عن المتعة والرغبة. بقلم: سيد الوكيل

في كتابه ( تطور المتع البشرية ـ رغبات وقيود) يطرح ( شارل كورنريخ) سؤالاً طريفًا ربما دار برؤوسنا يومًا، لكن أحداً منا لم يهتم بالإجابة عليه :لماذا نطعم قطتنا ونتركها تهز ذيلها على الأريكة في سعادة، فيما علينا أن نكدح في الشوارع ونشقى في المصانع ونتعرق في المزارع لنحصل على طعامنا؟ وقبل أن تفكر في  إجابة يطرح عليك سؤالاً جديدًا: هل ترضى بمبادلة حياتك بحياة قطة؟

 هكذا يبدو الأمر دعوة لأن نرضى بما نحن عليه. لكنه في الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. وخلاصته أن ما نحصل عليه من متعة أكثر بمئات المرات مما يحصل عليه أي كائن على وجه الأرض. كما أن إحساسنا بالمتعة يزيد كلما كان ثمنها أكثر فداحة. مثلاً، كلما كان عملنا شاقًا وصعبًا فإن متعتنا بقيمة النجاح تتضاعف. الطريف أن هذه المتعة ترتبط برغبة عميقة لأن نكررها ونضاعف من معاناتنا  لنحصل عليها. بما يعني أن درجة من التفاعل العاطفي تنشأ بيننا وبين متعنا تكون أكثر وضوحًا عندما تلقم الأم ثديها لوليدها أول مرة بعد معاناة الحمل والولادة. في كل مرة تفعل ذلك تستدعى مشاعر المتعة الأولى. بل تزيد مع الوقت بسبب التفاعل العاطفي بينهما، الابتسامات والمناغاة بل والبكاء الذي يعكس توتر الطفل رغبة في ثدي أمه. هكذا.. سيمفونية المتع لا تتوقف عن العزف بداخلنا، ولو كانت في مجال واحد ومحدد وظيفيًا كغريزة الأمومة. فما بالنا بالمتع المكتسبة والعابرة كالتدخين،  اللعب، والغناء، والــ…

 إن المتع البشرية كلما كانت مؤقتة ولا تستهدف غير مجرد المتعة، تكون أكثر إلحاحًا لتصل حد الإدمان، لأنها لا تمنحنا إشباعًا عاطفيًا كذلك الذي نجده بين الأم وطفلها. لهذا فمثلث المتعة البشرية، يتحقق عبر العاطفة، والرغبة واللذة التي هي المرجع لإحساسنا بالسعادة. ونحن مستعدون لمزيد من المعاناة لنحصل على لذة أعظم رغم علمنا أن الألم هو الوجه المقابل للذة. 

تنشأ المتعة عبر سيناريوهات مؤلفة من تجارب وأحاسيس ومعارف تخصنا نحن البشر، وتنتهي إلى رغبات سواء كانت بعيدة أم قريبة. لكنها تستدعي مشاعر الخبرات السابقة فتهتز عواطفنا لها. من المؤكد أن الحيوانات تمتلك عاطفة مؤقتة تجاه أولادها حتى يتمكنوا من إطعام أنفسهم. لكن قطتنا المسترخية على الأريكة، لا تحلم بثلاجة مليئة بأنواع الفئران، ولا بأن تكون قطة شهيرة تتزوج من قط وسيم، ولا تطمح إلى وظيفة مميزة، ولكنها تشعر بالأمان عندما تحصل على طعام طيب، وأريكة دافئة، في حجرة خالية من القطاط الضالة والكلاب العدوانية. القطة في الواقع تشعر بالأمان والخوف أيضًا، ولكنها لا تفكر فيهما. وليس لديها مخططات مستقبلية لما يجب أن تكون عليه حياتها. بل ليس لديها تصورات عن الزمن أصلاً، فكل شيء بالنسبة لها يحدث هنا والآن. فالمكان، الزمان، التزاوج، الطعام.. كل هذه الأفكار التي تشغلنا نحن البشر، تعمل بداخل الحيوان عبر الارتباط الشرطي وعلى نحو غريزي، فليس لديها عقل يعمل على تطوير متعها لأبعد من ذلك، بينما نحن البشر لا نتوقف عن إنتاج متع جديدة ورمزية لا ترتبط باحتياجاتنا الحيوية، بل ولا نبذل لها أي جهد. نحن نشعر بالسعادة إذا انتصر الفريق الذي نشجعه، أو أحرز لاعبنا المفضل (مو صلاح) هدفًا !!

المتع البشرية، تتطور مع مسيرة البشرية ومرتبطة بها منذ البداية، وربما.. منذ واقعة التفاحة التي أغوت حواء. لكن علماء الدماغ لديهم تفسير آخر لا يذهب بعيدًا عن قصة التفاحة، فأصله حواء أيضًا. الدماغ البشري الذي نعرفه الآن يحتوى على ما يسمى بالجهاز الحوفي الذي يعلو جذع المخ الخلفي، مكمن الغرائز. الجهاز الحوفي هو معمل العواطف والمشاعر الإنسانية كالسعادة والألم والرغبة. ومنذ الإنسان العاقل تمكنت المرأة من تطوير قشرتها الحوفية فامتلكت عاطفة تجعلها تشارك أطفالها الطعام، هذا سلوك غريزي في الحيوان لكنه مؤقت ووظيفي لحفظ النوع فقط. لكنه تحول عند الإنسان إلى عاطفة نتيجة لوعيه بطبيعة الزمن، وامتلاكه لمخططات مستقبلية، دفعته إلى توسيع دوائر التشارك. لقد منحت حواء البشر عاطفة التشارك عبر الجينات الوراثية. فيظل إرضاع الوليد أمرًا حيويًا لبقاء النوع، ورمزيًا لعاطفة التشارك في أكل التفاحة الأولى.       

الغذاء ليس فقط ضرورة للبقاء على قيد الحياة، ولكنه كما يقول ( كورنريخ) محرك للتطورات الديمغرافية ولا سيما الزراعة، وبالتالي لنسب القوة بين الحضارات، ومن المعروف أن اكتشاف النار، عزز من نسب الإفادة من الغذاء، وبالتالي من تطور الوظائف الحيوية للمخ البشري. يعتقد علماء الدماغ، أن بسبب هذه الخاصية التي امتلكتها المرأة تطور إنسان (الهوموسبيانس) بينما انقرضت أنواع البشر الأخرى.

 عرف البشر معنى التشارك والتواصل العاطفي: اللغة، التزاوج، البيت، الأسرة، القبيلة، العمل..إلخ. في الواقع إن تطور البشرية كله مبني على فضيلة التشارك، الذي بدأ رمزيا بقضمتين من ثمرة واحدة أخرجتهما من الجنة ومنحتهما متاعًا إلى حين:”.. وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ””  

 التشارك هو التجلي العاطفي، الذي يعمق إحساسنا بالأمن، فتزيد فرصنا في المتعة، وبناء المجتمعات، وتطورها.. وعبر تطور عمل الدماغ الأمامي المسئول عن التفكير، ونشاط الموصلات العصبية بين أجزاء المخ، ارتبطت غرائزنا بعواطفنا برغباتنا لتعمل في منظومة متكاملة، لم تتمكن باقي الرئيسيات من تحقيقها. لهذا فإن رغباتنا لا تتوقف، وكلما حققنا رغبة ما تعمل المنظومة على تحفيز رغبات جديدة وذلك بإثارة مراكز المتعة في المخ. المثير في الأمر، أن التعديلات الوراثية عبر تاريخ البشر خلقت مدارات جديدة للرغبة لم يعرفها الإنسان القديم، إننا نمضي إلى متوالية لا تنتهي من الرغبات لا تشبع على نحو طبيعي أو مؤقت كما يحدث مع الطعام أو التناسل، حيث لا ترتبط المتع بضرورة حيوية، بل تظل مجرد متعة.

 لقد أُجرِيَت تجارب على فئران بتحفيز مثيرات متعة من الدرجة الأولى فاكتفوا بها بديلاً عن الطعام والشراب. وفي المقابل فإن الفئران التي عُطلت مراكز المتعة في أدمغتها لم تشعر بأي رغبة في الطعام أو الشراب أو التناسل. معنى ذلك أن اضطراب العلاقة بين الرغبة والمتعة يفضي إلى الموت. ففقدان الرغبة في الحياة، يعرف بوصفه نوعًا من الموت النفسي، وقد يفضي إلى موت إكلينيكي. 

 ثَم مركزان بداخل كل منا يقومان بتنسيق العلاقة بينهما على نحو دقيق: مركز الرغبة الذي يستخدم الدوبامين لتوصيل الرغبة إلى مركز المتعة. والأخير بدوره يعمل على إنتاج مادة مثبطة توقف التوتر الناتج عن توقد الرغبة، فنتمكن من التحكم فيها، وفق منظومة القيم الاجتماعية.

المشكلة لا تنشأ من عدم ترابط العلاقة بين الرغبة والمتعة فحسب، بل من عدم تطابقها أيضًا. فقد نشعر برغبة في التدخين وتحدث المتعة فعلاً، لكنها تقل مع تكرار التدخين فيما لا تتوقف الرغبة فيه. عندئذ تخرج رغباتنا عن نظامها الطبيعي، وندخل في دوائر الإدمان.

 لقد اكتشف علماء الوراثة أن التعديلات الوراثية عبر التاريخ. خلقت مدارات رغبة جديدة لم يعرفها الإنسان القديم مثلا: متع التسلية، الاستهلاك، التنافس، السلطة، التفوق.. إلخ. فحينما يتحول العالم إلى مول كبير، وساحات حرب، وبورصات وملاعب رياضية، فإن رغبات البشر تصبح أكثر إلحاحًا وتوترًا.

أضف تعليق