مكاوي سعيد ( ملف خاص) ..إعداد: عبير سليمان

البهجة غادرت زهرة البستان بغياب عمدة وسط البلد

“مكاوي سعيد – ميكي كما اعتدنا أن نسميه “

في يوم 2 ديسمبر من عام 2017، رحل عن عالمنا الكاتب الكبير مكاوي سعيد الذي ولد فى القاهرة فى 6 يوليو 1956، وبدأ رحلته مع الكتابة فى آواخر السبعينيات، حينما كان طالبا بكلية التجارة جامعة القاهرة، وكان حينذاك مهتما بكتابة الشعر العامى والفصيح عقب تأثره بدواوين صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى والبياتى والسياب والفيتوري.

كتب مكاوى سعيد الرواية، والنوفيلا والقصة القصيرة وأدب الأطفال والسيناريو الروائى التليفزيونى والتسجيلى والوثائقى والنقد والمقال الأدبى، وقد حصل على جوائز مهمة وتكريمات من مصر والبلاد العربية وهيئات مصرية ودولية وترجمت بعض أعماله إلى لغات مختلفة منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والكرواتية والصينية.

حصل على العديد من الجوائز الأدبية في مصر والعالم العربي ، منها الجائزة الأولى للرواية – مسابقة د سعاد الصباح للإبداع العربي عام 1991 عن رواية فئران السفينة . وفي 2009 حصل على جائزة اتحاد الكتاب لأفضل مجموعة قصصية عن “ليكن فى علم الجميع سأظل هكذا.

وفي عام 2007 القائمة القصيرة لجائزة بوكر الدولية للرواية العربية عن رواية تغريدة البجعة ، وجائزة الدولة التشجيعية فى الرواية عام 2008 عن نفس الرواية.

من خلال شخصيات مكاوي يمكنك أن تلمس قسوة الواقع خاصة في مدينة مثل القاهرة ، وكيف تفرض تأثيرها وطابعها على بطل مثل أحمد الضوي في ” أن تحبك جيهان ” ، فتجد نفسك تتعاطف معه مع الدروس القاسية التي تنهال عليه مثل لكمات متتابعة ، يعجز عن الإفاقة منها ، كان مكاوي يستلهم قصصه من العابرين أمامه يوميا في شوارع وسط البلد ، ومن طموح الشباب الذي سعى هو في الواقع لتجنيبهم العثرات أثناء خطوات تحقيق حلمهم ، ، إن قصص مكاوي ورواياته ترسم لقارئها لوحة فنية لحياة وسط القاهرة خلال فترة العقود الثلاثة الماضية، بشخوصها وأماكنها وتفاعلاتها البشرية، تحديداً روايته “تغريدة البجعة” التي وصف فيها الواقع المأساوي الذي يئن تحته أبناء الطبقة الوسطى، ويعاني منه أطفال الشوارع والمشردون من جوع وفقر.

عمل مكاوي أيضا ولأكثر من ثمانى سنوات مستشارًا تمويليا متطوعاً فى جمعية “ألزهيمر مصر” ومقرها بكلية الطب النفسي بجامعة عين شمس وهى جمعية متخصصة فى تقديم العون لأسر مرضى ألزهيمر ومرضى “الدمينشا” (خرف الكبار) وتأهيل وتدريب هذه الأسر لمساندة المرضى والعمل على إعادة تأقلمهم مع الحياة ومنع تدهور حالتهم.

لذا يمكننا من خلال معرفة هذه التفصيلة أن ندرك لماذا كانت كتاباته تقطر بالألم أحيانا ، وتقطر بالسخرية من الواقع وعبثيته وتناقضاته أحيانا أخرى

نماذج قصصية

ليكن فى علم الجميع سأظل هكذا

عند طلاقها, انتحيت بها ركنًا قصيا بالمقهى وواسيتها كصديق, ولما تدخلت للصلح متطوعا, عاتبتنى برفق وشدت على يدى وتسللت من شفتيها ابتسامة رقيقة امتزجت بكلمات قصيرة ومحددة : لا داعى … أغلقت هذه الصفحة واليها لن أعود.

 وحين أخبرتني بعد شهور قليلة بحملها … ظننت أنى لو أخبرت طليقها بهذا الخبر ستبتسم لهما الحياة مرة أخرى . لكنها هذه المرة لامتني بشدة ـ هى وأمها ـ وقالت وهى تطلعنى على المكتبة وصفوف أشرطة الكاسيت :هذهحياتى أنا أصنعها وأخطائى أجمل ما فيها … وانسل من الكاسيت صوت فيروز الرقيق … ( إن شئت تقتلنى فأنت محكم … من ذا يطالب سيدًا فى عبده ) …

رغم ذلك سألت عنه خلسة وأرسلت إليه رسالة شفهية مع صديق مشترك … وقابله الصديق فى المصيف.. وعاد منه بكلمتين اثنتين فقط: من هذه السيدة …؟ لم أعد أذكرها …!

شددت على العمال لكى ينتهوا من دهان منزلها … وأعدت معها ترتيب الغرف .. وكدت أتعثر فوق سطوح منزلها وأنا أولف لها ايريال التليفزيون .. وفى المستشفى الاستثمارى نالت منى الممرضة مبلغا ضخمًا من المال وهى تبلغنى البشارة وتبتسم : ابنتك جميلة .. وظللت أيامًا أحمل غذاءها بنفسى إلى المستشفى ثم أعود إلى أمها بطعام الإفطار قبيل المدفع. ورشوت الكثيرين لكى يسمحوا لى بالسحور معهما … وقبل خروجها بيوم … لمحت ظهره مصادفة مغادرًا الممر الذى بنهايته حجرتها … وتواريت كآثم فعل فعلا شائنًا …ثم اصطحبت خجلي وتوتري إليها … لكنها صوبت لى نظرات نافذة … وقالت وأمها منشغلة عنا بإزاحة الستائر : بيننا دم ولحم, وليكن في علمك انه سيعود غدا ليصطحبنا بسيارته …أرجوك لا تتصل بنا فى المساء.

ظل طبيبى النفسى يربت على ظهري  وهو يقول بصوت تتصارع فيه السخرية والشفقة : ستظل هكذا … ستظل هكذا … وأنا أغلق على نفسي باب شقتي فى المساء وجدتني أهرول في كل غرفها الباردة وأصرخ … ليكن فى علم الجميع سأظل هكذا.

ظُلمة مألوفة

كنت مبحرًا على ظهر قارب في النيل، أو ربما أحلم بذلك، تمر بي بيوت وأشجار وأخصاص صيادين في سرعات مذهلة لا تتناسب مع بطء القارب وهو يتهادى على صفحة المياه، وكفا حبيبتي النحيلتان تمسكان مجدافين. سكنت الرطوبة في عروقهما فنفرت، كل كف أصبحت تشبه وجه هندي طاعن في السن. كان ظهرها في مواجهتي، وعلى ما أذكر كان هذا غريبًا بالنسبة إليّ، وكلما ألقت شعرها إلى الخلف وجدَّفت، كان رذاذ المياه يعبرها من دون مس، بينما يلمسني ويوشك أن يخدشني كخرطوش بندقية يسقط خارج المسافة المقدّرة لجندي متطوع منهك، قضى يومه في طاعة قادة يمقتُهم.

حين بدأت الكلام، صمت الهواء فجأةً كأنه احتجب، وتكلمت بلا توقف، وحركة البيوت والأشجار على الجانبين البعيدين تكاد تتوقف، كان الكلام الذي تقذفه إلى الأمام بقوة، للأسف مستسلمًا وطيّعًا للنسمات المقابلة التي تهدهده ثم تدفعه فيصلني صاخبًا مدوّيًا. كان صوتها وهي تتكلم في ما يشبه صوت العملات المعدنية الصدئة وهي تقع على التراب، وبحماسة مكتومة لطاووس وقع بين براثن ذئب، كانت تقول إنها تحب منذ شهور، وإنها آسفة لجرح مشاعري طيلة كل هذه السنوات، وكانت تأسف كثيرًا وكنتُ أصدقها، لكن بدا ذلك الآن كبالون اتسعت ثقوبه واستعصت على الرتق.

قالت إنها لم تظن قط أن تواجه مثل هذا الموقف، وكنت منشغلاً بما يحدث على الشاطئين اللذين سكنت حركتهما تقريبًا بما عليهما من جماد وشجر إلا حركة طائر «أبو قردان» وهو يدب منقاره الحاد في طين الشط، غير آبه بتناثر الوحل على ردائه الأبيض، ثم فرحته وهو يلتقط دودة سمينة ويحرّكها عاليًا يمينًا ويسارًا كأنه يعلن انتصاره، بينما الدودة مستسلمة تمامًا كأنها ميتة، أو كأنها اشتهت منذ مولدها هذه اللحظة.

ثم فجأة تباعد صوتها الذي كان يسكنني لسنوات فانتبهت، كان قاربنا الذي تقاسمناه لفترة كبيرة أو قصيرة – لم يعد يهم – قد انشطر، وكانت تقود بمهارة نسر جارحٍ مقدمتَه، وتشق المياه بسكين حادة، مبتعدةً، ثم بدا ظهرها يلوح لي من بعيد، كجثة ضخمة لحيوان نافق، بينما الجزء المشطور الذي أعتليه يتهادى بي نحو ظلمة بدت لي مألوفة ومحببة.

ثرثَرة شتويّة

بمجرد أن خلت منضدة أسفل مظلة المقهى، غادرتُ موقعي المكشوف متجهًا نحوها وكفِّى تحتضن كوب الشاي الدافئ، ودون إشارة أو تنبيه لحقت بي الشيشة المحمولة بمهارة في قبضة يد عامل المقهى، وكانت الشمس بالكاد تصفو بضع دقائق، ثم يتسيَّدها الغيم حتى توشك أن تصير عتمة، لكنها عتمة ضعيفة المقاومة سرعان ما ينتصر عليها الضوء، ومثل هذا الطقس يتأبط معه اكتئابًا يجهدني، لذا خرجت مبكرًا من البيت بغير أنفاس أخرى تجول به، وفى إحدى مراوحات الضوء والعتمة هاجمتني الوساوس بأنى لم أغلق ضلفتيْ الشرفة أو لم أحسن رتْجهما وستهبُّ رياح شديدة تفتحها وتدفع بالمطر إلى سريري وكتبي التي تفترشه. شددت أنفاسًا طويلة وأنا أرقب الغيم المراوغ بقلق طفل انتهى يومه الدراسي الأول ولم تأتِ والدته، وحينها أتتني مكالمتها بذات صوتها الطفولي الشقي، سألت عن حالي وعاتبتني مدعية أنى لم أعد أتصل بها! وغفلتْ عن الموضوع المعلق بيننا مثل لحم مقدد يعتِّقه الزمن، وكانت مهلتي لها قد انتهت منذ أيام خمسة، وكنت متيقنًا أنها لم تجرؤ أو لم تشأ إبلاغ أهلها برغبتي التي تلاشت من قلبي قبل انتهاء المهلة بساعات، وحين لم أعقب سألتني عن الطقس وشهقت بفرحة لما أخبرتها بالصقيع وبالمطر الذي أوشك على الهطول، ثم قالت ببهجة لافتة إنها تحب السير أسفل قطرات المطر لذا ستخرج من بيتها لمقابلتي على الفور. قالتها بحزم لا يليق بعمرها وجاءتني بسرعة قياسية أدهشتني وبوغتُّ بها واقفة على رأسي تتعجلني دفع الحساب.

 سرنا مسافات طويلة وهى تسترق النظر نحو السماء التي لم تلن لرغبتها، ومررنا بمطاعم ومحلات أحذية وملابس، ووقفنا أمام بعضها،  والبرد يشتد بلا قطرة ماء واحدة، وعبرنا فوق رصيف عريض يكاد يخلو من المارة وعن يميننا نهر الطريق بسياراته المهرولة وعن يسارنا بعض الشباب يقفون أمام المحلات التي يعملون بها، أو يروجون لمحلات أخرى مخبأة في العمارات التي تحيط بالمكان، وأنا أستعرضهم كحرس الشرف، بينما هي منهمكة تثرثر عن صديقاتها بأسمائهن متصورة أنى أتذكرهن، وكنت أهز رأسي عند نهايات جملها ولأنها تدرك حجم استيائي لم تعلق كما كانت تفعل دائمًا، ثم تدخَّل أحدهم في مساحتنا ووجدت يدًا مشرعة نحوى بإعلان ورقي عن سلع ومنتجات، وعندما أبعدت اليد المقتحمة بغلظة قال “البضاعة دي مش ليك يا حاج.. دي حاجات تلزم المحروسة بنتك” وقهقه زميله، استأت وتضايقت ولحقت بها وهى تتأمل “فاترينة” محل مجاور مدعية عدم الانتباه، وأشارت بلامبالاة نحو حذاء نسائي برقبة مكسوة بالفرو من الداخل، وسألتني إن كان يناسبها، وأجبتها بنعم فقالت إنه يوم غير مناسب للشراء، ثم أكملت سرد حكايتها عن صديقاتها حتى ابتعدنا كثيرًا عن اليد المقتحمة، وفجأة سألتني عن رأيي فيما قالته أخيرًا، وضحكت بشدة تجاه صمتي قائلة إنها تعرف أنى لا أحب أن أسمع حديثها عن صاحباتها، وأضافت بأنها ثرثرت لتشغلني عن البرد ولأنى أصمت طويلاً وأنا بجوارها في الآونة الأخيرة.

كان الغيم قد انتصر أخيرًا وفشلت مصابيح الشوارع وواجهات المحال المفتوحة القليلة في تبديد الظلمة، ووجدتها تشير إلى  مدخل بناية قديمة وتقول إن بداخلها بعض المتاجر ومصانع الملابس الصغيرة التي تبيع بأسعار مقبولة وأنها تريد الفرجة والشراء إن أعجبها شيء، وفور مشاهدتي اللوحة المعلقة على باب المصعد والتي تفيد بأنه معطل، أخبرتها بحزم أنى لن أصعد غير طابقين فابتسمت ووافقت، ترددت في شراء حقيبة جلدية  لطيفة بعد أن أجهدت البائع بالفصال ولم تستطع النزول إلى السعر الذى ترغب في دفعه، وكنت أتابع المساومة في ضجر وفى  الوقت ذاته أخشى أن أخبرها برغبتي في دفع الفرق حتى لا أثير غضبها كما فعلت ذات مرة، وخرجنا دون أن  تشتري الحقيبة، لكنها  اشترت من المحل التالي قفازًا لها وكوفية صوفية لي رغم اعتراضي. ولما أحست بإجهادي أخبرتني برغبتها في النزول، وعند وصولنا إلى الطابق الأرضي سمعت خروشات يدها بداخل كيس المحل والتفت فوجدتها قد أخرجت الكوفية وهى تطلب منى أن أنكس رأسي حتى تضع الكوفية حول عنقي، ثم تقهقرت خطوات وهى تتفحصني وقالت “الله.. حلوة عليك” ثم اقتربت مرة أخرى لتعدل من وضعها وفجأة وجدتها تثب على قدميها لتمس شفتيها فمي، وأدارت ظهرها لي كأنها لم تفعل شيئًا، وبدت غير منصتة وأنا ألومها على هذا التصرف في بهو مبنى عام والمخاطر المحتملة لو رآنا أحد وهي تفعل ذلك، ولم تتوقف إلا عند فرجة الباب ومدت يدها إلى الخارج وعادت بها تتفحصها، ثم وجدتها تفتح ذراعيها في وضع الطيران وتهتف ” بتمطر” أحكمت الكوفية حول الرقبة بينما فردت شعرها قبل أن تخرج برأسها وترنو إلى الشارع وتضحك. بينما العدد القليل من المارة ينسحبون بسرعة من أمام المطر الذي اشتد. والتفتت نحوي أخيرًا وهي تسألني إن كنت مستعدًا للدخول معها في سباق عدو أسفل المطر، واكتفت بصمتي إجابة ثم جرت ببطء بضع خطوات والتفتت، وكنت فقط أمد خطوتي، وهي توليني ظهرها. كانت المسافات تتسع بيننا، ووجدت نفسي مدفوعًا إلى السير بخطوات أوسع ثم إلى الجري بحساب رغم خلو الطريق بعدما اشتد المطر، ودون أن تلتفت وجدتها تبطئ من سرعتها، وبدا لي أن هناك أملاً محتملاً في أن نلتقي عند نقطة ما.

مع شقيقته فاطمة سعيد في إحدى حفلات التوقيع

مكاوي سعيد رسم «جدارية» القاهرة .. شخوصاً وأماكن

عمار علي حسن

الحياة:) السبت, 09-ديسمبر 2017

عمار على حسن
د

لن ألقـــاه بعد اليوم جالساً في مقهى «البستان» كواحد من أشهر عــــلامات وسط القاهرة، وأكثــر زبائن هذا المقهى الذي يرتاده المثقفون إخلاصاً للمكان والناس، فالموت غيّب الأديب المصري مكاوي سعيد بغتة، ولم يمهله كي ينهي روايته الجديدة، التي قطع فيها شوطاً لا بأس به، أو ينجز الفيلم التسجيلي الطويل الذي كان يحلم بأن يكون قادراً على المنافسة القوية في مهرجانات دولية، أو يتمّ قصص الأطفال التي كان يجهزها للنشر، أو يكمل ما بدأه من حكايات للجالسين، أو نظرات شاردة نحو العابرين، أو ابتسامات طيبة لكلّ الذين يقدمون عليه يحيونه ويصافحونه ويجالسونه، مستمتعين بحضوره الهادئ، وحدبه الإنساني الذي لا ينقطع، وبساطته الآسرة.

مات مكاوي سعيد عن واحد وستين سنة وثلاث روايات لافتة هي «فئران السفينة» و«تغريدة البجعة» و«أن تحبك جيهان» وستّ مجموعات قصصية، أهمّها «الركض وراء الضوء» و«سري الصغير» و«البهجة تحزم أمتعتها» وثلاثة كتب سردية هي «مقتينات وسط البلد» و«عن الميدان وتجلياته» و«أحوال العباد»، وعدد من قصص الأطفال، وقصائد شعر كان ينشرها في صباه، لكنه لم يجمعها في ديوان. وكان قد بدأ يكتب القصائد الفصحى والعامية وهو طالب الجامعة، متأثّراً في ذلك الوقت بصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري. وقد انهمك مكاوي في كتابة مقالات ثقافية واجتماعية منتظمة لصحيفة «المصري اليوم» في السنوات الأخيرة، وحقق في فن المقال نجاحاً كبيراً.

وعلى رغم أن مكاوي، الذي كان يحلو لكثيرين أن ينادوه بـ «ميكي»، قد حصل على شاعر جامعة القاهرة عام 1979 فإنه سرعان ما انجذب إلى القصة القصيرة مدفوعاً بنداء خفي تملكه حين قرأ قصص يوسف إدريس وتشيكوفومسكيم غوركي، إضافة إلى روايات نجيب محفوظ وإرنستهيمنغوايودستويفسكي. وكما برع في الشعر، برع في السرد، فلفتت أعماله المتوالية انتباه النقاد والقراء، وحصدت الجائزة تلو الأخرى، بحيث نال نادي القصة في القاهرة، وسعاد الصباح، وجائزة الدولة التشجيعية، وجائزة ساويرس، ووصلت روايته «تغريدة البجعة» إلى القائمة القصيرة للجائرة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وترجمت بعض رواياته وقصصه إلى الإنكليزية والفرنسية، فيما تم رصد جوانب من سيرة حياته وأعماله في فيلم تسجيلي باسم «ذات مكان» للمخرج أحمد شوقي.

ولولا انسحاب مكاوي سعيد من الحياة الثقافية متأثراً بالرحيل المبكر للكاتب الموهوب يحيى الطاهر عبدالله، لكان بوسعه أن يكتب المزيد من الروايات والمجموعات القصصية، وهي مسألة انتبه إليها في السنوات الأخيرة، حين ترك وظيفته كمحاسب في إحدى شركات المقاولات وتفرغ للكتابة، عائداً إلى ما كان يتوقعه له الطاهر عبد الله، الذي راقت له موهبة مكاوي، فأثنى على قصصه، وزكّى بعضها للنشر في مجلات ودوريات ثقافية مصرية وعربية، وهي قصص نشر مكاوي بعضها في كتاب مع عدد من أبناء جيله مثل يوسف أبو رية وسحر توفيق وعبده المصري.

تقطر قصص مكاوي دوماً بالأوجاع والأحزان، وتتهادى على مهل، صانعة جواً مقبضاً، لا يمنعك من أن تتعاطف مع شخصياتها الموزعة على أعمار شتى، أطفالاً ومراهقين وكهولاً، وتروق لك بساطة اللغة ووصولها إلى المعاني المقصودة من أقصر طريق، وتعجبك بعض الصور الموصوفة أو المرسومة بعناية، والنهايات المفارقة التي تمنحك قدراً معقولاً من الدهشة والافتتان، فيما يلفت انتباهك مضمونها الذي يتماشى مع حالة الأسى والحيرة التي تسيطر على الطبقتين الوسطى والدنيا في المجتمع المصري، لاسيما في السنوات الأخيرة نتيجة محاولة إجهاض ثورة يناير وحرفها عن مسارها ثم سرقتها.

شخصيات مكاوي مستمدة من مثل هذا الواقع القاسي الذي كان يستلهم منه قصصه، وترسم جزءاً من الجدارية التي ظلّ يصنعها على مهل لحياة وسط القاهرة في ربع قرن على الأقل، بشخوصها وأماكنها وتفاعلاتها البشرية، لاسيما ما حوته روايته البديعة «تغريدة البجعة»، التي فضحت الأوضاع الطبقية البائسة، ووصفت لنا حالة القنوط التي تسيطر على أبناء الطبقة الوسطى، وما يكابده أطفال الشوارع والمشردون من جوع وعري وافتقاد لدفء الأسرة ورعاية المجتمع.
ويبدو مكاوي في بعض قصصه القصيرة نازعاً إلى الرواية، بحيث تسيطر مقتضيات هذا الفن على بعضها، ومنها بالفعل قصص كان من الممكن أن تمتد إلى روايات كاملة، وأخرى كان يمكن أن تكون بورتريهات لشخصيات من الحياة، مثلما رأينا في كتابيه «مقتنيات وسط البلد» و«أحوال العباد». فالحياة كانت هي المنبع أو المنهل الذي طالما ألهم مكاوي الحكايات، لاسيما أن وعيه تفتح على فترة صاخبة من حياة مصر، انعكست على بعض رواياته وقصصه مثل انتفاضة الخبز 1977 التي شارك فيها، ومقتل السادات عام 1981، ثم انتفاضة الأمن المركزي 1986، والاحتجاجات العارمة التي شهدتها السنوات الأخيرة من حكم مبارك وانتهت بإطاحته في ثورة يناير.

كان مكاوي يتابع هذه الأحداث عن كثب، يتأملها في صبر، ويهضمها على مهل، ثم يخرجها الى القرّاء سرداً مفعماً بأشواق الناس إلى الحب والحرية والعدل، من دون أن يترك صوتها السياسي الصاخب يؤثر فيه سلباً، فيحول سرده إلى ما يشبه الخطب والبيانات والمنشورات والوعظ، بل ينساب ناعماً هادئاً خاضعاً لقانون الفن ومقتضياته، والذي تجلّى في أدب مكاوي من خلال لغة فياضة عذبة، وصور مدهشة، وسرد عرم ممتع، ومعمار روائي قائم على أعمدة راسخة.

الكاتب الراحل سعيد الكفراوي ينعي صديقه مكاوي سعيد

مكاوي سعيد.. بهجة توارت في صمت

كاتب جميل علي قدر من الحزن

أخبار الأدب ـ ١٠ ديسمبر ٢٠١٧

لم أكتشف أبدا خبيئة.. مكاوي سعيد من المواجع!وأعتقد انه لم يبح بها أبدا لأي أحد من رفاقه.
رجل استمر طوال عمره يجالس الناس بصمته مثلما كان في يوم الجمعة الأخير. كان صامتا إلى حدٍّ مؤلم، وأنا أحادثه باستغراب، وبالليل تألم بشدة، وفي الصباح على غير توقع يسلم الروح علي عجل، ومن غير أن يحكي لأحد عن أوجاعه.رحيل وحيد مثل وحدة “مكاوي سعيد”،فلا أحد منا،وعلى طول معرفتي به اتهمه  يوما بالثرثرة،أوالوضوح،أوالشكوى، وكان إذا ما تكلم تكلم برأس مرفوع.

بصفاته تلك اخترع اختر”مكاوي سعيد”شخصياته الكثيرة هؤلاء الذين أمضواعمرهم يثرثرون معه كاسرين حاجز وحدته،محققين معاً بعضا من حلم يحتمل .

.كان “مكاوي”كلما أدركته عندما يقبل ، وضبطت حركته في المكان والزمان أراه مثل “جانجينيه” يحاول أن يكتشف بداخله مكانه السري ليجد جرحه المتفرد، والذي دائما ما يؤلمه !لذلك كان “أحمد” و” جيهان” و “ريم” يبحثون في “أن تحبك جيهان” عن شيء مفتقد لم يعثرواعليه أبدا طوال سعيهم عبرسبعمائة صفحة من الدوران وسط أحداث مؤلمة.ظل هذا الرجل حتي رحيله يهرب من وحدته ليلوذ بالمقهي، وسط المدينة، وحين يضيق بنفسه ينهض ويسير فارداً نحافته علي شوارع خلفية وأزقة تطفح بالنسيان، باحثا لروحه عن نسمة هواء، عن بشر من الهامش ليكتب عنهم، مقاوما وهن الروح، وصدمة حرارة اليوم، وبؤس الاختيارات. كان يعافر كل مرة للقبض علي أشخاص يستعين بخبرتهم ليحسن الكتابة، وبسبب من ذلك كتب كتابه الهائل “مقتنيات وسط البلد ”   .

أعتقد انه أنفق عمره كله، وعلي قدر ما يستطيع ليحقق هذا المعني فيما كتبه.كان من المؤمنين أنه ليس للعيش معني، ومعناه الوحيد أن يتحقق في كتابة جيدة.أنا كلما تأملت ما كتبه هذا الرجل وعلي نحو خاص، أدركت أنالناس في كتبه ليسوا أشخاصا يشكلهم باتقان، يخرجون من تجربته وقلبه وأنهم بسبب من ذلك سوف يعيشون طويلا.
ومع آخر وقت من عمره، وعلي مقهي قليل الأهمية رأيته ضجرا وصامتا، تركنا علي عجل ومضي لأنه كان علي موعد مع الله.لقد عاش مكاوي سعيد يتنقل في الأماكن ويرسمها من زقاق لايفضي إلي شيء، لشوارع مفتوحة علي ميادين تضج بالبشر، وبالثورة، إلي ركن علي رصيف أمام جراج مغلق ولافتة متخيلة مكتوباً عليها “ركن مكاوي سعيد الخاص” ظل »عمرو الكفراوي»، الفنان الشاب يحب مكاوي، ومكاوي لحسن حظه يبادله نفس الشعور. ظل “عمرو” سامحه الله يرفع أمام  وجهي الصور التي رسمها لكتاب مكاوي الهائل صارخاً في وجهي وهو يقلبها: انظرصورة زيزينيا بالذمة مش هي والنص يشكلان شيئا فريدا. أنا أرى أنهما فريدان. كما تعرف لم يحب احد شغل مكاوي مثلي، أنامن خلد شغله في صور.وأنا أقرأ المقتنيات من بداية الكابتشينو مرورا بغريب الأطوار ورجل اللاءات الثلاث وجر الشكل حتي البارات والكباريهات، وحين انتهي لا أجد سوي كلمات قالها شيخ الطريقة فرناندو بيسوا : “الرجل النحيف ابتسم بخمول. نظر بارتياب ضال من سوء النية. ثم ابتسم بخمول. ثم ابتسم من جديد، لكن باكتئاب ثم غفى، مرة أخري، عينيه صوب الصحن وواصل عشاءه في سكون ومصمص ” .قلت مرة:”رحيل من تحبهم موجع.لأنهم يتوجهون في مرة أخيرة حيث باب الله الذي يقضي ناحية شيء لانعرفه، ولأنهم لا يعودون أبدا تاركين إياك لتعيش ماضيهم ولو من كل عام يوم!!

127908888_3439020309551039_7174552552685189564_n-1

مقال كُتب عن مكاوي سعيد عقب رحيله بالأهرام

بوابة الأهرام” برفقة آل “مكاوي سعيد” وصحبته وأمكنته.. هنا عاش “عمدة وسط البلد” 7 ديسمبر 2017

محمد فايز جاد

الروائي الراحل مكاوي سعيد (1956 – 2017)، أحد الكتاب الذين شغل المكان مساحة كبيرة في كتاباتهم، وفي حياتهم بشكل عام، صاحب ” تغريدة البجعة “، احتل المكان مساحة عظيمة في كتاباته، وعلى الجانب الآخر، احتل مكانًا عظيمًا في المكان، وتحديدًا في ملتقى المثقفين لعقود طويلة حتى صار “عمدة وسط البلد”.

“وسط البلد” التي كانت ملتقى للمثقفين منذ عقود، ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة ب مكاوي سعيد ، الذي لفت الأنظار إليه بشدة بعد صدور روايته ” تغريدة البجعة ” في 2007، وهي الرواية التي بلغت القائمة لقصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية في نسختها الأولى.
وفي مقهى “زهرة البستان”، الذي صار قبلة لكل راغب في الالتقاء بسعيد، حيث أصبح هناك معلمًا من معالم المكان شأنه شأن الأبنية العريقة المحدقة إليه من كل جانب.

أماكن كثيرة يذكرها سعيد في كتاباته ارتبطت جلها بـ”وسط البلد”، فمن مقهى ” ريش ” الملاصق لـ” زهرة البستان “، إلى مقهى وكافيتيريا “علي بابا”، ومن ” الجريون ” إلى ” إستوريل “، ومن “جروبي” إلى “الأمريكين”، مقاه ومطاعم وكافيتريات كلها عاش فيها مكاوي سعيد ، ونقلها لا بعين السائح الزائر، إنما بعين مواطن “وسط البلد”، الذي خبر أماكنها فصار مؤرخًا لها، لا كمؤرخ موضوعي يراه بعين جامدة ويسجل الوقائع والتواريخ عن بعد، إنما بعين مؤرخ منخرط يعيش في المكان، يتفاعل معه، يحبه، ويكرهه أحيانًا، ويتحسر على ضياعه كثيرًا.

يصف سعيد مقهى زهرة البستان في كتابه ” مقتنيات وسط البلد ” بأنه “. . . في الستينيات كان مجرد مقهى صغير لا يحتمل لا يحتمل بداخله أكثر من أربع مناضد ورصيف واجهته بالكاد تصطف عليه ثلاث مناضد وفي منتصف السبعينيات كان كان بعض مثقفي الستينيات يتركون مقهى ريش ليخنوا الشيشة ويلعبوا الطولة داخل هذا المقهى، ومن هنا وضع له الشاعر الكبير أمل دنقل اسمًا جميلًا: العمق الإستراتيجي ل ريش “.

على ” زهرة البستان ” حضور طاغٍ ل مكاوي سعيد رغم الغياب، رفاق جلسات المقهى يؤكدون أنه “مقلب من مقالب” صديق السنوات الطويلة المعتادة.
“لم يكن مكاوي سعيد محور الجلسة، فلم  ينفرد بالحديث، بل كان كثيرًا ما يبقى صامتًا لفترة طويلة، وعندما يتحدث نكتشف أنه كان متابعًا لكل ما يجري دون أن يعلق”.

هكذا يقول الناشر وائل الملا ، الذي صار عضوًا في جلسات مكاوي سعيد على المقهى في السنوات الأخيرة لـ”بوابة الأهرام ، فيما تقول الروائية والقاصة نهلة كرم ، التي يعيدها رفاق هذه الجلسات ابنة لصاحب “مقتنيات وسط البلد” إن سعيد كان له روتين يومي، “حيث يحضر إلى البستان في التاسعة صباحًا، ويبقى حتى الثانية والنصف، يتناول غداءه في أحد المطاعم القريبة، وكان يفضل مطعمًا في باب اللوق، ويعود إلى بيته، ثم يتجه إلى المقهى نحو الخامسة، وعند السابعة يتجه إلى أتيليه القاهرة حيث يكتب، ثم يرجع إلى المقهى الثانية ليمضي مساءه قبل أن يرحل إلى منزله في جاردن سيتي”.
يقول محمد عبداللطيف، مالك المقهى، لـ” بوابة الأهرام “، إن سعيد “كان من رواد المقهى القدماء، له مكان معين لا يفارقه، كتب عن المقهى والشارع وأشخاص المكان وغيره من الأماكن”.
ويضيف: كان يكتب في المقهى، وحتى اليوم الأخير كان حاسبه المحمول وبعض كتبه لدينا في المقهى، لم يكن يفارق المقهى، يأتي منذ الصباح حين يتناول إفطاره، ويقضي المساء كذلك المقهى قبل أن يرحل إلى بيته.

إن كنت صحفيًا ولست من مرتادي مقاهي وسط البلد كثيرًا، أو حتى إن كنت قارئًا عاديًا تبحث عن مكاوي، ولديك إمكانية التعامل مع وسائل التواصل لاجتماعي فإنك ما إن تسأل عن سعيد حتى تعرف مكانه، الإجابة دائمًا: اذهب إلى المقهى وستجده، يجعل ذلك من سعيد قبلة للكتاب الشباب الباحثين عن فرصة للتحقق ككتاب.

عُرف عن “عمدة وسط البلد”عدم حبه لمفارقة مدينته الأثيرة. “كان يشعر بالغربة خارج وسط البلد، وأذكر أنه حين كان يسافر إلى الإسكندرية على سبيل المثال ويخبرني بموعد لعودته كان يفاجئني بأنه قبل الموعد موجود هنا في زهرة البستان “.
ظل مكاوي سعيد حتى اللحظة الأخيرة ملازما لدائرته التي لم يحب أن يخرج منها، يروي الجميع كيف كان في وسط البلد حتى اليوم الأخير وكيف كانوا يتحدثون إليه، حين كان المجهول يحيك خيوط لعبته، أو حين كان يدبر هو مقلبه الذي لم يتقبله أصدقاه حتى الآن.

مكاوي سعيد الأب الروحي للمواهب الشابة

أما الكاتبة   الشابة نهلة كرم فقد كانت واحدة من أولئك الكتاب الشباب الذين أثرت فيهم كتاباته أولًا، واجتذبتهم نحوه ثانيًا حين أشعرتهم بالرغبة في الكتابة، السردية تحديدًا.
“علاقتي بمكاوي بدأت بعد ترشحه لجائزة البوكر، حين أهداني أحد زملاء الجامعة روايته تغريدة البجعة ، ولم أكن عرفت مكاوي بعد، وحين قرأتها وجدتني أريد أن أكتب رواية “.

قراءة في رواية فئران السفينة

كتبتها عبير سليمان

من أول صفحة ستجد نفسك تتساءل :” من هؤلاء ؟”

بداية مبهمة في مشهد مقبض للقلب ، جو ضبابي شتوي في أحد الأحياء القاهرية ، رجل حائر ينتظر موعدا مع امرأة ، يتحدث عنها بأسلوب مرتبك ، يلعنها ويسب نفسه ويلومها على استسلامها لها ، نرى أنه يتمنى الموت خوفا من الآتي ، ثم يسلم نفسه لقدره ، ثم يظهر في المشهد لص يتعرف عليه ، ويتضح أن بينهما علاقة صداقة قديمة ، ويظل البطل مجهولا.

لن يدخلك مكاوي إلى أحداث الرواية الأصلية إلا بعد أول فصلين ، وبأسلوب سرد الفلاش باك ، يجذبك إلى حكاية بطله الذي أيضا يظل اسمه مجهولا ، بعدما يربكك بحيلة حلم رآه البطل في بيت صديقه حرامي الغسيل ، لتبدأ معه رؤية القاهرة من خلال ضحايا انهيار صخرة الدويقة ، فالحرامي وزوجته يسكنان في شقة صغيرة في إحدى مساكن الإيواء المخصصة لمنكوبي الحوادث ، مكان بائس يجعلك تشاهده بتفاصيله المثيرة للشفقة ، تمهيدا للمزيد من تفاصيل حياة هؤلاء السكان ، وما سبب المعرفة ، وكيف التقيا ، وما الرابط بينهما  ؟

ثم يعود بك لحقبة زمنية كانت أحداثها أشبه بالعاصفة أو الإعصار الذي انعكس بكل قسوته وآثاره السيئة والمؤلمة على جيل تلك الحقبة ، وهي أواخر السبعينات ، أوائل الثمانينات التي عاشها مكاوي إن ربطنا بين عمره وبين الفترة التي دخل فيها الجامعة وبدايات مواجهته للحياة بعد التخرج ، حتى خطر ببالي أنه واحد من أبطال الحكاية ، وربما يكتب عن نفسه أو أحد زملائه ، فالكتابة خرجت شديدة الصدق ، ونجح مكاوي في وصف الصراع والتشوهات النفسية داخل نفسية البطل ، وكيف كان أسيرا للخوف الذي حاصره به أبوه ، فكبله وخلق منه إنسانا جبانا هشا وضعيفا .

الوصف للشخصيات كان مركزا أكثر على ملامح الشخصية الداخلية وصفاتها الوجدانية ، ومر سريعا على بعض الملامح دون أن يرسمها رسما دقيقا ، لكن بساطة اللغة وخروجها بهذه السلاسة ، ورسم الأحداث بانسيابية جعل الرواية أكثر تشويقا ، تتلهف وأنت تقرؤها لمعرفة الحدث القادم ، كان مكاوي مختلفا عن كثير من الأدباء بتميزه بالبساطة وعدم الإفراط في التفاصيل ، ربما وجد أن هذا ما يناسب روح العصر ، فكان حريصا على ألا يجعل قارءه يشعر بالملل .

نقطة التحول لشخصية البطل “محمود ” ظهرت ربما في منتصف الرواية ، كأنه يكتب فعلا عن شخص قريب منه ، تنوعت الكتابة عنه في البداية بأسلوب المتعاطف والمشفق عليه من القسوة التي عانى منها من أبيه ، والتي حاول التخلص منها بحبه للبطلة وفاء لعل حبه بنزع منه جبنه ، لكنه عند حدث معين ينقلب كيانه ، تثور داخله عاصفة شديدة من الغضب ، يكتمه حرصا على أمه ، ليوجه غضبه من داخل منطقة اللاوعي في نفسه إلى زوج أخته ، وإلى تصرفات عدوانية حمقاء ، ونلاحظ هنا تغير أسلوب ولغة مكاوي وهو يحكي عنه ، فنلاحظ من الألفاظ والتعبيرات ، لكنة الغضب والسخط من بطله ، الذي انجرف من سقطة واحدة إلى هاوية من الانحرافات المتتابعة ، كأنه سقط في دوامة الخطيئة التي تركها تبتلعه ولم يقاوم ، كان يمكنه إن تمسك بالحب أن ينقذ نفسه  ، لكن النفس البشرية دائما ما تدهشنا بتعقيداتها ، وربما محمود هنا يمثل البطل النموذجي الذي أفرزته حقبة مليئة بالتحولات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية كان لها أثرا عميقا على المجتمع كله ، وحاليا أرى بنفسي وبالذات في محيط عملي  أن قليلا جدا من نجوا من توابع هذه التحولات العنيفة ، فمعظم المصريين للأسف غلب عليهم انعدام الضمير وفساد الأخلاق والكذب والنفاق .

بالعودة للرواية مرة أخرى أرى أنها من أفضل روايات مكاوي سعيد ، لأنها ترصد ظواهر اجتماعية مخيفة ، فالبطل ظل يهوي بعد زلة واحدة ، ارتكبها مدفوعا  برغبة قوية في إثبات لنفسه أنه ذكي وقادر على الاحتيال واللعب بالبيضة والحجر ، وما ساعده ذلك أصدقاء السوء ، منهم مجموعة من الطلاب المقيمين في القاهرة للدراسة الجامعية ، والذين يعيشون الحياة بمجون وخلاعة ، هربا من واقعهم شديد المحافظة في بلادهم ، وحرصا على التمتع بكل مظاهر الحياةو الصاخبة اللاهية قبل عودتهم مرة أخرى .

من أهم المشاهد المؤلمة في الرواية مشهدان أولهما محاولة البطل خوض مغامرة مع فتاة جميلة تعرف عليها في شقة صديقه “مختار ” الخليجي ، ليفاجأ بشكل مروع بحقائق لا تظهر إلا بعد الاقتراب حد الانفراد بها في حجرة واحدة ، ليصدم صدمة تظل ملتصقة بذاكرته مدى الحياة .

ثم مشهد دخوله مكتب المحامي صديقه ، وصراعه الداخلي بعدما ارتكب فعلته ، وشعوره الذنب الذي كان سيرجعه عما فعل ، بعدما شاهد السكرتيرة عائدة وماء الوضور يلمع ليضيء وجهها البريء ، ولم يخطر ببالها ماحدث للمفاتيح وأنها تركتهم في يد عمياء البصيرة ، معدومة الضمير .

لفظ فئران السفينة يوحي دائما بالجبن ، صحيح أنه لا أخبر بالسفينة من فئرانها ، الكامنين في زواياها ومخابئها ، لكنهم أول من يقفزون عند الخطر وبداية تسرب الماء إليها ، ثم غرقها .

وهو ما قالته حبيبة البطل وفاء له عندما طلب منها ترك كل شيء والسفرمعه ، فرفضت قائلة :”تريدنا أن نهرب كفئران السفينة ” . وأصرت رغم كل الظروف القاسية التي تعيشها أن تظل في بلدها بين أهلها وناسها ، وظلت على موقفها في ثبات يثير الإعجاب .

فكرة واحدة بشأن "مكاوي سعيد ( ملف خاص) ..إعداد: عبير سليمان"

أضف تعليق