د

قراءة في المجموعة القصصية (بلادالكوميكون)للقاصة: عزة المقهور

د. علاء أبو المجد

القصة القصيرة وتمثيل الواقع

من الأمور التي لا مراء فيها أن الأدب الجيد هو تعبيرٌ جيد عن المجتمع، فالعمل الأدبي المتميز يكتسب مشروعيته وانتشاره من صدق التعبير عن مجموعة القضايا الاجتماعية التي يتضمنها النص في طياته، وهذا الاهتمام ينبع من كون الأديب ضميرَ المجتمع الذي يعبر عنه ويناقش مشكلاته وأزماته، والنص الأدبي في تلك الحالة يكون مرآةً صادقة تعكس صورة المجتمع دون تزييف أو تجميل، فالأدباء لا يوجدون “في الأمة عبثًا، فهم لها هداة الطريق، وهم مرآتها الصافية النقية التي ينبغي أن تصور آلامها وآمالها ومواقفها وكل ما حلمت به في الماضي، وتحلم به في الحاضر، وإن الأديب من أمته، ولها، يذيع أفكارها ومشاعرها، وكل ما هزها، وأثر فيها من أحداث ظاهرة أو باطنة”[1].

فالأديب المتميز يحمل على عاتقه دورٌ مهمٌ في تقديم رؤيته تجاه الواقع المعيش، وإبراز مشكلات المجتمع وأوجه القصور فيه، ومن خلال نتاجه الأدبي وانطلاقًا من الدور المنوط به، فإنه يقدم أعماله القصصية بطريقة واقعية تعبر بصدق عن المجتمع، فتصفه وتكشف بعض أوجه القصور فيه من خلال شخصيات متنوعة تمثل شرائح متعددة من طبقات المجتمع، لعرض الموضوعات التي يهتم بها المجتمع.

وفي المجموعة القصصية (بلاد الكوميكون) للكاتبة المبدعة (عزة المقهور) نجد أنها تصدر عن عقل مشغول بهموم الوطن وقضايا مجتمعه، وقلم حمل على عاتقه عبء التعبير عما يراه في الواقع المعيش من مشكلات وأزمات أثَّرت في الوطن والمواطنين في فترة ما بعد الثورة، والملحوظة الأولى التي نسجلها حالة الانتماء والحب الكبير الذي تشعر به القاصة تجاه الوطن، ولا سيما مدينة طرابلس، يتجلى ذلك في كثير من مقاطع الرواية، مثل قولها عن إحدى الشخصيات النسائية: “تشعر بانتماء عميق لهذه المدينة التي سكنت أكثر أحيائها شعبية، ينبض قلبها عشقًا لطرابلس…”[2].

فالمجموعة تصدر عن قلب شغوف بالوطن، مشغول بطرابلس، يشعر بالانتماء العميق لها، ومن ثم نجد انعكاس لهمومها ومشكلاتها وقضاياها في عموم قصص المجموعة، ومن تلك الأمور التي نوهت إليها نجد التحولات الاجتماعية التي حدثت في الزمن المعاصر باعتبارها موضوعًا مهمًّا يشغل بال القاصة (عزة المقهور)، وقد انعكس ذلك على كثير من مقاطع المجموعة القصصية، ففي المجموعة القصصية (ليم دمِّي) نجد رصدًا للتغيرات التي شهدتها مدينة عين زارة التي تحولت من حالة الهدوء إلى الصخب، من البراح إلى الضيق، من مدينة خضراء مليئة بالمزارع الخضراء إلى غزو المباني الخرسانية والمحلات التجارية، مما حول حالها من الجمال والراحة والهدوء إلى الفوضى والصخب، تقول الساردة: “تغيرت الطريق إلى عين زارة، زاحمتها الدكاكين والورش والساحات المغبرة لبيع الإسمنت والحصى ومواد البناء. اتكأت الأبواب المعدنية الضخمة على سيقان الأشجار اليابسة حتى جرحتها، جلس العمال الأجانب القرفصاء على جانبي الطريق.. تسطحت الأراضي وأُعدَّت للبناء بعد أن قطعت أوصالها وأهمل زرعها حتى يبس وسقط أرضا مغشيّاً عليه أو ميتاً”[3].

ومن القضايا اللافتة في المجموعة القصصية نجد غياب الأمن في بعض الأماكن جراء النزاعات المسلحة وغياب الشرطة والأجهزة الحكومية، تقول الساردة: “ضاقت الحال بالمدينة، عاودتها أعراض التاريخ، دكها الغرباء، ثم أبناؤها… ثم تكالب عليها اللصوص فنهبوها حتى من مفاتيح أبوابها، وخدشوا حياءها، وأغرقوها في هباب الحرق ولجج الظلمات”[4].

فالساردة تشخِّص أبعاد الداء، ومكمن الخطر، حيث النزاع المسلح الذي بدأ بشن الحرب من قِبل التحالف الدولي، ثم بعض الفرقاء من أهل البلاد الذين استكملوا مسيرة الخراب والهدم والدمار في البلاد، مما كان له الأثر السلبي على الشعب الذي عانى من أجل توفير أساسيات الحياة من ماء وغذاء وكهرباء ووقود، تقول الساردة: “في زمن الحرب تتساوى كل المهن، أن تحرك المقود، أو القلم، أو آلة التصوير… أن تقف في طوابير الخبز، الغاز، المصرف، أن تضغط زر الكهرباء، فيستمر الظلام لا مباليًا”[5].

وقد أشار السرد في كثير من قصص المجموعة إلى غياب الشرطة والرقابة الحكومية على الأسواق التي يباع فيها كل شيء قابل للبيع، بداية من البضائع المنتهية صلاحيتها، وسرقة وبيع غطاءات المجاري المعدنية وأسلاك النحاس وخيوط الكهرباء، إلى التجارة في العملة، والمحروقات والممنوعات والسلع المدعومة، والتجارة في الآثار وأراضي وأملاك الدولة، وبيع السلاح المهرب عبر الحدود، والهجرة غير الشرعية إلى سواحل أوربا.

وفي إحدى القصص نجدها تنتهي بمقولة: “تغير نسل (الأمين) إلى (عبدو الأفطس)، و(النار تعقب الرماد)”، وهي مقول ذات دلالات مهمة؛ لأنها تشير إلى التغير الحاصل في البلاد، وضياع القيم الأصيلة لدى بعض الشباب، بالإضافة إلى جنوح البعض إلى أعمال الشغب، والسرقة والسطو على الآخرين، في وقت غياب الشرطة وتطبيق القانون من قِبل القائمين عليه، المنوط بهم حفظ الأمن والنظام في الشوارع والطرقات والمصالح الحكومية، فقد تبدل الحال، وصار (الأمين) الجد المزارع البسيط الذي يرعى أشجار الموالح ليجني ثمارها إلى (الأفطس) قاطع الطريق الذي يجني الأموال من شتى الطرق المحرمة والممنوعة من تجارة في البشر، إلى رعاية الهجرة غير الشرعية إلى سواحل أوروبا، فضلًا عن تهريب الوافدين بتأشيرات مضروبة، إلى جانب قطع الطريق على التجار والمارة، وفي شخصية (عبدو الأفطس) الذي أطلق على نفسه اسم (الخشموش) خير مثال للتعبير عن ذلك الملمح، تقول الساردة: “جمع (الخشموش) أموالًا طائلة عندما تفاقمت أزمة السيولة في البلاد وعز الدينار وبات من الصعب على الناس إخراج أموالهم من المصارف، وقف عبدو أمام أبواب المصارف بحجة تنظيم الطوابير، يتقاضى جزءاً من الخارجين بدراهمهم حتى القليل منها… شحن آلاف البشر في مراكب مطاطية من دون واقيات تنقذهم من الغرق، تاجر في عمال بائسين وأمَّن دخولهم من المطار تأشيرات مزورة”.”[6].


[1] شوقي ضيف: في النقد الأدبي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة التاسعة، 2004م، ص 191.

[2] بلاد الكوميكون: ص 26.

[3] بلاد الكوميكون: ص 57.

[4] بلاد الكوميكون: ص 17.

[5] بلاد الكوميكون: ص 25.

[6] بلاد الكوميكون: ص 60.

أضف تعليق