د محمود الضبع

المتخيل السردي وأسئلة ما بعد الحداثة: د. محمود الضبع

شهد العالم تحولات جذرية في كثير من أبعاده منذ نهايات الألفية الثانية، وحتى لحظتنا الراهنة، فتوارت فلسفات ونظم ونظريات، وحلت أخرى بديلا عنها، وتراجعت أفكار ومرتكزات لصالح أخرى، واستطاعت التكنولوجيا والرقمية “digitalization” أن تعيد صياغة مفاهيم وأبعاد كل شيء في الكون بما فيه الفنون والآداب، ولذا لا يمكن اليوم قراءة نتاج هذه الفنون والآداب بمعزل عن هذه المتغيرات والأبعاد وبخاصة في اندماج الإعلام والإعلام البديل والميديا والحركات الاقتصادية والاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا والعولمة وصناعة المعرفة والمعلوماتية والسيولة بما أوجدته من تمييع لكل ما هو صلب، وهنا تكمن الخطورة، وبخاصة بعد سقوط زمن الحداثة modernism(٤)، ممثلا في السرديات الكبرى التي كشفت عن زعزعة الثقة فيها.

فأفكار مثل الحرية والتسامح والسلام  والجمال وسلطة العقل وغيرها، لم تثبت أمام التجريب الفعلي، ومن ثم حاولت ما بعد الحداثة Postmodernism، طمس ومحو الحدود بين الفن والحياة اليومية، وإزالة التسلسل الهرمي بين الراقي والجماهيري في الثقافة الدارجة وتفضيل الأسلوب الانتقائي المشوش، وتمازج الثغرات، والمحاكاة الساخرة parody، والمعارضة pastiche، والتهكم والسخريةirony، والهزل والمزاح playfulness، والاحتفاء بالمظهر الخارجي إلى غير ذلك مما نظرت له الحداثة بمفاهيمها الغربية(٥)، وما انتقل بدوره إلى الوعي العربي وأثر في منتجه الفكري ومن ثم الإبداعي، فالحداثة العربية ارتبطت في بعض جوانبها بالتحولات السياسية الكبرى، وتجسدت في أفكار مثل العروبة والقومية العربية والكيان العربي الموحد، ولكن بعد تحقق سلسلة من الهزائم المستمرة في نهاية الستينات ثم الدخول في أنماط متعددة من السلطة والحكم لم تكن إيجابية لصالح الشعوب وهو ما حدا كثيرا من الكتاب العرب للتوقف نهائيا عن الكتابة والإبداع، وفي ظل هذه الظروف كان المناخ مهيئا للتراجع عن تبني الحداثة والتحول إلى أنماط ما بعد الحداثة، وهنا أيضا بدأ انهيار فكرة المدرسة الأدبية والجماعة والجيل والاتجاه، وبدأ التوجه إلى اليقين الفردي بديلا عن التوجه الجماعي.

وهنا بدأت المخيلة السردية في إعادة  تفكيك الأبنية الفنية المتعارف عليها للأنواع الأدبية المختلفة (القصة – الرواية – المسرحية ) فعمدت إلى إحداث تداخل الأنواع تارة، وإلى التجريب في العناصر الفنية الداخلية للنوع الأدبي تارة أخرى، وذلك كله استجابة لأسئلة مصيرية يتعلق بعضها بالغاية العامة من الكتابة، ويتعلق بعضها الآخر بالنوع الأدبي، مثل حدوده وأبعاده وعلاقته بالأنواع الأخرى، وإمكانات التجريب فيه، ومدى الالتزام بما أقرته علوم السرد حول عناصره الفنية، مثل الموضوع، والشخصية، واستخدام اللغة، والحدث، والبناء الفني المعماري وحركة السرد، وغيرها من الأسئلة التي كان نتاجها هذا التحول المشهود عبر تطور الكتابة الروائية (والاتجاه نحو الرواية الجديدة مثلا) والقصصية والمسرحية.

  1. المتخيل السردي وسؤال الوعي:

يرتبط الوعي في العمل السردي بالتلقي وحضور المتلقي في بناء العمل، وفي المتخيل السردي، حيث بدأ الاهتمام بتمرير الوعي عبر السرد منذ تشكلت الأسس الفنية للعمل السردي في أنواعه المختلفة (الرواية والقصة والمسرحية والسيناريو) وما تطور عنها من أشكال تعمد إلى تداخل تقنيات النوع في الآخر، أو استعارة تقنيات من أنواع أدبية أخرى خارج الحقل، مثل حضور التقنيات الشعرية في السرد.

ويحتفي السرد الجديد (وبخاصة الرواية الجديدة)  بالوعي أكثر من الاحتفاء بمركزية الحدث وتنامي الأحداث، فلم تعد الأحداث في الرواية الجديدة – مثلا – هي التي تجتذب المتلقي ليتقدم معها، وإنما غدا الوعي هو المركز الذي تمد الرواية جسورها معه، وهو ما يمكن تسميته حساسية الوعي الجديد، هذه الحساسية التي ترى الفن لعبا مقصودا وانتهاكا لقدسية الممنوع، ووسيلة من وسائل فهم غموض هذا الممنوع واستكشاف أسراره، ومن ثم تحيل هذه الحساسية في كثير من الأحيان إلى المحرم أو الممنوع بالتماس مع المقدسات الثلاث: الدين والجنس والسياسة، على اختلاف طبيعة الوعي بكل منها، فالوعي البشري لم يزل يتعامل مع هذه المقدسات بلغة رمزية لا تصريحية، ويرفض الانطلاق والتحرر في مناقشتها حتى مع أقرب المقربين، وإن كانت المجتمعات المتحضرة قد حققت تحررا في الأخير “السياسة” الذي لم يعد يمتلك قدسيته كما كان في العصور الفائتة، أو لدى بعض الشعوب الآن.

أما الديني والجنسي فما زالا يحاطان بكثير من التكتم والسرية، ويلقيان الكثير من حواجز الوعي الفردي والجمعي على السواء.

من هنا عمدت كثير من الروايات الجديدة إلى الاشتباك مع وعي المتلقي في الثالوث المحرم والممنوع (الدين والجنس والسياسة) واتخذ ذلك مستويات عدة على مستوى الجدل وأهدافه:

فبعضها يعتمد السخرية والتهكم، وبخاصة مع الممارسات البشرية التي لاتحتكم إلى المنطقي والعقلي بقدر ما تحتكم إلى الخرافات التي تم تكريسها – بفعل البشر أنفسهم – عبر التاريخ، مثل تقديس النصب والأضرحة، وتقديس الحاكم، وتقديس الجسد.

وبعضها يعتمد التشكيك في بعض أفكار هذا الثالوث من منطلق فكر الحداثة، أو احتكاما إلى معطيات العلم، أو تغليب العقلي على العاطفي، أو احتكاما إلى منطق الواقع العالمي الذي أصبح مفتوحا الآن مما يسمح بإمكانية المقارنة مع أوضاع الشعوب الأخرى خاصة في الفكر السياسي.

وبعضها يعتمد تفكيك خطاب هذه التابوهات بالاعتماد على الفكري والفلسفي .

وبعضها يعتمد منطق الكشف عن موجودات في حياتنا بالفعل، غير أننا لم نفكر فيها، مثل الأعمال التي تحتفي بالتناقض بوصفه الأكثر حضورا من الاتساق في حياتنا، وبالجنس بوصفه المهيمن على حركة الإنسان وتحركاته استجابة لمقولة ألبير كامو “ثمة جرائم ترتكب بدافع الهوى”.

وغير ذلك من أشكال الجدل التي تمارسها الرواية على مستوى الوعي، وتأتي في هذا السياق أعمال عدة، منها: نون لسحر الموجي، وشارع بسادة لسيد الوكيل، ومواقيت التعري لهيدرا جرجس، والأرملة تكتب الخطابات سرا لطارق إمام ورائحة القرفة لسمر يزبك، والآخرون لصبا الحرز، وطرشقانة لمسعودة أبو بكر، وطوق الطهارة لمحمد حسن علوان، وساق الغراب ليحيى امقاسم، وتمارين الورد لهناء عطية، وعشرات الروايات التي تشتغل على الوعي بوصفه الغاية والهدف، وكذلك الأمر في القصة القصيرة  التي سعت لإحداث وعيها المفارق مع كلاسيكيات القصة القصيرة المتعارف عليها عبر مراحل تطورها العربية .

  • المتخيل السردي وسؤال الشكل:

الشكل يمثل للسارد المعاصر سؤالا جوهريا، مما دعاه إلى التجريب في البناء الفني للعمل الأدبي ومغايرة عناصره عما هو قار في الأبنية الفنية الكلاسيكية منذ استقرار عناصرها في علوم السرد من طرائق البناء المعماري، وبناء الشخصية، والحدث، والزمن… إلخ.

فعلى مستوى البناء المعماري – مثلا- كان السؤال حول مغايرة أشكال البناء السردي المعتمدة الوصف أو الحوار أو تيار الوعي، أو الحكي من خلف، أو الحكي مع، أو من خلال، ومن ثم نتج عن ذلك تحولات عدة في الأبنية السردية، حيث جاء بعضها في شكل مشاهد سردية متجاورة، تكاد تمثل قصصا قصيرة على نحو ما، لكنها تتجاوز مجرد ذلك، ومنه روايات ” شارع بسادة ” لسيد الوكيل، و”ملاك الفرصة الأخيرة ” لسعيد نوح، و”مسألة وقت ” لمنتصر القفاش، و”فانيليا” لطاهر الشرقاوي، و”مواقيت التعري” لهيدرا جرجس، و”معبر أزرق برائحة الينسون ” لياسمين مجدي، و”فدوى” لفدوى حسن، و”تمارين الورد ” لهناء عطية، و”شهوة الصمت ” لأمينة زيدان، و”حكاية الحمار المخطط ” لرانية خلاف و”وقوف متكرر” لمحمد صلاح العزب، و”فاصل للدهشة” لمحمد الفخراني، و”أسد قصر النيل” لزين عبدالهادي، وغيرها كثير.

تعتمد رواية “فانيليا”(٧) لطاهر الشرقاوي على المشاهد السردية غير المكتملة على الدوام، بما يشبه سرد الأخبار والمواقف غير المنتمية إلى مركزية موحدة، حيث لا تحتكم الرواية منذ البداية إلى مركزية الأحداث، وإنما تحتكم إلى فكرة المتواليات القصصية والحلقات المسلسلة التي يظل أبطالها كما هم، وتتغير وظائفهم وبالتالي أحداث ووقائع حياتهم، غير أن الأمر هنا يختلف قليلا، إذ تبدأ الرواية بالكاتب الراوي يجلس على مقهى من مقاهي القاهرة، يبحث عن مشهد يلتقطه في الشارع لكتابة رواية أو البدء فيها، ويحكي عن اختباره لكل ما تقع عليه عيناه للبدء في الرواية، غير أن التأمل يكشف أن هذه إحدى الألاعيب السردية، فالرواية قد بدأت بالفعل منذ بدأ الرواي يحكي عن جلوسه على المقهى، ولم يتبق إلا استكمال حكاية الجالس، ولكن الرواية تنتقل في مراوغة أخرى لرصد مشاهد الشارع الحية حتى تقف عند البنت الصغيرة حافية القدمين الصغيرة التى تسير في الطرقات والشوارع بحثا عن السعادة والحرية، ويقرر الرواي أن يجعلها موضوعا للرواية، وإن كان التأمل أيضا يكشف عن أن موضوع الرواية هو عالم الشارع المتسع بما يشمله من شخصيات وأماكن وعلاقات بما فيها البنت ذاتها التي توهم الرواية بأنها تحكي حكايتها.

هذه الكتابة على هذا النحو تخالف السائد المتعارف عليه في السرد الروائي وطرائقه التي كانت تبدأ من نقطة مركزية في السرد (من الماضي إلى الحاضر، أو من الحاضر إلى الماضي بطريقة الفلاش باك، أو بغيرها من الطرق، ولكنها في الغالب الأعم تتخذ مسارا خطيا على مستوى البناء الزمني، إلا أن بعض النماذج التي قدمتها الرواية الجديدة انطلقت من مشاهد سردية، قد تبدو في ظاهرها مرتبكة لا تنتمي لخط زمني محدد، ولكنها عند تحليلها والوقوف أمام تقنيات بنائها، نجد أنها تصنع مسارها، فهي إما أن تعبر عن الارتباك الحادث في واقع مسارات الأحداث في الحياة من حولنا، ذلك أن الأحداث في الحياة متقاطعة ومتشابكة وليست متراتبة، وإما أن تعبر عن آلية اشتغال العقل البشري في رصده للأحداث من حوله، فهو لايفكر فيها على نحو خطي، وإنما ترد على الذهن بغير ترتيب، ويبذل الإنسان مجهودا عميقا في محاولة لترتيبها، وهو ما جاء استجابة لتغير النظرة حول الحدود الفاصلة بين الأشياء، وهدم القطعية في الفصل، والتأكيد على التشابك والالتقاء بين الشيء والأشياء المحيطة به.

وهو ما تعتمده رواية شارع بسادة لسيد الوكيل، إذ توهم بأنها تحكي قصة وتاريخ شارع بسادة، وإن كانت تحكي مشاهد سردية متجاورة ومتقاطعة لبعض الذين سكنوا أو عملوا أو مروا بشارع بسادة، وتعيد تفكيك هذه المشاهد وتقديم بعضها وتأخير الآخر، كما يكشف عن ذلك رصد مسار المشاهد في الرواية.

  • المتخيل السردي وسؤال الموضوع:

لم يعد الموضوع في الكتابة السردية الجديدة المنتمية إلى ما بعد الحداثة، محتفيا بالقضايا الكبرى السياسية والاجتماعية، أو قضايا الإنسان مع الحب وارتباطه بالآخر، أو قضايا التاريخ، أو غيرها مما أبدعته الرواية العربية في القرن العشرين، وإنما حدث تحول مركزي في مفهوم الموضوع ذاته، فلم تعد سيرة حياة الإنسان هي الموضوع، وإنما أصبح الوعي بالإنسانية والإنسان وتصوير ضعفه وانهزاماته هو الموضوع، إنسان الألفية الثالثة بكل ما يحمله من توترات تهدد وجوده، وصراعات تتحكم في مساراته، وعولمة تطارده أينما حل أو ارتحل، وغدا الاستبطان النفسي، ورصد علاقات البشر الداخلية في علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالآخر، واعتبار الرواية مصدرا وسبيلا للوعي هو الموضوع الأكبر لكثير من الروايات.

من هنا تصبح الرواية سعيا نحو الكشف، وطريقة من طرائق المعرفة، واكتشاف الذات، واكتشاف العالم، والكشف عن الحجب المستورة، وتتحول الشخصيات من كونها العناصر الفاعلة القادرة على تحويل مسار الحكي والتحكم في الأحداث إلى كونها المفعول به، الباحثة عن ذاتها، وتصبح الأحداث في كثير من الأحيان غير واضحة المعالم، لا يصنعها المحكي عنه، وإنما تصنع هي المواقف والمشاهد السردية.

وهنا تنهار كل الموضوعات التي كانت تمثل المتفق عليه بين البشر، مثل رصد التحولات الاجتماعية في الحياة، أو التعبير عن تبدل منظومة القيم، أو رسم حالة الطموح البشري،  وتحل بدلا من ذلك كله موضوعة الإنسان ذاته في وعيه ومحاولته فهم كينونته وفهم الكون من حوله، وعبر ذلك جميعه يأتي – على سبيل المثال – الممنوع والمحرم وتنويعاته السياسية والدينية والجسدية موضوعا للرواية في محاولة للاشتباك والجدل، ليس بهدف الوصول لحقيقة مطلقة ما، وإنما بهدف التجريب أحيانا، وهنا يتشكل الموضوع.

ويمثل هذا التحول سمة غالبة على بعض المنجز الروائي المعاصر في معظم البلدان العربية: مصر وسورية ولبنان وتونس والمغرب والسعودية وبعض بلدان الخليج الأخرى، وبخاصة لدى الكتاب والكاتبات الشباب، ففي سورية على سبيل المثال تطالعنا أعمال خالد خليفة (مديح الكراهية) 2006م ؛ لتفتضح عالم المعتقلات والسجون السياسية والصراع بين الإخوان المسلمين والحزب الكافر – بتعبير الرواية – في حلب، وتطالعنا أعمال منهل السراج في روايتها (كما ينبغي لنهر) 2003م ؛ لتقدم الممنوع والمحرم بين الإسلامي وغير الإسلامي من خلال حكاية مدينة عربية مهملة تتألف من حارتين يفصل بينهما نهر هما حارة الإسلاموي نذير وحارة غير الإسلاموي أبي شامة، وتطالعنا أعمال سمر يزبك في روايتيها (طفلة السماء) 2002م و(صلصال) 2005م ؛ لتشتبك مع الممنوع والمحرم من منظور الطائفة الدينية والأسرة العسكرية، ثم في رواية (رائحة القرفة) التي تعالج فيها الجسدي بين المثليات.

وفي سلطنة عمان ظهرت بعض الأعمال التي تتناول الجسد من منظور آخر، ليس في علاقته بالجنس فقط، وإنما بوصفه ألما وتعذيبا كما في رواية “حز القيد لمحمد عيد العريمي”، و”فيزياء لبدرية الشحي”، وغيرها.

وفي لبنان تطالعنا بعض الأعمال الحديثة لرشيد الضعيف وإلياس خوري وبخاصة رواية (عودة الألماني إلي رشده) لرشيد الضعيف، ويتناول فيها موضوع العلاقات المثلية الجنسية، ورواية (يالو) لإلياس خوري التي تقترب من الموضوع ذاته.

وفي المغرب العربي تتعدد الروايات التي تتخذ الممنوع والمحرم سبيلا لها، ومنها روايات: كمال الخمليشي (الواحة والسراب) 2001 و(حارس النسيان) 2003م، وعبدالحكيم أمعيوة (بعيدا عن بوقانا) 2007 م، ووفاء مليح (عندما يبكي الرجال) 2007م.

وفي مصر تتنوع الأعمال الروائية التي تتعامل مع ثالوث الدين والجنس والسياسة، وبخاصة في كتابات سيد الوكيل (شارع بسادة ) 2008م، وطارق إمام (الأرملة تكتب الخطابات سرا)، وهناء عطية (تمارين الورد)، وأمينة زيدان (نبيذ أحمر) و(شهوة الصمت)، وطاهر الشرقاوي (فانيليا)، ومحمد صلاح العزب (وقوف متكرر)، وسعيد نوح (ملاك الفرصة الأخيرة)، وغير ذلك كثير من الأعمال والكتاب الذين تجاوزت كتاباتهم مجرد الإشارة إلى مشاهد القهر والظلم السياسي، أو التعبير عن الرجعية لبعض الفئات المتشددة دينيا، أو الكتابة عن المشاهد الجنسية بالطريقة التي تناولها إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس، ذلك أن الميراث المصري الروائي لم يترك مجالا لإمكانية معالجة هذه الموضوعات بالطريقة التقليدية على غرار قول عنترة (هل غادر الشعراء من متردم)، ولذا فإن التعامل مع هذه الموضوعات الآن كان لزاما عليه أن يحمل مغايرة مع سابقه على مستوى التداول والآليات، وهنا يصبح الأمر أكثر صعوبة من أي واقع آخر.

إن اللجوء إلى التعبير عن الجسدي في كثير من الأعمال السردية التي تنتمي إلى الرواية الجديدة لم يأت من فراغ، ولكن تحكمه في الغالب الأعم أسئلة كينونة تتعلق بالموضوع الروائي، ومنطلقات فكرية تكشف عن آليات اشتغال عقل الكاتب / الروائي في اشتباكه مع الجسدي، وتتنوع هذه المنطلقات في مرجعياتها إلى ما هو ديني، وما هو فكري، وما هوغريزي في أنفس البشر عموما.

غير أنها جميعا تخضع لمنطق علاقات الذات الفاعلة بمستوياتها الجدلية المتنوعة: الأنا مع الآخر، والأنا مع الأنا، بين التعبير عن الاحتجاج، وتأكيد الذات من خلال نفي هيمنة الآخر، واكتشاف الذات، ومحاولة اكتشاف الآخر، وهوما يؤكده استقراء النصوص الإبداعية المنتمية إلى هذا الوعي.

ويتنوع منطق حضور الجسدي في المتخيل السردي الروائي(٨) بين الكتابة بوصفها احتجاجا وتعبيرا عن الرفض، والكتابة بوصفها تعبيرا عن القهر، والكتابة بوصفها محاولة لاكتشاف الذات، والكتابة بوصفها محاولة لاكتشاف الآخر، والكتابة بوصفها كشفا للمستور، ذلك المنطق الذي أوجدته تداعيات الكتابة الروائية في تطورها، وتطور الوعي الإنساني عموما والإبداعي على وجه الخصوص، وهو الأمر ذاته الذي يجابه بالرفض من قبل الذين يركنون إلى الكلاسيكيات المعتمدة ويرون الخروج عليها خروجا على النوع الأدبي ذاته، على الرغم من خلخلة الحدود بين الأنواع على النحو المتعارف عليه إلى درجة الانمحاء أحيانا.

  • المتخيل السردي وسؤال المكاشفة (الكتابة بوصفها كشفا للمستور):

تعتني الكتابة عبر المتخيل السردي هنا بفضح المسكوت عنه، واكتشاف ما يدور خلف الأبواب المغلقة، وخلف جدار الصدر مما يتعلق بممارسات الجسد ورغباته وانحرافاته عن المألوف، وهو ما اعتمدت عليه كثير من الروايات عبر تنويعاتها على معزوفة  الجسد، تارة بالحديث عن المثلية، وتارة بالحديث عن العلاقات المحرمة شرعا، وتارة بالحديث عن الانحراف الخلقي، وغيره.

وتأتي رواية “رائحة القرفة” لسمر يزبك (٩) منطلقة من هذا الوعي، حيث تدور أحداثها حول فكرة الخيانة في العلاقات العاطفية والجسدية، ولكنها ليست الخيانة المتعارف عليها بين زوجين أو حبيبين يخون أحدهما شريكه مع آخر، وإنما الخيانة في إطار المثلية، أي خيانة العشيقة لمعشوقتها، حيث تسبر الرواية أسرار علاقة مثلية جسدية  بين سيدة مجتمع راقية ثرية وخادمتها التي نشأت في حي فقير.

  • المتخيل السردي وتحولات البناء:

يمتلك السرد (عبر المتخيل السردي) قدرة على إعادة صياغة العالم، غير عابئ بإمكانية تحقق هذه الصياغة على مستوى الواقع من عدمه، وغير معني بقدرة العالم ذاته على استيعاب هذا المتسع من إعادة الخلق والتأويل المستمرين على الدوام.

بين تفكيك الوعي، وهدم المرتكزات، والتأويل، وإعادة البناء، والوقوف على أعتاب خفايا النفس البشرية، وعبر ذلك جميعه تتشكل رواية “أسد قصر النيل” لزين عبدالهادي، لتضرب في جذور الإنسانية بعيدا حيث المناطق شبه المظلمة، وقريبا حيث اليومي والمشاهد والمعيش.. بين العودة إلى الوراء حيث الأسطورة هي المتكئ الأول لتفسير الكون وظواهره الغامضة رغم عاديتها ويوميتها، وبين الوقوف على مستجدات التحولات البشرية بفعل التكنولوجيا والثورة المعلوماتية، وأثر ذلك على اتساع هوة الفجوات في حياة البشر، وبخاصة الفجوة بين الغنى والفقر (حيث الأثرياء يزدادون ثراء، والفقراء يزدادون فقرا) والفجوة بين التقدم والتراجع للوراء، والفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، وهنا يبدأ المتخيل السردي في الحضور حيث تتخذ الرواية القاهرة الكبرى بتداخلاتها وتشابكاتها مسرحا للأحداث وفضائها، ويصبح رصد مشهدها اليومي وتحليل واقعها الثقافي وتشريح أنماط شرائحها الاجتماعية هو أبطال الحكي وشخوص المسرحية / الرواية.

أضف تعليق