جبل الشاي الأخضر..قصة:يحيى الطاهر عبدالله

كان جدي يصب الشاي في الأكواب من ثلاثة أباريق صغيرة، وقد فرغ :

تناول أبريقاً كبيراً مماوءاً بالماء الساخن وملأ الأباريق الثلاثة من جديد وأعادها إلى المجمرة، من جواره أمسك بالإبريق الأكبر من كل الأباريق – والمسمى بالأوزة لطول عنقه – وصب منه الماء البارد في الإبريق الكبير حتى الحافة وأعلاه أيضا إلى المجمرة.

كنا صامتين نجدي لم يكن قد تكلم بعد ..

كنت أرقب المجمرة : الأباريق الصغيرة الثلاثة كانت ترقد في الرماد الناعم .. والماء كان يتقلب داخلها تحت قسوة الوهج ويقلقل الغطاء الحارس .. والماء المحترق كان يهرب من تجويف العنق ويصفر .. وكانت أفواه الأباريق الثلاثة تبخر الدفء في جو الغرفة الشتوي .. وكان الإبريق الكبير يصفر صفيراً عالياً – فهو يرقد في قلب المجمرة تتحلقه عيون الجمر الملتهبة وتتسلقه حتي المنتصف وتتوهج على سطحه النحاسي اللامع شديدة الاحمرار.

كنت أعي أنه لابد يرقبنی – وقد مسح المكان بعينيه وحاصرني ولاحق بصری وأمسك بالشيء الذي سقطت عليه عيناي ليواجهني به ككل مرة أمام الجميع .. يصعد الدم وتنتفخ به عروقي وتكاد تنفجر .. ويلتهب وجهي ويظل ساخناً يتشقق كما يحدث لاناء الفخار داخل الفرن الحار .. تكون الكلمات في نمی كخيوط :

الصوف المغزول : مملوءة بالوبر الجاف وقد تشابكت وصنعت أعداد هائلة من العقد .. أعرف أنه الخجل ، أمام الجميع أحس أنني بغير ملابسي .. يصرخ باعتقاده القاطع بأنني أبول على نفسي أثناء نومی برغم أنني لم أعد طفلاً .. ينسب ذلك لحبى للنار المشتعلة .. وولعي بالجمر الأحمر المتوقد .. عيون الجميع تتحلقني .. تظل تتسلقني .. أحسها تكوى منى الجنبين .. تتوالى الحروق وتأكل جسمی و پتوالى اللسع الحار .. وأنفجر باكيا ..

عيناي أغمضتهما بسرعة .. وفتحتهما نصف .. فتحتهما عليه : جالساً بجواري وقد أسقط على عينيه الغاضبتين، همهم، لم يكن جدي قد تكلم بعد، رمقه بغضب .

  • کامل .. أخضر ولا أحمر ؟

رد أبي في عجل وكان متحرجا ..

  • أيوة يابا .. أحمر .

كان جدى يوزع علينا صنوف الشاي .. طلبت لي شاياً أخضر .. ولما كانت عواطف أختي والتي تصغرني بتسعة شهور كاملة قد طلبت لنفسها من جدها شاياً أحمر .. وكنت مدركاً أن الأمر يحتاج من جانبي لقدر من السرعة في التصرف لينتهي تماماً .. قلت محدثاً جدي في صوت واطيء وجعلته مرحة :

  • مش أنت زمان يا جدی کنت صغير زينا .. وكنت تشرب الشاي الأحمر لكن كبرت وعرفت أن الشاي الأحمر يحرق الدم فشربت الشاي الأخضر .

كان جدى يبتسم .. كنت أنظر له وكنت أخشى أن أقرأ وجه أبي ..

قلت مخاطباً جدي :

  • طيب ليه عواطف الصغيرة تشرب الشاي الأحمر .. والله العظيم ثلاثة يا

جدی دمها كله حيتحرق .. أصل دماغها ناشفة من نوع الحجر وعايزة الكسر

كانت عواطف متذمرة .. وكان جدى يبتسم مازال .. أما أبي فقد فاجئنی :

  • مفيش غيرك اللى دماغه ناشفة وعايزه الكسر ..

نظرت إلى يده ممسكة بالكوب ممتلئاً حتى منتصفه بالشاي الأحمر أدركت أنني تعجلت، خاطبت :

  • أصلها مش بنسمع الكلام

قال أبي في أمر قاطع :

  • روح شوف البهايم في الحوش .. خل نوال أختك تجيب اللبن بسرعة، ونظر إلى عمتي “شرقاوية” ، وقال في أمر أخف :
  • خدى البنت ونضفي شعرها في الشمس بره .. خليها نغسله بعد كده .

كنت قد جريت حتى السقيفة وتخطيت السقف العاري العالم تحت الشمس الحرة من الغيوم – قبل أن تصل عمتي ” شرقاوية ” ممسكة أختي عواطف بيدها وكانت أختى عواطف متململة فأخرجت لها لساني وجريت باتجاه الحوش .. كنت أسمع عواطف تشتمني .

  • إن شاء الله ضربة دم بابو ..

كانت تفهم أني سأضربها فلم تكمل.. نظرت لها وأبديت الشر .. قلت :

  • طيب يا أم قملة ..

كنت أسمعها تبکی مجرورة خلف عمتي وأنا أدفع باب الحوش : کانت نوال أختي والتي تكبرني بتسعة شهور كاملة – راقدة فوق ظهر جاموستنا .. وكانت نائمة بصدرها وقد حضنت عنق الجاموسة بكلتا ذراعيها .. وكانت تمرجح ساقيها وتحك فخذيها ببطن الجاموسة الأسود السخين كنت أرى أصابع قدمها التي تواجهني كخمسة مسامير دقت أسفل بطن الجاموسة .

صرخت معلناً عن وجودي فقفزت نوال على الأرض مفزوعة ودلقت ماجور اللبن الملوء .. وجريت أنا لأنقل الحذير لأبي وجدي .

مررت بالسقف : كانت الشمس الحرة من الغيوم قد ألهبته بالسخونة .. وكانت عواطف وععنی و شرقاوية ، محتميتين بظل الجدار القصير .. وكانت عواطف راقلة فوق حجْر عمتها .. وكان رأسها نائمة بين الفخذين .. وكانت عمتي تقلب شعر عواطف وندهنه بالجاز الأبيض من کوز صفيح يجاورهما ..

في الغرفة كان جدي يصب لنفسه كوية من الشاي الأخضر .. وكانت أمي موجودة ترضع رمضان أخي الصغير جدا .. قلت لأبي إن نوال دلق اللب وإنني وجدتها فوق ظهر الجاموسة وإنها كانت تحرك ساقيها .. وقلت إن أصابع قدميها العشرة كانت كعشرة مسامير من الحديد دقت أسفل بطن الجاموسة .. أصفر وجه أمي وسحبت ثديها من فم الولد رمضان فبكي .. وأرقدت هي ثديها تحت ثوبها الأسود”الباتستا”، أما أبي فقد قام منتصباً كالقصبة المشدودة المسنونة الرأس، وكان جدى يدوس شفته السفلى تحت أسنانه، أما أمي فقد خرجت من الغرفة ولاحظت أنها راغبة في البكاء

وفي لحظة كان أبي قد علا وصرخ بأنها غير موجودة .. وزعق طالباً أمي .. وصرخ فيها طالباً منها أن تحضر نوال من تحت باطن الأرض .. وفي غمضة العين كانت أمي قد أحضرت نوال وهي تجرها ونوال تصرخ بصوتها العالي الباکی لأمها وأبي بأنني كذاب .. صرخت فيها بدوری :

  • أنا مش كداب .. أنت اللي كدابة .

سقط كف أبي على صدغي بقسوة أوقعتنی وصنعت خيطة من الدم : كان دافئاً .. كنت ملقى على أرض الغرفة التربة المرشوشة بالماء .. وكان أبي يسحب نوال من ضفيرتيها ويجرجرها على الأرض .. كانت عمتي “شرقاوية”، قد جاءت وكانت أختى عواطف منكمشة وملتصقة وممسكة بثوب عمتها .. وكان جدي ممسكاً بسيخ ينتهي بحلقة وخطاف يقلب به الجمر .. كان يأمر أبي في غيظ :

  • اضرب .. اضرب يا کامل .

كنت أشعر بطعم الطين في فمي وجانب وجهي نائم على السطح الترابي الذي لم يعد جافاً .. وكان الدم يسيل من جانب فمي ولا يتوقف .. وكان ساخنا مازال .. وكانت نوال أختي معلقة من عرقويها بحبل مشدود إلى ود ثبت بجدار الغرفة .. وكان أبي يصعد ويهبط بكل جسمه کثور مذبوح .. كان يرفع يده ويهوى بعصاة لينة رفيعة ويضرب الجسم العاري .. والدم كان يشخب من الجسد العاري ويغطى وجهي ولا يجعلني أري ..

كانت أمي تصرخ .. وكان صوتها باكيا .. وكان أخي رمضان على صدرها لاشك يبکی .. وكانت تخاطب أبي :

  • جوزها یا کامل .. كفاية يا كامل وتتجوز

كنت مغمض العينين وكنت أبكي .. وكنت مازلت على الأرض نائماً ولم أعد متنبهاً للدم يطفر حاراً من جانب فمي .. ولم أع بعد لماذا طلبت أمي من أبي أن يكف عن ضرب نوال وأن يزوجها .. لكني كنت أتمنى لو يتم ذلك .. أن تتزوج نوال وأن يكف أبي عن ضربها وأن تخرج من هذا البيت .

كانت أمي قد لمتني وأرقدتني على الفراش الأرضي وغطتني بالحرام الصوف .. ولكني كنت أرتعش .. كانت تقدم لي الكوب .. وكنت قد طلبت أن أشرب زعق أبي :

  • ايه ده ؟ ..

قالت أمي :

ميّه ورماد ..

ارمیه پا بهيمه .. ادى الولد ميّه بسكر .. واعصري كمان لمونتين ..

قالت أمي :

مفيش لمون عندنا .

قال أبي :

أطلع أنا أجيب لمون .. وأنت دوبّي السكر في الميّة

كنت أدرك أنني سأنام وكنت عطشا .. وكنت أدرك أن أحلاماً كثيرة ستأتي .. وكانت كل الأصوات قد غابت .. وربما كانت نوال تئن بصوت واطيء .. واطي، ولا يمكنني أن أسمعه .. ولا يمكنني أن أسمع خطو قدميه الحافيتين تنغرسان في الرمل الساخن الجاف – وقد هبط من فوق ظهر ناقته “عاتكه”.. وبلغ الجبل وصعده .. يجمع من حوافيه أعشاب الشاي الأخضر .. الخضراء .. ويأتي معه أيضا بحبات الليمون الخضراء .

فكرة واحدة بشأن "جبل الشاي الأخضر..قصة:يحيى الطاهر عبدالله"

أضف تعليق