من الغشاشين، وهكذا دواليك . وحين تختفى المرارة تماما ولا يبقى الا الابتسام تحس احساسا واضحا بأن يحيى حقى قد نجا من ذلك الخطر الأكبر الذى يتعرض له ادباء الهجاء الساخرين، الا وهو مرض التشاؤم الذى يجعلهم يرون كل شئ بمنظار قاتم وتحس احساسا واضحا بأن قلب يحيى حقى يحمل لنقائص الانسان ونقائضه عطفا كثيرا ورثاء غير قليل. فهو يهجو الانسان ولكن هجاء الانسان للانسان لا هجاء الانسان للحيوان، وهو يهجو المدينة ولكن هجاء المتمدن المهذب العقل والنفس لابناء فصيلة لا هجاء المتمدن المزدرى لانحطاط ابناء الفطرة وعبيد الغريزة.

ولقد احسن يحيى حقى صنعا، وهو الكلف بأناقة اللفظ واناقة المعنى، حين جعل كل حواره بلغة العامة وحين جنح فى كثير من أوصافه وبسرده للغة الكلام من دون لغة الكتب والقواميس. ففى كتابه الصغير هذا مئات ومئات من المفردات العامية التى لو اراد تقويمها بالفصحى لشق بطون المعاجم واستخرج منها غريب الكلم الذى لا يفهم له قارئ معنى والذى يضيع على الكاتب فرصته فى تصوير الحياة على علاتها. وليس لى من تعليق على هذا الاجتراء من يحيى حقى بالذات، وهو صاحب النظريات المعروفة فى اللغة الوسطى، الا أن فطرة الفنان السليمة فيه قد غلبت فيه أفكاره الاجتماعية المكتسبة فهدته إلى أن يصور الحياة بلغة الحياة.

118957948_661733791132463_5293977961226600396_n

مقدمة فى الأدب المصرى ( من كتاب دراسات أدبية)

لويس عوض

تفسير: فى 1973 كان الكاتب الفرنسى المعروف جان لاكوتير يعد كتابا عن مصر بأقلام مختلفة لتصدره دار لاروس للنشر فى باريس بالفرنسية. وقد كتب إلى أن أعد الفصل الخاص بالأدب المصرى، فكتبت هذا الفصل بالفرنسية وقد ظهر فى الكتاب المذكور. وقد أبدى بعض المثقفين الفرنسيين اهتماما خاصا به فاعادوا نشره فى مجلة “اسبرى” Espril الشهرية. وقد رأيت يومئذ أن اتجاوز أدب المثقفين فى المدينة المصرية فحملت مسجلا إلى الريف المصرى بمنطقة سنهور القبلية فى الفيوم ودعوت مجموعة صغيرة من المنشدين الشعبيين لينشدوا نماذج من محفوظاتهم ودونت موّال “ناعسة وأيوب” الذى ترجمته إلى الفرنسية وقمت بتحليله فى البحث المطلوب، وهذا نص الموال مع ترجمة لجانب من تعليقى عليه. أما بقية البحث فلم اترجمه لأنه كان مجرد تكرار لآرائى السابقة عن الأدب الرسمى فى مصر:

  • اسمك إيه؟
  • نجاة.
  • بنت مين؟
  • نجاة سالم
  • انتى من العرب ولا الفلاحين؟
  • من العرب
  • انتى اللى من العرب ولا جوزك اللى من العرب؟
  • احنا نفسنا من العرب وجوزى كمان من العرب
  • من أى حتة؟
  • فى الأصل من “المشرّق”، وبيتنا هنا فى سنهور القبلية. احنا ساكنين هنا على حد سنهور القبلية. هنا فى سنهور.
  • فين “المشرّق”؟
  • فى الغرب. جنب بركة قارون. لكن بيتنا هنا فى “العزبة” إللى جنبنا.
  • فى سنهور؟
  • فى العزبة اللى جنبها على السكة الاسفلت. فى المغربى.
  • فى المغربى. طيب. وجوزك من أى ناحية؟ من الصعيد.
  • لا . احنا فى الاصل من هنا.
  • لكن أصله منين؟
  • من بشاى.
  • دا أنتى اللى من ابشواى (فى محافظة الفيوم)
  • أيوه . من ابشواى . هو كدا
  • أنت . لكن هوه ؟
  • أنا من “المشرق”.
  • –         (بصبر نافد): وهو ؟
  • وهو كمان من بشاى.
  • ابشواى؟ وليه قلتى لى أنه صعيدى من الجرابيع (قرية فى المنيا بالبر الشرقى بجوار شارونة فى مواجهة مغاغة)
  • آه . دا من أيام الجدود
  • لكن دول خلاص راحوا
  • هو اتعلم الفن بتاعه دا فين؟
  • من ربنا . أنا لما اجوّزته كان عارف يشْعر
  • –         (بصبر نافد) : أنا باتكلم عنه. عن جوزك . هو اتعلم فنه فين؟
  • اتعلمه من اللف والدوران.
  • عايز أقول فى الفيوم ولا المنيا؟
  • فى الفيوم.
  • هو دا اللى أنا كنت عايز أعرفه.
  • أقول الحق من الفيوم
  • شكرا . يعنى اتعلمه من منطقة ابشواى
  • أيوه من منطقة ابشواى
  • وانت . اسمك ايه؟
  • شعبان عويس ابراهيم
  • عندك كام سنة؟
  • عندى خمسين سنة
  • من أين؟
  • من سنهور. أصلى من ابشواى، الجدود من ابشواى، وأنا مولود فى ابشواى، اشترينا حتة أرض فى سنهور، فى المغربى، ع الاسفلت
  • فلاح ولا عربى؟
  • عربى، من الواحات، من الداخلة ، خالى من الواحات وابويا من الجرابيع. ابويا كان يشعر. أنا واخد نجاة دى. العيلة كلها بتشعر.
  • وانتى ؟
  • نعيمة سالم محمد
  • تقربى له إيه؟
  • عمى
  • عمك؟
  • ابن عم ابويا
  • يعنى انتو عيلة واحدة؟
  • كلنا عيلة واحدة بنشتغل فى الفن. فنانين شعبيين
  • انتو من العرب ولا الفلاحين؟
  • مش عارفه

شعبان : فلاحين ولا عرب. زى بعضه. كله حاجة واحدة . الجرابيع كلها عرب

  • اتاها ، ها ، ها! طيب يا سيدى
  • شعبان: اسمهم عرب شراقوه
  • أنا : طيب ، كويس ، غنى بقى يا نجاة قصة أيوب
  • نجاة: أنا خدامتك، ربنا يسعد لك الأوقات. يا رب يا كريم تسعد له أوقاته (الدعاء لى)
  • متشكر
  • لازم ندّور على حُق ْ صفيح أنقر عليه بصوابعى.

(وهنا يبدأ إنشاد موال ناعسة وأيوب)

يا ما اسعد اللى يصلى على النبى

نبى ضَمَن الغزالة وحَلّها (؟)

وحلها علشان يا عينى ترضع ولدها

الصبر طيب للأمارة بيصبروا

ربك جعل للصابرين المغفرة

وإن ضاع صبرك توجده فى الآخرة

روح يا ردى برضك ردى اصلك ردى

يا اللى تعاير الناس مصيرك تنبلى

تجرب الأوجاع وتصبح معيره

أول سنة يا أيوب ما قلنا تنقضى

تانى سنة يا أيوب وهمّا يعللوا فيك

تالت سنة يا أيوب وهمّا يسندوا فيك

رابع سنة يا أيوب علّولك الفراش

سبع مراتب عالية ومسطّرة

يتقلب على جنبه اليمين ويا الشمال

شِبه جَمَل غايب وحمله كان ورا(؟)

ساتت سنة يا أيوب عافوك ناس البلد

تارى البنية يا خويا ويا الولد

سابع سنة يا أيوب عافوك أمك وأبوك

هما العزاز يا أيوب وأصحاب المغفرة

يقولوا لها يا ناعسة سيبى أيوب ، ماعدش ينفعك

سيبيه يا ناعسة وتعالى نجوّزك

انتى يا حلوة لسه شابة صغيرة

تقول لهم يالايمين قلّوا الملام

لا خير فى اللى باع ولا خير فى اللى انشرى

خديه يا ناعسة واطلعى به من البلد

لأيوب يعدينا ونصبح معيره

تقول لهم يالايمين قلّوا الملام

سواد الليل وناعسة صابحه مبدّرة

عملت له ناعسة مقطف من زعف الأشير

وشالته نزلت فى الجبال يا سامعين

مشيت نهار وتانى نهار وتالت نهار

وصلت بحر العريش بلا مشورة

جابت أيوب ع  البحر يا عينى وحطته

يا ليل…

جابت أيوب على البحر يا عينى وحطته

بنت له عش رحمة على شط البحور

بعد رقاده على الحرير العنبره

وادى الدود من جسم أيوب ناترا

ياخد الدوده بإيده ويحطها فى جسمه

يقول لها تعالى دودة حساب وكلى قسمتك

بينى ما بينك يا دودة حساب الآخرة

خدته ناعسة ونزلت تشحت على أيوب فى البلد.

تقف يا عينى على الأبواب العامرة

حسنة يا محسنين يا أهل الثواب

حسنة يا محسنين يا أهل الثواب

حسنة للعليل جسمه انهرا

أول يوم يا عينى عطوها دا عيش سليم

وتانى يوم يا عينى دى لقمة مكسرة

وتالت يوم غاروا منها نسوان البلد

قالوا لها ماتجيش بلدنا يادى المرة

انتى سبيتى رجال البلد بطولكى

طولك عمود م الزان والشمعة منوره

انتى سبيتى رجال البلد يا ناعسة بشعوركى

تسعين ضفيرة يا ناعسة سابلة من ورا

تقول لهم يالايمين قلّوا الملام

أنا باشحت ع العليل اللى جسمه انهرا

قالوا لها يا ناعسة تبيعى لنا ضفايرك

بعشر ميّه من الجنيه النقى

قالت ما ابيعش شعور العز بعد الغندره

قالت ما ابيعش شعور العز يا عينى بمال

قالت لابيع شعور العز بقرصين من الشعير

وقرص قمح فيه علامة منوّره

جابوا لها المزيّن يا ليلى يا ليلى يا عين

جابوا لها المزين وشاطر فى صنعته

حلقت شعور العز بعد الغندره

لما آن له الأوان لأيوب يا سامعين،

انطق الرعراع لأيوب وقال لُهُو

خد منى يا ايوب وادعك لى جسمكو

ربك يا أيوب مع الصابرين وليهم المغفرة

ومد إيده ع الرعراع وكان يوم اربع يا سامعين

ومد إيده ع الرعراع ودهن جسمهو

ردت الجتة السليمة بعد المعيره

الورد والياسمين عمل لأيوب سجر

اتبنى له قصر ايوب يا عينى يا سامعين

دا قصر مين؟ دا قصر ناعسة ع البلاوى صابره

باعت شعور العز وطالعه من البلد

ماشية تنوّح على الزمان واللى جرى

باعت شعور العز وطالعه تدوّر على أيوب

لقت واحد مملوك فى القصر قاعدى

يا مملوك يا اللى انتو قاعدى

شفتش واحد عليل كان هنا

كلته الوحوشه والضبوعه الكاسرة

قوام يا مملوك دلنى على عضمته

لحسن هانبقى طول الزمان معيره

قال لها يا ستى العليل ماعدش ينفعك

أنا مملوك واحد وأنا أعجبك

ما تيجى يا ستى بداله نجوزك

انت يا حلوة لسه شابة صغيرة

تقول لهم يالايمين قلّوا الملام

دا ابن عمى مربينى صغيرة

قال لها يا ستى لكيش علامة فى ابن عمك؟

قالت له شمعتين بين كتافه من ورا

قال لها يا ستى إن شفتى العلامة تصدقى؟

ربك يا ناعسة مع الصابرين ليوم المغفرة

ورالها جسمه ايوب يا ليل.. يا ليل.. يا ليل

ورالها جسمه أيوب يا سامعين

شافت العلامة والدم حن يا كريم

شافت العلامة نزلم سكارى زى اللى جرى

خدوا حبتهم يا عينى ودنتهم قايمين

على فرض ربه ناس يا عينى مفتكرين

امال فين شعور العز بعد الغندره

أنا بعته عليك يا أيوب بقرصتين من الشعير

وقرص قمح فيه علامة منورة

صلى ركعتين لله ايوب يا سامعين

يا رب من رفع السما بلا عمد

أنك تعيد شعور العز لرحمه اللى ع البلاوى صابره

صلى ركعتين لله يا أيوب يا سامعين

بقدر يا من ملّس على شعرها(؟)

لقى شعور العز سابله من ورا

وادى المسلم يصلى على الحبيب النبى

***

كانت المنشدة نجاة (نحو 40 سنة) حافية القدمين كاشفة الوجه والشعر، طويلة الثوب، على رأسها منديل بقوية، شأنها شأن الأغلبية الساحقة من الفلاحات المصريات، وكان نموذجها السلالى هو النموذج المصرى من منطقة الفيوم: نحيلة، تميل إلى القصر، من ذوى الرءوس المستطيلة كما يقولون فى علم الاجناس، “مسمسمة” الأنف، سمراء دون إفراط، وكان فى صحبتها ولداها وهما صورة مجسدة من “الكاتب المصرى” المعروض فى متحف اللوفر عندما كانت سنه بين 10 سنوات و12 سنة.

و”عرب” الفيوم، أو على الأصح بدو الصحراء الغربية المستقرون فى الفيوم منذ مصر الفرعونية، يتميزون بسمات جسدية تختلف عن ذلك كثيرا، وهم يكوّنون على وجه التقريب عُشر سكان المحافظة، ويسمون أنفسهم “عربا” بسبب اسلوب حياتهم (الرعى والتجارة)، وهم يحسبون أنفسهم “عربا” بالمعنى العام لأسباب اجتماعية، ولكنهم على الأصح قريبون بشريا من “البربر” وأكثر نسائهم منقبات، وهم يعيشون فى قرى منفصلة تماما عن قرى الفلاحين.

والمنشدون الشعبيون، سواء “المداحون” منهم، وهم منشدو المدائح الدينية، أو الشعراء، وهم منشدو الملاحم، هم أصلا من الفلاحين المصريين، وهم يسمون أنفسهم “عربا” غالبا بسبب حياة التنقل التى يحيونها كالغجر، وبوصفهم فنانى القرية نجد أنهم انفصلوا منذ أمد طويل عن الفلاحين الذين يفلحون الأرض، ووضعوا انفسهم خارج إطار المجتمع بسبب عاداتهم المختلفة.

فمهنتهم متوارثة والفلاحون يعاملونهم بشئ من الريبة وقليل من الاحتقار نظرا لشهرتهم كخطافين بغير مسكن ثابت. وقد عرفت من المنشدة نجاة إنها تعلمت فنها من زوجها الذى يلقن بالمثل محفوظاته لاولاده وفقا لتقاليد مهنته، وكانت فخورة بأنها زوجت بنتها من حاو، وهى مهنة لا تقل غرابة عن مهنة الشعراء!

ومن أشهر هذه المواويل القصصية فى مصر: “عزيزة ويونس” و” وياسين وبهية” و”حسن ونعيمة” و ” شفيقة ومتولى” و “خضرة الشريفة” و “ادهم الشرقاوى”، إلخ…

***

من الواضح أن قصة “ناعسة وايوب” تمثل حلقة هامة من حلقات قصة “ايزيس واوزيريس”. فهى تماثل عن قرب هذه القصة على الوجه الذى رواه بلوتارك فى كتابة “عن ايزيس واوزيريس” وكما وردت فى النصوص المصرية القديمة. فاسم “ايزيس” هو الصيغة الهيلينية من الاسم، أما الاسم المصرى القديم فهو “عست” أو “عزة” فى اللغة المصرية القديمة. (وهناك صيغ أخرى عند الناطقين بالشين بدلا من السين مثل “عشت” اساس “عائشة” ومثل “عشتار” و”عشتروت” فى اللغات السامية، ومثل “استارتيه” فى اليونانية القديمة). و “التاء” النهائية، وهى علامة التأنيث فى اللغة العربية، تسقط دائما إلا عند التصريف أو عند النسبة فى بنية اللغة العربية، وبالتالى يكون اسم “عزيزة” فى اللغة العربية أو العربية الحديثة مبنيا على الصيغة اليونانية من اسم “عشت” بينما اسم “ناعسة” يعنى ببساطة “عن ايزيس” لأن “ن” هى الأداة التى تعنى “حول” أو “بتاع”، أى أداة النسبة فى المصرية القديمة.

ونستخلص مما تقدم أن اسم “ناعسة” بكامله ليس اسم علم، بل جملة هى عنوان الموال: “عن ايزيس” كما فى بلوتارك، وهى اختصار لقولهم “أغنية أو موال ايزيس”، وقد عاشت صيغة “ناعسة” فى العربية فى العصور الوسطى بوصفها اسم علم يقوم مقام اسم “عست”. ويلاحظ أنه فى المصرية القديمة لا تكتب إلا الحروف الساكنة  أما حروف الحركة فهى كما فى العربية الفصحى بلا تشكيل، ولذا يمكن أن تتعدد قراءاتها، مما يجعل نطقها الصحيح غير مؤكد.

ومن جهة أخرى نجد أن “أيوب” Job هو “اوزيريس” تحت اسم “خب” Gob أو “جب”، إله الأرض (وهو المذكر)الذى كان اسمه وكانت وظيفته يحملان مدلولات اخصابية ذكرية صريحة ومنها اسم “ذكر” الرجل فى العامية المصرية وغيرها من العاميات العربية. وهذه المدلولات القضيبية والاخصابية ليست مشتقة من العربية الفصحى، غالبا فيما خلا جذر “شاب” و”شباب”، وجذر “صب” بمعنى “عاشق”، و”صبابة” بمعنى “عشق” وهى غالبا تنويعات سامية، أى بالسين أو بالصاد على صيغة “حُب” الحاميّة، أى بصوت الحاء.

وبذلك تكون محنة أيوب المصرى لا شئ غير آلام اوزيريس الذى يسمى فى مصر القديمة “عسر” Assar، أو “اوسير” Ussir، أو “عشر” Asher (قارن “عُزير” و”عاشور” و”أذار” و”عازر” بمعنى “يُخصب”، ومشتقاته مثل “عشتار” … إلخ). فأيوب المصرى هو اوزيريس فى صورة “خب” أو “جب” Geb،  إله الأرض القضيبى الذى أخصب “نوت” Nut ربة السماء فى صورة حتحور أو هاتور. كما تقول قصة الخلق المصرية القديمة. ولكن ما ينبغى أن نلاحظه هو أن القصة فى صورتها القديمة وفى صورتها الشعبية الحديثة تتناول ما جرى لعست أكثر مما تتناول ما جرى لخب، وبهذا تستحق اسم قصة “ناعسة وأيوب” كما يسميها الموال الشعبى وليس العكس.

وهذه هى آثار الأسطورة الأصلية فى موال “ناعسة وأيوب”: فإذا تابعنا فى قصة ايوب المصرى قصة موت اوزيريس إله الخصب وبعثه، وجدنا أن وصف آلام أيوب المصرى وتحلل جسده هو وصف انثربومورفى واقعى إلى درجة مقززة تصدم المشاعر لما يحدث للبذرة تحت التربة.

و”سبع مراتب” التى وضعوها تحت جسم أيوب العليل تدل على أن روح إله الأرض الميت وصلت إلى السماء السابعة، وفى ظل التوحيد لم يكن ممكنا لايزيس زوجة اوزيريس أن تكون أخته فى وقت واحد، فجعل الموال من ناعسة “بنت عم” ايوب المصرى.

وفى قصة الاستشفاء “بالرعراع” نتذكر ما يقوله المسيحيون فى مصر من أن جزءا من طقوس اسبوع الآلاء الذى ينتهى بصلب المسيح هو الاغتسال بماء نقع فيه نبات الرعراع فى يوم الأربعاء السابق على صلب المسيح ، ويسمونه “رعرع أيوب”، ومن الغريب أيضا أن المسلمين من الطبقات الشعبية فى مصر ينسبون إلى نبات الرعراع نفس الخواص الطبية الشافية رغم أنهم لا يعترفون بصلب المسيح.

وبالمثل نجد أن المسلمين كالأقباط يحتفلون بشم النسيم، وهو دائما الاثنين التالى لعيد قيامة المسيح عند المسيحيين، وهذا التوافق فى الحالين يدل على أن بعض طقوس عيد القيامة كانت طقوسا قومية فى مصر قبل ظهور المسيحية فهى من موروثات مصر الفرعونية. ولكن دخول طقوس أيوب فى طقوس اسبوع الآلام لا يمكن تفسيره إلا على أساس أن اوزيريس فى صورة “خب” هو الذى مر بتجربة الموت والدفن والقيامة.

وهناك احتمال أن تكون الخواص الشافية للقروح فى الرعراع، هى بقوة رع كبير الآلهة الذى كان فى البانتيون المصرى القديم أبا اوزيريس وايزيس فى بعض الروايات، وإن كانا فى الرواية الشائعة قد ولدا خارج الزمن فى أيام النسئ الخمسة بين نهاية السنة الشمسية وبداية السنة الشمسية التالية مع بقية آلهة الدورة الاوزيرية: اخيهما الشرير ست واختهما نفتيس زوجة سث وتحوت كاتب الآلهة، وأيام النسئ فى السنة الشمسية هى الأيام الخمسة الساقطة من حساب السنة بحيث تكمل 360 يوما إلى 365 يوما. وعلى كل فقد يكون التشابه بين اسم رع واسم الرعراع هو مصدر هذه التأويلات بوصفه مرضا من أمراض اللغة كما هو معروف فى تاريخ الميثولوجيا والفولكلور.

وفى قصة “ناعسة وأيوب” نجد أن ناعسة تتجول بجثمان أيوب من أقليم إلى اقليم حتى تبلغ به “بحر العريش”، وهو البحر الواقع بين بيلوزيوم (خليج الطينة فى مصب الفرع البيلوزى من النيل شرق بورسعيد) وبين مدينة العريش.

ورحلة جثمان أيوب المصرى فى المقطف المصنوع من زعف الأشير تذكرنا برحلة جثمان اوزيريس داخل التابوت على أمواج النيل حتى مرقده الأخير فى القصر الملكى فى ببلوس. ويلاحظ أن رواية بلوتارك عن ايزيس واوزيريس تجعل مكان رسو التابوت الطافى عند شاطئ ببلوس فى فينيقيا حيث مكان جبيل حاليا وهى ضاحية شمالى بيروت. ولما كان من المستبعد أن إله الخصب المصرى يكون بعثه فى بلد أجنبى: فالأرجح أن الفساد اللغوى هو الذى أدى إلى اختلاط الأمكنة.

وبحر العريش الذى حملت ايزيس إليه جثمان اوزيريس هو بحر حوريس الموازى لطريق حوريس الشهير على امتداد المتوسط شمال سيناء أما ببلوس بلوتارك فالارجح أنها صيغة يونانية من “بيب” Byb “ال” El، وهو “العال” إله الساميين، وجذر “بيب” يعنى “القبر” أو “التربة” كما فى قولنا “بيبان الملوك” بمعنى “قبور الملوك”، وجذر “بيب” موجود فى “يباب”، و”تباب” العربية بمعنى “تراب” فنحن بإزاء قبر اوزيريس المتوفى.

وفى احدى صيغ الرواية أن تابوت اوزيريس الذى ضم جثمانه طفا على أمواج النيل حتى بلغ شاطئ ببلوس، وفى هذه الحالة يكون التابوت قد طفا على أمواج الفرع البلوزى الذى كان يصب فى خليج الطينة فى “بحر العريش”،  أو طفا حتى ببلوس، حيث كان قبر اوزيريس، وسواء أكان اوزيريس أو “خب” – “جب” – “أيوب” قد حمل فى مقطف “ناعسة” – “ايزيس” أو فى تابوت ست قاتل أخيه، فليس هناك أى فرق جوهرى بين الروايتين، إذ أنه لا ينبغى أن ننسى أن فيضان النيل لم يكن سوى دموع ايزيس، وهى تولول على موت اوزيريس، والفرق الظاهرى بين الروايتين ناجم عن الانتقال بتأثير التوحيد والاوهيمرية من عبادة روح الطبيعة إلى الانثربومورفية أو التأنيس فى قصة الإله الممزق.

ومع ذلك فإن صيغة “ناعسة وأيوب” هى صيغة متوسطة بين الكونية الشاملة فى قصة آلام اوزيريس والانثربومورفيه الكاملة فى قصة أيوب المبتلى. ففى حالة أيوب المصرى نواجه موتيفات الموت والدفن والبعث وهى موتيفات لا نواجهها فى قصة أيوب الواردة فى التوراة، فالحوار بين أيوب المصرى والدود الذى يطعم على جثته حوار لا يمكن أن يدور إلا بعد نزول الجثمان فى اللحد، ومن الواضح أن “العش” الذى بنته “رحمة” لأيوب على شط بحر العريش ليس إلا الاسم المهذب للحد، فنحن نرى ناعسة تهيل عليه التراب حتى يرتفع إلى ضريح عال. (لاحظ أن الاسم يتغير فجأة من “ناعسة” إلى “رحمة”)

كذلك نحن نعرف أن نساء مصر فى مصر القديمة كن يحلقن أو يقصصن شعورهن ويلطخن وجوههن بالنيلة فى فترة الحداد القومى على وفاة اوزيريس، لا شك تأسيا بما فعلته ايزيس بعد موت زوجها، وهو بالضبط ما فعلته ناعسة بعد أن وارث أيوب فى “العش” (= القبر) الذى أقامته. أما بعث أيوب فكان بدعك جسده بنبات الرعراع.

وبعث أيوب موصوف بنفس الطريقة  التى وصف بها بعث اوزيريس فى ببلوس، أى أنه بعث فى صورة شجرة نمت على الشاطئ وكانت بمثابة عمود فى قصر عشتروت ملكة ببلوس (وهى ايزيس الفينيقية) ولكن بينما نجد أن شجرة اوزيريس رمز للقضيب، نجد أن شجرة الورد وشجرة الياسمين اللتين نبتتا على قبر أيوب رموز فردوسية.

وهكذا بنى لأيوب قصر كقصور الجنة بعد قيامته من بين الأموات، وقصر ناعسة فى الموال المصرى ليس إلا قصر عشتروت فى رواية بلوتارك، ومع ذلك فإن الصيغة المصرية المعروفة فى الفيوم، لو فهمناها فى ضوئ المعتقدات الدينية الإسلامية وغيرها، توحى بأن بعث أيوب، بل والاتحاد الجسدى بين ناعسة وأيوب، قد تما فى الجنة وليس فى الأرض، فالقصر وحديقة الزهور والغرام مع حورية من الحور يستدعى للذهن الفكرة التقليدية عن نعيم الجنة.

وفى رموز القدماء نجد أن المجازات المتعلقة بالبعث هى فى آن واحد أرضية وسماوية. ويكفى أن نفكر فى الشجرة التى تفقد أوراقها كل شتاء لنفهم معنى فقدان “ناعسة – ايزيس” لضفائرها التسعين الرائعة بعد موت “أيوب- اوزيريس”، ولنفهم كيف أن بعث إله الإخصاب، كبعث الطبيعة فى الربيع، هو المعجزة التى ترد لناعسة ضفائرها الرائعة مثلما تكتسى الأشجار بالأوراق مع عودة الربيع، وبالمثل نرى أن ناعسة نزلت مختارة عن ضفائرها الرائعة وقدمتها قربانا لقاء ثلاث فطائر كانت أهمها مصنوعة من القمح وتحمل “علامة منورة”،  وهذه فى طقوس كعك العيد إلى اليوم تمثل عند الاقباط والمسلمين فى مصر أشعة الشمس المنبثقة من مركزها.

ومن هذا نجد أنه ليس من العسير أن نرى أن مضمون هذا الموال، وعلى الأرجح أيضا قالبه وموسيقاه، هى بقايا لا تزال حية من الأدب الوثنى فى مصر القديمة معربة فى العربية الدارجة مع تحويرها بما يتمشى مع عقيدة التوحيد بقدر الإمكان ومطورة فى اتجاه الأنثربومورفيه، أى “التأنيس” بتحول الآلهة إلى أبطال، وبتحول الأساطير المجازية إلى أحداث ومغامرات فى الحياة اليومية، وهذا التحول لابد أنه حدث إلى حد ما أيام مصر المسيحية قبل مجئ الاسلام واللغة العربية، ففى تلك الفترة اختلطت قصة “جب” بسيرة “أيوب” المتوارثة عن التوارة. وفى العصر الاسلامى لم تتطور القصة كثيرا لأنها مشتركة فى كافة أديان التوحيد.

كذلك ليس من الصعب أن نلاحظ أن صياغة هذا الموال فى صورته الحالية تم فى عصر قريب نسبيا هو العصر المملوكى قبل الفتح العثمانى (1517). ففى العصر الوسيط بدا المملوك فى شبابه وجماله وسؤدده وكأنه المقابل لاله الاخصاب. وفى العصر المملوكى، بل وربما فى العصر الفاطمى منذ نحو 1000ميلادية تمت ترجمة أو اقتباس الملاحم والاناشيد الدينية القديمة إلى اللهجات العربية وكان هذا بمثابة انتقام الجماهير الشعبية من الأدب الرسمى والفن الرسمى الذى صفى كل فن تشخيصى وكل أدب اسطورى أو رمزى وكل معتقدات فولكلورية من موروثات مصر الوثنية باسم التوحيد وتحطيم الاوثان.

ولم يمكن اقتلاع المعتقدات والآداب الفولكلورية فنبتت جذورها تحت التربة قرونا طويلة ثم اينعت وازدهرت اروع ازدهار بعد سقوط الامبراطورية العربية.

***

وهكذا امكنت المحافظة على “الملاحم” (البابات epopeia) والرومانس (السير) الآتية فى صيغتها العربية: “سيرة بنى هلال” التى اشتهرت فى مصر باسم “قصة أبو زيد” و “سيرة عنترة” و”سيرة الزير سالم” و ” سيرة الأميرة ذات الهمة” و” سيرة سيف بن ذى يزن” و”سيرة الظاهر بيبرس” و” سيرة فيروز شاه” و” سيرة على الزيبق المصرى” بالإضافة طبعا إلى “ألف ليلة وليلة”. هذه الملاحم أو السير ازدهرت فى العصر المملوكى الذى كان بحق عصر الازدهار الادبى والفنى فى العالم الاسلامى. وكان هذا العصر فى الوقت نفسه عصر يقظة الوعى القومى على المستوى الشعوبى. وقد تميز هذا العصر الشعوبى بأنه قبل الاسلام دينا جامعا للشعوب الاسلامية ولكنه رفض سيطرة التقاليد الأدبية والاثنية والعرقية والسياسية الموروثة عن العصر العربى الكلاسيكى. كان هناك شئ من هذه اليقظة شبيه من موقف مهيار الديلمى من العروبة والاسلام: رفض العروبة وقبول الاسلام. وفى أوروبا الوسيطة كان هناك موقف مماثل حيث حافظ الاوربيون على التراث الادبى الوثنى اليونانى والرومانى بل والقوطى وهو تراث لم يتفق تماما مع الأفكار المسيحية. ولكن بعد عدة قرون من تحطيم الأوثان بلا هوادة ومن القمع الكنسى المنظم لآلهة القدماء ولمعتقداتهم الدينية، جرى صبغ الأساطير الأوربية والفولكلور الأوربى الوثنى بالصبغة المسيحية لكى يتيسر حفظها ويزداد استيعابها فى الروح الأوربية.

وكان الفضل فى ذلك لفطنة عدد من آباء الكنيسة، مثل القديس أوغسطين، ولاكتانس، وفولجانس، وترتوليان، ولعدد من علماء الدين المتفقهين، مثل فيليب دى فيترى، وبيير برسوير، وآلان الجزائرى.

سمحت الكنيسة بامتصاص هذا التراث الوثنى فى الرمزية المسيحية ثم فى الأدب الشعبى، ولكن الفضل الأكبر يرجع إلى شعوب أوروبا وشعرائها الجوالين المبدعين منذ التروبادور والمنيسنجر.. أن كل ذلك حدث بعد انهيار الامبراطورية الرومانية، وهكذا كتبت حياة جديدة ليس فقط لاوليس وبنيلوب ولكن أيضا للأبطال الاسطوريين الافظاظ المتبربرين الذين جاءت بهم الأقوام الجرمانية مثل الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة، حين وجدوا لأنفسهم مكانا فى نظام الرمزية المسيحية.

وفى مصر حافظ “المداحون”، وهم منشدو الشعر الدينى وحافظت الطرق الصوفية على الأدب الدينى المتوارث عن مصر القديمة. أما “الشعراء”  فقد حافظوا على الأدب القومى الدنيوى القديم. ولحسن الحظ نلاحظ أن الامتصاص كان فى كثير من الأحيان ناقصا أو مشوها، لأن هذا النقص أو التشويه يساعدنا على تحديد تاريخ الامتصاص فى مراحل أسبق.

مثال ذلك: فى سيرة “الأميرة ذات الهمة”، بينما نجد أن الإطار اسلامى مائة فى المائة (فى بلاط الخليفة) نتابع عمليات عسكرية جرت فى عهد الملك عبادة والملك الحارثة، وهما من ملوك النبط فى الأردن وقد عاشا فى القرن الثانى وفى القرن الأول قبل الميلاد ودخلا فى مواجهات حربية مع جنرال رومانى يدعى سفيروس (ساويرس)

والذى نعرفه عن مملكة النبط هذه انها كانت فى شمال الجزيرة العربية وكانت عاصمتها بترا، وأنها امتدت من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الثانى بعد الميلاد، وقد ضمتهما الامبراطورية الرومانية إليها عام 106 ميلادية فى عهد الامبراطور تراجان. وكان منهم ملوك عديدون يلقبون بعبادة وبالحارثة. أما أسرة سفيروس  فهى أسرة من الأباطرة الرومان من أصل فينيقى حكموا روما من 193 ميلادية إلى 235 ميلادية، وتعاقب فى الحكم منهم سبتموس سفيروس ، وكراكللا، وجيتا، وهليو جوبال، وسفيروس الكساندر، وقد اشتهرت عهود هؤلاء الأباطرة بأنها الفترة التى تبلور القانون الرومانى فى أرفع صورة له.

فالمعارك المشار إليها فى سيرة “الأميرة ذات الهمة” إما أنها كانت نحو 106 ميلادية زمن الامبراطو تراجان عند أفول مملكة النبط واستيلاء روما عليها، وإما فى عهد سبتموس سفيروس أى نحو 200 ميلادية، وفى هذه الحالة تمثل هذه المعارك حربا استقلالية متأخرة نسبيا. أما إذا كانت قد جرت فى عهود عبادة والحارثة فمكانها إذن فى القرن الأول ق . م والفرض الثانى أرجح، أى أن المعارك تشير إلى حرب حاولت فيها مملكة النبط استرداد استقلالها من الرومان فى عهد سبتموس سفيروس نحو 196 ميلادية.

وبالمثل نجد أن فى “سيرة بنى هلال” المشهورة بالتغريبة نجد أن بلاط السلطان والجازية، قبل المجازفة بإرسال الحملة إلى المغرب ارسلوا الفارس الأسود أبا زيد إلى تونس الخضراء ليستكشف الطريق كما تفعل طلائع الجيوش، وفى منتصف الطريق من الاسكندرية إلى برقة اعترض طريق ابى زيد وحش كأبى الهول فى قصة أوديب، وطرح عليه ثلاثة اسئلة ملغزة، وحين استطاع ابو زيد حل الألغاز الثلاثة، جرد أبا الهول من قوته تماما حتى أصبح تحت رحمته، وكان فى استطاعة أبى زيد أن يفتك بأبى الهول، ولكن الوحش بادر بشهر اسلامه ونطق بالشهادتين فعفا عنه أبو زيد والمعروف أن تغريبة بنى هلال كانت فى القرون الأولى من ظهور الاسلام وبذلك لا تفسير لابى الهول والغازه الثلاثة إلا أن تكون هناك رواسب هللينية وثنية فى التراث الفولكلورى العربى

وبالمثل نحن نجد أن “البحث” عن “الجزة الذهبية” وهو موضوع مغامرات جيسون فى الأدب اليونانى والميثولوجيا اليونانية القديمة يتكرر فى صورة أخرى فى “سيرة سيف بن ذى يزن”، وقد اختلط بآثار من “أعمال هرقل الاثنى عشر”، وبآثار من البحث عن “الوعاء المقدس” المعروف باسم “سان جرال”  فى سيرة الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة، ومع كل هذا بعض المؤثرات الديونيزية. و”البحث” فى الملحمة المصرية.. البحث عن “كتاب النيل” بأمر من ملك الحبشة كشرط اشترطه الملك على سيف بن ذى يزن بوصفه صداقا لبنته الأميرة عاقصة، وتجرى الرواية أن من أمتلك هذا الكتاب أمكنه أن يسيطر على فيضان النيل، بل أن يغير مجرى هذا النهر المقدس.

وقد بقيت روح مصر محفوظة خلال الاف السنين فى هذا الأدب القومى الذى يضم الملاحم والسير والمدائح الدينية والمواويل التى تعبر عن ضمير مفطور على الحس الاخلاقى وعن أعماق بلا حدود، ويضم علاوة على ذلك ثروة من الشعر الغنائى تتجاوز كل خيال وتضاهى فى روعتها خير ما ابدعته الانسانية طوال تاريخه، وتتجلى العبقرية الأدبية المصرية أكثر ما تكون فى الشعر الجنائزى الشعبى حيث تختلط الحياة بالموت اختلاطا حميما. فالمراثى المفجعة بعاطفتها الحنونة وبشهوانيتها الجارحة وبتأملاتها الميتافيزيقية من كل ما نجده فى عديد الندابات ليست من وحى المسيحية أو الاسلام وإنما من تراث مصر القديمة.

***

ومع ذلك فكل هذه الثروة الطائلة قد ضاعت وغاصت فى الصمت الأبدى الذى ضرب اطنابه فى الريف المصرى ولم يبق منها إلا همهمات بعيدة منبعثة من الأشباح الساكنة فى القرية المصرية، وأصوات هذه الأرواح الضائعة لا تصل إلى المدينة المصرية. وحين تسمع المدينة أصداءها الخافتة، عادة عن طريق الفنانين شبه الأميين الذين يبثونها من خلال الإذاعة والتليفزيون، تكون قد شوّهت وجردت من قيمتها الأصلية لكى ترضى أذواق البرجوازية الصغيرة الجديدة الجاهلة المحبة للمتعة الفجة، فهذه الطبقة لا تدرك أن هناك ما هو أفظع من موت الأرواح المنسية عبر القرون، وهذا هو الموت الأدبى والمدنى الذى يحل بالأحياء الضائعين من فرط نسيان الذات أو العجز عن تجاوز الذات.

المحاورات

المحاورة الثانية  لويس عوض (من كتاب المحاورات الجديدة.. أو  دليل الرجل الذكى إلى الرجعية والتقدمية وغيرهما من المذاهب الفكرية)

” فى المرأة الذهبية وسلوكها الذهبى “

صانع الأقنعة: المعلم العاشر أوضح فى الجلسة السابقة أن عنيزة صاحبة امرؤ القيس وعائشة بنت طلحة صاحبة عمر بن أبى ربيعة كانتا تترددان على الكوافير وتستعملان المانيكير، وأثبت من كلام المعرى أن العرب كانت عندهم مدارس بنات. هل بينكم من ينكر هذا؟

أبو الفتوح الصباح: حتى إذا كان هذا صحيحا، فلا بد أن الحلاقات – استغفر الله- كن من النساء المؤدبات كذلك، وأن تعليم البنات كان يقف عند فك الخط وجدول الضرب وأصول الدين.

المعلم العاشر: ولكن تعليم البنين فى العصر الذهبى كان يقف أيضا عند فك الخط وجدول الضرب وأصول الدين. نحن لم نسمع عن كليات حقوق وهندسة وصيدلة وطب بيطرى ومعاهد تكنولوجيا فى العصر الذهبى، لأن الحرف والصناعات كانت تتوارث فى الأسرة وفى الورش يلقنها المعلمون للصبيان، تماما كما كان يحدث فى أوروبا فى العصور الوسطى.

على الزيبق الجوكى الشهير بالزنبرك: أبو الفتوح الصباح يقترح اذن أن يصدر مجلس الأمة تشريعين: قانون يحرم على الرجال الاشتغال بمهنة كوافير السيدات وقانون بالغاء الكليات النظرية والعملية والمعاهد العليا والمدارس الثانوية والإعدادية حتى نرجع إلى العصر الذهبى. يجب الاكتفاء بالتعليم الإبتدائى.

مجاهد بن الشماخ: الوالى وليس مجلس الأمة، فالعصر الذهبى لم تكن فيه مجالس أمة ولا هذه السخافات المستوردة التى تسمونها برلمانات.

صانع الأقنعة: نقطة نظام. هذا خروج عن الموضوع، موضوع نظام الحكم يبحث فى جلسة قادمة.

أبو الفتوح الصباح: قانون الكوافيرات نعم. أما الغاء الجامعات وكل مراحل التعليم فوق الإبتدائى، فهذا شطط واساءة فهم لمعنى الرجعية. العلم نور. وكل مزيد من التعليم نور على نور فى قلب الإنسان لا فى عقله، وإذا كان ذهب العصر الذهبى من عيار 14 فمن الأنفع أن تجعله عيار 24، وإنما المهم أن يملأ العلم قلب الإنسان بالإيمان والفضيلة والا تذهب البنات إلى المدارس الا فى الزى الرسمى لنساء العصر الذهبى، وقد نسى الميثاق أن ينص على هذا، ولا بد من استكمال هذا النقص والزى الرسمى لنساء هذا العصر الذهبى هو الفستان المقفل عند الرقبة والمتدلى حتى الكعبين والأكمام الطويلة حتى الرسغين، أما الوجه فيمكن أن يسفر أثناء المحاضرات وفى أوقات العمل الرسمية ولكن لابد من طرحة على الرأس تخفى أولا عورة الشعر ويمكن ثانيا اسدالها ورفعها بحسب الظروف. اسدالها فى الشارع مثلا، وفى السينما أو المسرح وقت الانتراكت واضاءة الأنوار. ويمكن لتسهيل هذه العملية التحكم فى الطرحة بكردون وبكر يثبت فى الخصر على طريقة الستائر. ثم لابد من قانون بتخصيص بلاجات خاصة بالنساء وبلاجات خاصة بالرجال.  رحم الله الشيخ أبو العيون

المعلم العاشر: هذه صورة غير دقيقة عن نساء العصر الذهبى فمن الشعر العربى نعرف أن نساء العصر الذهبى كن يتبخترن عرايا على البلاجات وأحيانا فى غير البلاجات. خذ مثلا “المتجردة” زوجة النعمان بن المنذر ملك الحيرة. كان النابغة الذبيانى يتجول فى ابهاء قصرها فرآها تتجرد.. أعتقد أنها كانت تتجرد “داخل ” الحمام، وأن النابغة كان ينظر إليها من ثقب الباب، لأن الوصف يوحى بأنها كانت تحس بوجود متفرج، وقال النابغة الذبيانى فيها :

سقط النصيف ولم ترد اسقاطه

                  فتناولته واتقتنا باليد

والنصيف ليس بالضبط البيكينى، ولكنه آزار أو فوطة أو ربما بشكير، وعلى أية حال فسقوطه كشف عن كل شئ، ولهذا (اتقتنا باليد). شعر القدماء يثبت أن نساء العصر الذهبى كن كنساء اليوم يتبخترن عرايا على بلاجات البصرة والحجاز. فمعلقة امرئ القيس تشير إلى مغامرة كان للملك الضليل على بلاج جلجل، وهو شاطئ بركة بجوارالبصرة فيما يقال، فهو يقول:

الا رب يوم لك منهن صالح

           ولا سيما يوم بدارة جلجل

وتفسيرها فى كتب العرب أن أمرأ القيس لعب نفس اللعبة التى لعبها من قبله الآله كريشنا فى أدب الهنود، ففاجأ البنات وهن يغتسلن فى بلاج جلجل وأخذ ثيابهن وقعد عليها، وأبى أن يعطى كلا ثوبها حتى تخرج إليه عارية وتأخذه منه بنفسها ولو ظلت فى الغدير إلى الليل. وغلبهن الحياء أولا فمكثن فى الماء حتى ارتفع النهار، ولكنهن خفن أخيرا من الالتهاب الرئوى أو الانفلونزا الحادة على أقل تقدير فرضخن وخرجن الواحدة بعد الأخرى. وكانت أشدهن حياء حبيبته عنيزة، ولكنها فى النهاية رضخت مع الراضخات. وأحسسن بالجوع فذبح لهن ناقته فأكلوا وشربوا فياسكة من أفخر النبيذ وطربوا وغنوا ثم حملته عنيزة معها داخل هودجها بعد أن فقد ناقته، وبعد الأقداح كانت القبلات. ولم يكن هناك على بلاج جلجل بوليس آداب ليمنع كل هذا، فانظر كيف تقدمت آداب المحدثين على آداب القدماء.

أبو الفتوح الصباح: النعمان بن المنذر وامرؤ القيس عاشا فى الجاهلية، هذا لا يقاس عليه.

المعلم العاشر: نفس هذا المشهد تكرر بعد سنوات حين نزلت بلاج الغيل فى الحجاز فأخفى الشاعر ثيابهن. وإذا قلت أن النعمان بن المنذر وامرأ القيس كانا فى الجاهلية، فما قولك فى حكايات عمر بن ابى ربيعة وغيره مع نساء العصر الذهبى فى المائة الأولى، أو على الأقل قبل أن تسوء سمعة المجتمع العربى بما قاله أبو نواس وما فعله هو وجيله السئ السمعة. والغيل بركة أو بحيرة أو نبع قرب مكة. أو لعله غابة تجرى فيها جداول المياه كما ورد فى “اللسان”. وليس من الضرورى أن يكون اسم البلاج مضحكا مثل جلجل أو غريبا مثل الأنفوشى أو صعبا مثل جليمونو بولو أو أعجميا مثل الريفيرا لنسميه بلاجا. أنظر مثلا إلى بلاج جمصة الذى كنا فيه. من رآه ظن أنه فى فلوريدا أو كاليفورنيا ومع ذلك فاسمه جمصة ومحافظة الدقهلية لا تخجل من ذلك ومن أقام فيه نسى أن مصر تجرى فيها تجربة اشتراكية.

صانع الأقنعة: أنت تستطرد، عد إلى الموضوع الأصلى.

المعلم العاشر: الموضوع الأصلى؟ عمر بن أبى ربيعة كانت هوايته الخاصة التسكع فى مواقع الغيد على البلاجات، وآداب المحدثين ليست أحط من آداب القدماء. انظر إلى الدالية:

ولقد قالت لجارات لها

               وتعرت ذات يوم نبترد

اكما ينعتنى تبصرننى!

           عمركن الله أم لا يقتصد:

فتضاحكن وقد قلن لها :

               حسن فى كل عين من تود:

حسدا حملنه من أجلها

           وقديما كان فى الناس الحسد

فعمر بن أبى ربيعة لم يكن فقط يتلمظ بمرأى البنات على البلاج من بعيد، وكلنه كان على بعد مترين، والا  فكيف استطاع أن يسمع كل هذا الحوار؟ ثم أن التقبيل نفسه فى العصر الذهبى كان على أحدث طريقة سينمائية نستهجنها فى غرام العصر الحديث، وتقصها الرقابة من أفلام (م . م) و (ب. ب) وأعتقد أنها قصتها مؤخرا من “الدولشى فيتا” ومن “هيروشيما يا حبى”   وهى أن يمسك الفتى بالبنت من شعرها ويقبلها، ففى شعر عمر بن أبى ربيعة أنها:

قالت: وعيش أبى وحرمة إخوتى

               لأنبهن الحى أن لم تخرج

فخرجت خوف يمينها فتبسمت

           فعلمت أن يمينها لم تحرج

فلثمت فاها آخذا بقرونها

          شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

والقرون بلا مؤاخذة هى الشعور والحشرج اسم نبع. ولو أن عمر بن أبى ربيعة كان وحده فى هذا المضمار لقلنا أنها حالة فردية لا يجوز لنا أن نستخلص منها صورة عن رجال العصر الذهبى ونسائه، ولكن أمثاله كانوا كثيرين، مثلا عبد الله بن قيس الرقيات وهو أيضا من قريش كان يعشقهن  ثلاثا ثلاثا، وقد سمى بالرقيات لأنه أحب ثلاث بنات كل منهن باسم رقية، وجميل بن عمر، وقد كان من الشباب الارستقراطى فى بنى عذرة، قال صراحة أنه مفضل غزو القلوب على غزو الامصار:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

            وأى جهاد بعدهن أريد؟

لكل حديث بينهن بشاشة

           وكل قتيل بينهن شهيد

ونحن عادة لا نفكر طويلا فى الطريقة التى تسلق بها روميو من حديقة آل كابيوليت إلى مخدع حبيبته جوليت ليقضى معها الليل، ولا أظن أنه تسلق على المواسير، والأرجح أنه استعمل سلما مجدولا من الحبال الحريرية. تقولون: ولماذا الحريرية؟ أقول لتنسجم مع الجو العاطر فى حديقة الورد ومع الليل الساجى والنسيم الهفهاف وصدح العنادل فى الليل والقبرة مع أول أنفاس الفجر. والفرزدق مر بتجربة مشابهة فى البصرة فيما أعتقد كما يستفاد من وصفه:

هما دلتانى من ثمانين قامة

                كما انقض باز أقتم الريش كاسر

فقلت ارفعا الامراس لا يشعروا بنا

             وأفلت فى أعجاز ليل أبادر

والأرجح أن “هما” تعود على سيدة الفؤاد وجاريتها، ولا تعود على سيدتين تربعتا على فؤاد الفرزدق أو استقبلتاه فى سرير واحد. أقول هذا على الأقل احتراما للفرزدق وصاحبته. وهو موقف يذكرنا بما كان يفعله اللورد بيرون مع الكونتيسة جيتشيولى ويبدو أن الفرزدق كان متمرنا على الصعود والهبوط بالامراس (أى الجبال)، لأن هبوطه السريع كانقضاض الباز الكاسر يثبت أنه كان يعرف موضع قبضته من الحبل كالبهلوان، ولكن لا أشك فى أن خيال الفرزدق كان خصبا إلى حد المغالاة، بل وأتهمه بالفشر على الأقل فى وصف التفاصيل. فهو يقول أنه تدلى من ثمانين قامة، وثمانون قامة معناها 140 مترا، أى أن شقة المحبوبة التى قضى معها الليل كانت فى الدور الثلاثين، ولا أعتقد أن البصرة عرفت ناطحات السحاب فى المائة الأولى لأن الأسمنت المسلح والأسانسيرات لم تكتشف الا فى القرن التاسع عشر. ثم أنه لا شك يفشر حين يقول: فقلت ارفعا الحبال حتى لا يشعروا بنا وأنه أفلت فى اعجاز الليل يبادره قبل أن يدركهم نور الفجر فيفتضح أمرهم، فلو أنه قال من هذا شيئا يمكن أن يسمع على ارتفاع 140 مترا لأيقظ العمارة كلها، بل والحى كله على الفور وطارده العسس وأهل الحبيبة قبل أن يتاح للمرأتين المسكينتين أن ترفعا الأمراس.

وغير عمر بن أبى ربيعة وجميل بن معمر وعبد الله بن قيس الرقيات والفرزدق، هناك الشاب الجميل وضاح اليمن، وهو من أبناء ملوك اليمن، والعرجى، وهو من ارستقراطية قريش، وعدد لا يحصى من شعراء العصر الذهبى يثبتون بشعرهم أن نساء العرب فى العصر الذهبى لم يكن يختلفن كثيرا عن نساء اليوم على الأقل فى الفضيلة أو فى نقص الفضيلة.

مجاهد بن الشماخ: سيدى الرئيس، هذا تخريب لتراثنا.

أبو الفتوح الصباح: كل هذه حالات فردية لا يقاس عليها والشعراء يتبعهم الغاوون.

على الزيبق الجوكى الشهير بالزنبرك: ولكنكم تدرسون هؤلاء الشعراء فى المدارس والجامعات، هل تقترح سن قانون بالغاء تدريس الأدب العربى من المدارس والجامعات؟

مجاهد بن الشماخ: مستحيل، نحن أفنينا حياتنا فى تحقيق هذا التراث ونشره، نحن نطالب وزارة الثقافة بأن تخصص كل ميزانيتها لنشر التراث العربى.

الايديولوجى الفهلوى: وما اعتراضك اذن؟ هل تطالب بنشره بشرط ألا يقرأه الناس؟

أبو الفتوح الصباح: هؤلاء الشعراء لا يعطون صورة صادقة عن حياة العرب فى العصر الذهبى، النساء الفاجرات يعشن فى كل عصر من العصور.

المعلم العاشر: لا تغضب. إن شعراء العصر الذهبى لم يكونوا يترددون على النساء الفاسدات أو على البغايا بل كانوا يترددون على سيدات الأسر وبنات العائلات، والا فما معنى كل هذا الاختلاس والتسلق والدخول من الشبابيك تحت جنح الظلام؟ وقد عرف عمر بن أبى ربيعة وحده منهن عددا وفيرا وعينهن بالاسم، مثل عائشة بنت طلحة ونعم والرباب وهند وعفراء والثريا والنوار وأسماء وليلى ولبابة ورملة وكلثم وفاطمة بنت محمد الاشعث الكندية وغيرهن وغيرهن، وعناوينهن كلها مذكورة ومحققة بالكامل فى “الأغانى” ج 1 طبعة دار الكتب وفى ديوان عمر بن أبى ربيعة تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، ومنها يتبين أنهن جميعا من أسر محترمة مع الاحترام التام لهذه الاسر، فالمثل يقول “يخلق من ظهر العالم فاسد” . كذلك كان رجال العصر الذهبى يدلعون، أقصد يدللون، نساء العصر الذهبى كما نفعل نحن اليوم بنسائنا فنقول سوسو وشوشو، كانوا يقولون “سكن” لسكينة و “بثن” لبثينة و “عز” لعزة: مثلا: “وحبك يا سكن الذى يحسم الصبرا” فى عمر بن أبى ربيعة، و”كما شغف المجنون يا بثن بالخمر” فى جميل بن معمر، “ومن ذا الذى يا عز لا يتغير” فى كثير عزة، وكانوا يضربون المواعيد كما نضربها اليوم فى الاورمان أو فى جنينة الحيوانات أو فى كازينو الشجرة أو فى استيريو الهرم، مثلا رسول عمر بن أبى ربيعة:

فأتاها فقال: ميعادك السر

                    ح إذا الليل سدل الاستارا

ونساؤنا الآن يستعملن الشانيل والكارفن ماجريف والاربيج والاوبيجان والشيفالييه دوشيه بمنتهى الحرص والاقتصاد ويكتفين بنقطة أو نقطتين فى الشعر أو تحت الأذن وأحيانا فى الملابس الداخلية. ولكن قارئ معلقة امرئ القيس يعرف أن نساء الزمان الغابر كن يدلقن العطور دلقا على الفراش

ويضحى فتيت المسك فوق فراشها

              نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وعلى الثياب :

إذا قامتا نضوع المسك منهما

            نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

وكانت تحدث بينهم المطاردات الغرامية، انظروا إلى هذه المطاردة التى قام بها عمر بن ابى ربيعة وصاحبه بكر على ظهور الابل وتذكروا ما يفعله شباب هذه الأيام على الأقدام بين أمريكين عماد الدين وأمريكين سليمان باشا، أو فى سيارات نصر وهى تطارد سيارات تاونوس عند برج القاهرة أو فى سكة الهرم:

شكوت إلى بكر وقد حال دونها

                       منيف متى ينصب له الطرف يحسر

فقلت: أشر.. قال: ائتمر، أنت مؤيس

                     ولم يكبروا فوقا، فما شئت فأمر

فقلت: انطلق نتبعهم، أن نظرة

                       إليهم شفاء للفؤاد المضمر

فلما اضاء الفجر عنا بدا لنا

               ذرا النخل والقصر الذى دون عزور

فقلت اقترب من سربهم نلق غفلة

                 من الركب والبس لبسة المتنكر..

فقالت لاتراب لها: ابرزن اننى

              أظن أبا الخطاب منا بمحضر 

له اختلجت عينى أظن عشية

                              وأقبل ظبى سانح كالمبشر

فقلن لها: لا بل تمنيت منية

                            خلوت لها عند الهوى والتذكر

فقالت لهن: أمشين، أما نلاقه

                            كما قلت أو نشف النفوس فنعذر..

وجئت انسياب الايم فى الغيل اتقى ال

                           العيون واخفى الوطء للمتغفر

فلما التقينا رحبت وتبسمت

                           تبسم مسرور، ومن يرض يسرر

فيا طيب لهو ما هناك لهوته

                            بمستمع منها ويا حسن منظر

فمن كان بطيئا فى فهم الشعر فمعنى هذا الكلام باختصار أن عمر بن أبى ربيعة وصاحبه بكر أبصرا ركب المحبوبة وصاحباتها فتبعاه حتى أدركاه، ورغب أن ينفرد  بها ورغبت أن تنفرد به، فانسلخت من الركب وتحقق الرنديفو.

وفى الرائية المشهورة: ” أمن آل نعم أنت غاد فمبكر” ” وهو يشبه قولنا”: أتذهب مبكرا إلى بيت البنت نعمت أو نعمات أو نعيمة” يروى لنا عمر بن أبى ربيعة كيف أنه فعل ما فعله دون جوان فى جناح الحريم بسراى السلطان فى استنبول. أى تنكر فى زى فتاة لكى يندس بينهن. كما ورد فى ملحمة اللورد بيرون، ودخل فى مأزق ثم خرج منه. ولا أعتقد أن شاعرا فى أية لغة بلغ هذه الدقة فى وصف حديث العشاق المعاميد الذى اختلطت فيه الدماثة بالشبق وهما عادة من صفات نساء الارستقراطية:

فمحييت اذ فاجأتها فتولهت

                    وكادت بمخفوض التحية تجهر

وقالت وعضت بالبنان: فضحتنى

                  وانت امرؤ ميسور أمرك أعسر

أريتك اذ هنا عليك الم تخف

                    وقيت وحولى من عدوك حضر؟

فو الله ما أدرى: اتعجيل حاجة

                  سرت بك أم قد نام من كنت تحذر؟

فقلت لها: بل قادنى الشوق والهوى

                     إليك وما نفس من الناس تشعر

فقالت وقد لانت وأفرخ روعها

                     كلاك بحفظ ربك المتكبر

فأنت أبا الخطاب غير مدافع

                  على أمير ما مكثت مؤمر

فبت قرير العين أعطيت حاجتى

                  أقبل فاها فى الخلاء فأكثر

فيالك من ليل تقاصر طوله

                وما كان ليلى قبل ذلك يقصر

 وهكذا قضى عمر بن أبى ربيعة ليلة ناعمة، ولكن ما أن أوشك الليل أن ينقضى حتى وقعت الواقعة فدبت الحركة فى الحى وتآهب القوم للرحيل: “فلا راعنى الا مناد: ترحلوا وقد لاح معروف من الصبح أشقر”، ولم تصب البنت بالذعر بل قالت لصاحبها: الآن وقد تنبه الناس، “أشر كيف تأمر؟” لنخرج من هذه الورطة، فعرض عليها أن “يباديهم” أى ينقض عليهم بسيفه، ولكنها رفضت قائلة: لا. هذا يثبت ما يشاع عنا، فلنفكر فى حل يسترنا لا فى حل يفضحنا، وهكذا كانت المرآة  كالعادة أذكى من الرجل، ولكنى يبدو أن الخطر اقترب منها فقد شحب وجهها، ومضت إلى اختيها، أو لعلهما مجرد صاحبتين تستنجد بهما:

فقامت إليها حرتان عليهما

                        كساءان من خز دمقس وأخضر

فقالت لاختيها: اعينا على فتى

                        أتى زائرا، والامر للامر يقدر

فأقبلتا ، فارتاعتا، ثم قالتا:

                           أقلى عليك اللوم فالخطب أيسر

فقالت لها الصغرى، سأعطيه مطرفى

                          ودرعى وهذا البرد إن كان يحذر

يقوم فيمشى بيننا متنكرا

                           فلا  سرنا يفشو ولا هو يظهر

فكان مجنى دون من كنت اتقى

                           ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر.

ألا ترون معى أن التنكر فى زى النساء يدل على أن عشاق العصر الذهبى كانوا أكثر جراءة وأوسع حيلة من عشاق اليوم. أكاد أقطع بأن أى عاشق من عشاق اليوم لو ووجه بهذا الموقف لضربت معه لخمة ولما عرف كيف ينصرف.

الفارس المفروس: اسمحوا لى يا سادة. كل هذا طبيعى، أنتم تنسون أن فن التصوير وفن النحت اندثرا بين العرب بانتهاء الجاهلية الوثنية. فطبيعى أن يقوم الشاعر مقام الفنان التشكيلى فيرسم “بورتريهات” لسيدات العصر الذهبى بالقلم والكلمة بدلا من الرسم بالفرشة والألوان. وهذا يفسر انتشار شعر الغزل فى العصر الذهبى وفى “الأغانى” ج 6 ص 219 أن أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان وزوج الوليد بن عبد الملك ارسلت إلى كثير عزة وإلى وضاح اليمن تقول: “انسبا بى”. والنسيب أو التشبيب نوع من الغزل، فلنقل أنه وصف محاسن المرأة، وأن أم البنين لم تكن تطلب من الشعراء أن يتغزلوا فيها حقا، وأنما أرادت منهم أن يصفوا محاسنها، أى أن يرسموا لها بورتريه أو ينحتوا لها تمثالا بالكلام على غرار ما يفعل الفنانون، وقد خاف كثير من صولة ابيها فلم يصفها بل وصف جاريتها، أما وضاح اليمن فقد شبب بها فنال عقابه، تربص به رجال الوليد وقتلوه بدفنه حيا.

المعلم العاشر: ربما كان هذا صحيحا، ولكنه لا يفسر المواعيد الغرامية فى السرح والغيل ولا المطاردات ولا التنكرات والتسلق بالحبال لولوج المخادع ولا المشاورت الطريفة بين البنات والبنات وبين الرجال والرجال فى أفضل الطرق لدخول دنيا الحب والخروج منها، أن دراستنا للأدب العربى تقف دائما عند زخرف الألفاظ ولا تتوغل فى المعانى الا نادرا ولا تحاول أن تربط بينه وبين الحياة التى انتجته وهذا هو سبب كراهية تلاميذنا لدراسة الأدب العربى شعرا ونثرا رغم الجهود الجبارة التى نبذلها لنشره على أبنائنا فى المدارس. أنا مثلا أعتقد أن الأدب العربى متخلف جدا عن الأدب اليونانى، ولكنى أعتقد أنه لا يقل شموخا عن الأدب اللاتينى بما فى ذلك فرجيل وهوراس وأوفيد. ولكننا حنطناه لاعتقادنا أن التراث لا يكون تراثا إذا عاش معنا وعايشناه.. أن التلميذ المصرى مثلا لا يعرف أن أبناء المائة الأولى كانوا مثلنا أناسا يحبون ويعشقون ويتألمون ويفرحون ويقتلون ويزنون ويدسون ويتأمرون ويغدرون ويخلصون وأنهم كانوا مثلنا يحبون الجد ويتجهمون ويحبون الحظ ويفرفشون، وأنه لمع بينهم آقطاب المغنين مثل ابن سريج والغريض ومعبد، وكلهم من فنانى الحجاز تألقوا فى المدينة المنورة تألق محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش فى القاهرة الآن. قالوا وكان رابع هؤلاء العباقرة حنين الحيرى فى العراق، فكتب ثلاثتهم إليه خطابا يدعونه فيه لزيارة المدينة. قالوا: نحن ثلاثة بالحجاز وأنت وحدك بالعراق، فأنت أولى بزيارتنا، والمهم فى هذا ما جاء فى ” الأغانى” من وصف الهستريا التى استولت على أهل المدينة عندما علموا باقتراب موكب الموسيقار حنين هذا، وهى تشبه الهستريا التى تستولى على أهل لندن أو باريس أو نيويورك فيتجمعون بالالاف فى المطارات حاملين الكورونات وكارنيهات الاتوجراف والكاميرات كلما نزل الخنافس أو جونى هاليداى أو الفيس بريسلى، فيتشنج الرجال ويغمى على النساء. قالوا: فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم أكثر حشرا ولا جمعا من يومئذ.هذه صورة من صور الحياة اليومية فى العصر الذهبى تدل على أن رجاله ونساءه كانت لهم قلوب مثل قلوبنا. فلم كل هذه الجهامة التى ترتسم على وجه أبو الفتوح الصباح من أن نساء العصر الذهبى كن مثال الفضيلة وأن نساء عصرنا مثال الرذيلة. هل اقتنعت يا سيدى؟

مجاهد بن الشماخ: كلا، كلامك غير مقنع، بل هو اشبه بسمادير المخمورين. وأنا لا أفهم كيف يؤذن لدعى جاهل مغموز ملموز شرلتان مثلك أن يتكلم فى تاريخ العرب وأدبهم وأنت الذى دربك المبشرون والمستشرقون عملاء الاستعمار الصليبى لافساد حضارة العرب وعقيدة العرب.

صانع الأقنعة: محال أن أسمح بهذا السباب، إنه خروج على الميثاق، أن كانت لديك وجهة نظر فاشرحها ولكن حذار من التطاول والا اخرجتك من الجلسة. ارى من حالتك النفسية أنك إذا بدأت الكلام فلن تتوقف. والوقت أزف ، فإلى اللقاء فى الجلسة القادمة

رفعت الجلسة.. 

119023919_637515400522013_151939640148824311_n

مسيرة كاتب ومعارك مفكّر- لــويــس عــوض 1915 ــ 1990

سمير غريب

ينظر الوجوديون إلى الإنسان باعتباره (مشروعاً) لا يكتمل إلا بموت صاحبه, وبين لحظة الميلاد ولحظة الوفاة يمكن لهذا المشروع أن يتخذ مسارات عدة. هذا ما حاولت تلمسه في حالة المفكر والكاتب المصري الكبير لويس عوض.
كانت حياة لويس عوض الطويلة مليئة بالمواقف التي يختلط فيها العام بالخاص, إلا أننا نعتقد أن هناك بعض المواقف (الحدية) التي أسهمت بقوة في تشكيل شخصيته الفريدة منها:
ـ استقالة والده من العمل بالحكومة السودانية (1922م) الذي كان قد التحق به سنة 1902م على أثر نقله إلى وظيفة باشكاتب مديرية أعالي النيل (تعادل وظيفة سكرتير عام المحافظة حالياً) الذي اعتبره عقوبة أنزلها عليه رئيسه الإنجليزي على الرغم من معارضة الأسرة للاستقالة التي ستنزل بالمعاش إلى ثلث المرتب.  فقد تعلم الطفل لويس عوض (7 سنوات) من والده في هذا الموقف وجوب المحافظة على (الكرامة) حتى وإن كان الثمن الذي عليه أن يدفعه لقاء المحافظة على هذه (الكرامة) هو الاستقرار المادي والدخول في (مغامرات) مالية قد تكلفه الكثير. من هنا نستطيع أن نفهم قدرة لويس عوض على الاستقالة من جريدة الجمهورية في أعقاب أزمة مارس 1954م احتجاجاً على استخدام العنف ضد المتظاهرين واستنكاراً للاعتداء البدني على السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة.
ـ تضحية أخيه (فكتور) بالتعليم الجامعي ـ نظراً لظروف العائلة المالية الصعبة ـ والتحاقه بمدرسة (التلغراف) التي تخرّج فيها بعد عام واحد من حصوله على (البكالوريا) ليعمل (معاون محطة). ويستطيع الشاب لويس عوض اقتطاع خمسة جنيهات كاملة من معاش والده لإكمال تعليمه الجامعي, وهو ما قدره لويس لأخيه، ولم يعتبر أبداً أن إنفاقه على ثلاثة من أبنائه حتى يكملوا تعليمهم الجامعي أو مساعدة أخويه (ألفونس) و(رمسيس) يمكن أن يُقارن بتضحية أخيه فكتور من أجله.
ـ وجود منزل الأسرة في مواجهة قسم بوليس (المنيا) الذي جعل لويس عوض يتفاعل ويتعاطف مع صرخات المحتجزين الذين كان يسمعهم يتأوهون ويجأرون تحت وطأة التعذيب. وهو ما جعله يتحمل ـ كما يقول يوسف إدريس في مقالة بـ (الأهرام) 20/11/1989م ـ أن يوضع رأسه المفكر في جردل مخلفات المعتقلين إبان اعتقاله عام 1959م لمدة ستة عشر شهرا مع (الشيوعيين)


مؤثرات فكرية


بعيداً عن تأثره الشديد بشخصية والده فقد تأثر لويس عوض أيضا بثلاث شخصيات عملاقة كان له بهم صلة مباشرة، وهم:
(العقاد ـ طه حسين ـ سلامة موسى) إضافة إلى تأثره بأساتذته الإنجليز في كلية الآداب.
نشأة لويس عوض في أسرة وفدية هي التي دفعته لمتابعة كل ما ينشره العقاد، وهو يقول عن ذلك: (فلما أقام محمد محمود ديكتاتورية اليد الحديدية عام 1928 وعطل دستور 1923 إلى أجل غير مسمى بلغ الشعور مداه، وتجلى أمامي العقاد كهرقل الجبار الذي كان يسحق بهراوته الشهيرة الأفاعي والتنانين والمردة وكل عناصر الشر في الحياة. وفُتِنت بالعقاد فكنت أخرج لاهثاً كل مساء في السابعة إلى محطة السكة الحديد بالجلباب والشبشب لأشتري (البلاغ) عند نزوله من القطار قبل أن تنفد أعداده). لذلك، فهو لم يتردد في أن يذهب إلى صالون العقاد (بمصر الجديدة) فورأن وطأت قدماه أرض القاهرة، ليعبر عن إعجابه الشديد بكل ما يكتب في الأدب والسياسة، وظل يتردد على هذا الصالون بعد ذلك. إلا أن صدمة لويس عوض في العقاد كانت عنيفة عندما زاره قبل أن يسافر إلى إنجلترا 1937م ليخبره بأن الموضوع الذي قبلت جامعة كامبريدج تسجيله للدكتوراه هو (تقاليد التعبير الشعري في الأدبين الإنجليزي والفرنسي) ففوجئ برد فعل عنيف من قبل العقاد الذي قال له: (لماذا تضيعون الوقت على هذه الموضوعات المنعزلة عن الحياة؟! لماذا لا تكتب رسالة في موضوع: نداء الباعة في الشارع؟  إن نداء الباعة فيه دلالات تعرف منها خصائص كل أمة. يجب أن تكون الأبحاث الجامعية أقرب إلى الحياة الواقعية).
كانت مشكلة لويس عوض وجيله من الشباب أن أقطاب المثقفين ـ من أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وهيكل والمازني ـ ربطت مصيرها بأحزاب الأقلية الأرستقراطية، ولا سيما (الأحرار الدستوريين) الذين ارتبطوا في التاريخ المصري بـ (تعطيل أحكام الدستور) وإقرار حكم (الصفوة). وهو ما وضع المثقفين من الشباب في أزمة التوفيق بين (الثقافة) و(الثورية)، لذلك كان انشقاق طه حسين عن الأحرار الدستوريين في بداية الثلاثينيات وانضمامه إلى صفوة الشعب ذا أثر بالغ على لويس عوض وجيله، وساعد على ذلك موقف طه حسين الذي رفض (كعميد لكلية الآداب) منح أربعة من أقطاب السياسة درجة الدكتوراه الفخرية متحدياً حكومة صدقي باشا (قطب الاتحاد المصري للصناعات) وتحوله إلى رمز (لاستقلال الجامعة) .
كان وجود لويس عوض بالجامعة في هذه الأثناء عاملاً حاسماً في اجتذاب شخصية العميد له الذي كان يسمع بأخبار تفوقه ونبوغه من أساتذته الإنجليز. وقد ساعده طه حسين في الحصول على البعثة إلى كامبريدج. وذهب لويس عوض لزيارة العميد قبل السفر فتبسط معه وطلب منه أن يزوره في باريس، وهناك نصحه بقراءة بعض المراجع التي يمكن أن ينتفع بها في بحثه لتقاليد الشعر الإنجليزي والفرنسي.
ويذكر لويس عوض أنه احتاج لمبلغ ثلاثين جنيهاً لدفع ثمن مجموعة من المراجع (فترجم كتاب) فن الشعر (لهوراس) عن اللاتينية وأرسله إلى أحمد أمين لنشره في لجنة التأليف والترجمة والنشر مقابل هذا المبلغ، فإذا بطه حسين يتدخل من تلقاء نفسه لدى البعثات للتنبيه على مستر واطسون مدير البعثة التعليمية بلندن ليرسل شيكاً بالمبلغ إلى لويس عوض لشراء مراجع على نفقة الدولة. واحتفظ بالكتاب حتى عاد لويس عوض من الخارج فاقترح عليه أن يتقدم به للحصول على درجة الماجستير من قسم اللغة اليونانية واللاتينية تحت إشرافه (وهو ما لم يحدث لتشدد أستاذ اللاتينية الدكتور سليم سالم معه).
الصدفة وحدها هي التي جمعت بين لويس عوض وسلامة موسى الذي عرّفه بتاريخ مصر القديمة ووجهه إلى (الاشتراكية) وقراءة (برنارد شو) وفتح عيونه على الأدب الروسي ـ عندما التقى صدفة في شارع إبراهيم باشا بأحد أقاربه من أبناء شارونة يدعى يعقوب فام وكان يعمل سكرتيراً لجمعية الشبان المسيحية.. فأخذ لويس عوض معه إلى مقر الجمعية القريب، وهناك استخرج له بطاقة عضوية بالمكتبة ودفع الاشتراك وكان جنيهين من جيبه ونزل معه إلى الدور الأول وعرفه بسلامة موسى.
ويصف لويس عوض اللقاء بقوله: (بقدر ما وجدت طه حسين مهيباً وعباس العقاد شامخاً وجدت سلامة موسى متواضعاً. كان غزير العلم في غير تكلف.. ولم تكن هيئته تدل على شيء: كان يمكن أن يكون مدرساً بالمدارس الثانوية أو طبيباً أو رئيس مصلحة حكومية. ولكن ما إن يبدأ في الكلام حتى يتدفق علمه الموسوعي ويتجلى ذكاؤه الحاد كالنصل القاطع). (أوراق العمر ص462)

أساتذة إنجليز


لعب بعض الأساتذة الإنجليز الذين درّسوا للويس عوض دورا مهماً في تشكيل فكره ووجدانه وبخاصة (سكيف وديفيز وفيرنز وهولواي) ولذلك نجد لويس عوض يهدي ديوانه الأول (بلوتولاند) 1947 إلى أستاذه سكيف الذي يقول عنه: (وأعتقد أن سكيف كان أكبر مؤثر في نموي الفني خلال سنوات الطلب في الجامعة، وأقول (الفني) لأن برين ديفيز وأوين هوالوي كانا يخاطبان العقل، ولا أذكر أن الوجدان كان له مقام كبير فيما يسردان من معلومات أو يقدمان من نقد وتحليل. وقد كان علمهما الغزير ينسيني (جوهر) ما دخلت كلية الآداب لأتعلمه، وهو تذوق الشعر والنثر والمسرح، وليس مجرد تكديس المعلومات حتى أكون دائرة معارف متنقلة… وحين كنت أختلف إلى محاضرات سكيف بمعدل أربع ساعات في الأسبوع، لم أكن أنتظر أن أتلقى منه علماً وإنما كانت عند سكيف قدرة سحرية على إبراز نبض الشعروالمسرح وإشاعة السحر والألوان في كل ما يلقي. (أما براين ديفيز فقد علم لويس عوض وزملاءه أثناء تدريسه لهم تاريخ إنجلترا وتاريخ الفكر الإنجليزي كيف ينظرون إلى التاريخ من خلال اقتصاديات المجتمع ووسائل الإنتاج فيه وصراع الطبقات. وقد كان ذلك مدخلاً آخر إلى (الاشتراكية).
رئيس قسم اللغة الإنجليزية روبرت فيرنز الذي حجز للويس عوض مكاناً في كلية الملك، واختار له موضوع الرسالة، كان شخصية مثيرة للعجب عند لويس عوض الذي عاد من إنجلترا 1940 ليجد أستاذه قد سلم رئاسة القسم إلى سكيف وانتقل إلى مكتب الرقيب العام في مبنى وزارة الداخلية (المخابرات)، لذلك نجد لويس عوض يقول: (وكنت أعجب لهذا التناقض في شخصيته ولا أتصور أن عالماً أكاديمياً يرضى لنفسه أن يترك الجامعة ليعمل رقيباً عاماً). كانت هذه القصة هي النافذة التي أطل منها ـ في الستينيات ـ اتهام المحقق المعروف محمود محمد شاكر للويس عوض بالعمل لحساب (مراكز التبشير) و(المخابرات الأجنبية).

الأستاذ أوين هولواي كان المؤثر الكبير في حياة لويس عوض الفكرية أيام الجامعة وبعدها فقد كان تدريسه لمادة (المؤثرات الأجنبية في الأدب الإنجليزي) هوما فتح عيون لويس عوض على (الأدب المقارن) الذي طبق أسسه على الأدب العربي في كتابه (على هامش الغفران) ودراسته عن (المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث) وكتابه (أسطورة أوريست والملاحم العربية) كما كان تدريس هولواي لعلم الدلالة (السيميولوجي) وتعريفه لطلابه بعلم اللغة الحديث هو النواة التي ظلت تكبر في عقل لويس عوض إلى أن كتب (مقدمة في فقه اللغة العربية).
وقد فجر لويس عوض العديد من المعارك الفكرية التي شكلت مع غيرها من المعارك المماثلة (حيوية مصر) في النصف الأول من القرن العشرين. وهذا بالضبط العنوان الذي اخترته لكتابي المنشور منذ عدة سنوات حول الظاهرة ذاتها.
وأستطيع أن أستعيد هنا ـ على سبيل المثال ـ معركتين من أبرز معاركه التي فجرها والتي ساهمت بلا شك في تقدم الأدب والفكر العربي الحديث:


بلوتولاند.. الأدب والحياة


(انتهى الأدب الأناني.. انتهى الأدب الذي يعبد نفسه ويزعم للناس أنه يعبد فنه. وإذا لم يكن قد انتهى فسوف نعمل على إنهائه. فنحن على أعتاب عصر جديد ونحن نكتب الأدب في سبيل الحياة الجديدة).
بهذه الكلمات (الثورية) بدأ لويس عوض دعوته لأن يكون الأدب في سبيل الحياة من خلال موقعه كمشرف على صفحة الأدب في جريدة (الجمهورية) (التي كانت لسان حال الثورة) منذ عددها الأول الصادر يوم الاثنين 7 ديسمبر 1953م، وكان قد أصدر عام 1947م ديواناً شعرياً بعنوان (بلوتولاند) يضم التجارب الشعرية التي نظمها في أواخر الثلاثينيات مسبوقة ببيان طويل استغرق عشرين صفحة من صفحات الديوان استهله بقوله:
(مات الشعر العربي, مات عام 1932، مات بموت أحمد شوقي… فمن كان يشك في موته فليقرأ جبران ومدرسته وناجي ومدرسته. أما شعائر الدفن فقد قام بها أبو القاسم الشابي وإيليا أبو ماضي وطه المهندس.. وصاحب هذا الديوان).
وبناءً على هذه المقدمة فقد دعا لويس عوض إلى تحطيم الشعر وإلى الكتابة بالعامية!! ونحن نتحفظ على ما جاء في هذه المقدمة، لأن الشعر لا يموت بموت شاعر مهما كانت عظمته، ولأن المدارس الشعرية تعيش متجاورة ولا يعيش بعضها فوق أنقاض بعض، إضافة إلى أن كل الشعراء الذين ذكرهم كانوا يكتبون شعراً عربياً ولم يدَّع أحدهم أنه يكتب شعراً أجنبياً!!
ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل كانت وراء دعوة لويس عوض إلى تحطيم عمود الشعر العربي والكتابة بـ (العامية) وأن يكون (الأدب في سبيل الحياة) نستطيع إجمالها في الآتي:
1 ـ أن الأدب العربي ظل لفترة طويلة من الزمن أدباً (ملوكياً) يعالج قضايا (النخب) ويتجاهل (العاديين) و(البسطاء) من أبناء الشعب.
2 ـ أن الأدب العربي (وبخاصة الشعر) ظل لفترة طويلة من الزمن حبيس (الأشكال) و(الأغراض القديمة)، رغم تغيّر أشكال وأنماط الحياة تغيراً تاماً.
3 ـ أن اللغة العربية الفصحى (وهي مادة الأدب وقوامه) تختلف اختلافاً جذرياً على المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي عن (اللهجات) المتفرعة عنها، ولا ينقص هذه اللهجات حتى تكون (لغات) قائمة بذاتها سوى اعترافنا بذلك، ولا يحول دون هذا الاعتراف سوى خوفنا من اتساع الشقة بين أبناء العربية وكتابهم المقدس (القرآن).
4 ـ أن الأدب الشعبي (الذي أصبح الآن مـادة تدرس بكليات الآداب)، كان ينظر إليه حتى ذلك الحين نظرة متعالية تهوي من شأنه.
كانت هذه العوامل هي الخلفية التي ساعدت على ظهور مدرسة جديدة في الشعر العربي ـ (المدرسة الواقعية) أو (الشعر الحر) أو (شعر التفعيلة) ـ تلتزم بضابط الإيقاع (الوزن) ولا تلتزم بحاجز الإيقاع (القافية) فتحول بذلك مفهوم (البيت الشعري) الذي يحتوي على عدد من التفعيلات إلى (السطر العشري) الذي قد يطول أو يقصر وفقاً لمقتضيات (الدفقة الشعورية) أو الموضوع المتناول، الأمر الذي ساعد على تناول موضوعات لم يكن من السهل تناولها في (الشعر العمودي)، كما ساعد على التخلص من (الزوائد البلاغية) النابعة من (ضرورة الحفاظ على الشكل)، إضافة إلى تبلور مفهوم (الوحدة العضوية) في القصيدة، ولكنه من ناحية أخرى، فتح الباب أمام أدعياء الشعر ومحدودي الموهبة ليزاحموا المواهب الحقيقية، إضافة إلى أن المبررات التي قامت عليها هذه المدرسة كانت هي المبررات التي قامت عليها فيما بعد (قصيدة النثر) التي أسقطت ما كان قد تبقى من موسيقى في القصيدة العربية بإسقاطها لضابط الإيقاع (الوزن) لتختفي تماماً الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر ولتبدأ فتنة (التجريب) في (التخريب).
وعلى كل حال، فقد اعتبر النقاد الشاعرين العراقيين (بدر شاكر الــسياب) و(نازك الملائكة) رائدين لهذه المدرسة، ولم يعتــــبروا تجارب لويس عوض الشعرية سوى مجرد (تمهيد) ساعد على قيام تلك المدرسة، وربما يرجع السبب في ذلك إلى محدودية (شاعرية) لويس عوض التي لم تنتج سوى ديوان (بلوتولاند) ـ والتي يمكن أن نتلمــــسها فـــي هذا النموذج من قصيدته (كيرياليسون) التي يقول فيها:
أبي أبي
أبي أبي
أحزان هذا الكوكب
ناء بها قلبي الصبي
يا منجي
يا منجي
قد طال فيك عجبي

معايير الأدب


أما دعوته إلى أن يكون (الأدب في سبيل الحياة) ـ التي تتناولها وسائل الإعلام الآن بصيغة أخرى هي: الفن للفن.. أم الفن للمجتمع؟ ـ  فإننا نعتبرها دعوة غامضة وغير محددة، لأن (الحياة) مفهوم فضفاض يتسع لكل شيء: الخير والشر، الحب والكره، الجمال والقبح.. لذلك، فإن الأدب لا يمكن له أن يتجاوز إطار الحيـــــاة ولا يمكن له إلا أن يـصورها بكل تناقضاتها، كما أن المعايير المستخدمة في تقييم الأعمال الأدبية يجب ألا تكون (من خارج الأدب) حتى وإن كانت (معايير أخلاقية) أو (اجتماعية) نبيلة، إضافة إلى أن الدعوة (أياً كان مصدرها) هي دعوة غير ملزمة للأدباء. وهو ما دفع عميد الأدب العربي طه حسين إلى كتابة مقال مطول في جريدة (الجمــهورية) بتاريخ 18/12/1953 واصفاً هذه الدعوى بأنها (تدعو إلى أشياء لا تحققها ولا تعرف لها حدوداً). وربما تستطيع هذه الفقرات التي كتبها طه حسين أن تلخص موقفه من هذه القضية.
ـ (… فكل أدب في أي أمة من الأمم إنما هو يصـــور نوعاً من أنواع حيــــــاتها، ولوناً من ألوان شعورها وذوقها وتفكيرها وانعكاس الحياة في نفوسها).
ـ (… إن الأدب ليس وسيلة ولا ينبغي أن يكون وسيلة، والأديب لا ينشئ أدبه لتحقيق هذا الغرض أو ذاك… والأديب لا يستطيع إلا أن يكتب.. كالزهرة التي لا تملك إلا أن تنشر العطر أو النحلة التي لا تسأل لماذا تنتج العسل).
ـ (… وليس معنى هذا أن الأدب بطبعه عقيم. ولكن معناه أن الإصلاح والتغيير وتحسين وترقية شئون الإنسانية أشياء تصدر عن الأدب صدوراً طبيعياً كما يصدر العبير عن الزهرة).
ـ (.. وأنا بعد ذلك لا أرى لأحد كائناً من يكون فرداً أو جماعة أن يكلف الأديب أن يوجه أدبه هذه الوجهة أو تلك. وإنما الأديب حراً، يكتب ما يشاء ويكتب كيف يشاء).
وقد أوضح طه حسين أن هذه الدعوة عندما تأتي في هذا التوقيت تشوبها شبهة (مجاراة الثورة ورجالها) وحذّر من أن ذلك قد يؤدي إلى (تقييد حرية الإبداع) واضعاً في اعتباره ما كان يحدث للمفكرين والأدباء في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية باسم (الواقعية الاشتراكية).
وقد انضم إلى لويس عوض ضد طه حسين كل من: د. عبد الحميد يونس، وإسماعيل مظهر (الذي نادي بتجديد الأدب العربي من قبل في مجلة العصور)، ود. محمد مندور (الذي ظل يدافع عن لويس عوض طوال حياته)، وعبد المنعم مراد (الذي وصف طه حسين بأنه عميد الأدب القديم)، وعبد العظيم أنيس (الذي انتقد لويس عوض بشدة فيما بعد) على الرغم من هذا نعتقد أن كلاً منهم كان ينطلق من قاعدة تختلف عن الآخرين، وكان الحماس (وهو وحده لا يكفي) هو القاسم المشترك الأعظم بينهم جميعاً، مما أدى إلى الانحراف بالمناقشات عن (الأدب) إلى مسالك فلسفية وسياسية واجتماعية دون حسم للخلاف (الأدبي)

(الإنجليز يعتقدون أني روسي، والمسلمون أني مجوسي، والسنّة يحسبون أني رافضي، والشيعة يخالون أني نصيبي، وبعض الرفاق الأربعة (غالباً يقصد الأئمة الأربعة ل. ع) يعتقدون أني وهابي، وبعض أتباع الأئمة (الاثنى عشرة) يتوهمون أني بابي، المؤمنون بالله يظنون أني مادي، والأتقياء يظنون أني كافر، ولكن لا الكافر يدعوني إليه ولا المسلم يعدني من ذويه. منفي أنا من المسجد ومن المعبد. وهكذا فإني حائر لا أعرف على من أعتمد ولا على من أشهر الحرب. ولو تنصلت من عقـــيدة أقررت الأخرى، ولو أقررت عقيدة شددت أزر أصحابها على ما يناقضها. ولا سبيل إلى الفرار من قبضة أي فريق, ولا مكان لي في قتال أعدائه. جالس أنا في كابول مكبل اليدين كسيرا أنتظر أن أرى شتاء الغيب، فأرى أي قدر خبأه لي دوران هذا الفلك الشرير).
من خلال هذه (المقطوعة الشعرية) التي كتبها جمال الدين الأفغاني بالنثر الفارسي المسجوع، والتي (تصور) إنساناً يعاني (أزمة وجودية حادة)، وتلقي ظلالاً من الغموض حول شخصه وانتماءاته، رسمت الأستاذة نيكي كيدي ـ مؤلفة كتاب (السيد جمال الدين الأفغاني) الذي نشرته جامعة كاليفورنيا باللغة الإنجليزية عام 1972م ـ شخصية الأفغاني بحرية شديدة تقترب من (خيال الشعر).
وقد (تورط) الدكتور لويس عوض عندما كتب مجموعة من المقالات بعنوان (الإيراني الغامض في مصر) نشرها علي ثماني عشرة حلقة في مجلة التضامن بلندن ـ بعد أن رفضت جريدة (الأهرام) نشرها ـ متبعاً نهج كيدي دون أن يطلع بنفسه على (الوثائق) الخاصة بالأفغاني مما أوقعه في كثير من (الخلط) وأدى به إلى (استنتاجات) لا أساس لها من الصحة. ومن الطبيعي ألا يكون هذا الأمر مقبولاً في (البحث العلمي), وإلا لكان في استطاعة أي شخص أن يرسم صورة للويس عوض نفسه قريبة الشبه من الصورة التي رسمها هو للأفغاني اعتماداً على ما قاله في مقــــــدمة كتابه (على هامش الغفران)
غفر الله للويس عوض ولنا أجمعين.

سمير غريب مجلة العربي مارس 2002

118993891_321154909099847_3830508155900658764_n

الصاخب.. رصاصات لويس عوض ضد الكبار

أيمن الحكيم

فى خريف عام ١٩٧٢ تلقى الناقد والمفكر المصرى المرموق د. لويس عوض «٥ يناير ١٩١٥- ٩ سبتمبر ١٩٩٠» دعوة من مركز دراسات الشرق الأوسط، التابع لجامعة هارفارد الأمريكية العريقة، لإلقاء محاضرة لطلابها عن «دور المثقفين فى مصر الحديثة»، ولأنها محاضرة أكاديمية ولطلاب أجانب وفى بلد بعيد وبلغة إنجليزية بليغة «كان يجيدها لويس عوض كأهلها بحكم دراسته الأدب الإنجليزى وحصوله على درجتى الماجستير والدكتوراه من جامعتى كامبريدج وبريستن وعمله لفترة أستاذًا للأدب المقارن بجامعة كاليفورنيا- فإن الدكتور لويس عوض تكلم بحرية كاملة ومد خط الصراحة على استقامته، ظنا أنه لا أحد سيحاسبه على محاضرة باللغة الإنجليزية فى جامعة أمريكية. ولكن ظن لويس عوض خاب، فقد كان بين الحضور فى محاضرته طلاب عرب قاموا بتسجيل نص المحاضرة، وعبر التسجيل بحارا ومحيطات واستقر بمقر مجلة «الآداب اللبنانية»، فترجمت ما قيل فى المحاضرة إلى العربية، وما قيل كان بمثابة قنابل متفجرة، وغير مسبوق فى جرأته، التى وصلت لحد التجريح فى قامات ثلاث بالتحديد: عميد الرواية نجيب محفوظ وعميد الأدب طه حسين وعميد المسرح توفيق الحكيم.
نجيب محفوظ «مخادع وأُلعبان».. طه حسين أفلس بعد «مستقبل الثقافة فى مصر».. وتوفيق الحكيم غير واضح الاتجاه
كان العمداء الثلاثة يتمتعون بتقدير خاص وبنوع من «القداسة» بين نقاد الأدب، فإذا بلويس عوض يطلق النار على الجميع.
فعن نجيب محفوظ قال حرفيًا: «إن نجيب محفوظ طبعا قضية صعبة، ولقد قوبل بالترحاب من الجميع لأسباب مختلفة أو ربما لأسباب واضحة، فالماركسيون ظنوا أنه اشتراكى، ورجال ثورة يوليو كانوا سعيدين أشد السعادة به، لأنه بطريقة ما شوه وجه ثورة ١٩١٩ فى ثلاثيته، حيث نجد أوصافًا فاضحة جدًا لثورة ١٩١٩ فى الجزء الذى دعاه (بين القصرين)، حيث تجدون صورة ثورة ١٩١٩ فى شخص السيد أحمد عبدالجواد العملاق زير النساء، الذى يسلك سلوك الطاغية فى عائلته، وفى الخلفية تشعرون بأن ثمة ثورة تحدث لا يشارك فيها هذا الرجل، والوحيد الذى شارك فى الثورة هو فتى صغير فى الرابعة عشرة من عمره، ابن السيد أحمد عبدالجواد الذى أظهر شيئا من الوطنية، هو الفتى الصغير فهمى، الذى قُتل فى مظاهرة بطريق الخطأ، وفى اليوم الأخير حيث اتفق الإنجليز والمصريون على السلام، على كل حال فإن بعض الناس ظنوا أن ذلك وصف رائع لثورة ١٩١٩، ولذا فإنهم أخذوا منذ ١٩٥٤ ينفخون فى نجيب محفوظ، لقد اُعترف به رسميا سنة ١٩٥٤، ثم إن نجيب محفوظ ليس كاتبًا ساذجًا، إنه فنان ماكر جدًا يعرف شغله وقد تزوج من فنه فقط، على كل فإنه أخذ يتبع طريقا متعرجا محاولا أن يجد السبيل إلى حماية فنه على الرغم من كل شىء وأن يقول ما باستطاعته أن يقول”.
ورغم أن طه حسين كان يعيش حينها أيامه الأخيرة «توفى بعدها بعام تقريبا فى ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣» فإنه لم يسلم من لسان لويس عوض، وقال فيه: «أما من حيث كونه كاتبا فأنا شخصيا أرى أنه بعد كتاب (مستقبل الثقافة فى مصر) بلغ طه حسين المفكر مرحلة الجمود الحقيقى، فالذى ألفه بعد ذلك سلسلة من التراجم الإسلامية، كتب (على هامش السيرة) معتمدًا على سيرة ابن هشام.. وبعدها أصدر (الفتنة الكبرى) عن عثمان الخليفة الراشد الثالث، ثم أصدر (على وبنوه) وليس فيها ألقه القديم”.
والحق أنه رأى متجن وشديد الإجحاف فى حق عميد الأدب العربى، وفيه تضليل لمن لا يعرف سيرة طه حسين وإنتاجه وإنجازه حسب ناقد «الآداب» د.محمد يوسف نجم، الذى أوضح فى رده على لويس عوض أن إنتاج طه حسين بعد «مستقبل الثقافة فى مصر» لم يفقد روعته وحضوره، بدليل أنه كتب مؤلفات فى قيمة «دعاء الكروان» و«أحلام شهرزاد» و«مع أبى العلاء فى سجنه» و«المعذبون فى الأرض» و«الحب الضائع» والجزء الثانى من «الأيام» و«شجرة البؤس».. وهى كتابات ظهر فيها اتجاهه التقدمى الإنسانى وغضبه من تخلف الأحوال فى مصر، وقبل ذلك فى تثبت أن مؤلفها لم يصب بالإفلاس كما اتهمه لويس عوض.
ولم يكن طه حسين فى وضع صحى وذهنى يسمح له بأن يدخل فى معركة مع لويس عوض بعد أن بلغ أرذل العمر وهزمته الأيام، فاكتفى بالصمت، ولم يعلق بكلمة ساخرة مثلما فعل ردا على الأديب الشاب فتحى غانم الذى وصف قصص طه حسين بأنها ركيكة وأسلوبه فى الكتابة القصصية بأنه «متخلف»، مطالبا جيله من شباب كتاب القصة بأن يرفعوا ذوقهم الفنى ووعيهم الأدبى، فرد عليه طه حسين متهكما: «وأحب أن أرضى هؤلاء الأدباء الكرام من شبابنا فأؤكد لهم مخلصا أنى لم أعتقد قط أنى كاتب مجيد ولم أصدق قط أنى أديب ممتاز، ولم أفهم قط هذا اللقب الذى أهدى إلىّ فجأة ومن غير وجه وعلى غير تواطؤ من الذين أهدوه إلىّ فسمونى: عميد الأدب العربى».. حتى السخرية لم تعد فى استطاعة «عميد الشغب العربى» ردا على لويس عوض.
أما صديقه وزميله فى «الأهرام» توفيق الحكيم فكان رأى لويس عوض فيه: «توفيق الحكيم قضية صعبة، لأنه من ناحية التكنيك بالذات هو الأستاذ العظيم فى المسرحية المصرية، إنه أستاذ هذا الفن الوليد، الكاتب الوحيد الذى تعلم الصنعة من ألفريد جارى (الشاعر والكاتب المسرحى الفرنسى، الذى توفى ١٩٠٧ ومن أشهر مسرحياته الملك أوبو)، ولكن باقى كتابنا المسرحيين استفادوا من تراث الريحانى.. لكن من الصعب تصنيف توفيق الحكيم، لأنه إنسان غير واضح الاتجاه، إنه علمانى، إنه عموما أوروبى فى نظرته للأمور، لكنه بعد ذلك لا يهتم بالقضايا الاجتماعية». وهكذا أطلق لويس عوض وابلا من الرصاص على الثلاثة الكبار حينها فى الأدب والثقافة، ورجمهم بأحكامه القاسية، فنجيب محفوظ عنده «مخادع» و«ألعبان سياسى»، وطه حسين «أفلس» فكريًا بعد «مستقبل الثقافة فى مصر»، وتوفيق الحكيم «باهت» وغير واضح الاتجاه.
المفكر الكبير لم يعتذر أو يتراجع عن تصريحاته وآرائه الصادمة
المؤكد أن «تسريبات» المحاضرة وصلت إلى آذان «العمداء» لكن الأكثر إدهاشا أن لا أحد من «المشتومين» غضب من لويس عوض أو قاطعه، فقد ذهب الكاتب والشاعر محمد كشيك بعدها ليجرى حوارا مع لويس عوض لمطبوعة خليجية فوجد نجيب محفوظ فى مكتبه يتحاوران ويتضاحكان، وأصر لويس عوض على أن يجلس ليحضر الحوار.
وحتى فى هذا الحوار الحى لم يسلم نجيب محفوظ من لسان صديقه، فعندما ُسئل لويس عوض عن تجربة محفوظ فى «تحت المظلة» ومحاولته التجريب والتمرد على الشكل التقليدى والكلاسيكى للقصة، أجاب الناقد الكبير بحسم وبلا مجاملة لضيفه بأن نجيب خان تلك التجربة المهمة وارتد عنها سريعا إلى الشكل التقليدى للقصة عندما كتب بعدها «الكرنك».. وقال لويس عوض: هذا الاتجاه عند نجيب محفوظ كان غريبا ومؤقتا ولم يستمر بعد مجموعة «تحت المظلة» إلا فى حوالى عشر قصص كان قد أعطاها لنا فى الأهرام.

تقبل نجيب محفوظ النقد بسماحة غير معتادة، وهو المعروف بحساسيته العالية إزاء الآراء السلبية، بل وتداخل فى الحوار، وترك لويس عوض محاوره الصحفى ودخل مع محفوظ فى نقاش جانبى تقفز منه معانى الامتنان والتقدير، التى كان يحملها نجيب محفوظ لناقده مهما بدت حدته وبانت قسوته، نقاش من المهم أن نورده بنصه لما يحتويه من وقائع مدهشة ومعلومات خطيرة:
لويس: كنت قد أعطيتنا عشر قصص ورفض هيكل أن ينشرها.
نجيب: كان هذا بعد النكسة على ما أظن؟
لويس: نعم، لأن هيكل أحس أن بهذه القصص شيئا غير مريح، فذهبت أنت ونشرتها فى دار الهلال.
نجيب: آه، وكان رجاء النقاش موجودا، ونشر منها قصتين أو ثلاثا.
لويس: وأنا غضبت جدا، وذهبت بنفسى إلى هيكل وقلت له: كيف ونجيب محفوظ كاتب الأهرام الأول يصبح مضطرا إلى أن ينشر قصصه فى الخارج؟، وطلبت من هيكل وقتها أن يسلمنى القصص وأخبرته بأننى سوف أنشرها على مسئوليتى.
نجيب: وماذا قال لك هيكل؟
لويس: كان يضعها فى درجه، أخرجها وقال لى: اقرأها جيدا قبل نشرها، وقرأتها ولم أجد بها أى شىء يدعو…
نجيب «مقاطعا»: يدعو للتخوف!.
لويس: للتخوف الكبير، فقد كان بها شىء لكنه لا يدعو إلى عدم النشر، وكانت النتيجة أننى حينما نشرت منها قصتين قام هيكل مرة أخرى بسحب الباقى منى، ذلك أن السياسيين كانوا يلحون عليه بالسؤال: ماذا يقصد نجيب محفوظ بهذا الذى يكتبه؟.
نجيب: حتى أيام أحمد بهاء الدين فإنه لم يوافق على نشر رواية لى بالأهرام، وسعى لنشرها بمجلة اسمها «الشباب» كان يرأس تحريرها أحمد كمال أبوالمجد، لأن أحدا لن يشعر بها فى تلك المجلة.
لويس: يكفى أن تعرف أنه فى سنة ١٩٧٠ وحدها تمت مصادرة أكثر من سبع مسرحيات دفعة واحدة وروايتين، ومن هذه المسرحيات ثلاث لسعدالدين وهبة. وقد بحثت عن شىء منسوب للويس عوض فى فترة «التسريبات» يخفف فيه من وطأة آرائه وحدتها وقسوتها فى حق العمداء الثلاثة، لكنى لم أجد، وكنت متأكدا أننى لن أجد، فلم يكن لويس عوض الذى نحتفل هذه الأيام بذكرى مرور ٢٨ عاما على رحيله من النوع الذى يعتذر ويتراجع ويهادن، وهو الذى جاء إلى الدنيا لكى يعترض وينتقد ولا يتوقف عن إثارة غبار المعارك حتى ولو أدمته الجراح.

الدستور -29/8/2018

من مذكراتهم

لويس عوض: هدوء أرستقراطي عند طه حسين وشعبية عند العقاد

https://www.albayan.ae/sports/2005-10-28-1.985482

التاريخ: 28 أكتوبر 2005

ماذا تفعل لو كنت شاباً جامعياً في مصر، توجهت إلى القاهرة وعندك مشكلة مع أبيك: هو يريد لك دراسة الحقوق وأنت تريد دراسة الأدب؟ لويس عوض خُيّل إليه أنه عثر على الجواب حينها، اتصل بعملاقي الأدب في ذلك الحين طه حسين وعباس محمود العقاد، ثم قصدهما طالباً العون والمشورة، وها هو يحدثنا عن النتيجة من هذه الصفحات المستقاة من كتاب ذكرياته «أوراق العمر» الذي أثار ضجة وإعجاباً حين صدر قبل ربع قرن، وفي طريقه يقدم لنا عرض صورة من الداخل للأديبين الكبيرين.

لم أضيع وقتاً بعد قدومي إلى القاهرة، فبعد أن سجلت اسمي طالباً بكلية الآداب وقدمت طلبات المجانية، انصرفت إلى شؤوني الخاصة (..) وأضعت الأسبوع الأول في شراء الأثاث ونقله وفي شراء بعض الكتب الأساسية، وكان أهم ما اشتريته كتاب «خزانة الذهب»، وهو مختارات من عيون الشعر الانجليزي القصير، كذلك اشتريت كتاباً مقرراً في قواعد اللغة اللاتينية وبعض نصوص الأدب الفرنسي.

وبعض نصوص الأدب العربي وهي «البيان والتبيين» و«الشعر والشعراء» و«ديوان الحماسة»، واشتريت نسخة من قاموس أوكسفورد الذي كان استعماله معتمداً في قسم اللغة الانجليزية، ومسرحية «ماكبت» لشاكسبير و«الرجل والسلاح» لبرناردشو… وأقبلت على دراستي بحدية تامة)

ولم ينقض الأسبوع إلا وكنت قد قفزت القفزة الكبرى: اتصلت هاتفياًّ بطه حسين في منزله. وكان يسكن في شارع المينا بمصر الجديدة، وطلبت تحديد موعد للقائه فحدد الموعد لي سكرتيره توفيق شحاته.

ثم اتصلت تلفونياًّ بعباس محمود العقاد في منزله بشارع السلطان سليم في مصر الجديدة، فردّ عليّ بشخصه وحدد الموعد خلال الأسبوع، أما طه حسين فطلبت لقاءه لعرض «أمر خاص» وأما العقاد فقد طلبت لقاءه كطالب معجب بأدبه، ومازلت أذكر مدى الاضطراب الذي شاع في صوتي وأنا أطلب اللقاءين، ومدى الاضطراب الذي شاع في حركاتي وأنا أواجه هذين الكاتبين العظيمين.

عندما دخلت بيت طه حسين، استقبلني عند الباب توفيق شحاته وقادني في ممر مكسو الأرضية إلى حجرة مكتب طه حسين في الدور الأرضي وأعلن عن اسمي، واستقبلني طه حسين واقفاً، وصافحني ثم جلس في تؤدة قائلاً لي بالفرنسية: «أجلس» فجلست. وكانت مدام سوزان واقفة بالقرب منه فقالت لي «بونجور مسيو» فوقفت وأجبت متلعثماً «بونجور مدام”.

ثم جلست مرة أخرى وعاد طه حسين يقول ودائماً بالفرنسية «شاي من فضلك يا سوزان». وكانت مدام سوزان تحدّق فيّ في جدية تحاول ان تكتشف أي نوع من الشبان أكون. ثم انصرفت وكان توفيق شحاته واقفاً طوال الوقت في طرف الحجرة، وكانت حجرة المكتب مكسوة الجدران برفوف المكتب السوداء المجلدة والرفوف لونها جوزي غامق، وكان فيها أثاث قليل:

مكتب صغير جميل غامق اللون عليه تلفون، ومقعدان من الجلد ومقعدان من طراز لا أعرفه وكرسيان جميلان من طراز غريب أيضاً و«المقطوفتان»، وكانت هذه أول مرة أرى فيها أرضية باركيه وورق جدران، ففي المنيا لم تكن أسرتي تعرف غير البلاط المنقوش وطلاء الزيت، وكذلك لم يكن في بيت عمي اسحق بمصر الجديدة إلا بلاط جميل عليه سجاجيد جميلة، وكانت في حجرة طه حسين ستائر ثقيلة داكنة على النافذة وستائر وردية على زجاج النافذة كبتت ضوء الشارع، كان يسود المكان هدوء غريب، الكلام خفيض ووقع الأقدام أشد انخفاضاً.

وسألني طه حسين في لطف عن سني وعن دراستي في المنيا الثانوية، وعن بدايتي في كلية الآداب وعن أبي وعمله، وكانت الأسئلة مقتضبة والأجوبة مقتضبة، وأخيراً وصلنا الى بيت القصيد: «ايه بقى الموضوع؟» وبدأت أجيب بخجل. وهنا دخلت مدام سوزان بالشاي وتركت الصينية وذهبت، وصبّ توفيق شحاته لطه فنجاناً ولي فنجاناً.

واستأنفت شرح الموضوع :الموضوع أني أريد أن أدرس الأدب وأبي يعارض في ذلك ويهدد بعدم الإنفاق علي إن أنا دخلت كلية الآداب، ولهذا قدمت للكلية طلب المجانية وأنا أرجو أن يساعدني الأستاذ طه حسين في الحصول على هذه المجانية.

وبدا الانزعاج على وجه طه حسين: «وليه ما تسمعش كلام أبوك؟» فأجبته باضطراب: «أنا مصمم على دراسة الأدب مهما تكن النتيجة»، فاشتد انزعاجه وكرّر: «أنا رأيي إنك تسمع كلام أبيك، حاول أن تقنعه مرة أخرى وإذا أصرّ على الحقوق اسمع كلامه»، ولم أجب لشدة اضطرابي.

لقد كان واضحاً أني أقحمت طه حسين في مشكلة، لأنه لا يستطيع أن ينصح ولداً بعصيان أبيه، ويبدو أنه أحس بأني كاسف البال فضرب فخذيه براحتيه وقال: «على العموم الموضوع ده حتبتّ فيه لجنة المجانية في أوائل نوفمبر، حاول تتفاهم مع والدك وربنا يسهل». فأحسست إحساساً غامضاً بأن هذه العبارة تحمل وعداً بخير، وبعد خروجي التقيت في الطرقة بغلام وصبية أكبر منه سناًّ، فعرفت أنهما ابن طه حسين وبنته، فيما بعد عرفت أن اسمهما الرسمي هو مؤنس وأمينة («كلود ومرغريت» هكذا قال توفيق شحاته)

وبعد أيام من زيارتي لطه حسين زرت عباس محمود العقاد وكان الجو عنده مختلفا تماماً عن الجو عند طه حسين، كان يسكن شقة في أحد الأدوار العليا، وكان ضوء الشارع عنده قوياًّ، وفتح لي الباب خادم يلبس جلباباً وأدخلني غرفة الاستقبال التي سميت بعد ذلك «صالون العقاد» وهناك جلست وانتظرت نحو 5 دقائق، ثم دخل العقاد بقامته الفارعة ولم يكن في بدلته مثل طه حسين، ودخل لابساً بيجاما وفوقها روب شتوي، شبيه بالبطانية، وكان يلبس حول رقبته كوفية وعلى رأسه ما يشبه الطاقية، فنهضت وصافحته، وأشار بالجلوس فجلست.

وكانت حجرة الجلوس واسعة فيها طقم من «المذهّب» مستكمل بكراسي من نفس النوع وهي غالباً تقليد الأوبيسون.

وكانت مكتبته في مواجهة حجرة الاستقبال، فرأيت قسماً من مكتبته المشهورة(..)، ولم أجد في بيت العقاد (…) ذلك الهدوء الشامل الذي وجدته في بيت طه حسين، فقد كان ضجيج المترو في شارع الخليفة المأمون يصل إلى مسامعنا كل بضع دقائق وكنا نسمع نداء الباعة في الشارع، وبعد أن عبرت للعقاد عن إعجابي الشديد بكتاباته ومتابعتي لكل كلمة يكتبها في الأدب والسياسة.

استفسرت منه عن بعض ما استغلق علي فهمه من عباراته، فشرح لي وخيّل إلي أنني فهمت ولكني في الحقيقة لم أفهم معنى عبارات له مثل «أوزان الفن وأفراحه» أو «الحياة أقدم من الكون في نظري»(…)، وكان العقاد باتاًّ معي ولم يبخل عليّ بعلمه وتعليماته ولكنه حين عرف بمشكلتي الخاصة بين الآداب والحقوق لم يعلق بأكثر من قوله أن من سنن الحياة أن الأجيال لا تتفاهم، ولم ينصح بشيء، ولقد وجدته قادراً على (…)

والدعابة رغم صوته الحاد والعميق وإلقائه المتعالي، وكان متحفظاً في الكلام عن طه حسين لكنه تكلم في كل شيء آخر: في المتنبي والمصري وفي داروين ونيتشه، وفي هازلت وامرسوف، وفي شيلي وبيرون، وكان لاذعاً في أكثر ما يقوله.

وتركته بعد ساعتين بعد أن أبلغني أن صالونه مفتوح كل يوم جمعة، ودعاني أن أتردد عليه لو شئت لألتقي بعض الأدباء وذكر لي أسماء بعض مريديه، ولم أكن قد سمعت بأحد منهم.

صحيفة البيان

118963978_4341512595922100_6699549128155365262_n

كتب وحكـايات: لويس عوض وزوبعة «فقه اللغة العربية».. المصادرة بتوصية «الأزهر»

الجمعة 23-06-2017 | كتب: ماهر حسن |

فى سبتمبر1981، صدر كتاب الدكتور لويس عوض، «مقدمة فى فقه اللغة العربية»، عن الهيئة العامة للكتاب، وبعدها أرسل مجمع البحوث الإسلامية مذكرة إلى مباحث أمن الدولة، تطالب بالتحفظ على الكتاب ومساءلة مؤلفه، ليأتى الرد للهيئة بمنع الكتاب لحين الفصل فى أمره بمعرفة قاضى الأمور المستعجلة.

وفى ديسمبر من نفس العام، تحددت جلسة أمام محكمة جنوب القاهرة، ودفع أحمد شوقى الخطيب، محامى لويس عوض، بأن هذه قضية لغوية تحتاج لتحكيم مجمع اللغة العربية لا إلى مجمع البحوث الإسلامية، واستجابت المحكمة وشكلت لجنة من الدكتور توفيق الطويل، وأحمد حسن الباقورى، وعبد الرحمن الشرقاوى، لكن «الأزهر» رفض هذه اللجنة.

وقال الشيخ عبد المهيمن الفقى، سكرتير مجمع البحوث الإسلامية، وقتها، إن المجمع جهة الاختصاص، وامتثل القاضى لهذا الرأى، وكانت أزمة الكتاب قد بلغت حد التكفير، واتهام لويس عوض بالتهجم على الإسلام، وتزوير اللغة العربية، واستهداف الثوابت الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بأصل العرب ولغتهم، وصولا لصدور توصية الأزهر بمصادرة الكتاب وسحبه من السوق، وحكمت المحكمة بمصادرة الكتاب بعد أن رضخت لممثل مجمع البحوث الإسلامية، الأمر الذى جعل منه خصما وحكمًا، كما أن محامى «عوض»، كان تحت إرهاب رموز التطرف، فآثر السلامة ولم يستأنف الحكم.

ورأى المراقبون، أن المؤلف وكتابه تعرضا للظلم، لعدم أحقية مجمع البحوث الإسلامية فى طلب مصادرة كتاب، فالقانون رقم 103 لسنة 1967 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975، لا يعطى الأزهر بكل هيئاته أى حق فى طلب مصادرة أى كتاب أو عمل فنى، وكل ما لمجمع البحوث الإسلاميةـ إحدى هيئات الأزهرـ طبقا للفقرة 7 من المادة رقم 17 من اللائحة التنفيذية هو «تتبع ما ينشر عن الإسلام والتراث الإسلامى من بحوث ودراسات فى الداخل والخارج للانتفاع بها وبما فيها من رأى صحيح أو مواجهتها بالتصحيح والرد» أى أن الكتاب يرد عليه بكتاب، والبحث يفند ببحث، والمقال يناقش بمقال.

ووصف لويس عوض كتابه بقوله: «موسوعة فكريّة ولغويّة ضخمة، واختراق قويّ لعوامل العزلة والجمود التى تفصل بيننا وبين عهود ازدهار الفكر والحضارة العربيّة، والكتاب يتضمن منهجا وقضايا، أما المنهج فهو باختصار شديد ضرورة امتحان اللغة العربية بتطبيق كافة قوانين الفونوطيقيا (علم الصوتيات) والمورفولوجيا (علم الصرف أو علم صور الكلمات) وقوانين الايتمولوجيا (قوانين الاشتقاق)، وفرغ علماء اللغة فى أوروبا من كل هذه العلوم فى القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، من إرساء قواعدها، بحيث أن أى دارس للفيلولوجيا، (فقه اللغة)، يجب أن يكون مسلحاً، منذ البداية، بهذه القوانين والقواعد وأنا لا أطالب إلاّ بتطبيق هذه القوانين على اللغة العربيّة بعقل مفتوح حتّى نستطيع أن نهتدى إلى ما بين لهجاتها من صلات، وما بين مفرداتها ومفردات اللغات الأخرى من علاقة، واللغة العربية كغيرها من كل لغات العالم، مكونة من طبقات شبيهة بالطبقات الجيولوجية والتى اندمجت وتكاملت مع نفسها وانصهرت فى هذه البوتقة وخرجت منها هذه اللغة التى نسميها العربية. وأضاف عوض: «المرأة فى المراحل المبكرة من تاريخ القبائل العربية كانت رأس القبيلة وتحمل أشهر القبائل أسماء مؤنثة مثل أمية وربيعة وكندة ومرة، وأن حركة التدوين بالعربية بدأت لأول مرة فى القرن الثانى قبل الميلاد، وهكذا يكون العرب أمة حديثة نسبيا، والتأريخ للحضارات عادة يكون ببداية عصر التدوين واستعمال الأبجدية، وأن أقدم نص عربى معروف يرجع إلى عام 328 ميلادية، وهو شاهد قبر امرؤ القيس بن عمرو المتوفى فى ذلك العام، ويسمى صاحبه (ملك العرب كلهم)، ويسجل أن امرؤ القيس، كان نائب قيصر الروم أو بيزنطة فى بلاد العرب”.

ويرى عوض أن العربية لغة محدثة، وأنها لم تكن لغة آدم فى الجنة الأولى، ولا كانت مسطورة فى اللوح المحفوظ قبل بدء الخليقة.

المصرى اليوم

7

صورة من قرب-  لويس عوض: ثار على النخبة وجهر بعدم قداسة العرب

كريم شفيق

“بقدر ما وجدت طه حسين مهيباً وعباس العقاد شامخاً، وجدت سلامة موسى متواضعاً؛ كان غزير العلم في غير تكلف، بمجرد أن يبدأ في الكلام حتى يتدفق علمه الموسوعي، ويتجلى ذكاؤه الحاد كالنصل القاطع”، كلمات للمفكر المصري، لويس عوض، حملت انطباعات متفاوتة عن ثلاثة من أهم مفكري وأدباء مصر، في القرن الماضي، تتكشّف فيها المحطات التي انتقل إليها عوض في مسيرته الأدبية والمعرفية، فشكّلت وعيه إلى أن اكتملت شخصيته الفنية الفذة، وأدواته النقدية، ومساحته الخاصة التي صنعها بنفسه.

وقد خاض عوض، في سيرته الذاتية “أوراق العمر”، سجالاً مهماً، حول ثنائية المثقف التنويري والمثقف السياسي، وفضّ الالتباس حولهما؛ حيث كان يرى أنّه ليس ثمة خلاف، بين الأدوار التي يصنعها الطرفان في تدشين مفاهيم الحرية والعقلانية، بحسب موقع كلّ منهما، واستهدف تلك المحاولات التي حاولت تشكيل حدود فاصلة بينهما؛ لأنّ الدور السياسي للمثقف، واستحقاقاته في مواجهة السلطة السياسية، وانتزاع حقوق الناس بالكلمة والوعي والمعرفة، دون أن يتعارض مع الدور التنويري.

الدراسة والنشأة

ولد لويس عوض، في محافظة المنيا، بصعيد مصر عام 1915، ولم تكد تمرّ سوى أسابيع على ولادته، حتّى رحل وأسرته إلى السودان؛ حيث يعمل والده، في مدينة أم درمان. وبعدها بأربعة أعوام، عاد إلى مسقط رأسه، ليتلقّى تعليمه الابتدائي والثانوي فيها؛ حيث تشهد تلك الفترة ميوله الأدبية ونبوغه الفني؛ فنشر أولى قصصه القصيرة، بصحيفة “الإنذار” الإقليمية عام 1927.

درس عوض اللغة الانجليزية وآدابها في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)؛ حيث نال ليسانس الآداب، قسم الإنجليزية، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، عام 1937، وحصل على ماجستير في الأدب الإنجليزي، من جامعة كامبريدج، عام 1943، ودكتوراه في الأدب، من جامعة بريستن، عام 1953.

تعرض عوض للاعتقال مع اليساريين فى عام 1959، لكنّه خرج سريعاً؛ لأنّه لم يثبت انضمامه لأي حزب سياسي

عمل مدرساً مساعدًا للأدب الإنجليزي، في قسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، في الفترة من عام 1940إلى 1954، حتى تولى رئاسة القسم في العام الأخير؛ ليصبح المصري الأول الذي يتولى ذلك المنصب، وما لبث أن توجه إلى معهد الفنون المسرحية، لتدريس مادة النقد الأدبي.

وتحفل سيرة المفكر المصري، بالعديد من المحطات المثيرة والتحولات الكاشفة والدؤوبة، إضافة إلى موروثه الأدبي والمعرفي والفني الهائل، الذي تراوح بين الترجمة والنقد والبحث التاريخي؛ حيث عنِي بأهمية الدور النقدي للمثقف، الذي يتصدى لمحاولات تجميد الفكر، بدل التقليد، وتأبيد رؤية ماضوية في الثقافة العربية، التي لا تقبل التنوّع والجديد، وتندمج مع الأطروحات المعرفية ومقولاتها الحديثة.

وقد تعرض لويس عوض للاعتقال مع اليساريين، عام 1959، لكنّه خرج سريعاً؛ لأنّه لم يثبت انضمامه لأي حزب أو تنظيم سياسي، فيما تولّى بعد خروجه رئاسة القسم الثقافي في جريدة “الأهرام”.

المفكرون في سيرة صاحب “أوراق العمر”

كان يتردّد على صالون العقاد متأثراً بالنشأة الوفدية في أسرته، ومتابعة مقالاته في الأدب والسياسة، المنشورة في جريدة “البلاغ”، ومواجهة الطغيان السياسي وديكتاتورية الملكية، فتجلّى له العقاد “كهرقل الجبار الذي كان يسحق بهراوته الشهيرة الأفاعي”، كما يقول عوض.

جمعته الصدفة كذلك بسلامة موسى، ليتعرّف معه على الاشتراكية ويقرأ برنارد شو، والأدب الروسي وتاريخ مصر القديم، حتى انتهى به الحال، في الجامعة؛ حيث تعرّف إلى عميد الأدب العربي طه حسين، الذي ساعده في الحصول على البعثة إلى كامبريدج.

خاض عوض، في سيرته الذاتية “أوراق العمر”، سجالاً مهماً، حول ثنائية المثقف التنويري والمثقف السياسي، وفضّ الالتباس حولهما

يملك صاحب “تاريخ الفكر المصري الحديث”، تجربة شعرية وحيدة، عرف بها من خلال ديوان “بلوتولاند”، أصدره عام 1947، الذي كان ثورياً على الأنماط التقليدية، المعروف بها نظم الشعر العمودي، ومضى في فضاء الشعر الحرّ الجديد، الذي سبق به صلاح عبد الصبور، فنهل من التجارب الشعرية الحديثة، في أشكالها المتمردة، كالشعر المسرحي، وتفادى الجمل البلاغية والاستعراض اللغوي، فضلاً عن الاشتغال على عوالم مختلفة؛ كالأدب الشعبي، والاستعانة باللغة العامية، والاقتصاد في اللغة ومطابقتها للمعنى بدقة، دون إفراط وحشو.

وكتب في مقدمة ديوانه “حطموا عمود الشعر”؛ الذي يعدّ مواجهة عنيفة، ليس مع التقاليد الأدبية الراسخة، لكن مع مجمل المدارس الشعرية المعتمدة والمستقرة، بكلّ تركيباتها اللفظية القديمة، وأصالة لغتها التقليدية.

معاركه الفكرية مع النخبة والشيوخ

في كتابه “الثورة والأدب”، الذي يعدّ وثيقة مهمة لدراسة وبحث، حالة النهوض الثقافي والأدبي، في عقد الستينيات، واختبار حقائق السياسة المؤدية لذلك، في ذلك التوقيت، خصوصاً إبان ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، يقول: “في الواقع؛ إنّ بونابرت لم يحوّل مصر إلى دولة زمنية علمانية، إلّا بالمعنى التاريخي، فما إن فكّ بونابرت عن مصر أغلال الترك والمماليك، حتى اكتشف أنّه يتعامل مع أمة علمانية في جوهرها، بلا أوهام عن الثيوقراطية، أي حكومة الله”، مشيراً إلى زيف المعارك التي نالت منه، بشكل تلفيقي، من الرجعيين والمحافظيين، سواء كانوا من النخبة المثقفة، أو حتى الشيوخ وأصحاب العمائم؛ حيث تم وصمه بعبارات متفاوتة، طائفية وسياسية وعنصرية، فوصفوه بـ “الكاتب الصليبي”، الذي يستهدف إحياء الفرعونية بديلًا عن الإسلام، وهو ما يتناقض مع اتهامه بإحياء القومية العربية، وعروبة مصر، وإيمانه القوي بالقومية الوطنية وعلمانية الدولة.

أحدث كتاب “مقدمة في فقه اللغة العربية”، ضجيجاً هائلاً انتهى بعوض إلى ساحات القضاء، والتوصية بالمصادرة ومنعه

وقد هاجمه الشيخ محمد جلال كشك، وحاول تأليب السلطة “الناصرية” ضدّه، فاتّهمه بمعاداة القومية، في الوقت نفسه الذي كان كشك يهاجم فيه عبد الناصر، باعتباره يستبدل الإسلام بالقومية!

وأفرد له الناقد المصري، رجاء النقاش، كتاباً بعنوان “الانعزاليون في مصر”.

اللغة العربية ليست مقدسة

عندما أصدر عوض كتابه “مقدمة في فقه اللغة العربية”، أحدث ضجيجاً هائلاً انتهى به إلى ساحات القضاء، والتوصية بالمصادرة ومنعه، حيث اعتمد المنهج الفيلولوجي وتطبيقاته على اللغة، واعتبار اللغة العربية، مثل كلّ اللغات، تجري وفق نسق تاريخي معين، فتشترك مع اللغات الأخرى التي تلاقحت معها، ونهلت منها مفرداتها، وامتزجت بها.

وذكر لويس عوض، أنّ تواتر الألفاظ في أكثر من لغة، نتج عن قرابة لغوية أو تأثيرات حضارية، وأنّ اللغة العربية أخذت عن باقي اللغات، وبحسب ما ورد في الكتاب “اللغة العربية، كما يدلّ التحليل المورفولوجي والفونيطيقي والسيانطيقي، كغيرها من اللغات السامية، ليست من صلبها وسمتها الأصلي، إلّا أنّها تطور طبيعي من الجذور نفسها التي خرجت منها السنسكريتية، وإيرانية الزند، واليونانية، واللاتينية”.

4

قراءات نقدية في إبداعات لويس عوض (الف – 7/3/2020)

يضمّ كتاب (لويس عوض – قراءات نقدية ) الصادر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر مجموعة دراسات وقراءات نقدية، عن الدكتور لويس عوض أحد الشخصيات الثقافية والأدبية البارزة في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد قام بإعدادها وتقديمها نبيل فرج. النقاد والباحثون الذين قرأوا لويس عوض في هذا الكتاب كُثُر وهم من عُمد دولة الأدب، مثل الدكاترة جابر عصفور، وشكري عياد، وعبدالمنعم تليمة، وماهر شفيق فريد، ومحمد إبراهيم أبوسنّة، وكريم مروة، ولطيفة الزيات، ومحمود أمين العالم وسواهم. والكل يجمع على تقدير لويس عوض وينقده في الوقت نفسه، وهذه هي سنّة الحياة والأدب في آن. وفي آدابنا القديمة ترد عبارة جليلة هي «جَلّ من لا يُخطئ» . وقد أصاب لويس عوض كثيراً فيما كتب كما أخطأ كثيراً، ولعل ميزته الأساسية تمثلت في المعارك الفكرية التي أثارها أو خاضها ونتج عنها إعادة نظر في الكثير من القضايا، وتصويب أخطاء شائعة، أو تحريك للحياة الثقافية بوجه عام.
الدكتور شكري عياد في دراسة له في الكتاب، يقول إن لويس عوض تعرض لكثير من النقد، بعضه جارح ومجرّح، بسبب دراسته في تاريخ الفكر المصري الحديث، ودراساته في اللغة العربية والأدب العربي القديم، ولكنه في هذه الدراسات الأخيرة لم يكن منظّرا بل حاول أن يكون مؤرخاً. ولكل مؤرخ وجهة نظره التي تسيطر على اختياره للأحداث وتفسيره لها. ولويس عوض رجل عالمي النزعة في فكره وشخصيته وأسلوب حياته. وقد التقى إيمانه بشخصية مصر ودورها الحضاري بنزعته العالمية فكان منهما مزيج حدّد وجهة نظره وأوقعه في بعض الأخطاء التاريخية. هذا المزيج، على قيمته، كان ينقصه عنصر مهم، وهو المعرفة الوثيقة بالتراث العربي الإسلامي الذي ظل لويس عوض ينظر إليه نظرة الهاوي رغم محاولاته المستمرة لاستيعابه. على أن مثل تلك الأخطاء لا ينبغي أن تكون سبباً لتجريح الرجل. والآن وقد انطوت صفحة حياته، وبقيت لنا أعماله، يجب أن نتمثل بقول شاعرنا:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكم أن تلتقوا
أهم ما خلّفه لنا لويس عوض بنظر الدكتور شكري عياد هو مقالاته ودراساته في النقد الأدبي، وهذا الجانب يعالجه الدكتور جابر عصفور في مقاله الذي يتناول فيه الدكتور لويس عوض والدكتور محمد مندور كناقدين ويقارن بينهما.

يرى جابر عصفور أن الفارق بين محمد مندور ولويس عوض فارق كمّي تمامًا.. كلاهما لم يكن ماركسيًا بالمعنى الدقيق أو العلمي في أي مرحلة من مراحل كتاباته، وكلاهما كان راديكالياً بالمعنى الذي لا يتطابق مع الماركسة بالضرورة. وإذا كان أول كتاب نشره لويس عوض، وهو «في الأدب الإنجليزي»، يشي بتأثره الشديد بأفكار الناقد الماركسي الإنجليزي كريستوفر كودويل، فإن هذا التأثر بأكثر النقاد الإنكليز مثالية ورومانسية، له دلالته الواضحة، فضلاً عن أنه يظل في منطقة التأثر التي لا تجعل من كتابات لويس عوض نقداً ماركسياً.
وأهم من ذلك أن أي متابع مدقق لن يجد في التحليل النهائي فارقاً جذرياً بين المقولات النظرية التي انبنى عليها كتاب «في الأدب الإنجليزي» في منتصف الأربعينيات، وكتاب «الاشتراكية والأدب» في منتصف الستينيات.
فذلك الكتاب الذي عدّه بعض النقاد الماركسيين تراجعاً، لم يكن في حقيقة الأمر سوى استمرار متصل لمقولات «الإنسانية الجديدة» التي صاغها لويس عوض صياغة حاسمة في مطلع الخمسينيات، في مبادئ تؤكد أن الإنسانية الجديدة تحرر الفن من المذهبية الضيقة، وأنها تؤمن بجوهر واحد هو الحب، وأن ليس في الفن مادة وصورة، ولكن فيه ما في طبيعة الحياة والأحياء.
وجهان لعملة واحدة
وعند جابر عصفور أن لويس عوض ومحمد مندور وجهان لعملة واحدة، أو موقف نقدي واحد. «وإذا كان محمد مندور قد أتاح لي أن أتعرف كتابات لويس عوض في مطلع الصبا، فإن كتابات لويس عوض جعلتني أعاود النظر في كتابات محمد مندور بوعي مختلف، وظل كلاهما يردّني إلى الآخر دون انقطاع. فكلاهما يتكامل مع قرينه على نحو لافت، وكلاهما تعلمت منه الكثير، وكلاهما ظل ملازمًا للآخر ملازمة أجاكس لصديقه آخيل الذي سبقه إلى الموت فظل يذكره بالوفاء والعرفان إلى أن لحق به بعد ربع قرن”.

ويتابع الدكتور ماهر شفيق فريد، وهو ناقد مصري بارز، النظر في «نقد» لويس عوض، فيرى أن لويس عوض هو في المحل الأول ناقد أدبي. «ولكن لا معنى للثناء على لويس عوض الناقد، فهو كالممدوح الذي قال عنه الشاعر العربي:
تجاوز قدر المدح حتى كأنه
بأحسن ما يُقنى عليه يُعاب

والواقع أنه إلى جانب زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي، من أهم المفكرين المصريين في هذا القرن، وإن مالت كفة اهتمامات هذين الاثنين إلى الفلسفة مع إلمام بالأدب، ومالت كفة لويس عوض إلى الأدب مع إلمام بالفلسفة. إنه ذو رؤية شاملة وقدرة على الربط بين الأدب والحياة على نحو لا يجور على استقلال الفن ولا يغفل تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيه، في الوقت ذاته.
وقراءاته واسعة تغطي الآداب الأوروبية كلها تقريبًا، منذ الإغريق والرومان، مع تركيز على الأدبين الإنكليزي والفرنسي، واطلّاع طيب على الأدب العربي قديمه وحديثه».
ومن جانب آخر يعرض ماهر شفيق فريد لجوانب أخرى في شخصية لويس عوض منها أنه لم يكن يخلو من تطرف النوابغ. وهذا واضح في بعض انفجاراته بأحكام غريبة كسخريته القاسية من مسرحية ميخائيل رومان «الدخان» ، رغم أنها ليست أسوأ من كثير مما كتب عنه.

أسطورة أوريست

ثم إن كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربية» بحاجة إلى نقد علمي يفصل بين الخطأ والصواب فيه، ويكون على مستوى أرقى من سلسلة المقالات التي نشرتها مجلة الإذاعة والتلفزيون في عهد أحمد نشأت. فليست دعواه أن اللغة العربية لغة هندية/‏‏ أوروبية بالدعوى المقنعة، والتشابه الصوتي بين عشرات الكلمات العربية والأجنبية التي يوردها قد يكون راجعاً إلى أن الجهاز الصوتي لدى بني الإنسان واحد في كل مكان. ومن ثم كان طبيعياً أن تتشابه الصادرة عن الحنجرة الإنسانية من الصين إلى البيرو.

أما كتابه عن «أسطورة أوريست والملاحم العربية» فربما كان من أسوأ ما كتب. خياله يجمح به ويحلّ محل الدرس العلمي المتأني، بل محل حسن الإدراك العادي. وهو لميوله الموسوعية، يخرج أحيانا عن مجال تخصصه، كما في كتابه عن «رسالة الغفران» حيث ارتكب بضع أخطاء (من أطرفها قراءة «تغصّ بالصليان» ، وهو نبات صحراوي، على أنها «تغصّ بالصلبان» . مما جرّ عليه سفر «أباطيل وأسمار» الضخم لمؤلفه العلامة محمود محمد شاكر (ولا أستطيع أن أشاطر يحيى حقي وزكي نجيب محمود وشكري عياد وعبدالعزيز الدسوقي والحسّاني عبدالله إعجابهم بهذا الأخير. وهو سفر يختلط فيه العلم الغزير بالسباب الغزير).. على أن لويس عوض كان من الشجاعة الأدبية والأمانة العقلية بحيث أقرّ بصواب بعض النقدات، خاصة اللغوي منها، الموجهة إليه في هذا الكتاب. وليس هذا الاستعداد للإقرار بالخطأ، والرجوع إلى الصواب، بالأمر الشائع بين كتابنا.

حياته الفكرية

كذلك تعرض لويس عوض عبر حياته الفكرية الطويلة لاتهامات الغزو الفكري، ومعاداة العروبة ، والعمالة للغرب. وهناك من حاول تجريده من كل ميزة كأحمد إبراهيم الشريف، وهو من دراويش العقاد الذين لا يعدو لمعان أستاذهم أن يعكس انطفاء نجمهم. فالشريف في ختام عرضه لكتاب لويس عوض «مقالات في النقد والأدب» ، يقول: «ذلك هو الناقد وذلك هو نقده ومعياره يصيب حيثما استحال عليه أن يخطئ، وينفع حيثما تعذر عليه أن يضرّ أو يضلّل، ويصدق حيثما استعصى عليه أن يكذب أو أن يحرّف، ويمتع كلما امتنع عليه أن يفرّق أو أن يثير”.
يمضي هذا كله كما تمضي خلافات المعاصرين وغيرتهم ونميمتهم. ويبقى من لويس عوض خمسون كتابًا ما بين مؤلف ومترجم تضطرم بتلك النار التي وجدها كاتبنا في شيلي، نار الشهوة يحملها صاحبها بين جوانحه لإصلاح العالم.

وتحت عنوان «الفارس يترجل» يكتب غالي شكري عن «مشروع» لويس عوض، فعنده أن هذا المشروع قد انتهى قبل أن يبدأ ومأساته أنه لم يتوافق مع الحد الأدنى لاتجاه التاريخ، وهو الأمر المعاكس تماماً لمشروع طه حسين الذي كان لويس عوض امتدادًا له، لكن «الأصل» كان ثمرة طبيعية لزمانه ومكانه.
أما «الامتداد» وهي كلمة فيها قدر من التجاوز، فقد أعجبته شخصياً أفكار طه حسين وتحمس لها وتأثر بها. ولكنه لم يفكر في المجتمع الثقافي والتاريخي الجديد مع «بداية الخمسينيات»، وأن أفكار طه حسين قد تحتاج إلى تعديلات جذرية حتى تنسجم مع الواقع المتغير إذا كان الهدف استمرار تغييره، ولم يستوعب المعنى الحقيقي لانتهاء دور طه حسين في الحياة المصرية واكتفى بتفسيرها التفسير السهل: وهو القمع من جانب السلطة الثورية وعدائها للثقافة. كان هناك سبب آخر في الاختفاء النسبي لدور طه حسين، وهو انتهاء مشروعه، ولذلك حين يأتي لويس عوض مجدداً الأركان الرئيسية لهذا المشروع فهو «فولتير في غير زمانه» ، وربما في غير مكانه.. ولكن ليس معنى ذلك أن لويس عوض كان «خواجا» كما يحب خصومه أن يصوروه. ولكنه كان أحد أبناء الجيل الذي أبرم مع ثورة يوليو «صفقة صامتة»، وهو جيل ثورة 1919 بتنويعاته المختلفة: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي وغيرهم ممن اتسعت عقولهم للثقافة الغربية، واتسع وجدانهم لتاريخ مصر القديمة والحديثة. ولكن الجغرافيا السياسية لم تمتد بهم لأكثر من غرب المتوسط، والتاريخ ظل رأسياً محاصراً بحواجز الصحراء من الشرق والغرب.

لم يكن أمام «الثورة» سوى التحالف مع هؤلاء الذين ولدوا بين أحضان ثورة أخرى تنشد الاستقلال الوطني والليبرالي والارتباط الثقافي بالغرب، وكانوا يحلمون بدرجات متفاوتة من العدل الاجتماعية.
لم يكن لثورة يوليو برنامجها النهائي أو البعيد الأمد. ولكنها احتاطت لنفسها منذ البداية بالتفاهم مع الشيوعيين والإخوان المسلمين. ولم تجد أمامها من المثقفين سوى الذين كانوا قد أتموا تكوينهم وأضحوا رموزا قبل مجيئها. وكان على هؤلاء أن يمتصوا صدمة «الرداء العسكري» وما تلاه من إجراءات قمعية في مختلف الاتجاهات ألغت أي توقع لاستمرار الليبرالية. وكان عليهم أن يمتصوا صدمة «العروبة» التي نجح النظام الجديد في إخراجها من صالونات المثقفين إلى الشارع الشعبي والوصول بها إلى محطة الوحدة بين مصر وسوريا.

المشروع المصري
لم يكن هذا الامتصاص أو ذاك موافقة من جانب الحكيم أو محفوظ أو فوزي أو عوض، وإنما كان كبتاً محسوباً. فليس هينا القبول بإلغاء الليبرالية أو انزواء الوطنية المصرية عند أصحاب المشروع المصري الليبرالي. ولكن الذي حصل هو «الكبت المحسوب» الذي طرد لويس عوض وغيره من الجامعة سنة 1954 بسبب غياب «الديموقراطية» واعتقاله عام 1959 بسبب حضور «الوحدة العربية» وهو الكبت نفسه الذي أوقف نجيب محفوظ عن الكتابة اختيارياً بين عامي 1952 و 1957 وهو أيضا الكبت الذي طرد طه حسين ومحمد مندور وعبدالرحمن الخميسي وغيرهم من جريدة «الجمهورية» ولكنه الكبت المحسوب. فقد أصبح الحكيم ومحفوظ ولويس عوض من أجنحة «السلطة الثقافية» غير المتجانسة التي ضمت أيضا يوسف السباعي وعزيز أباظة والعقاد. إذن لم يكن هناك مكان لأمثال مشروع لويس عوض الذي وئد منذ بداية البدايات. وأصبح الكبت والتكيف بديلاً للمشروع وكان «تاريخ الفكر المصري الحديث» هو الصياغة الشاملة للمشروع الذي مات قبل أن يولد. وتلازم المفارقات لويس عوض إلى النهاية. فقد دفع في الخمسينيات والستينيات ثمن مشروع لم يكن قد صاغه نهائيًا. وحين تم الإعلان في يونيو 1967 عن هزيمة مشروع السلطة/‏‏ الثورة، بدأ لويس عوض في صياغة مشروع، وكأنه يقول: «هذا هو الأصل الذي لم تأخذوا به فكنتم البديل الخاسر» . لذلك لم يكن «تاريخ الفكر المصري الحديث» بحثا في التاريخ، بل مشروعا يستشهد بالتاريخ، ولكن هزيمة النهضة كانت في واقع الأمر نهاية النهايات لمشروعاتها كلها، متفرقة ومجتمعة، سلطة ومعارضة، أفرادًا وأحزابًا. كانت «النهضة» ذاتها قد انتهت!

ويرى الدكتور سيد البحراوي أنه حين يتاح لنقدنا العربي الحديث أن يدرس الدرس العميق، ويؤرخ لمراحله الأساسية، لابد أن يحتل لويس عوض فيه مكانة مرموقة لأسباب عديدة منها دأبه في ميدان الدراسة الأدبية، ومنها حساسيته العالمية بالنص الأدبي مع بصيرته النفاذة في إدراك مدلولاته وعلاقاته بالعالم المحيط به، ومنها انفتاح أفقه وتحرر فكره، هذا الذي جرّ عليه الويلات مثلما جلب له الخيرات، وهو في النهاية ممثل لمرحلة انتقالية مهمة في فكرنا الحديث.

عين مصرية
فمنذ أوائل الأربعينيات ولويس عوض دارس الأدب الإنجليزي لا يقف عند هذا الدرس وإنما يتجاوزه طوال الوقت من داخله ومن خارجه ليرتبط ارتباطا وثيقا بالأدب العربي محاولاً أن يسهم في نهضته التي كانت تتبلور عبر محاور متعددة إسهاما متعدد المجالات في الشعر والرواية والمسرحية والنقد الأدبي.

وفي مقال عنوانه «لويس عوض/‏‏ نظرة ثانية» يكتب جهاد فاضل ما للويس عوض وما عليه: «يشكك خصومه في الكفاءات الكثيرة التي يعترف له بها الآخرون. فهو عند هؤلاء الخصوم مجرد «عين مصرية» على الأدب الغربي.
يرحل إلى بلاد الفرنجة ليتابع المسرح والسينما والمعارض الفنية ثم يعود ليروي ما شاهده هناك. مما أخذ عليه أنه ذكر في كتابه «تاريخ الفكر المصري الحديث» أن لا علاقة بين مصر الحديثة والتراث العربي الإسلامي، ففي كل ما في مصر الحديثة من إيجابيات، وجميع ما عرفته مصر من مظاهر الحرية والديموقراطية، إنْ في الفكر أو التنظيم، إنما هو أثر من آثار الحملة الفرنسية عليها سنة 1798، حتى ليمكن تلخيص كتابه هذا في كلمات قلائل هي أن مصر الحديثة هبة بونابرت.

 ألف

2020-03-07

 اللغة الفصيحة وضرورتها وروعتها.. قراءة في نص عامي للناقد المصري الدكتور لويس عوض

شكيب كاظم

لقد دعا عديد الكتاب والشعراء العرب، ولاسيما المصريون واللبنانيون إلى ترك الكتابة بالفصيحة، واستبدالها بالعامية مثل سلامة موسى الذي ما اكتفى بذلك بل دعا إلى الفرعونية، في مواجهة النزعة القومية العروبية فضلا عن آراء طه حسين في الدعوة لثقافة البحر الأبيض المتوسط، ومحاولة انتزاع مصر من محيطها العربي، بوصفها من دول البحر المتوسط ومطلة عليه.

كما دعا إلى هذا النهج الشاعر اللبناني الشهير سعيد عقل (4/تموز/1912-2014)، فدعا إلى الكتابة بالمحكية اللبنانية، وترك الفصحى، وما اكتفى بذلك بل دعا إلى ترك الحرف العربي والكتابة بالفينيقية، لغة حوض البحر الأبيض المتوسط في حقب سحيقة في القدم، ونفذ رأيه هذا فاصدر سنة 1961 ديوانه (يارا)، وإذ لم تفلح آراؤه ودعواته هذه، فقد تراجع عن ذلك وكتب بعد كارثة 5/حزيران/1967 عدة دواوين بالفصحى منها (أجراس الياسمين) 1971 و(كتاب الورد) 1971، وكتب قصائد روائع شدت بها فيروز بعد حزيران/1967 ومنها (القدس العتيقة) و(زهرة المدائن) وكأن الكارثة الحزيرانية أعادته إلى صوابه، أو أعادت صوابه إليه!

ومن هؤلاء الدعاة إلى العامية المصرية، الدكتور لويس عوض (1915-1990) الناقد المصري المعروف، والمثقف الإشكالي، الذي تعرض إلى كثير من الأذى والتضييق من جانب مثقفي اليسار المصري، فضلا على أجهزة الثقافة في مصر أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (1918-1970) الأديب الذي قرأت العديد من مؤلفاته مثل: (دراسات أوربية) الصادر عن دار الهلال سنة 1971 و(دراسات أدبية) الصادر عن دار المستقبل العربي بمصر 1989، وسيرته الذاتية التي أطلق عليها عنوان (أوراق العمر) الذي نشرته مكتبة مدبولي الشهيرة /1989، فضلا عن ذكرياته ومذكراته أثناء السنوات (1937-1940) التي كتبها بالعامية المصرية، وتحدث فيها عن أيام دراسته في جامعة كمبردج منذ ان اقلته السيارة من منزله وحتى عودته إليه ظافرا بالإجازة العملية.

وهو كتاب ممتع ومفيد، نستطيع ان ندرجه ضمن الأدب الذي كتبه العرب والشرقيون والمسلمون وصوروا فيه نوازعهم وآراءهم إزاء أوربا والغرب وكان رفاعة رافع الطهطاوي، باذر البذرة الأولى في هذا اللون الكتابي، في كتابه الشهير (تخليص الابريز في تلخيص باريز) 1934 يوم كان المصريون يطلقون على عاصمة فرنسا (باريز!).

ولهذا الكتاب الذي كتبه لويس عوض بالعامية المصرية سنة 1942، وعنونه بـ(مذكرات طالب بعثة) وضاعت منه أصوله، قصة طريفة غريبة جديرة بالذكر والتسجيل، اذ بعد عودته من الدراسة، قرر لويس عوض استعادة أيام دراسته في بريطانيا، والحديث عن تجاربه، ولما كان مسكونا إذ ذاك بظاهرة العامية، فقد كتب ذكرياته تلك بها، وقدمها لرقابة النشر سنة 1944، وبعد مضي عدة أشهر راجع البروفسور (ر.ا.فيرنس رئيس قسم اللغة الانكليزية بكلية آداب جامعة فؤاد الأول –القاهرة فيما بعد)، وكان قد انتدب طوال مدة الحرب من الجامعة إلى وزارة الداخلية! ليتولى وظيفة الرقيب العام، سائلا عن مصير المخطوطة، فأجابه فيرنس بأنه قد أحاله إلى الشيخ فلان ليراقبه، وان الرقيب لم يوافق على نشره لأنه مكتوب بالعامية، ثم أحيل الكتاب إلى رقيب آخر، فعبثت يده شطبا، معللا ذلك: بأننا في حالة حرب، واننا حلفاء لانكلترا وأنت يا سيد عوض تنتقدها في عديد المواضيع من كتابك، وإذا التزمت بالذي شطبته وغيرته، فضلا على حذف فصل كامل، فسيكون بإمكانك نشره؟!

لقد كان لويس عوض يتميز غيظا من فعلة هذا الرقيب، توفيق صليب، قائلا له: انه يفضل إحراقه على ان ينشره بهذا الشكل، ومرت سنوات، وكأن لويس عوض نسي كتابه ومضى نحو ربع قرن، اذ يفاجأ وهو بمكتبه بجريدة (الأهرام) القاهرية بمظروف مرسل من الإسكندرية، وفيه فصل من كتابه (مذكرات طالب بعثة) أرسله إليه الناشر حسنين محمود حسنين، على أمل مواصلة نشر أجزاء الكتاب الأخرى تباعا، الذي كان أهداه له صديقه الذي يعمل في رقابة المطبوعات، وطفق حسنين يقرأ المخطوطة وشغف بها حبا، وقرر نشرها، لكن المال وقف حائلا دون ذلك، حتى تهيأت له الظروف المناسبة، فنشر الكتاب، يقول الناشر حسنين طبعت منه الفي نسخة كلها عادت إلي من شركة التوزيع، وضاقت بها دواليب البيت… ولكن انتبه إلى أهميتها قليل من النقاد!

مع وصول جزء من الكتاب إلى الدكتور لويس عوض، يقرر استعادة الكتاب، كتابه فيسافر إلى الإسكندرية بعد مكالمات هاتفية عدة معه وبمساعدة الفريد فرج وأخيه نبيل فرج، يسترد كتابه المخطوط هذا، وتنشره دار الهلال في ضمن سلسلة (كتاب الهلال) أيلول/2002. لقد قرأت الكتاب الذي يقع في أربع مئة وخمس وأربعين صفحة، وفيه سرد دقيق لحياة طالب البعثة لويس (حنا خليل) عوض ودراسته ولقاءاته بالطالب محمد مندور، الذي سيصبح احد أعمدة النقد والكتابة في مصر والعالم العربي، وحياة بعض الطلاب المنفلتة، وعدم اهتمامهم بالدرس، الأمر الذي يعيد إلى ذهني ما سطره إبراهيم السامرائي في مذكراته التي سماها (حديث السنين) وكسل الطلاب ولهوهم.

ما أردت الوقوف عنده، الوصف الرائع للبحر، الذي على الرغم من كتابته له بالعامية القاصرة عن إيصال خلجات الأديب الكاتب، ظلت تحتفظ بجمال الوصف والق التعبير، ترى أي قطعة أدبية رائعة كانت ستصلنا لو ان لويس عوض كتبها بالفصيحة؟ مما يؤكد ضرورة الفصيحة في الكتابة لاكتنازها بالتعابير والمفردات والمحسنات البلاغية وثراء مرادفاتها ومفرداتها وظاهرة الأضداد اللغوية فيها، وإذ أدون هذه الفقرة فاني لواثق ان القارئ الذكي المدقق، سيجد مرادفها الفصيح، وسيستمتع أيما إمتاع، وسيستفيد ايما فائدة من هذا النص الجميل الذي يصف فيه عودتهم إلى مصر عن طريق البحر، واضعين في الحسبان انها كانت من سنوات الحرب (1940) وضرورة ان يناور قبطان المركب ويداور كي يتخلص من السفن الحربية الألمانية وينجو بالركاب والمركب قال لويس عوض: (في الظروف العادية المركب كانت تقدر توصل جنوب افريقية في ثلاثة أسابيع لكن احنا وصلنا في خمسة وأربعين يوم.. الكابتن لف بالمركب فوق اسكتلنده وغيرنا الساعات.. مشى أيام مغرب وغيرنا الساعات، ومشى مقبل أيام وغيرنا الساعات وبعدين مشى مغرب أيام وغيرنا الساعات، بالشكل دا طبعا عشان يتحاشى مناطق الخطر.. وحياتنا أصبحت خارطة جغرافية مافهاش غير ميه وخطوط طول وعرض.

حتى الخطوط دي ما حدش قال لنا عليها انما استنتجناها من تأخير الساعة وتقديمها، واحنا فوق اسكتلنده قبل ما نخش المحيط الأطلسي شفنا الليالي البيضا اللي بيحكوا عنها وفتنا على جزاير الهبريديز..في اليومين دول انا بطلت اقعد في الصالون وسكنت على الدك الوسطاني عشان أتمتع بكل دقيقة.. في نص الليل شفت الشمس معلقة في الأفق الغربي مالهاش لون والسما منورة والبحر عليه ضوء في قوة الفجر العريض.. الشمس فضلت معلقة كدا ساعات ما تتحركش وكان باين ان الفجر المستمر اللي احنا فيه نوره مش جاي منها لكن من لمبة سحرية مكانها ورا الطبيعة.. فجر دايم سكون دايم حتى صوت الموج وهو بيخور تحت المادورا كان جاي في ودني مش زي الصوت لكن زي الوش اللي بيملأ طبلة الودن لما بتضرب جنبها مدفع ميدان لما احصر انتباهي في البحر والسما والشمس والافق، الوش يروح واحس اني لسه قبل الخليقة في الزمان والمكان ايام ما كان الزمان والمكان فكرة واحدة، المية نفسها كانت زرقا وصافية ومالهاش نهاية.

احنا ماشفناش جزيرة الهبريديز، لكن عرفنا انها موجودة لما شفنا الطيور البيضا بترفرف في كل حتة وحتى لما سبنا منطقة الهبريديز وسبنا الطيور ماسبناش منطقة السكون، انا ما اعرفش اذا كان هدوء الهبريديز كان كامل صحيح وملحوظ والا انا وحدي اللي حسيته.. يمكن كان فيه اصوات في الهوا او في المية أو جاية من عالم الاحياء وانا اللي كتمتها بخيالي لاني قريت في شعر (وردزورث) عن السلام المطلق هناك.. انا ما سمعتش حاجة ودا كفاية.. يمكن خوار الحبب الأبيض وهو بيتكسر على صدر المادورا كان الصوت الوحيد اللي بيمنع فكرة الازل.. لولا ده كنا بقينا زي ناس في الأساطير ركبوا مركب وابحروا في السما لحد ما طلعوا من منطقة الكرة الأرضية، ودخلوا في عالم الصفات المنفية والصفاء اللي مش مسموح للنفس الإنسانية انها تفهمه.. ص317، ص319، وعلقت على حاشية الكتاب: خيال شاعر مرهف، وانت وحدك تحس بذلك الاغبياء غيرك لا يعرفون لها معنى ولا يحسونها او يتذوقونها، أنهم في بلادتهم سادرون وحاجاتهم الحيوانية الآنية.. اكرر لو كتب لويس عوض هذا النص بالفصيحة فأي نص رائع كان سيقدمه لنا؟

صحيفة رأى اليوم

شعبان يوسف ينصف الدكتور لويس عوض

قال الكاتب شعبان يوسف هل لويس عوض يحتاج إلى إنصاف أم لا؟، وهل لحق بالرجل ظلم وتطاول واستبعاد فى حياته؟، أقول وأنا مطمئن لقولى: نعم يحتاج لإنصاف، بل يحتاج إلى اعتذار مطول وواضح وصريح.. جاء ذلك فى مقال لشعبان يوسف نشر بجريدة “القاهرة” وجاء نصه على النحو التالى..

متى ننصف الدكتور لويس عوض.. فى ذكرى رحيله الثلاثين؟

“تحالف عليه سلفيو الثقافة والدين لهدمه”، واستعان فاروق عبد القادر بمحمد عمارة لتحطيمه، واتهمه رجاء النقاش باحتقاره للقومية العربية، وأبلغ عنه جلال كشك السلطات السياسية بعد نزع وطنيته”..

هل يحتاج إلى إنصاف:

بعد مرور ثلاثين عاما من رحيل الكاتب والناقد والمفكر الدكتور لويس عوض، هل من الممكن أن نطرح سؤالا متأخرا جدا، ولكن إعادته مرة أخرى على الساحة ضرورة حتمية، وسوف يبدو غريبا للبعض، ومدهشا لبعض آخر، وهو : متى ننصف الدكتور لويس عوض؟، والمندهشون من السؤال سيبدون اندهاشهم اعتقادا أن الدكتور لويس عوض قد حصل على أكثر من حقه فى حياته وبعد رحيله، كما استفاض فى ذلك الدكتور صبرى حافظ فى دراسته المطولة، والتى كتبها بعد رحيل عوض مباشرة، وسنناقش بعض تفاصيلها لاحقا.

كما كتب أيضا فاروق عبدالقادر فى نقده، وأوغل فى تجريحه، وكأن ثأرا بائتا كان بينهما، ولذا لم يترك عبد القادر مفردة هجاء واحدة إلا استعان بها لرجمه، ومن المدهش أنه استعان بالدكتور محمد عمارة فى التحامل على لويس عوض، مما يجعلنا نقول بأن سلفية ثقافية وأدبية، توحدت مع السلفية الدينية السائدة، وذلك لهجو ورجم وإهانة وتحطيم ناقد كان من الممكن مناقشته الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، كما تفترض قواعد الحوار الطبيعية والديمقراطية، وليس بالاتهام والتبليغ عنه لمن يهمهم الأمر.

الإجابة حول: هل لويس عوض يحتاج إلى إنصاف أم لا؟، وهل لحق بالرجل ظلم وتطاول واستبعاد فى حياته؟، أقول وأنا مطمئن لقولى: نعم يحتاج لإنصاف، بل يحتاج إلى اعتذار مطول وواضح وصريح، رغم المؤتمر الموسع الذى أقامه المجلس الأعلى للثقافة فى سبتمبر2001 بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، وبمشاركة أكثر من خمسين باحثا، ثم الاحتفال به مرة أخرى عام 2015 بمناسبة مئويته، وبمشاركة أكثر من ثلاثين باحثا.

إذن أين يكمن الظلم والاستبعاد والاضطهاد والإجحاف الذى نقصده، طالما أن الدولة الرسمية، وأحد أجهزتها الثقافية العملاقة أقامت له بدلا من الاحتفال الواحد احتفالين، وفى مناسبتين متتابعتين، وتم تكليف باحثين متخصصين لقراءة أعماله، وتقديم دراسات مستفيضة عن تلك الأعمال؟!

أقول مكررا بأن الهجوم الذى لاحق لويس عوض وطارده منذ أن برزت شخصيته الثقافية المختلفة والمتمردة على كثير من الثوابت الفكرية والأدبية والسياسية والثقافية، كان ضاريا للغاية ومدمرا فى الوقت ذاته، ولم تحتمل الذائقة النقدية السائدة والثابتة جرأة هذا الباحث والشاعر فيما ذهب إليه.

وربما لم يتعرض مثقف مصرى طوال القرن العشرين كما تعرض لويس عوض من هجوم وتسفيه وتسخيف وتكفير، بل يتفوق على الهجوم الذى تعرض له أستاذه الدكتور طه حسين عندما أصدر كتابه الإشكالى “فى الشعر الجاهلى” عام 1926، فطه حسين لاحقه الرجعيون والسلفيون المتشددون، ووجد طه حسين من يدافع عنه، ولكن لويس عوض هاجمه اليمين واليسار والقوميون والناصريون دفعة واحدة، ولأسباب عديدة، ولأن الرجل كان غزير الإنتاج، ومتنوع الطرح، فكان هناك من ينتظره على قارعة الطريق طوال الوقت للنيل منه، وهناك من كان يترصده دائما، ويقف له على الواحدة كما يقول القول السائر.

بلوتلاند وقصائد أخرى:

ولم تكن التهمة واحدة، بل كانت الاتهامات متنوعة، تبدأ بالانحياز إلى الثقافة المسيحية، والانتصار لها، وتغليبها على أى ثقافة، مرورا باتهامة بالجهل الكامل، وصولا بالاتهامات إلى مرتبة الجاسوس، استنادا إلى تلمذته على يد أستاذ انجليزى، والذى أهداه ديوانه “بلوتلاند” الصادرعام 1947، هذا الأستاذ هو كريستوفرسكيف.

هذا الديوان هو بداية الحرب الشعواء التى تعرض لها عوض، ربما لم يلتفت أحد لهذا الديوان وقت صدوره، ولكن جاءت محاكمته متأخرة، وبأثر رجعى بعد ما كتب سلسلة أبحاثه التسعة “على هامش الغفران” عن أبى العلاء المعرى فى جريدة الأهرام بين تاريخىّ 16 أكتوبر و11 ديسمبر 1964، وتصدى لنقدها المحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر على صفحات مجلة “الرسالة”، ووجه لعوض سلسلة انتقادات حادة، وبعدها انفتحت بوابة كبرى للهجوم على عوض، وذلك على صفحات مجلتى “الرسالة والثقافة”، وهما من إصدارات وزارة الثقافة، وظل هذا الهجوم الضارى منذ خريف 1964، حنى صيف 1965 كما يذكر عوض نفسه فى مقدمة كتابه “على هامش الغفران”، والذى صدر عن دار الهلال فى أبريل عام 1966.

وفى الكتاب الذى أصدره الأستاذ محمود شاكر تحت عنوان “أباطيل وأسمار”، وهو رد مطول على ما كل كتبه لويس عوض حتى تلك السنة التى صدر فيها الكتاب عام 1966، بالإضافة إلى تناوله لأبحاث عوض عن أبى العلاء المعرى، وكتب شاكرفى مقدمته: “كان من سوالف الأقضية أن كتب الله علىّ يوما ما، أن أقرأ له شيئا يقصد لويس عوض سمّاه “بلوتلند، وقصائد أخرى”، وكتب تحته “من شعر الخاصة”، وأهداه إلى كريستوفر سكيف، وذلك فى 1947 من الميلاد، ولما كنت أعلم خبء سكيف هذا، وأنه كان أستاذا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأنه كان جاسوسا محترفا فى وزارة الاستعمار البريطانية، وأنه كان أيضا مبشرا ثقافيا شديد الصفاقة سيئ الأدب، وأنه كان ماكرا خبيثا خسيس الطباع”، وهكذا يسترسل الأستاذ شاكر فى وصف ذلك الأستاذ بسلسلة من الاتهامات البشعة، دون تقديم أى دليل على ذلك، حتى لو كانت دلائل شخصية، بعيدا عن أى أدلة وثائقية تثبت التهم التى شاعت وراجت عند كثيرين فيما بعد، مثلما جاءت فى مقال الناقد الأدبى فاروق عبد القادر.

وعندما يكتب عبد القادر مقالا عنوانه “بلوتلاند .. تلك النكتة السخيفة القديمة”، يكرر تلك الاتهامات التى وردت فى كتاب محمود شاكر بنوع من التشفى، كذلك دون أن يعطينا دليلا قاطعا على صحة الاتهامات، ولكنه يضيف لنا شهادة المسرحى نعمان عاشور الذى كان طالبا فى ذلك الوقت بكلية الآداب، ويتحدث فى شهادته عن عنصرية سكيف، ولكن هذه الشهادة كذلك لا تشفى أى غليل لنا حول حقيقة هذا الأستاذ البريطانى.

يطلق عبد القادر ماكينة الشتائم والتسخيف منذ العنوان الذى أطلق فيه على الديوان بأنه نكتة سخيفة، ويسخر فى شبه تشف من مقدمة عوض للديوان، والتى قال فيها عوض: “مات الشعر العربى، مات عام 1932، مات بموت أحمد شوقى، مات ميتة الأبد، مات”.

لم يناقش عبد القادر الديوان على محمل الجد، بل أطلق حفنة من السباب، ونفى عن أن يكون ذلك شعرا بشكل قاطع، يقول: “وما نشره لويس عوض فى بلوتلاند لا يمكن أن يكون شعرا على أى نحو فهمت الشعر: لغة ثقيلة سقيمة ركيكة رثة، فى ألفاظ حوشية غليظة، مثقلة بإحالات مضجرة إلى سطور من الشعر الأوروبى، فى لغته أو غير لغته”، ويسترسل فاروق فى الحديث عن الديوان دون أن يورد لنا أى فقرة من الديوان، ذلك الديوان الذى كان مؤثرا على عدد من رواد الشعر فى فصحاه وعاميته، وعلى القارئ أن يستحضر بعض السوناتات التى كتبها عوض، وكانت جديدة تماما آنذاك على الشعر العربى، ويقارنها بأثرها على شعر صلاح جاهين فيما بعد بعشر سنوات، يقول عوض:

جنيّة ليها ريش،

اتمددت عريانة

تتشمس ع الحشيش

وطبقت خجلانة

ستاير الرموش،

حر الجنوب لفحها

قالت تعال حوش

أو:

لغز الحياة دا سكره

الله نفخ من روحه

فى طينه لسه بكره.

الله محبة ، قالوا:

إزاى باحب واكره؟

هو النبيت مش صافى،

ولا القزازه عكره“.

أظن أن هذه الفقرات أو المقاطع المكتوبة باللغة الدارجة، كانت فاتحة لنمط جديد فى الكتابة الشعرية، فى ظل وجود زجالين كبار من طراز بيرم التونسى وبديع خيرى وحسين شفيق المصرى وأبو بثينة وغيرهم، وكانت أزجالهم تتردد بقوة فى عرض مصر وطولها، فضلا عن هيمنة هؤلاء الزجالين على سوق الأغنية، فتأتى تلك الكتابة لتتجرأ على الزجل السائد، وتكون رائدة للشعراء الذين أتوا فيما بعد مثل فؤاد حداد وصلاح جاهين.

المدهش أن ماكتبه عبد القادر وآخرون فى المسألة العوضية، يتجاوز النقد الأدبى والفكرى والثقافى والسياسى، ليصل بنا إلى حالة التفتيش فى النوايا، وبعيدا عن استناده إلى المحقق محمود شاكر، فهو يستدعى الدكتور محمد عمارة، الذى ينتقد لويس عوض، بل يهاجمه عندما كتب سلسلة مقالات عن جمال الدين الأفغانى تحت عنوان “الإيرانى الغامض”، فيقول عبد القادر: “ومرة ثانية يتصدى الدكتور محمد عمارة محقق وناشر الأعمال الكاملة للأفغانى لما كتبه لويس، وفنده فى ضوء معرفة واسعة بكتابات الرجل وأفكاره ودوره وعصره، وهو يرى أن لويس عوض قد رفض ما أجمع عليه أئمة العصر وأعلام علمائه الذين أرخّوا لجمال الدين”.

هنا يكتفى عبد القادر بإدانة لويس عوض لمجرد أنه خالف الأئمة والعلماء، ولمجرد أن محمد عمارة أدانه دون أدلة، ولكنه يقول مع عمارة بأن لويس عوض لم يرفض إجماع العلماء والأئمة، إلا لكى يرضى الجواسيس الانجليز الذين كتبوا تقاريرهم عن الشيخ الأفغانى، ويمعن عبد القادر فى تكرار تلك الترهات التى تلوك كلمات التجسس والخونة وما شابه ذلك، كما أنه يتهم عوضا فى الانحياز إلى ثقافته المسيحية.

حكاية المعلم يعقوب:

ويعرّج عبد القادر إلى حكاية “المعلم يعقوب” ويقول “فهذا القبطى هكذا الذى انحاز للفرنسيين وعمل فى خدمتهم أثناء احتلالهم لبلاده، ورحل معهم حين رحلوا، ثم مات فى عرض البحر على ظهر السفينة الإنجليزية التى تحمله فى زمرة الراحلين، أصبح عند لويس عوض بطلا قوميا، يقرن اسمه باسمىّ محمد على وجمال عبد الناصر!”.

وكما استند عبد القادر إلى المحقق محمود شاكر فى قضية ديوان بلوتلاند، وإلى الدكتور محمد عمارة فى بحث جمال الدين الأفغانى، يستند هنا إلى الدكتور أحمد حسين الصاوى فى دراسته “المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة”، ولا يختلف الصاوى عن الدكتور محمد عمارة فى وصم لويس عوض بكل الصفات المزرية، وفى استعراض عبد القادر لكتاب الصاوى فى رده على لويس عوض، ويتبنى مقولاته بإفراط رغم سلفية الرجل، والذى وصفه “عوض” بأنه “أستاذ جامعى هدفه أن يكشف جانبا من الحقيقة، لا أن يلوى الحقائق ويسئ تفسيرها لخدمة أغراض خفية”، ويتخلى عبد القادر هنا عن كونه الباحث إلى دور آخر لا يليق بباحث، عندما يفتش فى النوايا ويتحدث عن أغراض خفية، والمدهش أنه يكرر كلام الدكتور الصاوى، والذى يقول بأن لويس عوض رفع يعقوب إلى مصاف أبطال مصر وقادتها العظام، ويؤكد عبد القادر: “الغريب حسب الصاوى أنه تعمّد أن يغفل الإشارة إلى مذكرتى لاسكاريس المرفوعتين إلى بونابرت وتاليران”.

ويكرر عبد القادر ذلك الزعم الذى يتهم “عوض” بتجاهل الوثيقتين، وعندما عدت إلى كتاب لويس عوض “المؤثرات الأجنبية فى الأدب العربى الحديث”، والصادر عام 1963، سنجد أن لويس عوض لم يغفل مذكرتى لاسكاريس، وناقش الوثيقتين فى صفحات 68 و69 و70 و71، ولاسكاريس هذا هو سكرتير المعلم يعقوب، والذى ينسب له محمد شفيق غربال مشروع أستاذه فى استقلال مصر، والمدهش أن لويس عوض لم يورد الحديث عن الجنرال يعقوب إلا لكى يكشف عن تيار كان موجودا وفاعلا فى ذلك الوقت، وهو التيار الذى كان يكره المماليك ويقاتلهم، ومن ثم جاء يعقوب لكى يجد فى الفرنسيين عونا لمقاومة المماليك.

أما عوض وصف يعقوب وسكرتيره لاسكاريس بالشخصيات الخيالية “لأن تاريخ حياة الجنرال يعقوب نفسه نفسه يدل على أنه كان إلى حد ما كصاحبه لاسكاريس شخصية دونكيشوتية، ولكن إلى حد ما فهو يحلق فى السحاب دون أن تنفصل قدماه عن الأرض”.

وأنا مندهش بالفعل من ادعّاء الباحث الدكتور “عفّ القلم” حسب وصف عبد القادر له من أن لويس عوض أغفل تماما مذكرتى لاسكاريس اللتين رفعهما إلى بونابرت وتاليران، والأكثر إدهاشا هو تكرار تلك الفرية من فاروق عبد القادر المعروف بدقته وبحثه عن المعلومة الصحيحة فى أبعد مرجع أو دليل.

مفاجأة مذهلة:

كان أول من لفتوا النظر إلى ما أثاره لويس عوض حول الجنرال يعقوب، هو الأستاذ محمد جلال كشك فى كتابه “الغزو الفكرى”، والذى صدر تحت عنوان سلسلة “مفاهيم إسلامية”، وبعد أن هاجم “جلال كشك” مسرحية “الراهب” للويس عوض فى فصل كامل، وسوّى مؤلفها على الجنبين كما يقول الوصف الشائع، كتب فصلا آخر تحت عنوان “.. والجنرال الخائن”، ويفتتح كشك الفصل بكلمة يرثى فيها الجنرال يعقوب صديقه الجنرال الفرنسى ديسيه، ويعقّب كشك قائلا: “هذا الغزل .. بل الوله المخنث .. كتبه المعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب يخاطب روح ديسيه القائد الفرنسى الذى فتح الصعيد وأغرقه فى الدم”.

ويستطرد: “وهذا اليعقوب هو الذى يجعله الدكتور لويس عوض أول من نادى باستقلال مصر، وذلك فى محاضرات الدكتور بمعهد الدراسات العربية التابع للجامعة العربية، والجنرال يعقوب هذا الذى كوّن فيلقا لضرب الشعب المصرى ومعاونة الاحتلال الفرنسى ثم خرج هاربا مع جيش الاحتلال ومات على ظهر السفينة، فوضعوا جثته فى برميل من الروم لينفذوا آخر وصاياه الشاذة ويدفنوه مع ديسيه!”.

ولم يكتف كشك بهذا الفصل الذى هاجم فيه “عوض” ويعقوب معا، ووصفهما بأعتى الأوصاف التى رسخّت للخطاب الطائفى فى الثقافة المصرية، هذا الخطاب الذى استخدمه بضراوة فى مهاجمة مسرحية “الراهب” للويس عوض، وعقد مقارنة بين مايريده الإسلام من خير، ومايريده القبط من تشتيت، لم يكتف كشك بذلك، ولكنه اكتشف أن القضية رابحة، فراح يوسّع الأمر، وكتب فصلا مطولا عن الجنرال يعقوب فى كتابه “ودخلت الخيل الأزهر”، والذى صدرت طبعته الأولى عام 1971، وكان كشك قد حسم أمره فى أن يكون بوقا لجماعات التطرف فى مصر والعالم العربى والعالم كله فيما بعد، ويكتب غزلا فى الوهابية بشكل واضح وسافر.

لكن أين المفاجأة التى أخفاها محمد جلال كشك طوال حياته؟، والتى لم يقترب منها إلا بحذر شديد، المفاجأة تكمن فى أنه كان أحد الأقطاب الذين دافعوا عن الحملة الفرنسية والجنرال يعقوب قبل أن تصيبه لعنة أموال المتطرفين، ومدح فى الجنرال يعقوب مديحا غير عفيف، وذلك عندما كان جلال كشك منتميا إلى الحزب الشيوعى الراية فى محافظة المنيا فى ذلك الوقت، ففى كتابه الأول “مصريون .. لا طوائف”، والذى صدرت طبعته الأولى عام 1951 عن دار النيل للطباعة، تلك الدار التى أصدرت كتاب “من هنا نبدأ” للشيخ خالد محمد خالد، ذلك الكتاب التنويرى والطليعى، والذى أثار زوبعة الرجعيين بشدة آنذاك، ولذلك قد أهدى كشك كتابه هذا “إلى رجل الدين الحر.. خالد محمد خالد”، ولا أستبعد أن ذلك الإهداء جاء كنوع من ركوب الموجة العالية.

فى هذا الكتاب مصريون.. لا طوائف، والذى يستعرض فيه جلال كشك تاريخ القومية المصرية، يقول بالنص: “ونحن نجد أول صدى هذه التيارات فى مشروع المعلم يعقوب لتحرير مصر من الحكم العثمانى، فيعقوب من الأقباط الذين لازموا الفرنسيين منذ بدأت حملتهم فتمثل آراءهم السياسية، وكانت إلى ذلك الوقت مشبعة بروح الثورة الفرنسية، وما كاد يتبين اضطرارهم إلى ترك البلاد حتى عزم من ناحيته على الرحيل إلى أوروبا والسعى لتحقيق الاستقلال المصرى بتخويف إنجلترا مما لا بد أن يبعثه انهيار السلطة العثمانية من التنافس بين الدول مما يعرّض مواصلاتها مع الهند للأخطار، واستمالة الرأى العالمى بما لمصر القديمة من أياد على الحضارة الإنسانية”.

ويستطرد جلال كشك فى مديح المعلم يعقوب، ويعتبره أبا للقومية المصرية، ويستند فى ماكتبه إلى أحد المفكرين المصريين الكبار وهو “صبحى وحيدة” فى كتابه “فى أصول المسألة المصرية”، ويصل بنا كشك إلى أن يقول: “ولكن دعوة المعلم يعقوب لم تنجح، فلم تكن مصر مهيأة لهذه الدعوة ، ولم تكن بالبلاد طبقة أو قوة اجتماعية قادرة على احتضان هذه الدعوة، لذا خبت حركة المعلم يعقوب بموته وخفتت نغمة القومية المصرية أو بالأحرى ضاعت هذه الصيحة الأولى فى وسط الصمم الإقطاعى الذى كانت تنوء البلاد تحته”، ويستطرد: “وهكذا نودع أول مصرى أحس بمصريته وأول مصرى ارتسمت فى ذهنه صورة لاستقلالنا عن الدولة العلية”!

يحق لى ولنا جميعا أن نضع مائة علامة تعجب بعد هذه الكلمات الحارة والساخنة والعاطفية التى أوردها محمد جلال كشك، بل كذلك الكلام الذى كتبه فى هذا الكتاب الذى لم يعد نشره حول الحملة الفرنسية التى لم تضئ شمس مصر إلا بدخولها، علامات التعجب لا تخص تلك الكلمات، بل تخص الانقلاب التدريجى عليها، الانقلاب لدرجة مائة وثمانين مرة، وقيادة الفيلق الذى جرّد لويس عوض من وطنيته، وشن الهجوم الكاسح على كافة كتاباته الأدبية والفكرية، واعتباره أحد الصليبيين الجدد فى مصر، كما اعتبره بأنه ضد القومية العربية والدين الإسلامى بشكل واضح.

تجريده من عروبته:

لم تكن تلك الاتهامات وحيدة، أو حبيسة زمن معين، فى حقبة ما، بل ظل لويس عوض هدفا ومرمى للنيران طوال حياته، وكأننا نعاقبه على اجتهاداته الفكرية الجديدة، ومهما جاء فيها من اختلاف وشطط، ليس من الطبيعى أن يتعامل معه الكتّاب بهذه الكيفية، ووصمه طوال الوقت بأنه ضد القومية العربية، وأحد دعاة المشروع الغربى فى كل ما كتب، وهاهو الناقد الدكتور صبرى حافظ يشجب كل ما أتى به لويس عوض فى أعقاب رحيله، ويستكثر عليه عبارات الرثاء التى كتبها باحثون ومبدعون وكتّاب بعد رحيله، تلك المراثى التى “نصبت على مد صفحات الجرائد المصرية والعربية سرادقات من ورق امتلأت بكلمات التعازى التى لا تكتفى باتباع الحكمة الذهبية الداعية إلى ذكر محاسن الموتى وتعديد مناقبهم، وإنما تبالغ فى ذكر تلك المحاسن إلى حد الاختراع”.

هكذا كانت مقدمة مقال الدكتور صبرى حافظ فى كتابه “سرادقات من ورق”، الذى صدر عام 1991 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، والذى راح يدكّ فيه كل ما بناه وأسّسه له لويس عوض على مدى حياته كلها، بل إنه يستكثر عليه تلك الزيارات التى كان يقوم بها لويس عوض إلى بلاد الغرب وأميركا.

واكتشف الدكتور صبرى أن لويس عوض لم يكن ينقل حقيقة الأدب والثقافة والفن فى تلك البلاد، بل كان ينقل وجهة نظره فقط، تلك النظرة المغرضة والتى لا تعكس الحقيقة بأى وجه من الوجوه، والمدهش أن الدكتور صبرى راح يصف ويزيد فى الوصف دون التعرض بالرصد والتحليل وإرسال الأدلة على صحة ما يقول، فضلا عن نفيه لثقافة لويس العربية، وعدم معرفته بها بشكل قاطع وحاسم ولا يقبل المناقشة.

هذا لأنه أى لويس عوض منحاز بشكل متعصب ومع سبق الإصرار والترصد إلى الثقافة الغربية والمشروع الغربى الاستعمارى بشكل مطلق، وتفضيلها على كل ما هو عروبى، وهذا ما تم إشاعته، بل وترسيخه وتكريسه عبر كتابات متنوعة لكتّاب ونقاد وباحثين كبار منهم الناقد الكبير رجاء النقاش، الذى كتب كتابا كاملا عنوانه “الانعزاليون” وشن هجوما ضاريا حول لويس عوض، وأفكاره، وتاريخه، مما اضطر لويس عوض أن يكتب فى مقال له تحت عنوان “معاتبات قومية” نشره فى جريدة الأهرام عام 1978 يقول: “أقول إن التفتيش فى ضمائر الناس عن دوافع خفية تدفعهم إلى اعتناق المبادئ والتعبير عنها بدلا من التركيز على الحوار العلمى الموضوعى يضعف الحجة ولا يقويها، وهو خليق بمحاكم التفتيش التى انطوت فيما انطوى تاريخ الانسانية الحزين، ولم تبق منها إلا آثار من الإرهاب الستالينى والهتلرى والمكارثى”.

هذه الكلمات الحزينة التى أرسلها لويس عوض، تعنى بقوة أن تعسفا واسعا، وضربات قاسية، تشمل كل ألوان الطيف السياسى والفكرى والعقائدى قد نالت من الرجل، وإذا كانت هذه المشاحنات التى حجبت التناول العقلانى والتعامل الصحى مع مشروع الرجل المتنوع شبه طبيعية فى ظل صراعات كانت قائمة لأسباب كثيرة، فهل نستطيع بعد انصراف كل المتحاربين عن أرض المعركة!! أقصد عن الدنيا كلها، أن نقرأ مشروع الرجل بحياد وتجرد عن كل العصبيات التى أصابت بلادنا منذ قرن ونيف.

كما يحق لنا أن نطالب بنشر آثار الرجل بشكل منتظم، وذلك أسوة بمفكرين وكتاب حدث معهم ذلك الأمر فى الآونة الأخيرة مثل محمود أمين العالم والدكتور على الراعى، حتى تستطيع الأجيال الحديثة أن تتعرف على واحد من القامات الفكرية والثقافية الكبرى، تلك القامات التى أضافت أرصدة ثقافية وفكرية لا تنمحى بأى شكل من الأشكال، وعلى رأسهم الناقد والمفكر الدكتور لويس عوض، الذى ظل يتعرض لرياح سامة ولافحة طيلة نصف قرن كامل، وها نحن فى ذكرى رحيله الثلاثين نأمل فى إنصافه بالشكل الذى يليق به وبنا وبالمرحلة التاريخية التى نمر بها، وكذلك بما قدمه من تراث فكرى وسياسى وثقافى وإبداعى متنوع.

المبتدأ

فكرة واحدة بشأن "لويس عوض في ذكراه “ملف خاص” إعداد ماهر طلبة"

أضف تعليق