أرشيف الأوسمة: من الأدب العالمي

العندليب: قصة ماركو دينفي – ترجمة عبدالناجي ايت الحاج

كل ليلة ، من الغروب حتى الفجر ، كانت أغنية العندليب تتردد في الغابة. سمعها الملك من قصره.

–           “هذا العندليب أثمن من  كل كنوزى”.قال الملك و هو يتنهد.

كل ليلة ، من الغروب حتى الفجر ، كان  العندليب يغني في أقصى أعماق الغابة. و الملك ، في أرق ، مأخوذا كان ينصت إليه.

–           من يحضر لي العندليب حيا أمنحه أجمل  محضياتي، عشرين محارباً ، نصف عبيدي المخصيين ، كل طاواويسي البيض ، عودي الهندي المرصع بأحجار اللؤلؤ ، زرابي من الحرير مطرزة بخيوط الذهب، أواني فضية منحوتة ، مرجان المعبد ، وخاتم تشابور .   قال الملك

ذهب معظم الصيادين المتمرسين ، بالشباك، بالحبال وبالفخاخ ، إلى الغابة ليلا للبحث عن العندليب ، ولكن العندليب لم يمنحهم فرصة القبض عليه ، و واصل الغناء ، كل ليلة ، من الغروب إلى الفجر ، بصوته الرائع . واقفاً بنافذة قصره ، كان الملك ينصت إليه ، وكان وجهه بلون القمر ، وقلبه صهريج جاف. توجهت جيوش من المحاربين و النبلاء ، بالأقواس والسهام ، مع الطبول و الرايات ، نحو الغابة و طالبوا العندليب للمثول أمام الملك ، ولكن العندليب عصى الأوامر.

وفي كل ليلة كان العندليب يغني في أحراش الغابة بصوته السماوي. لقد مرض الملك بالكآبة. ومن سريره كان يسمع شدو العندليب ، و كانت بشرته تتجعد مثل قشرة فاكهة نزعت من غصنها. ذهبت أجمل محضيات الملك ذات ليلة إلى الغابة وتوسلت بكل خنوع للعندليب الرحمة بالملك ، لكن العندليب لم يشفق على الملك. وكل ليلة ، من الغروب حتى الفجر ، كان يغني في أكثر المواقع صعوبة  من الغابة. الملك لسماعه كان يغلق عينيه و يئن . صنع ساحر عندليبا ميكانيكيا و كان يغني مثل عندليب الغابة ، وأخذه إلى الملك. و هكذا أثناء الليل كان يجعله يغني في غرفة نوم الملك. لكن الملك سمع إلى أغنية العندليب من الغابة فبكى في فراشه. كل ليلة ، من الغروب حتى الفجر ، كان العندليب يغني وسط أوراق الشجر في الغابة. ومات الملك من الحزن في فراشه الذهبي. وعندما عبر الموكب الجنائزي الغابة بجثة الملك ، في الأعماق الأكثر سرية، من الغروب حتى الفجر ، كان العندليب يغني.

من كتاب “مزيفات”  1966

مايلز سيتي، مونتانا

قصة

ألِس مونرو

أليس مونرو

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A2%D9%84%D9%8A%D8%B3_%D9%85%D9%88%D9%86%D8%B1%D9%88

عن أليس مونرو

مايلز سيتي ، مونتانا .. قصة قصيرة

ترجمة

د/ أحمد الشيمي

جاء أبي من وسط الغيطان يحمل جسد الطفل الذي غرق، حوله عدد كبير من الرجال الذين شاركوا في البحث، ولكن أبي وحده هو الذي كان يحمل الجسد الميت، وحوله الرجال سائرين وقد تخضبت هيئاتهم بالطين، وبدت على وجوههم علامات الإعياء، محنية هاماتهم كأنهم يشعرون بالخجل، حتى الكلاب كانت محبطة مغتمة، ترسل من أجسامها قطرات من ماء النهر البارد. قبل ذلك بساعات قلائل، وفي أثناء البحث الكبير، كانت الكلاب متوترة جريئة مقدامة جادة في النباح، وكان الرجال مضطربين محمومين مشدودين ومصممين،  كان المشهد كلـه مفعم بالإثارة المصطنعة التي لا تُوصف. سرت همهمة بأن البحث سيسفر عن حدث جلل.

كان اسم الصبي “ستيف جولي” في الثامنة من عمره، الآن غطى الطين شعره وملابسه، وعليها قطع صغيرة من أوراق الأشجار الميتة، وبعض أغصان وعشب،  كان أشبه بكومة من القمامة تُرِكت في العراء طوال الشتاء كلـه. استند وجهه على صدر أبي، واستطعت أن أتبين أحد ثقبي أنفه، وأذن واحدة مسدودة بطين مائل إلى اللون الأخضر.

استمر في القراءة مايلز سيتي، مونتانا

موسم الديك التركي: أليس مونرو

ترجمة

د/ أحمد الشيمي

د.أحمد الشيمي

عندما كنت في الرابعة عشرة حصلت على وظيفة لفترة الكريسماس في محل يبيع الديكة التركية المذبوحة. كنت لا زلت صغيرة جدًا على الوظائف التي من هذا النوع، العمل في محل أو نادلة لبعض الوقت، كنت أيضًا عصبية جدًا وسريعة الانفعال.

كانت مهمتي تنظيف الديك من الداخل، استخرج أحشاءه وأنظفه من الداخل. كان الآخرون الذين كانوا يعملون معي في محل الديكة هذا هم لِلي ومارجوري وجلاديس، وكن يقُمن بنفس عملي، يقُمن بتنظيف الديك من أحشائه. وكان معنا أيرين وهنري، وهما ناتفي ريش، و”هيرب آبوت” الملاحظ الذي كان يرأس العمل كله، ويحضر في الحال عند الحاجة، وكان معنا مورجان إليوت صاحب المحل ورئيس الجميع بطبيعة الحال. 

كان معنا أيضًا مورجي، عرفته في المدرسة، وكنت أظنه غبيًّا وضيعًا، وكان يقلقه أن أراه في هيئة غير التي كنت أراه عليها في المدرسة، هيئة جديدة بوصفه الأفضل ابن المعلم. ولكن أباه كان يعامله بفظاظة شديدة، يصيح فيه ويشتمه، لدرجة أنه كان يبدو كأنه أقل عامل في المحل. الشخص الآخر ذو الصلة الوثيقة بالمعلم هي جلاديس، كانت أخته، وحالتها تختلف عن الآخرين، ويبدو أن لها عنده حظوة خاصة. كانت تعمل ببطء، وكانت تذهب إلى البيت عندما تشعر بالتعب، ولم تكن على ما يرام مع لِلِي ومارجوري، رغم أنها أبدت بعض مودة ناحيتي. عادت من تورنتو لتعيش مع مورجان وأسرته بعد سنوات عديدة في العمل هناك، في بنك. لم يكن عملها في المحل يروق لها. لِلِي ومارجوري، تحدثتا عنها في غيابها، وقالتا إن عندها انهيار عصبي. وقالتا إن مورجان طلب منها أن تعمل في المحل لتدفع لقاء إقامتها والعناية بها. وقالتا أيضًا، دون الانتباه للتناقض، إنها قبلت الوظيفة لأنها كانت تريد أن تتزوج من رجل، وهذا الرجل هو “هيرب أبوت”.

كانت الديكة الرومية هي كل ما كنت أراه بعد أن أغمض عينيّ لأنام، خلال الليالي القليلة الأولى. كنت أستعيد مشهدها وهي معلقة بالمقلوب، منتوفة الريش، وقد تصلب جسدها، شاحبة وباردة، وتدلت رؤوسها ورقابها لينة رخوة، وتخضبت عيونها وخياشيمها بدم متخثر غامق، وكانت بواقي الريش – وقد تخضبت أيضًا بالدم المتخثر – تشكل ما يشبه التاج. لم أكن أراها بشيء من النفور والجفاء، ولكن بإحساس بأن عملاً لا ينتهي في انتظاري.

علمني “هيرب أبوت” واجبات العمل؛ علمني أن أضع الديك على الطاولة، وأقطع رأسه بالساطور، ثم أضع أصابعي حول الجلد الرخو وأنزعه من حول الرقبة فتنكشف الحوصلة المستكنة في الصدع الكائن بين الحلق والقصبة الهوائية. وقال لي “هيرب” بنغمة تشجيع: “تحسسي الحصى”. وجعلني أغلق أصابعي حول الحوصلة، وشرح لي كيف تصل يدي إلى جهتها الخلفية لنزعها تمامًا، ثم أفعل ذلك بالحلق والقصبة الهوائية أيضًا. كان يستخدم المقص لقص الفقرات.

قال لي بصوت هادئ: “اضغطي، اضغطي، الآن ضعي يدك داخل الديك”. وفعلت ما قاله، وكانت أعماق الديك المظلمة باردة برودة الموت، ثم أردف “هيرب”:

“خلي بالك من شظايا عظام الديك”. 

كنت أعمل بحذر في الظلام، وكان عليّ أن أجذب النسيج لانتزاعه. أما “هيرب” فقد قلب الطائر على ظهره، وطوى ساقيه وهو يقول لي: “الركبتان إلى أعلى يا أم  براون”.*  ثم استل سكينة ثقيلة ووضعها مباشرة على مفصل الركبة، ونزع الساق.

“انظري للدود”.

حلقات في بياض اللؤلؤ، خرجت من الساق المنزوع، زاحفة إلى حيث لا يعلم أحد.  وعلق “هيرب”:

“هذه كانت أوتار العضلة المنقبضة، الآن وصلنا إلى الجزء الدقيق!”

وشق الطائر نصفين، ما تسبب في انبعاث رائحة نتنة. قال:

“هل أنت متعلمة؟”

ولم أعرف بماذا أرد؟

“ما هذه الرائحة؟”

“كبريتيد الهيدروجين”.

“متعلمة؟”

 سألني “هيرب” وهو يطلق تنهيدة، ثم أردف:

“تمام. امسكي المصران لينساب بين أصابعك، ارخي، ارخي، ضمي أصابعك، خلي كفة يدك في الداخل، المسي الأضلاع بقفا يدك، اشعري بالأمعاء وقد ملأت كف يدك، هل لمستِها؟ استمري، حطمي الأوتار- حطمي أكبر قدر ممكن منها. استمري، سوف يصادفك جزءًا صلبًا، صح؟ إنها المعدة، القانصة، استمري، سوف تصادفك كتلة طرية، صح؟ إنها القلب، تمام؟ تمام.  ضمي أصابعك حول القانصة، سهلة. ابدئي في الشد من هذه الناحية، تمام، تمام، ابدئي في شدها إلى الخارج”.

لم تكن الحكاية سهلة بالمرة، لم أكن حتى متأكدة من أن ما ظفرت به كان القانصة. كانت يدي قد امتلأت بما يشبه قلب ثمرة. قال:

“شدي”.

وظفرت بكتلة متوهجة في لون الكبد.

“ها هي. عرفتِها؟ الرئتان. وهذا هو القلب، وتلك هي القانصة، وهذه الحوصلة. الآن لا يمكنك تحطيم هذه الحوصلة داخل الديك وإلا سيفسد طعمه كله”.  وبخفة يد عجيبة استخرج ما لم أستطع استخراجه، ومنها خصيتي الديك التي كانتا أشبه بحبتي عنب بيضاء. ثم قال لي هيرب مازحًا طبعًا:

“قرط جميل”.

كان هيرب أبوت ممتلئًا طويل القامة قوي البنية، وكان أسود الشعر رقيقه، يمشطه مفروقًا إلى الخلف، وكانت عيناه كأنهما تميلان قليلاً فيبدو أشبه بالصينيين أو بصور الشيطان، إلا أن وجهه كان ناعمًا لطيفًا. كل ما كان يعمله في محل الديكة، استخراج الأحشاء كما يفعل معي الآن، أو تحميل الشاحنة، أو تعليق الديكة المذبوحة، كان يعمله بحركات محسوبة بارعة، وسريعة وبرضا تام. قالت لي مارجوري مرة: “لاحظي هيرب، إنه يمشي دائمًا كأنه يمتطي ظهر قارب يتحرك به فوق مياه البحيرة”. وكان كلامها صحيحًا. كان هيرب يعمل في مراكب البحيرة.  وفي أثناء الموسم كان يعمل طباخًا. ثم يعمل لحساب مورجان حتى بعد انتهاء الكريسماس. وأما باقي الوقت فقد كان يساعد في مكتب الرهان، أو يصنع الهامبيرجر، أو يمسح المحل، أو يوقف العراك قبل أن ينشب، إنه المكان الذي يسكن فيه، لديه حجرة فوق مكتب الرهان، تطل على الشارع الرئسي.

فيما يتعلق بجميع العمليات التي تتم في محل الديكة الرومية يبدو أن “هيرب” الوحيد الذي يمتلك الكفاءة والرأي المتعلقين بهذه التجارة كلها في ذهنه؛ هو الذي كان يضع كل شيء تحت السيطرة، فتراه في الفناء يتحدث مع مورجان، الذي كان بدينًا وقصير القامة تعلو وجهه حمرة، عنيفًا متقلب المزاج، عندما تراهما لا يمكن أن تقول إلا أن “هيرب” هو المعلم ومورجان الصبي المستأجر، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك.

فلو لم أتعرف على “هيرب” وعلمني، لما تعلمت استخراج أحشاء الديك على الإطلاق. كنت أعاني من تشوه في يدي، وكنت أستحي منه في كثير من الأحيان لدرجة أن أي ضجر أو تأفف من قِبل الشخص الذي يعلمني يمكن أن يفضي بي إلى الشلل الارتباكي على الفور. لم أكن أطيق أن يشرف علي عملي أحد غير “هيرب”، لا أطيق أن أتلقى تعليمات خاصة من لِلِي أو مارجوري، وهما اختان في منتصف العمر، ضخمتي الجثة، ودقيقتين في عملهما لا يبذهما أحد في سرعة نزع أحشاء الديكة. كانتا تغنيان أثناء العمل، وتتحدثان إلى الديكة المذبوحة بحديث قبيح بشيء من الحميمية.

“ألم تجرح يدي، أيها العجوز القارح!”

“أنت يا فضلات المصانع العجوز”.

لم أسمع قط نساءً يتحدثن بهذه الطريقة.

لم تكن “جلاديس” سريعة في عملية نزع الأحشاء من جوف الديكة، رغم أنها كانت دقيقة لا تخطئ، وإلا اضطرت إلى سماع تعليمات من “هيرب”. لم أسمعها تغني، وأيضًا لم أسمعها تشتم. حسبتها كبيرة في السن، رغم أنها ليست أكبر من لِلي ولا من مارجوري، لابد أنها كانت فوق الثلاثين، يبدو عليها علامات الهوان والاستياء من كل ما يحدث في المحل، ويبدو أيضًا أنها تطلق أحكامًا على الأمور لا تعجب أحدًا، فتحتفظ بها لنفسها. لم يحدث أن تبادلت معها الحديث، ولكنها تحدثت معي ذات يوم في الحمام البارد الصغير البعيد عن عنبر التنظيف. كانت تضع طبقة من الميكب على وجهها، وكان لون الميكب مختلفًا جدًا عن لون بشرتها كأنها دلقت طلاءً برتقاليًّا على حائط متكلس كثير الأخاديد.

سألتني إن كان شعري متجعدًا بالطبيعة.

قلت لها: “نعم”.

“ألا تضطرين إلى صبغه؟”

“لا”.

“أنت محظوظة، أنا مضطرة أصبغ شعري كل ليلة، طبيعة شعري لا تتحمل الصباغة  الدائمة”.

للنساء طرقٌ شتى في الحديث عن مظهرهن، بعضهن يقلن لك إن ما يفعلنه لتحسين مظهرهن هو من أجل العلاقة الحميمة مع الرجال. وأخريات، مثل جلاديس، يتجملن ويعتبرن الجمال جزءًا من التدبير المنزلي، ومنهن اللائي يعمدن إلى الزهو بصعوباته ومشكلاته. كانت “جلاديس”  حسنة المظهر متكلفة ولكنها رقيقة. كنت أراها في بنك، ترتدي فستانًا أزرق كحلي، بياقة بيضاء يمكن فصلها وغسلها في الليل. كانت تغضب بسرعة وتعود إلى طبيعتها أيضًا بسرعة.

مرة ثانية تحدثت معي عن الدورة الشهرية عندها، حيث يتدفق منها دمُ كثير، ومصحوب بألم. وأرادت أن تعرف هذه الأمور عني، يعلو محياها تعبير متحفظ حزين ممتزج بقلق وانفعال. أنقذتني “أيرين” التي كانت تقضي حاجتها في الحمام وتنادي: “افعلوا مثلي تتخلصوا من جميع مشاكلكم زمنًا ليس بالقصير”. كانت أيرين أكبر مني بسنوات قليلة، ولكنها متزوجة حديثًا – زواج متأخر – وبطنها منفوخة أمامها بشكل عجيب. 

تجاهلتها “جلاديس”، وهي تشطف يديها بالماء البارد. كانت أيدينا جميعًا مخضبة باللون الأحمر، متقرحة من العمل. قالت جلاديس: “لا استخدم هذا الصابون، وإلا انبثق الدم من عروقي بشكل عجيب، وإن أحضرت الصابون الخاص بي، لا أضمن أن تستخدمه إحداهن؛ لأني أدفع فيه كثيرًا من المال، إنه صابون خاص مضاد للحساسية”.

أعتقد أن الفكرة التي أشاعتها لِلِي ومارجوري – أن جلاديس تسعى إلى الزواج من هيرب – نشأت من إيمانهما بأن العزاب مثله يتعرضون للمضايقة والحرج في المجيئ والرواح، وأيضًا من اهتمامها بـ هيرب، مما أدى إلى إحساس بأنه لابد من أن سيدة ما تطارده. كان محاطًا بالأسئلة والاستفسارات: كيف لرجل مثله أن يرضى بأقل القليل في حياته؟ لا زوجة، لا أسرة، لا بيت. تفاصيل حياته كلها كانت موضع اهتمام، وكان العمل الذي يقوم بها في المحل أو هنا أو هناك أيضًا موضع اهتمام. أين نشأ؟ (هنا، هناك، في أي مكان)، إلى أي مدى ذهب في تعليمه المدرسي (تلقيت تعليمًا). أين خطيبته؟ (لا يجيب). هل يشرب القهوة أم الشاي إن خُيِّر (القهوة).

عندما يتحدثن عن أن جلاديس تطارده كانوا يقصدون العلاقة – هو كل ما يبحث. لابد أن شعورًا بالفضول الشبقي شعروا به تجاهه، كما أحسست أنا، هو الذي استنهض هذا الإحساس لفرط احتياطه وتحفظه، ولأنه لا يطلق النكات التي يطلقها بعض الرجال، وفي الوقت نفسه لا هو بالمتحذلق ولا بالنبيل. بعض الرجال كانوا يضعون خصيات الديكة في أيديهم يريدونني أن أنظر إليها، كأن وجودها في الديك من قبيل الدعابة المضحكة بالنسبة لي! هناك بنات يمكن أن يخجلن من رؤيتها وتعرضن للسخرية منهن، ورجال آخرون يجدون حرجًا في هذه الأمور، ويسعون إلى إبعادي عن هذا الحرج،  وأما الرجل الذي لا يميل إلى هذا الموقف أو ذاك، فهو غريب الأطوار – بالنسبة لي كما هو بالنسبة للنسوة الأكبر سنًا مني. ولكن ما كان يعجبني ربما كان يزعجهم،  كانوا يريدون تحريكه، كانوا أيضًا يريدون من جلاديس أن تحركه، إن استطاعت.

لم يكن هناك أية فكرة – على الأقل في لوجان، أونتيريو في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين – عن أن المثلية يمكن أن تسمع عنها أو لها وجود واضح. المدن كان بها مثليين، وكنا نعرف مثليي المدن بالواحد. متأنق، جم الأدب، ناعم الصوت، شعر متموج أو مزيف، يسمي نفسه مهندس ديكور، أو زوجة الوزير السمينة، أو الابن الوحيد المدلل، وأحيانًا يتمادى فيدخل في مسابقات خبيز، أو ينسج مفرش مائدة بالكروشيه، أو تراه يعزف بعصبية على الأرغن في الكنيسة، أو يعمل مدرسًا للموسيقى، يؤم طابور الكورس مع طلابه مع نوبات من الغضب مصحوبة بصياح. فإذا عُرِفوا يحظون بقدر كبير من التسامح، والإقرار بمواهبهم في الديكور والتطريز والموسيقى – خاصة من قِبل النساء. كانت الواحدة منهن تقول عنه: “المسكين، ليس منه أي خوف”. ويبدو أنهن كن يعتقدن فعلاً أن الولع بالخبز أو الغرام بالموسيقى هو العامل الحاسم، وأن هذا النشاط أو ذاك هو الذي أفضى بالرجل إلى ما هو عليه، وليس أي تحول آخر اتخذه، أو أية رغبة استحوذت عليه. كان يُظن أن رغبته في العزف على الأرغن هي من قبيل الميل عن دواعي الرجولة أكثر من الإعراض عن النساء. الفكرة التي كانت معروفة أن أي رجل يتمتع بصفات الرجولة كان يرغب عن النساء، ولكن أغلبهم يقع في الفخ.

لا أريد أن أمعن في قضية مثلية “هيرب”، هل هو مثلي أم لا؛ لأن التعريف ليس لـه فائدة بالنسبة لي. ولكني أعتقد أنه كان كذلك، وربما لم يكن كذلك. (حتى مع ما حدث بعد ذلك، هذا هو ما أعتقده)، ليس لغزًا يتم حله دون علة معلومة.

ناتف الريش الآخر الذي كان يعمل مع أيرين هو هنري ستريتس، جارنا. لم نكن نلاحظ عليه شيئًا غير أنه كان في السادسة والثمانين ولا يزال، كما قال عن نفسه، حمار شغل. كان يحتسي الويسكي الذي يضعه في “ترموس” يصحبه معه أينما ذهب، كان يرشف منه بين الفينة والفينة طوال اليوم. هنري هو الذي قال لي ونحن في مطبخ بيتنا أن أبحث لنفسي عن وظيفة تنظيف أحشاء الديك في محل الديكة الرومية، وقال إنهم يبحثون عن واحدة تشغل هذه الوظيفة، ساعتها رد عليه أبي: “ليس هي يا هنري، فيدها فيها تشوه”. فقال هنري إنه كان يمزح، فالعمل هناك مقرف”. ولكني أصررت على الحصول على الوظيفة، وأن أجرب، فقد أحسست أني يجب أن أنجح في وظيفة كهذه، فقد كنت قد كبرت في السن، ويخجلني أني لم أتمكن من تعلم القراءة، وأيضًا كنت أشعر بعجزي عن إتقان العمل اليدوي. العمل، بالنسبة لكل من كنت أعرفهم، كان معناه فعل أشياء لم أكن أتقنها، والعمل هو ما كان الناس يباهون به على بعضهم بعضًا، ويقيسون به أقدارهم إلى أقدار غيرهم. (بدهي أن الأعمال التي كنت أعرفها، مثل الأعمال التي كنت أقوم بها في المدرسة، كانت موضع ازدراء واضح)، ولذلك كانت مفاجأة بالنسبة لي وانتصارًا أيضًا أنني لم أُفصل، وأني استطعت أن أقوم بعملي في تنظيف الديكة الرومية بشكل ليس بالمشين. لا أعرف إلى أي مدى كان “هيرب أبوت” مسئولا عن هذا أم لا، ولكن كان يشجعني، كان يقول لي:  “بنت مية مية”، أو يربت على وسطي ويقول: “عما قريب ستتقنين تنظيف الديكة، وسيكون لك مستقبل في هذا العالم”، فأحس بلمسة يده السريعة من خلال السويتر والروب المخضب بالدم الذي كنت أرتديه، كنت أشعر بوجهي يتوهج، كما كنت أحس برغبة في الاتكاء ناحيته وهو واقف خلفي. كنت أريد أن أريح رأسي على منكبيه العريضين اللحيمين. وعندما كنت أعود إلى فراشي آخر الليل، أرقد على جنبي، كنت أحك وجنتي على المخدة وأتخيل أنهما منكبي “هيرب”.

كنت مهتمة بما يدور بينه وبين جلاديس من حديث، كيف ينظر إليها، وكيف يراقبها. لم يكن هذا الاهتمام لـه علاقة بالغيرة، في الواقع كنت أريد أن يحدث بينهما أمر ما. أنتظر حدوث حادث طارئ غير منتظر، وكذلك كان حال لِلِي ومارجوري. كنا جميعًا نريد أن نرى تجلياته الجنسية، نسمعها في صوته، لا لأننا نريد أن نعرف كيف يجعله هذا مختلفًا عن كل الرجال، ولكن لأننا نعتقد أن الأمور ستكون مختلفة في حالته. كان لطيفًا معنا، وأكثر صبرًا من أغلب النساء، كما كان قويًّا حازمًا وبعيد المنال مثل أي رجل. كنا نريد أن نعرف كيف تحركه النساء.

إن كانت جلاديس تريد ذلك أيضًا فإنها لم تبدِ أية علامة على ذلك، فمن المستحيل عليَّ أن أتحدث عن رغبات مثلها من اللائي لم تكن تظهر عليهن الرغبة، أو إن كُنّ يختنقن بنيران أسى وبصبابات سدى.

كانت مارجوري ولِلي تتحدثان عن الزواج، لم تتحدثا عنه بخير، وإنما عن أنه شر لابد منه. قالت مارجوري إنها بعد أن تزوجت بوقت قصيرة مضت إلى مخزن الحطب تريد أن تسمم نفسها وتموت. قالت:

“كنت أريد أن أفعلها، ولكن الرجل نزل من شاحنة محملة بالبقالة وكنت مضطرة إلى الخروج وشراء بعض الخضروات، هذا عندما كنا نعيش في المزرعة”.

كان زوجها قاسيًا معها في تلك الأيام، ولكنه بعد ذلك حصل لـه حادث، سقط أمام جرار، وأُصيب إصابة بالغة أورثته العجز بقية حياته، انتقلا إلى المدينة، وأصبحت مارجوري هي الريس الآن.

“من فترة بدأ يمط بوزه إلى الأمام وقال إنه لا يريد أن يتعشى، أمسكت بيده ورفعتها إلى أعلى، وكان خائفًا من أن أكسر يده، صحت فيه: “لا تريد ماذا؟” رد: “سوف أتعشى”.

كانتا تتحدثان عن أبيهما، رجل من المدرسة القديمة، وكان يحتفظ بفلكة في مخزن الحطب (ليس مخزن الزرنيخ – هذا في مزرعة أخرى)، وعندما كانتا تجعلاه عصبيًّا، كان يأمرهما بأن تقفا في طابور ويهددانهما بالشنق. لِلِي التي كانت الأصغر، تظل ترتجف حتى تسقط مغشيًّا عليها. هذا الأب نفسه هو الذي خطط لتزويج مارجوري لصاحب لـه عندما كانت في الخامسة عشرة، وهو الزوج الذي جعلها تريد أن تبتلع السم. فعل ذلك أبوها لأنه كان يريد أن يتأكد ألا تتورط في مشكلة.

“مأزق”، قالت لِلِي .

وأنا أحسست بالرعب، سألت: “لماذا لم تهربي؟”

قالت مارجوري.

“كانت كلمته قانونًا”.

قالتا إن ذلك كان أسلوبهما في التعامل مع الأولاد في تلك الأيام – وإلا سيطر الصغار على الكبار. كلمة الأب يجب أن تكون قانونًا، لقد قامتا على تربية أولادهما بالشدة والقسوة، ولم يحدث انحراف حتى الآن. فعندما يبول ابن مارجوري على السرير كانت تهدده بأن تقطع عضوه بساطور المطبخ، وهذا ما جعله يرتدع ويتوب عن فعلته.

قالتا إن تسعة وتسعين في المائة من البنات هذه الأيام يشربن ويشتمن ويكذبن. ليس لهما بنات، ولو كان لهما بنات وارتكبن أي من هذه الأفعال لتعرضن للضرب المبرح.

قالتا إن أيرين كانت متعودة تذهب إلى مباريات الهوكي بكلسون التزلج مشقوقًا، وليس تحته شيء، ليسهل تعاملها مع الثلج المتكوم بعد ذلك. فظيعة. 

أردت أن أبين بعض التناقضات: أن مارجوري ولِلِي نفسيهما يشربان ويشتمان، ثم ما الرائع في ذلك الأب الذي يضمن لك الشقاء طوال حياتك؟ (فقد لاحظت أن مارجوري ولِلِي لم تكونا سعيدتين في حياتهما قط – ربما بسبب إحساسهما بالعقوبة القديمة، وعُجبهما وغرورهماونمط حياتهما). كنت أغضب في ذلك الوقت بسبب عدم وجود المنطق في أغلب حديث الكبار؛ طريقتهم في التمسك بأحكامهم التي يطلقونها بصرف النظر عن الأدلة عليها أو على نقيضها. عرفت أيضًا كم كانت أيدي هؤلاء النسوة ماهرة تستحق أن تُغَلف في الحرير، رقيقة وحاذقة، فقد عرفت أنهن يتقن أكثر من مهنة يدوية بنفس المهارة التي ينظفن بها أحشاء الديكة، كُنَّ يتقن تنجيد الألحفة والرفو والطلاء والتوريق أي تثبيت الورق على الحوائط وعجن الدقيق ووضع الشتلات، ومع ذلك تفكيرهن عشوائي أحمق يثير السخط؟

قالت لِلِي إنها لم تكن تسمح لزوجها أن يمسها عندما يكون في حالة سكر. وقالت مارجوري إنها منذ أن مرت بحالة نزيف دموي كاد يقضي عليها، لم تسمح لزوجها أن يمسها. الدورة. وقالت لِلِي بسرعة إن زوجها لم يكن يحاول أي شيء معها إلا عندما يكون في حالة سكر. وأستطيع أن أفهم أن الغرور هو الذي جعلك لا تسمحين لزوجك أن يمَسك، ولكني لا أصدق تمامًا أن حكاية “يمَسك” هذه معناها الجنس. فكرة أن مارجوري ولِلِي تجدان من يسعى إليهما لهذا الغرض فكرة مضحكة وغريبة. فقد رزقتا بأسنان قبيحة وبطنين متدليتين ووجهين جامدين غليظين مليئين بالبقع. قررت أن أفهم كلمة “يمَس” بالمعنى الحرفي لها.

***

كان الأسبوعان السابقان للكريسماس فترة اضطراب وهياج في محل الديكة الرومية. قررت الذهاب إلى هناك قبل ساعة من المدرسة وأيضًا بعد المدرسة وكذلك في عطلات نهاية الأسبوع. وعندما كنت أمشي إلى العمل في الصباح كانت أضواء الشوارع ونجوم الصباح الباكر لا تزال متألقة. هناك كان محل الديكة الرومية، على حدود غيط شاسع، يحفه صف طويل من أشجار الصنوبر الضخمة، ترتفع فروعها وأغصانها فوق المحل، محدثة أصواتًا تشبه الصفير أحيانًا، وتضفي على المحل برودة وصفاءً. لم أكن أتوقع وأنا في طريقي إلى محل الديكة الرومية، لساعة أنظف فيها الديكة مما في داخلها، أن أكون على موعد مع تجربة فريدة تنكشف عن سر مستغلق في هذا الكون العجيب، ولكن حدث. وكان السر لـه صلة بـ “هيرب أبوت”، وأيضًا الطقس البارد – تلك السلسلة من نوبات البرد الصباحية. أمور أسمع بها، ولكن هل لها علاقة بالواقع؟ لا علم لي.

في صباح أحد الأيام جاء إلى محل الديكة الرومية ضيف جديد مهمته تنظيف الديك من الداخل أيضًا، كان هذا الضيف غلامًا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمره يُدعى “برايان”. ويبدو أنه قريب، أو ربما صديق لـ “هيرب”. كان يمكث مع هيرب. كان يعمل في زوارق البحيرة في الصيف الماضي،  قال إنه تعب من العمل في القوارب، وتركها،  وقال بالحرف: “آه.. القوارب الشرموطة، تعبت منها”.

كانت اللغة في محل الديكة الرومية فظة فجة وحرة منطلقة، ولكن الكلمة التي قالها برايان لم تكن مألوفة ولا شائعة في المكان، أضف إلى ذلك أن استخدام برايان لها وشت برعونته وطيشه، ونغمته دلت على اختياله وزهوه، امتزج فيها السب بالاستفزاز. ربما كان أسلوبه الغالب عليه هو الذي دفعه إلى ذلك، فقد كان جميل الطلعة بصورة مدهشة، له شعر متموج جميل، وعينان زرقاوان متهللتين، وبشرة حمراء أقرب للون الورد، وقوام متناسق، هيئة حسنة لا يحيد عنها الناظر لحظة من اللحظات. غير أن انطباعًا واحدًا شديد القسوة لازم الفتى حَوَّل حسناته تلك إلى مساحة للسخرية. كان فمه رطبًا مواربًا أغلب الوقت، وكانت عيناه نصف مغمضتين، على محياه نظرة شزراء خبيثة، وكانت حركته بليدة خاملة، مبالغ فيها، مفعمة بالإغراء. ربما لو قدر لـه أن يقف على مسرح، وفي يديه ميكروفون، وجيتار، ثم ينطلق في الصياح كالخنازير، أو في النباح كالكلاب، أو التلوي كالديدان، لهيج واستفز، ولبدا محتفلاً صميمًا. أما وهو بعيد عن خشبة المسرح، فإنه عاجز واهن. ولم يمض زمن طويل على مكوثه في المحل حتى بدا أشبه بمن يعاني من فُواقِ مزمن، حميميته اللجوج ثقيلة وفارغة. 

لو يخفف من نبرة صوته لربما رضيت عنه مارجوري ولِلِي. ألعوبة استمرآها معه أن تطلبا منه أن يغلق فمه الملوث، وأن يحفظ يديه عند جنبيه ولا يمدهما إلى شيء. قالتا إنهما سئمتاه غاية السأم، وملتاه غاية الملل، وكانتا تعنيان ذلك. مرة تناولت مارجوري الساطور التي تنظف به الديكة وأشارت به إليه وهي تقول: “ابعد عني، وعن أختي، ولا تلمس هذه الطفلة”. 

ولم تطلب منه أن يبتعد عن جلاديس أيضًا؛ لأن جلاديس لم تكن هناك في ذلك الوقت، وربما تشعر مارجوري بأنها ليست متحمسة لحماية جلاديس منه. فجلاديس هي التي كان يحب أن يضايقها برايان. كانت ستلقي بسكينها، وتخلي حجرة الشطف، وتمكث هناك عشر دقائق، وتخرج بوجه في قسوة الحجر. لم تعد تدعى المرض وتطلب الذهاب إلى البيت كما كانت تفعل في الماضي. قالت مارجوري إن مورجان كان غاضبًا من جلاديس بسبب التدخل، وإنها لم تعد تعرف كيف تتصرف.

قالت لي جلاديس: “لا أستطيع أن أتحمل هذا الشيء، لم أعد أحتمل ذكر هذا الشيء أمامي … ، إنه يسبب لي الاستياء، يجعلني أريد أن أتقيأ”.

صدقتها. كانت بريئة إلى أقصى حدود البراءة،  إلى حد مخيف. لكن لماذا، في هذه الحالة، لم تشك إلى مورجان؟ ربما كانت العلاقة بينهما غير مريحة بالمرة، ربما لم تتحامل على نفسها وتكرر أو تصف مثل هذه الأمور. لماذا لم يشكُ أي منا؟ إن لم يكن لـ مورجان، فعلى الأقل لـ “هيرب”؟ لم أفكر في ذلك الأمر. برايان بدا أنه شيء يمكن احتماله، مثل البرد القارس في عنبر تنظيف الديكة ورائحة الدم والبراز. عندما هددت مارجوري ولِلِي بالشكوى، كانت الشكوى عن كسل برايان.

لم يكن ماهرًا في التنظيف، كان يقول إن يديه كبيرتين إلى حد كبيرًا جدًا، ولذلك كان هيرب يعفيه من التنظيف، ويخبره أن يمسح المحل وينظفه، يجمع أحشاء الديكة في كومات ضخمة، ويساعده في تحميل الشاحنة. هذا معناه أنه لن يضطر إلى أن يكون في مكان واحد، أو يقوم بعمل واحد في وقت محدد، ولذا كان أغلب الوقت لا يفعل شيئًا. كان يبدأ في التنظيف، ثم يترك التنظيف ويبدأ في تنظيف الطاولات، ثم يترك الطاولات ويبدأ في تدخين سيجارة، ثم يطوف حول المائدة ليضايقنا حتى ينادي عليه هيرب ليعينه على تعبئة الشاحنة. كان هيرب مشغولاً جدًا الآن، وكان يقضي وقتًا طويلاً في إيصال الطلبات، ولذا من الممكن أنه لم يكن يعرف مدى إهمال برايان وتقاعسه.

قالت مارجوري: “لا أعرف لماذا لم يفصلك هيرب؟ الإجابة هي أنه لا يريدك أن تتسكع متطفلا عليه، دون مكان يؤيك”.

قال برايان: “إني أعرف وجهتي”.

قالت مارجوري: “بحق الجحيم إغلق فمك المعفن، كان الله في عون هيرب، تورط فيك”.

في آخر يوم مدرسي قبل الكريسماس خرجنا مبكرًا، في أول ساعات العصر، ذهبت إلى البيت وغيرت ملابسي وجئت إلى العمل في المحل في حوالي الثالثة بالضبط. لم يكن أحدًا هناك. كان الجميع في عنبر التنظيف، وكان مورجان إليوت يلوح بساطور على طاولة التنظيف وهو يصيح، لم أفهم في البداية فيم كان صراخه، واعتقدت أن شخصًا ما ارتكب خطأً كبيرًا ما يتصل بالعمل، ربما أنا. ثم رأيت برايان على الجانب الآخر من الطاولة، يبدو كالح الوجه واجمًا وذليلاً، ولا يزال ظل الشبق الخبيث يلوح على وجهه، بل يزداد ممتزجًا بنظرات احتداد وغيظ وبعض الخوف. حان الوقت. ظننت أن برايان لا محالة مفصول بسبب كسله وتراخيه في العمل. حتى بعد أن سمعت مورجان يتلفظ بألفاظٍ مثل “المنحرف” و “القذر”، و”المعتوه”، كنت لا أزال أحسب أن ذلك كل ما حدث. مارجوري ولِلِي، وحتى إيرين السوقية، كن يتحلقن حول مورجان وتلتمع عيونهن بنظرات كاسفة حزينة وخاشعة، قريبة بنظرات الأطفال حين يتعرضون للوم في المدرسة. نستثني من ذلك هنري العجوز الذي علت وجهه تكشيرة حذرة. وأما جلاديس فلم يرها أحد. كان “هيرب” يجلس قريبًا من مورجان، أقرب منه من أي شخص آخر. لم يتدخل ولكنه كان يركز بصره على الساطور. كان مورجي مضطربًا ويصدر صوتًا أشبه بالنحيب رغم عدم ظهور علامات على خطر وشيك على وجهه. 

كان مورجان يصيح في برايان أن يخرج يقول لـه: “اخرج أيضًا من البلد – فاهم – اخرج من البلد ولا تنتظر حتى الصباح إذا كنت تريد لعجيزتك أن تظل قطعة واحدة، اخرج قلت لك!” في نفس الوقت كان يلوح بالساطور في الهواء بصورة درامية. واتجه برايان ناحية الباب، ولكنه، وسواء كان يعني ذلك أم لا، لاحت منه “هزة” من ردفيه فيها استهزاء ساخر، مما جعل مورجان ينفجر بزئير مجلجل، ويجري خلف الغلام ملوحًا بالساطور بطريقة مسرحية، وواصل برايان الجري، وجرى مورجان وراءه، وصرخت أيرين وأمسكت بمعدتها. كان مورجان ثقيلاً إلى أبعد حد فلا يستطيع الجري لأي مسافة، وربما لا يستطيع أن يرمي بالساطور بمسافة بعيدة ايضًا. كان هيرب يراقب المشهد من عند الباب. وسرعان ما عاد مورجان وألقى بالساطور على الطاولة. وصاح في الجميع:

“ليعد الجميع إلى عمله! لا مزيد من التحديق ببلاهة! لا ندفع لكم الأموال من أجل التحديق! علام تنظرون؟” وكان ينظر إلى أيرين بقسوة.

قالت أيرين بشيء من اللين: “لا شيء”.

“إذا كنت من المتطفلين …  اخرجي من هنا”.

“لا”.

حسنًا، حسنًا!”.

وعدنا إلى أعمالنا، وخلع هيرب الروب الملطخ بالدم وارتدى جاكتته وخرج، ربما ليتأكد من أن برايان يوشك أن يستقل أوتوبيس العشاء. لم ينبس ببنت شفة. وخرج مورجان وابنه إلى الفناء، وعادت أيرين وهنري إلى العنبر المجاور، حيث استأنفا التنظيف، وراحا يزيلان الريش الذي كان من المفترض أن يزيله برايان كجزء من مهامه. قلت بشيء من الهدوء: “وأين جلاديس؟”

“تتعافى”. أجابت مارجوري. هي أيضًا تحدثت بصوت أكثر هدوءًا من المعتاد، وكلمة “تتعافى” لم تكن من الكلمات التي كانت هي ولِلي تستخدمانها، فهي تنطبق على جلاديس، وبنية السخرية.

لم تبديا رغبة في الخوض فيما حدث؛ فقد كانتا تخشيان من مورجان أن يدخل فجأة ويضبطهما فيفصلهما. عاملتان طيبتان مثلهما، تعملان حسابًا لهذه اللحظة. أضف إلى ذلك أنهما لم تريا شيئًا رأي العين. ولابد أنهما تضايقتا لأنهما لم تريا شيئًا رأي العين.  كل ما اكتشفتاه بعد ذلك أن برايان إما أنه فعل شيئًا لجلاديس أو أظهر لها شيئًا وهما يخرجان من حجرة التنظيف، ثم بدأت جلاديس بعدها تصرخ وتدخل في نوبة هيستيرية.

 قالوا لهما إنها ربما دخلت الآن في انهيار عصبي جديد، وأن برايان في طريقه إلى خارج البلد .. في ستين داهية. 

أحتفظ بصورة للطاقم الذي كان يعمل في محل الديكة، التُقِطت عشية عيد الميلاد بكاميرا فلاش كانت ملكًا لإحداهن، من نفحات الميلاد النادرة، أعتقد أنها كانت ملكًا لأيرين. لابد أن هيرب أبوت هو الذي التقط الصورة بوصفه الوحيد الذي كان يؤتمن على تَعَلُّم الأشياء الجديدة بالسرعة الكافية، واستخدامها أيضًا، وكانت الكاميرات الفلاش جديدة في ذلك الوقت. ألتُقِطت الصورة في نحو الساعة العاشرة عشية عيد الميلاد، بعد أن عاد هيرب ومورجي من جولة التوصيل الأخيرة، وبعد أن فرغنا من تنظيف طاولة تقطيع الديكة وتنظيفها، ومن مسح الأرضية الأسمنتية. نزعنا أروابنا الملطخة بالدم، وجواكتنا الثقيلة ومضينا إلى الحجرة الصغيرة التي يقال لها حجرة الغداء، حيث توجد مائدة وسخان. كنا لا نزال نرتدي ملابس العمل: بدلة الشغل والقميص. وكان الرجال يضعون القبعات، والنساء يعقدن المناديل على رؤوسهن على موضة زمن الحرب. كنت بدينة ومرحة ومحبة للعشرة، تحولت في الصورة إلى شخص لا أعرفه أو أتذكره. ظهرت أكبر من فتاة في الرابعة عشرة. كانت أيرين الوحيدة التي نزعت منديلها من فوق رأسها، مطلقة شعرها الطويل الأحمر، ترسل من خلاله نظرات وديعة مغناج مغرية تتسق مع ما عُرف عنها، ولكنها كانت مختلفة عن النظرات التي تعودناها منها. إذن كانت هي صاحبة الكاميرا، وتعرف وضعية التصوير بهذه النظرات الحالمة، أكثر من أي منا. كانت مارجوري ولِلي تبتسمان بطريقة رسمية، ولكنها ابتسامات بغيضة نكدة، وعندما أخفيتا شعريهما بدا هيكليهما مثل كومتين من اللحكم المتراكم، وانحسرت الصورة عن عاملتين راسختين فكهتين ولكنهما عنيفتين. بدا منيدلاهما في الصورة في غير موضعهما، أفضل لهما لو استبدلتا بهما قبعتين. كان هنري يبدو مرحًا، سعيدًا بالصحبة في العمل، تعلو وجهه ابتسامة عريضة يبدو بها أصغر من سنه بعشرين عامًا. ثم مورجي بنظرته البائسة الحزينة، لا يركن إلى أريحية المناسبة، ومورجان المحتقن بالدم والتسلط والرضى، وقد فرغ من توزيع العطايا، لكلٍ ديك نزع منه ورِك أو جناح، أو جزء منه أفضى إلى تشويهه بصورة أو بأخرى، فلا يُقبل البيع بالسعر المعروف. ولكن مورجان وجد عنتًا في أن يخبرنا بأننا ظفرنا بخير اللحم من هذه الديكة المشوهة، وأورانا أنه هو نفسه آخذ واحدًا منها إلى أهل بيته.

كنا جميعًا نمسك بأقداح، أو بكؤوس صينية سميكة، لم تكن تحتوي على الشاي المعتاد، وإنما على ويسكي الراي. كان مورجان وهنري يشربان منذ بداية العشاء، وقالت مارجوري ولِلي إنهما تريدان قليلاً منه، وربما لا تحتسيان شيئًا لأن الليلة عشية عيد الميلاد، وكانتا تقفان على قدميهما مدة طويلة. وقالت إيرين إنها واقفة على رجليها مدة طويلة أيضًا، ولكن ليس هذا معناه أنها لا تشرب إلا القليل. وصب هيرب في الكؤوس بكرم زائد، ليس لها فقط، وإنما لللي ومارجوري أيضًا، ولم تعترضا. راح يصب في كأسي وكأس مورجي بتقتير شديد، ثم صب الكوكاكولا. كنت أول مرة أذوق الويسكي ممتزجًا بالكوكاكولا، ومن الآن فصاعدًا رحت أعُد الويسكي الممتزج بالكوكاكولا شرابًا عاديًا أطلبه على الدوام إلى أن اكتشفت أن هناك من يشربه هكذا وأنه يمرضني، رغم أني لم أتعرض لمرض في عشية عيد الميلاد تلك، فلم يعطني هيرب الكثير منه. كان أقرب إلى الكوكاكولا إلا بعض غرابة في الطعم، وإحساسي به.

لا أريد أن يرى هيرب كيف كان يبدو في الصورة، كان يبدو طبيعيًّا، مثلما كان يبدو وهو في محل الديكة الرومية، وفي المرات القليلة التي رأيته فيها في الشارع – كما بدا في جميع المرات التي رأيته فيها، إلا في مرة واحدة.

هذه المرة هي التي بدا فيها وكأنه ليس هو، عندما كان مورجان يلعن برايان، وبعد ذلك عندما هرب برايان متجهًا إلى الطريق العام. ما فحوى تلك النظرة المختلفة؟ حاولت أن أتذكر؛ لأني درستها جيدًا في ذلك الوقت. كانت نظرة مختلفة جدًا. بدا وجهه حينئذٍ حالمًا بليدًا، وإذا أردنا أن نصف تعبيرات وجهه يمكننا أن نقول إنها تعبيرات الخجل. ولكن فيم الخجل؟ الخجل من برايان، من الطريقة التي تصرف بها؟ ومتى تصرف برايان غير ذلك؟ الخجل من مورجان لا حتدامه وغضبته الجائحة على الغلام؟ أم من نفسه؛ لأنه كان مشهورًا بإيقاف المعارك ومثل هذه العروض وهي في المهد ولم يأتِ بمثلها في هذا المكان؟ هل خجل من أنه لم يدافع عن برايان؟ هل كان يُفترض أن يفعل ذلك، أن يدافع عن برايان؟

تأملت كل ذلك في وقته بالتساؤلات: وفيما بعد، بعد أن كبرت وعرفت أكثر، عن الجنس على الأقل، أن برايان وهيرب عاشقان، وأن جلاديس كانت تسعى إلى لفت انتباه هيرب، وأن هذا هو السبب الذي كان برايان من أجله يستهزئ بها، سواء باتفاق مع هيرب أو بدون اتفاق. أليس حقًا أن شخصًا مثل هيرب – المحترم الكتوم الموقر – يختار صبيًا مثل برايان ويضيع عواطفه البائسة مع شخص أثيم سافل غبي – لا هو بالشرير ولا هو بالوحش المخيف ولكن مجرد تافه مزعج؟ قررت بيني وبين نفسي أن هيرب، رغم دماثته واهتمامه بنا، كان يثأر لنفسه منا جميعًا، لا من جلاديس وحدها، ولكن منا جميعًا، مع برايان، وأن ما كان يشعر به عندما تأملت تعبيرات وجهه لم يكن إلا ازدراءً ممتزجًا بالنشوة والهمجية. إنه الحرج أيضًا، الحرج من براين، والحرج من نفسه، والحرج من جلاديس، وإلى حد ما منا جميعًا.

ومضت الأيام وتخليت عن التفسيرات السطحية، وصلت إلى مرحلة أضرب فيها صفحًا عن الأمور التي لا أفهمها فهمًا حقيقيًّا. يكفيني الآن أني أفكر في وجه هيرب والنظرة الغريبة التي علت وجهه وفيها ظلال النكبة، وأن أفكر في برايان وهو يلعب في عنبر كرامة هيرب، وأن أفكر في صلتي الغامضة بـ هيرب، ورغبتي في ضبطه ملتبسًا بمصيبة، إن جاءت الفرصة، ثم أنتقل إلى جواره أو قريبًا منه. كم هو جذاب وشهي، أمل القرب بشخص ميئوس من قربه، أين لي برجل مثله يعد ويخلف، لا زلت في حاجة إلى معرفة المزيد من أسرار الكون، لا تهمني الحقائق ولا النظريات.

عندما فرغت من كأسي أردت أن أقول لـ هيرب شيئًا، وقفت بجواره وانتظرت إلى أن حانت اللحظة التي لم يكن فيها يتحدث مع أحد أو يستمع إلى أحد، وعندما تأكدت أن الأحاديث لم تحرق ما أردت قوله:

“قلبي معك أن صاحبك تركك”.

“تمام”.

كان هيرب يتحدث بلطف وبشيء من الابتسام، حيل يستخدمها عندما يريد أن يجهض حديثًا في المهد، أو يغلق موضوعًا في مستهله. عرف ما كنت أقصده، ولم يطمع في المزيد، خبرة اكتبسها من كثير غيري.

وصبت لِلِي مزيد من الويسكي في كأسها، وحكت كيف ارتدت هي وصديقتها (توفيت بفشل كبدي)، ملابس رجالية، وذهبتا إلى ركن الرجال في صالة البيرة، الركن الذي عُلِقت عليه لافتة مكتوبًا عليها “للرجال فقط”؛ لأنهما كانتا تريدان أن تعرفا كيف كان يبدو. جلستا في ركن تحتسيان البيرة وعيونهما وآذانهما مفتوحة، ولم ينظر إليهما أحدٌ مرتين، ولم يشك فيهما أحد، ولكن مشكلة نشأت.

“إلى أين نحن ذاهبتان؟ إن مضينا إلى الركن الثاني، ورآنا أحد متجهتين إلى ركن النساء، سيصرخن في وجوهنا كأن القتلة قادمون. وإن تحركنا إلى ركن الرجال لاحظنا أحدهم، في الوقت نفسه بدأت البيرة تلعب في رؤوسنا:

“ما لم تصنعينه حينما كنت صغيرة!” قالت مارجوري.

كثيرون نصحوني ونصحوا مورجي. قالوا لنا أن نلتمس المتعة على قدر الاستطاعة. وقالوا لنا أن نبتعد عن المشاكل. وقالوا لنا إنهم كانوا صغارًا مثلنا في يومن الأيام. قال هيرب إننا كنا مجموعة طيبة وقمنا بعمل جيد، ولكنه لم يرغب في الدخول في مشاكل مع أي من أزواج النساء إن هو استبقاهن إلى وقت متأخر من المساء. ولم تبد مارجوري ولِلي اكتراثًا بزوجيهما، ولكن أيرين قالت إنها كانت تحب زوجها، وليس صحيحًا أنه استُدعي من ديترويت ليتزوجها، بصرف النظر عما يقوله الناس. قال هنري إن الحياة الزوجية ممتعة ما لم يصبها الوهن، وتمنى مورجان لنا مخلصًا عيدًا ميلاديًا سعيدًا.

عندما خرجنا من محل الديكة الرومية كانت الثلوج تتساقط في الخارج، للِي قالت إن السماء تبعث ببطاقة الميلاد، وهذا صحيح، كانت الثلوج تدور حول مصابيح الشوارع في المدينة، وحول المصابيح الملونة التي وضعها الناس عند مداخل بيوتهم. تبرع مورجان بتوصيل هنري وأيرين بشاحنته، رفقة بهما بمناسبة السن والحمل وعيد الميلاد. اختصر مورجي الطريق عبر الحقول، وأما هيرب فقد ترجل واضعًا يديه في جيوبه، يمشي متدحرجًا كأنه على ظهر قارب صيد. شابكت مارجوري ولِلِي أيديهما بيدي كأننا رفاق منذ القدم. قالت لِلي:

“تعالوا نغني، ماذا نغني؟”

قالت مارجوري:

“أغنية الملوك الثلاثة”؟، نحن منظفو الديكة الثلاث”؟

“أنا أحلم بعيد ميلاد أبيض مصحوب بثلوج”

“ولم تحلمين؟ ها نحن فيه؟”

وطفقنا نغني.


*أغنية شاعت بعد وقف إطلاق النار في الحرب العالمية الأولى. المترجم.