عن الجسد والنفس. اسبينوزا

من كتاب الأخلاق

إن النفس والجسد شيء واحد، تارة نتصوره بصفة الفكر وطورا بصفة الامتداد مما يجعل نظام الأشياء أو ترابطها هو الأمر نفسه سواء أكانت الطبيعة متصورة على هذا النحو أو ذاك . مما يترتب عنه أن نظام أفعال الجسد وأهوائه تتوافق بالطبع مع نظام أفعال النفس وأهوائها (…) وبالرغم من أن طبيعة الأشياء لا تسمح بأي شك في هذا الشأن فإنني أحسب مع ذلك أن البشر، ما لم نمدهم بتأكيد تجريبي لهذه الحقيقة فانهم سيجدون صعوبة في قبول تقليب هذا الأمر بعقل غير متحيز لشدة اقتناعهم بأن الجسد يتحرك تارة و طورا يكف عن الحركة بأمر من النفس وحدها، ويأتي أفعالا عديدة أخرى متوقفة على إرادة النفس وحدها وعلى طريقتها في التفكير. فلا أحد إلى الآن – والحق يقال – قد بين ما يستطيع الجسد فعله أي أن التجربة لم تعلم أحدا إلى اليوم ما يمكن للجسد بواسطة قوانين طبيعته وحدها، منظورا إليها بما هي جسمية فحسب ، أن يفعله وما لا يمكن له أن يفعله إلا ما كان محددا من قبل النفس . وبالفعل فانه لا يعرف أحد تركيبة الجسد بقدر كبير من الدقة بحيث يمكن له أن يفسر كل وظائفه ، دون أن نفصل الرأي هنا في ما نلاحظه عديد المرات في الدواب مما يتجاوز الفطنة البشرية على نحو كبير أو ما يفعله غالب الأحيان – النائم الماشي ، مما لا يجرأ عليه في يقظته . وإن ذلك ليبين بما فيه الكفاية أن الجسد يستطيع بواسطة قوانين طبيعته وحدها القيام بأشياء كثيرة تحمل النفس على الدهشة. ولا أحد يعرف كذلك كيف تحرك النفس الجسد ولا أية درجة من الحركة تستطيع أن تحدث فيه ، ولا بأي سرعة يمكن لها تحريكه؛ فيترتب عن ذلك إن الذين يقولون إن هذا الفعل أو ذاك من أفعال الجسد متأت من النفس التي لها نفوذ كبير عليه ، إنما يقولون ما لا يعلمون ، وليس لهم من سبيل سوى الاعتراف ، في لغة مموهة، بجهلهم للعلة الحق لفعل لا يثير لديهم أيّة دهشة. بيد أنه قد يقال إننا، سواء أعرفنا بأية وسائل تحرك النفس الجسد أم لم نعرف ذلك ، فإننا – مع ذلك – على بينة بواسطة التجربة أن الجسد سيكون عاطلا لو كانت النفس قاصرة عن التفكير. ونحن نعرف أيضا بالتجربة أنه في مقدور النفس كذلك أن تتكلم أو أن تصمت وأشياء أخرى نظنها بعدئذ خاضعة لأمر النفس .

فأما في ما يتعلق بالحجة الأولى فاني أطلب من الذين يعتمدون التجربة ما إذا لم تكن

هذه التجربة تفيد أيضا أنه إذا كان الجسد من ناحيته ساكنا فان النفس في ذات الوقت

تكون قاصرة عن التفكير، فحينما ينقاد الجسد إلى الراحة في النوم فان النفس تبقى

فعلا نائمة بنومه وليس لها قوة التفكير التي لها أثناء اليقظة ويعرف الجميع بالتجربة أيضا فيما أعتقد أن النفس ليس بوسعها دوما التفكير بنفس القدر في الموضوع

الواحد، وأنه بحسب استعداد الجسد لاستيقاظ صورة هذا الموضوع أو ذاك تكون النفس أكثر استعدادا لاعتبار هذا الموضوع أو ذاك …

و أما عن الحجة الثانية فمن المؤكد أن شؤون البشر ستكون طبعا في حال أفضل لو كان باستطاعتهم أيضا الصمت أو الكلام على حد سواء ؛ بيد أنه ، وقد بيّنت التجربة ذلك بيانا مستفيضا، أن لا شيء أصعب على البشر من التحكم في ألسنتهم وليس أمرا يقصرون فيه قدر تقصيرهم في السيطرة على نوازعهم ، ولذلك يعتقد أغلب الناس أن حرية الفعل لدينا موجودة فحسب فيما يتعلق بالأشياء التي نميل إليها بعض الميل لأنه من الهين علينا إخضاع النزوع بتذكر شيء آخر كثيرا ما نستحضره ، في حين أننا لسنا أحرارا إطلاقا فيما نميل إليه بإقبال شديد لا يحد منه تذكر أي شيء آخر. و إذا كانوا مع ذلك لا يعلمون بالتجربة أننا نندم في عديد المرات على ما قمنا به من أفعال، وأننا في الغالب، عندما تتغلب علينا انفعالات متعارضة ندرك الأفضل ونأتي الأرذل ، فلا شيء يمنعهم عندئذ من الاعتقاد أن كل أفعالنا حرة. وهكذا يظن الرضيع انه يشتهي الحليب بكل حرية، والفتى أنه يريد الثأر من جراء غضبه والجبان انه يريد الفرار، كذلك يظن المخمور أن ما يقوله قرار حر صادر عن النفس في حين أنه يود – حال تخلصه من تأثير الخمر عليه – أن لا يتفوه بما كان قد تفوه به ، كذلك الشأن بالنسبة إلى الهاذي والثرثار والطفل وعدد كبير جدا من الأفراد من نفس الطينة الذين يعتقدون أنهم يتكلمون بقرار حر من النفس في حين أنه ليس بوسعهم التحكم في ما دفعهم إلى الكلام ، تبين التجربة إذن بالقدر نفسه الذي يبينه العقل أن البشر يعتقدون أنهم أحرار، لهذا السبب الوحيد المتمثل في أنهم واعون بأفعالهم وجاهلون بالعلل التي تتحكم فيها، وأن أوامر النفس ليست شيئا آخر سوى النوازع ذاتها، وهي تتغير بالتالي بحسب الاستعداد المتغير للجسد.

سبينوزا

” كتاب الأخلاق “

أضف تعليق