ترومان شو .. (وحتمية إدراك الحقيقة)بقلم: شريف الوكيل

ربما يكون ديكارت هو أول من سأل كيف يمكننا أن نثق في أن العالم موجود بالفعل وأننا لا ننخدع فقط من قبل عبقري شرير وكان ذلك فى عام ١٦٤٠ تقريبا،  الكاتب أندرو نيكول هو الذي أجاب على هذا السؤال، ولكن في عام  ١٩٩٨ من خلال قصته  ترومان شو،  وهو كاتب معظم أعماله تتحدث عن الخيال والأحداث الغير واقعية بالمرة، إلتقط الفكرة المخرج بيتر وير، لينقلها إلى السينما من خلال مجموعة من الممثلين البارعين ،منهم جيم كارى وإد هاريس ولورا لينى .

الفكرة تدور حول رجل يدعى ترومان بوربانك”جيم كارى”جرى اختياره ليكون موضوع برنامج تلفزيوني واقعي، لكن بسرية تامة، ودون علم أو موافقة منه، ليعيش تسعة وعشرون عامًا من حياته حيث يبدأ الفيلم، محاطٱ بممثلين محترفين، بمن فيهم والداه وزوجته وأفضل أصدقائه.

يتم التحكم في عالم ترومان من قبل منتج تلفزيوني يدعى كريستوف (إد هاريس) ، من غرفة التحكم الخاصة به  بداخل القبة الاصطناعية المرتفعة، التي توفر سماء وأفق منتجع Seahaven. الذى يعيش فيه ترومان، ومن خلال غرفة التحكم هذه يشاهد العالم بأسره كل تحركات ترومان ، بل إن بعض المشاهدين يتركون التلفزيون طوال الليل وهو نائم، كى لايفوتهم شيئأ من تفاصيل حياته.

في الواقع ، إنه مجتمع مخطط له على ساحل الخليج ، ليدار بهذه الطريقة، يبدو أنه مكان جميل للعيش فيه… وبالتأكيد ترومان بوربانك لا يعرف أي شيء عما يدور حوله، وبطبيعة الحال فإن صانعو الأفلام يعلمون جيدا أن الإنسان يتقبل العالم الذي أعطي له، وبالتالى سيتلقى المشاهدون الأكثر تفكيرًا الرسالة الموجهة من الفيلم ، وهي أننا نقبل كل شيء تقريبًا في حياتنا دون فحصه عن كثب.  فمتى كانت آخر مرة فكرنا فيها مثلا كيف تبدو الشجرة غريبة حقًا؟  يعمل ترومان كمدير تنفيذي للمبيعات في شركة تأمين ، وهو متزوج بسعادة من ميريل (لورا ليني) إنه سعيد بطريقة ما ، لكن القلق يقضمه.  هناك شيء مفقود ، خاصة بعد إفتقاده “لورين” المرأة الوحيدة التى أحبها حقا، حيث إنتقلت مع عائلتها لمكان آخر.

مسار سيناريو الفيلم حتمي إلى حد ما حيث يجب على ترومان أن يدرك تدريجياً حقيقة بيئته ، ويحاول الهروب منها.  إنها طريقة ذكية لفكرة بقائه في جزيرته، ذلك من خلال الصدمات المزروعة حول طرق السفر وفى مياه الخليج،   لكن عندما تتكشف القصة ، لا يُتوقع منا ببساطة متابعتها: فنحن مدعوون للتفكير في الآثار المترتبة عليها.  حول عالم تجعل فيه الإتصالات الحديثة المشاهير أمرًا ممكنًا وغير إنساني…فحتى وقت قريب إلى حد ما ، كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تصبح بها مشهورٱ حقًا هي أن تكون ملكًا أو كاتبًا أو ممثلًا أو واعظًا أو سياسيًا – وحتى ذلك الحين ، كان معظم الناس يعرفونك فقط من خلال الكلمات أو الصور المطبوعة.

فوسائل الإتصال والبرامج والمواقع الألكترونية الحديثة، لديها نهم شديد للمواد ، كما أنها تلتهم حياة وأسرار المشاهير والعامة بكل سهولة، وإذا كان منا من  يعتقد أن “The Truman Show” هو أمر  مبالغ فيه ، فالنتذكر أن الأميرة “ديانا” عاشت في ظل ظروف مماثلة منذ اليوم الذي أصبحت فيه خطيبة تشارلز.

إن الفكرة فعلا مدهشة تجعلنا نستمتع ببرنامج ترومان شو من حيث مستويات الكوميديا ​​ والدراما.  فنحب ترومان بالطريقة نفسها التي أحببنا بها فورست جامب ، لأنه كان رجلاً صالحًا وصادقًا وسهل التعاطف معه.

لكن الأفكار الأساسية جعلت الفيلم أكثر من مجرد ترفيه، جعلته مثل أفلام الرعب  أو فلنقل مثل “كابوسٱ” مرعبٱ يسلط الضوء على القيم الجديدة والموجهة التي تفرضها التكنولوجيا على الإنسانية.

والسؤال هل أصبح الواقع الآن ترفيه متلفز

لقد كانت البرامج التلفزيونية التي تعرض كاميرات خفية وأشخاصًا مستقدمين مسبقٱ، ومواقف غير مكتوبة موجودة فى الستينات والسبعينات، ولكن على عكس العالم الحقيقي ، حيث يعلم المتسابقون أنهم على الهواء ، وتظهر المواهب التي تكافئ الأداء أو السلوك… حتى إقتحم تيار تليفزيون الواقع هذا السباق بقوة، وأصبحت الجماهير تتسابق لدفع مبالغ كبيرة للإشتراك فى هذه البرامج ومشاهدة الضحية على مدار ساعات اليوم .

ويلخص منتج العرض “كريستوف” الأمر في المشهد الأول من برنامج ترومان شو بقوله: “لقد مللنا من مشاهدة الممثلين وهم يعطوننا مشاعر زائفة … بينما العالم الذي يسكنه ، في بعض النواحي ، مزيف ، ولكن لايوجد شيء مزيف بشأن ترومان نفسه.  لا نصوص ، ولا بطاقات، إنه ليس شكسبير دائمًا ، لكنه حقيقي “… ليس لدى ترومان أي فكرة أن كل شخص قابله هو ممثل، وأن عالمه بأكمله عبارة عن مجموعة مجهزة للتعامل معه، لقد تم توجيهه إلى صداقاته ومهنته وزواجه بينما ترصد مايقرب من “خمسة آلاف” كاميرا كل حركات ترومان (باستثناء الجنس ، حيث “لا ترى أي شئ يحدث بخصوصه” ولاندرى أهو نوع من إحترام خصوصية الإنسان “ترومان”، رغم أن كل تحركاته ومناقشاته وتصرفاته فى المجمل” على الهواء مباشرة” أم أن تصويره فى هذه الحالة يجب حجبه عن الناس بحجة أنه(الجنس) أمرٱ لا يجب أن يراه الناس على الهواء مباشرة ، على الرغم من أن معظم أفلام هوليوود تقدم الجنس الواضح والصريح فى أفلامها ،إن لم يكن كلها.

  وبالمثل ، لا يتعين على ترومان بالضرورة أن يفعل أي شيء مثير للاهتمام – فقد يأكل أو ينام – ولا يزال الجمهور يتابعه. “نجد أن العديد من المشاهدين يتركونه طوال الليل من أجل الراحة” ، كما يقول كريستوف.  المهم أنه متواجد أربعة وعشرون ساعة في اليوم.  ومثلما كان ترومان محاصرًا في عالمه الصغير ، كذلك حال جمهوره.

  يمكن لأي شخص أن يصبح مشهوراً يفعل الأشياء اليومية المعتادة، او التى يحبها

في حين أن فكرة عيش الحياة تحت المراقبة المستمرة، والتدقيق من قبل جمهور غير مرئي من المتابعين في جميع الأوقات قد تكون كابوسًا في عام ١٩٩٨،أما الآن  فقد أصبحت حقيقة واقعة كل منا لديه القدرة على بث أحداث حياة الآخرين الخاصة ، بغض النظر عن الكيفية  تافهة أو هادفة ، من خلال إمكانية بث الفيديو المباشر على Facebook و Instagram ، عن طريق نشر صور طعامنا ، أو التغريد عن كل أفكارنا – حتى عندما يكون جمهورنا هم الأشخاص في حياتنا اليومية فقط، فقد أصبحت المراقبة الرقمية متاحة في كل مكان ولكل من يريد، حتى أصبح من المألوف أو العادى أن الملايين من البشر يشعرون، أويعلمون أنهم مراقبون بل ومسيطر عليهم طيلة اليوم، من قبل شركات وحكومات غامضة…في ترومان شو قام المخرج والمصور السينمائي بالدراسة والبحث في تقنيات المراقبة للحصول على لقطات معينة ، والفيلم يتحرك باستمرار بين لقطات كاميرا الأمن، وكذلك عدسات عين السمكة المخبأة على “الممثلين” في العرض والمثبتة على الأسطح العالية في كل مكان،  ويتم التحكم في كل شيء بدءًا من حجب الممثلين إلى شروق الشمس في الفيلم من مركز قيادة “غرفة القمر” في  قمة أعلى مبنى ضخم من صنع الإنسان ،ليتثنى لهم رصد كل مايدور بالأسفل…ولا نتعجب من أن عرض ترومان شو، قد  تسبب في أوهام الناس لأنهم قيد المراقبة اليومية، حتى أن أحد أطباء النفس بمستشفيات أمريكا، عالج عددٱ من المرضى الذين اعتقدوا أنه يتم تصويرهم.  ذكر أحدهم أنه عمل في فريق إنتاج برنامج واقعي أدرك أنه يتعلق به ؛  ويعتقد آخر أن جميع أصدقائه وعائلته كانوا ممثلين يتبعون النصوص المفروضة عليهم، حتى قام ذلك المعالج النفسى بعد معالجته الكثير من المرضى،  هو وشقيقه، الفيلسوف بجامعة ماكجيل الأمريكية، بنشر ورقة  حول ما يسمونه الآن وهم “Truman Show” ، أو “متلازمة ترومان شو” وهو اضطراب حيث “يعتقد المريض أنه يتم تصويره، ويتم بث الأفلام للترفيه عن الآخرين…  فمن الواضح أن ترومان شو قد أصاب (العديد) متوقعا المخاوف في العصر المقبل …إذن فالحكاية ليست مجرد فيلم، الموضوع له أبعاد فلسفية ونفسية طالما أنهكت الإنسان عبر العصور، هل الحياة التي نعيشها حقيقة صرفة..؟

نعود لترومان الذى يعيش في استديو ضخم تم تصميمه خصيصًا لتدور فيه أحداث حياته الوهمية، حيث يشاهده ملايين البشر حول العالم، في بث مباشر على مدار اليوم…يوضح لنا ذلك أن المخرج إستطاع “ضرب عصفورين بحجر واحد”

فهو لم يبن عالمًا خياليًا لترومان فقط، بل وللمشاهدين أيضًا، إذ لا يمكن تقبل فكرة وجود قسوة بشرية معلنة ومُتفق عليها إلى هذا الحد، الذي يسمح بمنح إنسان حياة مزيفة لمجرد التسلية فقط…وكيف تكون لمجرد التسلية مع هذه الإسقاطات شديدة القسوة مشابهة إلى حد كبير جدًا مع عقد الارتياب التي يعاني منها السواد الأعظم من الناس حول العالم، ليتوهم الإنسان أن الآخرين متآمرون عليه، ويكنّون له الكره، ويحاربون نجاحه، وفي مراحل متقدمة من هذا الارتياب يصعب على الفرد تصديق ما يراه أو يسمعه، ويبحث دومًا عن تفسير خفي للأحداث التي يعيشها…وقد تمكن المخرج نقل الإرتياب من حالة الوهم إلى الواقع .

كما تقدم قصة الفيلم أيضًا نقدًا واقعيًا للحياة المُعاشة، وليس فقط محاولة لتوصيف حالة فلسفية من الجهل بالذات. تقدم ذلك النقد في قالب عفوي من المفاجآت التي لا دخل لترومان أو لنا كمشاهدين فيها، تعلّمنا بتتابعها المثير وكشفها لأجزاء من الصورة الكبرى، أن المعرفة وحدها لا تكفي، لا يكفي فقط أن ندرك زيف الوجود، بل يجب أن نتصرف للخروج من ذلك الزيف، وإلا فإن كل شيء من حولنا سيحاول إبقاء الواقع كما هو، دون أدنى تغيير.

يستيقظ ترومان دائما  في الصباح الباكر,يتناول فطوره،  ثم يقوم بالقاء التحية على زوجته،  ويخرج من المنزل متوجها إلى العمل ، يقابل نفس الناس في الشارع يوميا، حتى نفس السيارة التى تأتى مسرعة، ونفس التحية التى تلقى عليه ،وعندما  ينتهي من عمله يعود إلى منزله لمشاهدة التلفاز ، أو لتناول الشراب مع صديقه في حياة روتينية وسيناريو واحد يوميا، أيضا رتيب ،لايتغير ليستمر الأمر لمدة ثلاثون عامٱ ، أى مذ كان ترومان جنينٱ…والغريب أنه لم يلاحظ هذه الرتابة المملة القاتلة، على الرغم من أنه كان يشعر برتابة الأيام والساعات…ومن هنا يقفز سؤال ديكارت ، كيف يمكننا التأكد من أننا جميعًا غير مخدوعين بهذا العالم تمامًا؟

ليصور لنا  كائن كلي القدرة خبيث، هدفه الوحيد هو خداعنا في جميع تجاربنا ومعتقداتنا الإدراكية، لتحدي فكرة أن لدينا معرفة معينة بالعالم  ومايدور من حولنا.  وبالنظر إلى الاحتمال المنطقي لوجود مثل هذا المخلوق ، “العبقري الشرير”كيف يمكننا التأكد من أن معتقداتنا حول العالم ليست خاطئة بشكل جذري؟ ، وهكذا تقدم لنا فكرة برنامج ترومان شو “التشكك” ولكن الفرق أنها قدمت لنا بأكثر الطرق إقناعٱ.

فكريستوف يماثل”العبقرى الشرير” كمفهوم ديكارت…مع الفرق أيضا أن عبقرى ديكارت إفتراضى، ولكن عبقرى كريستوف شخصية حقيقية تفكر وتدبر وتوجه بشكل خطير.  إذن هل يمكن أن نطرح السؤال الشائك حول ما الذي يمنع حدوث مثل هذه المؤامرة بالفعل؟ لو إفترضنا جدلٱ أن فكرة البرنامج هى مؤامرة مدروسة بإتقان وبتقنية تفوق الخيال، فهل نحن بالفعل نعيش داخل هذه المؤامرة، بعيدٱ عن الفيلم  فى حد ذاته…إذا كان يمكن أن يكون هناك مثل هذا العرض بالفعل

من وجهة نظرى وبعيدا عن تقنية التنفيذ   ليس لدى شك في إمكانية إنتاج “The Truman Show” بإمكانياته الضخمة وشبكته الواسعة من الكاميرات الخفية والمصورين والمصممين والممثلين.، ولكن ربما تكون العقبة الحقيقية الوحيدة تتعلق بالعنصر التآمري المعني.  إذا كان برنامج “ترومان شو” مستحيلاً أو حتى غير معقول ، فسيبدو لأسباب أخلاقية فقط  وليست فنية.  قد يتساءل المرء كيف يمكن لمثل هذه المجموعة الكبيرة من الممثلين التآمر لخداع شخص آخر بهذا الحجم الهائل؟  والأهم من ذلك ، كيف يمكن لبقية المجتمع ، الجمهور ، أن يقف موقف المتفرج أمام تدمير خصوصية الرجل وإستقلاليته… وللمرة الثانية يطرح نفس السؤال حول كيف نعرف أن هذا صحيح.  كيف يمكننا التأكد من أننا  لسنا الهدف  غير المتعمد في دراما تلفزيونية أو سينمائية  يشاهدها بقية العالم من أجل تسليتهم..؟  بشكل عام ، بحكم ما يمكنك التأكد من أن الأشخاص من حولك لا يتآمرون لخداعك بشأن هويتك؟  ربما تكون هذه أسئلة فلسفية بحتة ، لكنها أيضًا أسئلة جيدة بقدر ما تقودنا إلى التفكير في مفاهيم المعرفة واليقين والاعتقاد… فليس من الصعب بعد كل هذا، تخيل أن مثل هذه الأمور تحدث فى مجتمعنا، “آى نعم”  تعتبر الخصوصية والاستقلالية قيمًا مهمة في معظم المجتمعات المعاصرة ، وحتى في الدول التي نعتقد أن الحرية الشخصية تسود فيها ، غالبًا ما تتعارض الخصوصية والاستقلالية مع القيم والمبادئ الأخرى .

لكن في عالم الترفيه ، يتعارض احترام الخصوصية والاستقلالية مع مجموعة مختلفة تمامًا من القيم: رغبة من  الجمهور النهم في الحصول على المعلومات وما يسميه بعض الناس “الترفيه الحقيقي”.

خاصة وأن هناك مطالب  جماهيرية هائلة على هذا النوع من المعلومات أو الترفيه

الذى يشعرهم بالنشوة والسعادة الكافية لمشاهدة أسرار ومآسي الآخرين .بينما يستنكر البعض من الناس مثل هذه الغزوات الجسيمة الهاتكة للخصوصيات .

والشئ بالشئ يذكر عرض ترومان شو، يذكرنا بفيلم ألمانى صدر عام ٢٠٠٦ اسمه (حياة الآخرين) تدور أحداثه في فترة ما قبل سقوط جدار برلين في ألمانيا قبل الاتحاد حيث كانت تعيش ألمانيا الشرقية الاشتراكية بكل صورها وتفرض على الناس العيش في هذا النظام ولو رغماً عنهم وتحت رقابة قاسية تلتهم كل تصرفاتهم… إذن فالفكرة كانت موحودة بالفعل بطريقة أوبأخرى، فما المانع فى وجودها اليوم فى أى مجتمع من العالم

وفى تصورى أن صناع ترومان شو ، كانوا يهدفون من خلال فكرتهم القاسية هذه دعوة الناس لمحاربة الجهل والوهم للبحث عن الحقيقة، وعدم الإستسلام للوهم المجهول، لإننا جميعًا نعيش  في حالة من الجهل والوهم…حيث  يقودنا أشخاص آخرون من حولنا إلى تصديق أشياء عن أنفسهم وأنفسنا وهي ببساطة زائفة أو مغلوطة،  فالشركات التي تريد أموالنا تغرينا بالأكاذيب حول منتجاتها.  والسياسيون ، الذين يريدون أصواتنا ، يقدمون وعودًا خادعة لا ينوون الوفاء بها.   فحياتنا مليئة بالأكاذيب والأوهام  ويتعين علينا عدم الإنجراف مع التيارات الزائفة والتغلب عليها في البحث عن الحقيقة ، تمامًا كما فعل ترومان، عندما قرر الهروب من ذلك المجتمع الوهمى،فما يخطط له ينطوي على البراعة والشجاعة.  لأنه يجب عليه ، في المقام الأول ، أن يقبل أن كل  معتقداته السابقة عن نفسه وعالمه وعن الناس من حوله زائفة  ثانيًا ، عند مغادرته  لهذا المجتمع ، سيقطع كل ماله صلة  بالأشخاص الوحيدين الذين عرفهم على الإطلاق ، ويغامر بالخروج إلى عالم لا يعرف عنه شيئًا فهو المجهول بالنسبة له.  ثالثًا ، نظرًا لأن أي هروب ينطوي على السفر عبر الماء ، يجب على ترومان التغلب على خوفه من الماء والتغلب على العقدة التى سببت خوفه الشديد منها وهى غرق والده … بطريقة ما يستجمع ترومان الشجاعة لركوب قارب  ومغادرة عالم  كريستوف الوهمى ، ولكن مع كل هذا النقاط الهامة ، غير مسموح لترومان الهروب بسهولة ، لأن مثل هذا الهروب سيعني نهاية الإبداع الفنى لكريستوف وتوقف  العرض التلفزيوني بعد كل هذه السنين، وإذا كان العرض سينتهي بالفعل ، فيجب أن يكون وفقًا لشروط صاحبه ومبدعه،  لذلك يأمر كريستوف فريق الإنتاج الخاص به بصناعة عاصفة من شأنها إما أن تجبر ترومان على التراجع أو ، إذا لم يحدث ذلك ، ستغرقه… لكن العاصفة  فشلت في ردع ترومان ، رغم أنها كادت أن تقتله.  ومع ذلك ، نجا ترومان في النهاية ووصل إلى حدود عالمه المزعوم ، محيط استوديو التلفزيون.  في الأطراف ، ينفتح بابٱ خلفه ظلام حالك ، يمثل المجهول بالنسبة لترومان…وهنا لأول مرة يتحدث كريستوف إلى ترومان مباشرة ، ويحاول إقناعه بعدم المغادرة، وترومان لاينصت له ويخرج من استوديو التلفزيون ، ليدخل في ظلام العالم الحقيقي… وهو عالم جديد مجهول بالنسبة له ، وهنا يحضرنى قول أديبنا الكبير نجيب محفوظ فى رائعته (أولاد حارتنا) “الخوف لا يمنع من الموت و لكنه يمنع من الحياة” من خلال حوار الجبلاوى، يقابله كريستوف فى ترومان شو، وادهم أحد أبنائه ويقابله ترومان فى محاولة الخروج من طوع أبيه، فقد  كان كريستوف يحاول إثناء ترومان عن عزمه على الخروج من عالمه: “لن تجد في الخارج عالماً أفضل من الذي اخترعته لك… أنا أعرفك! أنا من صنعك”. فى مشهد ترومان ينظر باتجاه الشمس ويأتيه الصوت من كل مكان، فهل هى  محاكاة لخطاب الإنسان مع الإله. ليرد ترومان على المخرج أو الصانع ودعواه بمعرفته: “لم تكن لديك قَط كاميرا في رأسي!” ليتسلل إلينا  سؤال ثالث هل المجهول أفضل من الوهم..؟

الفيلم هو نسخة مطورة من الكتاب في هذا العصر الافتراضي.  كما هو الحال في الأدب ، بدأ الفيلم يتحدث عن العديد من القضايا ويصور المشاكل الحقيقية التي يواجهها العالم.  في عالم ما بعد الحداثة ، لا توجد حقيقة ، إنها مجرد منظور لشخص مختلف.  في الفيلم ، تعد الواقعية الفائقة لغة بصرية في المقام الأول لأنها تعمل بشكل أفضل مع الصور من أجل إعطاء تجربة فائقة الواقعية للجمهور.  يتم أخذ الفرد إلى السيناريو الواقعي من خلال الصور التي تعرض رغباته واحتياجاته.  تتساءل الدراسة عما إذا كان العالم الذي تعرضه وسائل الإعلام زائف أم حقيقي.

وترومان شو يجلب إلينا تجربة فائقة الواقعية،  بتكشف التقنيات الفائقة التي تستخدمها وسائل الإعلام في العصر الحالي للعالم الحقيقى … وللتعبير ببلاغة عن فكرة ما بعد الحداثة ، نحن نعيش في عصر يتساءل فيه الناس عن كل شيء من أجل معرفة الحقيقة.  يتم التحكم في هذا العصر من قبل مختلف الوسائط والشبكات الاجتماعية.  نحن نتحكم في التكنولوجيا التي لا يمكننا إدراكها في هذا العالم الافتراضي ، كل شيء هو محاكاة.  الناس تحت مراقبة الآلات والتكنولوجيا.  ويعتبر الفيلم أيضًا نوعًا من التكنولوجيا التي تُستخدم لمحاكاة الواقع في هذا العالم.  وظهرت أفلام كثيرة مثل “Matrix” و “Blade Runner” و “The Truman Show” و “Vanilla Sky” و “The Minority Report” و “Inception” تتعرض لفكرة الواقع المفرط بطريقة واضحة…وكل ما يحدث في هذا العالم يصل إلى كل زاوية وركن من خلال الوسائط المتعددة،  يمكن لوسائل الإعلام أن تكون بأي شكل مثل الصحف والأخبار التلفزيونية والأفلام وما إلى ذلك، ويمكن أيضا لوسائل الإعلام إنشاء أي نوع من الأخبار غير صحيح… ففي وقتنا الحاضر ، قوة وسائل الإعلام لا حدود لها،  وأصبح الناس نتاجًا لوسائل الإعلام،  فوجه وسائل الإعلام يتغير يوما بعد يوم حسب تغيرات كثيرة تكاد تحدث يوميا ،لن نخوض فيها،  ولكن ببعض من التركيز سنجد أن عنوان فيلم ترومان يعرض نفس المفهوم ، حيث أنه مأخوذ عن عرض حول صبي تتبناه إحدى قنوات الشركات الإعلامية، وبإستثناء  شخصية ترومان ، فإن الآخرين هم ممثلون،  وشعار العرض هو تقديم أسعد وجه للإنسان دون أي نوع من المتاعب وإخراج المشاعر الحقيقية من ترومان من خلال عالمه الإفتراضى الزائف والشخصيات الزائفة التي تحيط به، فنرى مدير العرض وهو المتحكم في أنشطة شخصية ترومان بشكل غير مباشر،  من خلال التحكم في الشخصيات الأخرى.  يريد أن يعيش ترومان حياة مخلقة أو مصنوعة له خصيصٱ، يوتوبيا لا يوجد فيها بؤس ولاحزن ، عالم مثالى .

فى نهاية المطاف ما إذا كان ترومان سيشعر بالعالم الخارجي باعتباره العالم “الحقيقي” ليتم تركه كنهاية مفتوحة للفيلم ، ولكن إحدى الرسائل المتعلقة بهروبه،  هي أهمية الخروج من عالم مفتعل،  فكل شيء في ثقافة البشر كالموسيقى والفيديو إلى الأفلام للأخبار – يتلاعب بمشاعرنا وذكائنا.  يبني طبقات من العبث والمعتقدات الخاطئة.  الخطوة الأولى للهروب من مثل هذا العالم الواقعي الزائف والمفرط هي (إدراك الذات)، يخبرنا الفيلم بكسر الثقافة الزائفة المصطنعة بوسائل الإعلام التي نشأت حولنا والمفارقة المركزية لهذه الفكرة هي أن فيلم “ترومان شو” نفسه هو شكل من أشكال الوسائط.  شكل يريد منا أن نرى التلاعب بالوسائط من خلال التلاعب بنا بنصوص وشخصيات مثيرة للاهتمام،  لذا  فإن الرسالة النهائية والحيوية التي نتعلمها من خلال أفلام جيدة مثل ترومان شو هي أننا يجب أن نستخدمها لتوسيع إدراكنا ؛  لا نستسلم لها ونسمح لها بالتلاعب بنا.

*****************************************

أضف تعليق