أشرف عكاشة

القصة القصيرة، وأثر القهر في تشكيل الشخصية: اشرف عكاشة

نماذج قصصية من الصعيد

**** ** * ** ****

أشرف محمود عكاشة

على سبيل التمهيد:

إن أهم ما يميز القصة القصيرة، أنها جنس أدبي قابل للتشكل والتعدد في الشكل والمضمون، فضلا عن سهولة نشرها وقراءتها. ومن حيث المضمون، فهي قادرة على التعبير عن كافة المضامين الذاتية والعامة بالوصف الخارجي، وتعدد الضمائر، وتوظيف الأحلام والأسطورة، والاسترجاع واستشراف المستقبل.

فتعكس وعي وتصورات كاتبها، وتكشف عن قدراته ورؤيته المتفاعلة مع الواقع، ومع تقنيات القصة واستشراف الجديد دوما، هنالك شبه اتّفاق على أنَّ القصّة القصيرة نصٌّ يسرد حدثاً يتعلّق بشخصيّة «عادةً إنسانيّة» وتصف رد فعلها ومشاعرها تجاه هذا الحدث. وهذا يعنى أنّ نواة القصّة القصيرة حكاية، وتتوفّر عادة، وليس دائماً، على عناصر ثلاثة هي:

أولاً: عرضٌ تعريفيّ بالشخصيّة.

ثانياً: نمو الحدث وتطوُّره.

ثالثاً: الصراع الدراميّ الذي يحتدم في مواقف الشخصيّة وسلوكها ومشاعرها.

وتتناول القصّة القصيرة تلك العناصر بصورةٍ مُكثَّفة وتعالج موضوعةً واحدة، بحيث تترك أثراً واحداً في نفس القارئ، يُطلق عليه في مصطلحات هذا الفنِّ «وحدة الأثر»، ولكن حتّى لو استخدم كُتّاب القصّة القصيرة هذه العناصر نفسها في قصصهم، فإنّهم يتباينون على مستوى البناء النصيّ ومكوِّناته المختلفة، ويتفاوتون من حيث مراجع السرد وروافده.(على القاسمي سيدة المرايا سيدة القصة القصيرة قراءة في مجموعة عبد الجبار السحيمي).

الشخصية وأهميتها في القصة القصيرة:

الشخصية لغة: «هو سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد , يقال ثلاثة أشخص, والكثير شخوصٌ وأشخاصٌ».(إسماعيل بن حماد الجوهري معجم مختار الصحاح ج3/ 1042), وبالنظر إلى هذا المعنى «استعمل في ذاته , والشخص كل جسم له ارتفاع وظهور, والشخوص: السير من بلدٍ إلى بلد, وشخص بمعنى ارتفع , وشخص الشيء عينه وميزه مما سواه , والشخصية صفات تميز الشخص من غيره».(مجمع اللغة العربية المعجم الوسيط ج1/ 478).

الشخصية اصطلاحا: فإن «مصطلح الشخصية يضم أية سمة أو صفة لها صلة بشكلٍ أو بآخر بقدرة الفرد على التكيف في محاولته الحفاظ على احترامه لذاته. ومن هنا يمكن القول بأن أي وصف ٍ لشخصية الفرد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مظهره العام وطبيعة قدراته ودوافعه , وردود أفعاله العاطفية , وكذلك طبيعة الخبرات التي سبق أن مر بها ,ومجموعة القيم والاتجاهات التي توجه سلوكه. إن مفهوم الشخصية اصطلاح عام وشامل»(عبد الرحمن عدس وأخرون مدخل إلى علم النفس ص271).

«تعد الشخصية في علم النفس المصدر الرئيس للظواهر الإنسانية معظمها التي تشمل الميول والاستعدادات الجسمية والعقلية والنفسية كافة التي تتفاعل بعضها مع بعض , لتحقق ذاتها وأسلوبها الخاص للتكيف مع البيئة الاجتماعية».(د. فيصل عباس الشخصية في ضوء التحليل النفسي ص11-12).

والشخصية هي «أحد الأفراد الخياليين أو الواقعين الذي تدور حولهم احدث القصة».(معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب/ 217).

كما تعرف الشخصية بأنها «نظام ينشئه النص تدريجيا , لكنها لا تقدم في بداية ظهورها هوية ,ً فهي في البداية شكل أو بنيةٌ عامة , وكلما أضيف إليها خصائص أضحت معقدةً غنية مرغبةً من دون أن تفقد هويتها الأصلية».(معجم السرديات ط1 /271).

وفي الشعرية الأرسطية كانت الشخصية تعتبر ثانوية بالقياس إلى باقي عناصر العمل التخيلي وتكون خاضعة تماما لمفهوم الحدث وقد انتقل هذا التصور إلى التنظير الكلاسيكي الذي لم يعد يرى في الشخصية سوى مجرد اسم البطل أو وصفه.

ويتفق هذا مع المفهوم اللساني للشخصية فقد جرد «تودوروف» الشخصية من محتواها الدلالي وأوقفها عند وظيفتها النحوية فجعلها بمثابة الفاعل في العبارة

وأرى أن ذلك الرأي يصلح كقرين لدفع الخلط والتوهم الذي يحدث عند بعض المتلقين بين المبدع وشخوصه القصصية ولكنه ليس معيارا لقياس علاقة الشخصية بالواقع فليس بالضرورة أن تكون شخوص المؤلف محض خيال وإلا فأنى لنا أن نحكم عليها بصدقها الفني وحيويتها داخل النصوص «فيجب أن تكون الشخصية شخصية مقنعة وحيوية فعالة ومتفاعلة مع الأحداث، وذات تأثير في تصوير المواقف، وأن تحتك بينها وبين نفسها أو مع الشخصيات الأخرى؛ لبناء الصراع الذي يضفي على القصة نجاحاً أكبر كلما كان أكثر عمقاً» (عزيزة مريدن القصة والرواية دار الفكر دمشق 1980 ص 27، 28).

«إن وجود الشخوص في أي عمل قصصي أمر حتميّ، فالعمل القصصي لا تقوم له حكاية دون شخوص ينشأ بينهم صراع، ينمي الأحداث ويصعدها، فلا يكفي الحدث وحده في بناء قصة ما»(عزيزة مريدن مرجع سابق ص28).

ولكي تكون الشخصية القصصية عنصراً مقنعا في القصة ,يجب أن تكون متطورة وذات أبعاد تحددها ,كالحوافز والدوافع التي تدفعها للقيام بعمل ما, وتحدد الشخصية أيضا بملامحها وتصرفاتها والتي تزيدها عمقاً ومتانة, كما يجب أن تكون شديدة الارتباط بالحدث مؤثرة فيه , ومتأثرة به.(حسين القباني فن القصة القصيرة ص69).

وتحدد أبعاد بناء الشخصية في القصة القصيرة كالتالي:

الأبعاد الثلاثة للشخصية، وهي:‏

– البعد الجسمي أو البراني ويشمل المظهر العياني والسلوك النافر.‏

– البعد النفسي أو الجواني، ويشمل الحالة المتخفية والفكرية.‏

– البعد الاجتماعي ويتعلق بمكانة الشخصية في حلبة المجتمع ومحيطها وظروفها.(مصطفى اجماهيري الشخصية في القصة القصيرة).

بينما تصنف الشخصية كالتالي:

الشخصية الرئيسية: هي الشخصية الفنية التي يصطفيها القاص لتمثل ما أراد تصويره أو ما أراد التعبير عنه من أفكار وأحاسيس.

الشخصية المساعدة: على الشخصية المساعدة أن تشارك في نمو الحدث القصصي, وبلورة معناه والإسهام في تصوير الحدث. ويلاحظ أن وظيفتها أقل قيمة من وظيفة الشخصية الرئيسية.

الشخصية المعارضة: وهي شخصية تمثل القوى المعارضة في النص القصصي, وتقف في طريق الشخصية الرئيسية أو الشخصية المساعدة, وتحاول قدر جهدها عرقلة مساعيها. وتعد أيضا شخصية قوية , ذات فعالية في القصة, وفي بنية حدثها, الذي يعظم شأنه كلما اشتد الصراع فيه بين الشخصية الرئيسية والقوة المعارضة.(محسن بن ضياف، يوسف إدريس كاتب القصة القصيرة ص 89)

وتعد البحوث التي أنجزها كل من “غريماس” و”كلود بريمون” و”رومان ياكبسون” و”تزفيتان تودوروف” و”فيليب هامون” من أهم ما كتب من أفكار حول تحليل الشخصية في النص السردي. وبسبب ازدواجية موقع الشخصية بين البناء والخطاب، فإنها تدرس كوظيفة (تركيب) وكمصدر لوجهة النظر (خطاب).(تودروف: مفاهيم سردية 72/ ص73).

ويجمل “فيلب هامون” النظريات اللسانية، في دراسته للشخصية، ويصنف الشخصيات إلى ثلاث فئات:

أ ـ فئة الشخصيات المرجعية.

ب ــ الشخصيات الواصلة.

جـ ــ الشخصيات المتكررة (التكرارية):

ودرس هامون الشخصية بصفتها (علامة) وحدة دلالية فيحللها من ثلاث جوانب:

1- الشخصية كمدلول. 2- الشخصية كدال. 3- مستويات الوصف.

ويذهب مصطفى إجماهيري في رصده لتقسيمات الشخصية إلى الحديث عن تنوع الشخصية بحسب سماتها بالإضافة إلى الشخصية المركزية والثانوية إلى أن هناك:

– شخصية جاهزة نمطية. وهي غالباً ما تجيء مسطحة ومعكوسة فوتوغرافيا وتسمى أيضاً الشخصية الجامدة.

– شخصية نموذجية نامية، وهي مرتبطة بالظرف الحياتي، وتتميز بقدرتها على التطور مع تاريخ وأسلوب الأحداث.‏

– شخصية متوازنة نفسياً أي سكونية: وهي المحافظة على تطور نفسي واحد.‏

– شخصية معقدة نفسياً أي دينامية: وهي غير مستقرة على حال واحدة وتتحول من وضع نفسي إلى آخر.(مصطفى إجماهيري، مرجع سابق).

القهــــر وصــــوره:

والقهر لغة:«قهره قهرًا غلبه فهو قاهر» (مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط ج2 ص794 ط3)، ويقال: «أخذهم قهرًا: أخذهم بغير رضاهم/ فعله قهرًا: فعله بغير رضاه، ويقال هو قُهرَة للناس: هو يحتمل قهر الناس له»(سليمان فياض، معجم المأثورات اللغوية والتعابير الأدبية، الهيئة العامة للكتاب ط1 عام 1992م).

«القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والأخذ من فوق، وبدون رضى الشخص الآخر. وبالتالي فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره، الذي تعرض لفرض السطوة عليه من قبل المتسلط عنوة».(د. مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور).

ويربط د. حجازي بين القهر ومفهوم أخر هو الهدر فيقول: «يتفاوت الهدر بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى، وبين استبعاده وإهماله والاستغناء عن فكره وطاقاته، باعتباره عبئاً أو كياناً فائضاً عن الحاجة (كما هو شأن تعامل الأنظمة التي تستأثر بخيرات الوطن، وترى في جحافل الجماهير المغبونة والمحرومة عبئاً على رفاه المحظيين). كما قد يتخذ الهدر طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض العصبيات أو الاستبداد يضحى به في حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذي اشتعالها، أو أو الأداة التي تبجل وتطبل لسلطان مستبد وتخدم أغراض هيمنته وتوسع نفوذه. وقد يتخذ الهدر طابعاً ذاتياً كما يشاهد في الحالات المرضية التي ينخرط فيها المريض في عملية تدمير ذاتي وكياني نفسياً ومعنوياً ومكانة، أو حتى جسدياً.

ويشترك كل من الهدر والقهر في تفاقم المأزق المتراكم بحيث يصبح الوجود غير قابل للاحتمال والمواجهة. وهو ما يؤدي إلى بروز كل آليات الدفاع السلبية التي، وإن حملت توازناً بديلاً من نوع ما يجعل الحياة قابلة للاحتمال، إلا أنها تكرس الهدر والقهر وتعيد إنتاجهما».(د.مصطفى حجازي مرجع سابق).

ونستطيع أن نعدد أنماط القهر وفق أبعاد الشخصية القصصية إلى:

أ‌- القهر الجسماني. ب‌- القهر النفسي والمعنوي. ج – القهر الاجتماعي.

ويندرج تحته قهر السلطة وقهر فئات المجتمع بعضهم البعض ومن بينهم الأسرى وفاقدي الحرية والمهمشون والمرأة.

والشخصية المصرية. وهى تتعامل مع الظلم والاستبداد. إنها تدور مع المستبد. تلتف حوله. تـُظهر له الطاعة والإذعان. تـُداهنه. ترفعه لأعلى المراتب. تصل أصله بالأنبياء. ولكن يظل الجوهر هو الجوهر، الازدراء والاحتقار، وانتظار اللحظة المواتية للانقضاض والتمرد والثورة.

الشخصية بين القاهر والمقهور في نماذج قصصية من الصعيد:

إن كتاب القصة في صعيد مصر شأنهم شأن غيرهم من كتاب القصة المصرية «ينتخبون شخصيات قصصهم من بين أبناء الطبقة الفقيرة، من المُهمَّشين والمستضعفين والمسحوقين؛ ويعبِّرون عادةً عن آلامهم ومعاناتهم وإخفاقاتهم وإحباطاتهم. فالقصّة القصيرة لا تتوفر على بطلٍ يُشار إليه بالبنان ويُقلَّد بأكاليل الغار والعرفان؛ وإنّما هي فضاء يتحرّك فيه المقهورون أو المضطهدون أو المحرومون أو المخنوقة أصواتهم؛ فتصوِّر عالمهم الداخليّ وترسم أحاسيسهم الأليمة، في لحظاتِ انكسارهم وحصارهم وانهيارهم. والقصّة القصيرة لا ترمي بطوقِ نجاة إلى هؤلاء المساكين، ولا تضع المعوزين والبائسين، وهم يئنون تحت وطأة القلق المستبد والخوف الدائم، وينوءون تحت نير الاضطهاد، ويقاسون التعذيب الرهيب الذي يجعل أرواحهم تترنح على أقدامهم على سبيل الخلاص، وإنّما تكتفي بوصف مأساتهم، كأنّها لم تُكتب لهم، بل كُتِبتْ لغيرهم من الميسورين والمترفين، من أجل تحسيسهم بأحوال أولئك حافة الحياة، وتذوي على حدود الموت».( على القاسمي، مرجع سابق).

الفقر القاهر الأعظم حد انتهاك الروح قبل الجسد:

أن يكون الإنسان في حالة عوز وحاجة ولا يستطيع سد احتياجات أسرته ومتطلبات العيش الكريم لها، هذه الحالة تسبب الشعور بقهر الرجال، وفي الأثر عن سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قوله: عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه، فالفقر والحاجة تسببان القهر لدى الرجال، خاصة إذا نظر إلى أولاده وأهله وهم يتضرعون جوعاً، ويئنّون من ألم الحياة وشظفها.

ففي مجموعة مواسم ما بعد العشق نجد أيمن عبد السميع يرصد صورا من القهر الاجتماعي بصل إلى حد القهر الجسماني ففي قصة “رشاد حلمية” يرصد معاناة بطله المقهور بداية من الاسم الذي أطلقه علي هذه الشخصية مرورا بمعاناتها بفعل العوز والحاجة والفوارق الطبقية حتي بين أبناء الطائفة الواحدة حتي يصل الأمر إلى الاعتداء الجسدي (جنسيا) عليه من قبل صاحب المخبز في امتهان مطلق لأدميته مما يدفع البطل إلى البحث عن الانتقام ليمسي متهما بجريمة قتل لم يرتكبها.

والشخصية القاهرة ليس صاحب المخبز وحده بل مجتمع بأكمله أسلم رشاد حليمة للقهر حتى انفجر وتحول إلى شخصية قاهرة بإقدامه على القتل.

وهذا يتفق مع ما ذهب إليه د- مصطفى حجازي في حديثه عن القهر حين ذكر إنه لا يصبح ممكناً – أي القهر- إلا بعد هدر قيمة الإنسان واستباحة حرمته وكيانه في عملية الإخضاع والإتباع. كذلك فإن القهر حين يحدث في علاقة الاستبداد أو علاقة تسلط بالإرغام، فإنه يترسخ ويعيد إنتاج الهدر ذاته، من خلال كل آليات الدفاع التي يلجأ إليها الإنسان المهدور في قهره (أبرزها التماهي بالمتسلط في سلوكه وأحكامه).

وفي قصته الرمزية ” لجراد” من مجموعة امرأة من ظلال يرصد شعبان المنفلوطي صورة القهر الاجتماعي الذي يصل حد الإيذاء الجسدي لذلك المجذوب الذي يطوف بالغفلين يحذرهم الجراد (الرمز) فلا يلقى منهم إلا تحريضهم لصبيانهم على ضربه وملاحقته حتى تنزل بهم الكارثة ويحل الخراب والبوار ويختفي هو من بينهم.

وعماد عارف في مجموعته من طقوس ليل النساء يرصد في قصص مثل “الغموس” ما يصنعه الفقر والعوز بالإنسان لنجد تلك الأسرة التي تتقاسم قوتها في استكانة مزيفة يعريها تمرد الصبي الصغير الذي يعلن عن رغبته وتوقه لطعم اللحمة وبين تحسرات الأم وسخرية الأخوة وضيق ذات يد أبيه يعلن الأب كأحد الحلول والحيل الدفاعية أن البديل سيكون لحمة راس مطبقا المثل “نصف العمى ولا العمى كله” وفي قصة “شلن” تبرز قمة القهر في المعاناة التي يعانيه ذلك الصبي لا لشيء سوى أنه وجد عملة نقدية (شلن) سربته من بين رفاق اللعب واللهو مندفعا إلى والديه يخبرهما في فرح شديد عن كنزه الذي وجده في التراب ليصدمه رد فعلهما حين طلبا منه أن يشتري به رغيف عيش لطعامه فقد أكل أشقاؤه كل الخبز فيصر على شراء الحلوى لكن إصرار والديه وشدتهما يدفعانه إلى إلقاء الشلن والخروج باكيا باحثا عن سلواه بين رفاق اللعب الذين تركهم منذ قليل.

ومن خلال ما رصدته هذه النماذج القصصية من صور القهر الاجتماعي نخلص إلى أن:

الفقر عامل مشترك بين كثير من نماذج الشخصيات المقهورة.

وجود شخصيات ورموز تستمد حركتها وتطورها البنائي من التأثيرات المتبادلة مع المجتمع الذي وجدت فيه على الصعيد الداخلي أو الخارجي للشخصيات.

إبراز الهمّ الجماعي من خلال صورة الفرد الذي كان يعبر في ذاته عن المجموع الكلي للطبقة التي يمثلها، والفئة العمرية التي ينتمي إليها.

الكتابة والذات بين المعاناة والبوح:

تستهدف القصة في مادتها السردية الإنسان بتسجيل همومه ودواخله وتحاول إنصافه والوصول به إلى السواء النفسي فتعكس بأسلوب أدبي ما تخفيه النفوس من هموم وآلام فليس بالضرورة أن يكون سعيدا كل من علت وجهه الابتسامة، يتعرض المرء منا إلى مواقف كثيرة في الحياة تسبب له الضغط النفسي والشعور بالقهر والرغبة في تغيير الأمر الواقع الذي لا يرضيه، هو شعور سلبي يستشعره الإنسان في مكنونات النفس، ويسبب له الإزعاج الشديد والحنق بسبب عدم قدرته على تغيير ما سبب له هذا الشعور من قول أو فعل أو حادثة من حوادث الحياة؛و كما سبق أن ذكرنا القصة القصيرة فضاء يتحرّك فيه المقهورون أو المضطهدون أو المحرومون أو المخنوقة أصواتهم؛ فتصوِّر عالمهم الداخليّ وترسم أحاسيسهم الأليمة، في لحظاتِ انكسارهم وحصارهم وانهيارهم. بل إن بعض الكتاب أضحت الكتابة بالنسبة لهم سؤال وجودي يرسم رؤاهم للكون بأكمله ويتخذونها طوق نجاة من طوفان القهر والمعاناة فتتماهي الذات المبدعة مع شخوص القصص ويشاركونهم ألامهم ومعاناتهم أمام كل صنوف القهر وصوره.

فالكتابة عند فتحي إسماعيل في مجموعته “مقاطع من لحن عنيد” ليست مجرد نافذة للبوح وإنما هي محاولة للملمة أشلاء الذات لتقوى على الصمود في مواجهة عالم يموج بالقبح والقهر.

فوجدناه في قصة ” كيمياء” يرصد معاناته مع القلم الذي يتأبى عليه ويرفض أن ينقاد له في رصد وتصوير معاناة المقهورين أمثاله. لتتحول تلك الذات المقهورة في لحظة تراجيدية في قصة اغتيال إلى ذات قاهرة تنتقم من القلم وتحطمه؛ فتتم محاكمته لا لشيء سوى أنه فكر في الثورة على ذلك القلم العنيد.

وفي قصة “تحقيق” والتي غلبت عليها لغة الحوار يرصد كيف يكون قهر السلطة وامتهان كرامة الإنسان واختلاق التهم الوهمية التي تكفي لإدانته وإعادته إلى صفوف الخانعين.

وفي قصته الرمزية سيرة صرصار يرصد كيف يكون من يفكر في التمرد أو الخروج على الجماعة.

فمعظم شخوص قصصه شخوص مقهورة ومأزومة لدرجة تشعرك بمدي التشظي والانكسار النفسي التي تكابده تلك الشخوص ومعها الذات المبدعة.

وفي قصة هلوسة من مجموعة امرأة من ظلال بلجأ شعبان المنفلوطي إلى الرمزية حين يرصد قبح العالم الذي يحاصرنا ويقهر ذواتنا فيجعل كل من يمثلون هذا القبح كلابا شرسة متوحشة تنهش سكون بطله وتطارده في كل مكان كي لا ينعم بلحظة سكينة أو هدوء نفسي فكانت الشخصية الإنسانية الوحيدة في قصته هي بطله المقهور الذي تطارده كل وحوش واقعه الذي يموج بالقبح والقهر.

المرأة وعذابات لا تنتهي:

يصل الواقع المرير للمرأة إلى أن البعض ما زال يعتبرها الظل الذي يطأه الرجل ويستبيح منه مواقع الراحة ويتهيأ دائما لهزيمته والقضاء على تمرده وامتلاك أنوثته، وتبقى اللذة والأمومة بالنسبة للمرأة أقصى الطموحات وغاية المنى , أما الحرمان والكبت وتجبر الأب والأم المهمشة فتبقى خبرات مختزنه لدى الفتاة الصعيدية تجعلها لا تعيد صياغة أفكارها تجاه وحدانية اللذة والأمومة فى حياتها إنها ارتضت بالقناعة آو بالإجبار بذلك الإطار التى وضعت فيه.

ففي قصته “الغرباء” يرصد أيمن عبد السميع صورة من صور قهر المرأة حين ينظر إليها على أنها رمز للغواية ومصدرا للنجاسة ورغم أن رحمة تلك الفتاة العشرينية كانت تخلص في حبها لعثمان ولكن في النهاية لم يكن مصيرها إلا القتل وكأن القاص أراد بتسميتها رحمة والمصير الذي انتهت إليه أن يقول أن المجتمع حين يتحول إلى مجتمع من الغرباء من جراء تطاحنهم على المال وكل أشكال المتعة لا يبقى فيه مكان لرحمة حتى لو وصموها بالفتاة اللعوب التي تغوي الرجال.

فليس هناك فى مجتمع فطرى كمجتمع الصعيد مجال للحب الأفلاطوني المجرد الخالي من الشهوات، وفق مجموعة من المتناقضات ما بين التمسك بالعادات والتقاليد آو التظاهر بمسايرة التطور الحضارى بمفرداته التى تبدو شاذة على مجتمع يستنكر كل ما هو جديد ويحاول التمسك بالقديم،

فوجدنا القاصة الشيماء جمعة مراد في قصة “خلف الوادي” من مجموعتها “أوجاع ساكنة” توكد على هذه الرؤية تحديدًا فبطلتها المقهورة تربت مع ابن عمها الذي أحبته حتى أسلمته كل ما تملك وحين طالبته بمساتدتها لإنقاذها وإنقاذ حبهما تعلل بالخلافات التي بين والده وعمه والد محبوبة بل مارس ضدها قهرا جسديا حين حاول إجهاضها وتركها فاقدة الوعي بين دمائها النازفة.

بينما نجد شعبان المنفلوطي في مجموعته القصصية “امرأة من ظلال” يرصد ثلاث صور للمرأة وكلها تعاني من القهر: ففي قصة “إيمان” قي صدارة قصص المجموعة يتحدث عن الأنثى الرمز والتي تمثل الحرية:

«صفعة… مسكونة.. بالغضب

أه…. يسكنها الوجع،

أغرورقت عيونها بالدموع

صورهم الضبابية جعلتهم كتلة ملتحمة الرؤوس، يمسك أحدهم سكينا ملوحا بها،

ارتعاش شفتيها ينذر بقرب انهيارها…

يبتسمون جميعا.. تنزلق عيونها إلى أسفل فستانها تنظر بمرارة إلى الأغلال، يقتربون منها…ينتظرون إجابتها الأخيرة، تنساب أحرفها المشاكسةـ لتكتسب بعضا من حمرة

شفتيها المخضبة الدم ح.. ر.. ية» (مجموعة امرأة من ظلال ص9)

وعبر هذا التقطيع لكلمات الجملة الواحدة وحروف الكلمة الواحدة يعبر المنفلوطي عن مدى التمزق والتشظي الذي تعانيه تلك الأنثى الحرية المكبلة بأغلال القهر والاستبداد.

وفي قصة “مريم” يرصد صورة المرأة التي تشتهيها كل العيون كما تشتهي البطون أرغفة الخبز الطازج فيقهرهم ذلك الجسد المتفجر بالأنوثة فتكوي قلوبهم نيران العجز والاشتهاء في آن واحد. فعند كثير منهم تبقى المرأة كالعار يشتهونها ويشمئزون منها في آن واحد و “العار” هو اللقب الذى يخلعه الصعايدة على بناتهم الغير متزوجات ومعنى أن يسلم الأب الصعيدى بان البنات عار فالنتيجة تكون ضرورة وأد هذا العار بالزواج المبكر.

بينما يرصد في القصة التي حملت المجموعة عنوانها “امرأة من ظلال” أثر القهر في امرأة صارت مجرد ظلال لخيانات الأخرين وملذاتهم فتلوذ بأحضان الغرباء بحثا عن دفء وهربا من مواجهة نفسها وكشفها لحقيقة أنها فقدت روحها وصارت جسدا بلا روح.

بينما يرصد القاص أ- رأفت عزمي علي في مجموعته القصصية رقص الأفاعي صورة أخرى لقهر المرأة تتمثل في حرمانها من حقه في الميراث في قصته “خط أحمر” وجعل شخصيته الرئيسية شخصية قاهرة متناقضة مع ذاتها تبيح لنفسها ما تحرمه على غيرها فنجد البطل يطالب بميراث زوجته ويلح في ذلك بينما يصر على حرمان أخته من حقها في الميراث فكانت شخصية الأخت المقهورة شخصية ذات حضور اعتباري وليس لها مشاركة فاعلة في سير الأحداث وكأن ذلك صورة أخرى من صور التهميش.

وفي قصة (بشارة) يجمع بين صورة النقيضين المرأة المقهورة والمرأة القاهرة، فالمرأة المقهورة تلك الزوجة الأولى التي تحلم بأن اصبح أما وتضج بالحرمان من هذا الإحساس وما يعتمل في نفسها من صراع نفسي ينتهي بها أن تطلب من زوجها ـن يتزوج من غيرها عله ينجب والمرأة القاهرة الزوجة الثانية التي تمارس ضد الزوجة الأولى كل صور الإذلال وتدبير المكائد لها حتى يطلقها الزوج في غياب الوقاء منه لرفيقة عمره لكن الكاتب يأبى إلا أن ينتصر للزوجة الأولى فيأتي بنهاية مفارقة مفادها أنها تزوجت من غيره وتحقق لها حلم الأمومة بينما ظل هذا الزوج غير الوفي يعاني الوهم مع زوجته الشابة التي تتلاعب به وبمشاعره.

بينما يرصد القاص أدهم همام في قصة “اللمبة الحمراء” من مجموعته رحلة إلى العالم الأخر صورة مغايرة للمرأة فيقدمها لنا في صورة المستبدة القاهرة التي تعشق إذلال الرجال وانتقاص رجولتهم وخلخلة قيمهم وكأنه تسقط عنهم رداء الفضيلة قبل أن تسقط عنهم ثيابهم مستخدمة كل ألوان الإغراء ومستندة إلى سطوة المال.

ويعود ويؤكد على تفس المعنى والأثر الذي تتركه المادية المتوحشة والمدنية الزائفة في نفس الإنسان في قصة “غريب” حين يستفيق بطله الحالم الذي بذل ما في وسعه ليسافر إلى أمريكا ليتقى بمن أحبها يسافيق على تحولها إلى ما يقارب المسخ بعد أن ملكت عليها المادة والأطماع كل روحها لتتخلى عنه وتتطالبه بأن يعمل في أعمال لا تناسبه ليجد ما ينفقه على نفسه.

بينما يرصد عماد عارف الشيمي في قصة “السقوط إلى أعلى” من مجموعته “من طقوس ليل النساء” صورة المرأة المقهورة من مجتمع أسلمها للعنوسة فتتحول إلى قاهرة تستغل عوز وفقر بطل القصة إلى المال لتجبره على مضاجعتها مقابل المال. مما يشي بتفسخ عرى الأخلاق في مجتمع أسلمه القهر والاستبداد إلى هوة سحيقة من التفكك والتشظي.

فلا يمكن فصل صورة المرأة عن واقع المجتمع وما يعتريه من علل نفسية واختلالات اجتماعية، فأصحاب هذه النماذج القصصية لا يعبرون عن قصدية فردية ولكنهم يجسدون رؤية جماعية ويعبرون عن تمثلاتهم للواقع وصور الوجود كما استقرت في مخيلتهم ولا شعورهم الجمعي. فصور القهر المادي والنفسي الذي تتعرض له المرأة كما جسدتها هذه النماذج انعكاس للواقع الذي يحكمه القهر والتسلط والاستغلال. مركزة على المحظور والمسكوت عنه بعيدًا عن الخطابات السياسية المكرورة والشعارات الإيديولوجية الزائفة.

مراجع ومصادر:

1- على القاسمي سيدة المرايا سيدة القصة القصيرة قراءة في مجموعة غبد الجبار السحيمي.

2- إسماعيل بن حماد الجوهري معجم مختار الصحاح ج3/ 1042.

3- مجمع اللغة العربية المعجم الوسيط ج1/ 478.

4- عبد الرحمن عدس وأخرون مدخل إلى علم النفس ص71).

5- فيصل عباس الشخصية في ضوء التحليل النفسي ص11-12).

6- معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب/ 217.

7- معجم السرديات ط1 /271.

8- عزيزة مريدن القصة والرواية دار الفكر دمشق 1980 ص 27، .28

9- حسين القباني فن القصة القصيرة ص69.

10- مصطفى اجماهيري الشخصية في القصة القصيرة.

11- محسن بن ضياف يوسف إدريس كاتب القصة القصيرة ص 89).

12- سليمان فياض معجم المأثورات اللغوية والتعابير الأدبية الهيئة العامة للكتاب ط1 عام 1992م.

13- د- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور.

14- شعبان كامل المنقلوطي امرأة من ظلال مجموعة قصصية النشر الإقليمي الهيئة العامة لقصور الثقافة 2017م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أشرف محمود محمد أحمد وشهرته: (أشرف عكاشة) من مواليد قرية علوان – أسيوط في 4 مايو 1977 م. قاص وناقد عضو اتحاد كتاب مصر، محاضر مركزي بالهيئة العامة لقصور الثقافة، رئيس مجلس إدارة نادي القصة بأسيوط 2015-2016، رئيس مجلس إدارة نادي أدب أسيوط 2015م- 2016م، رئيس مجلس إدارة نادي أدب أسيوط المركزي 2015م- 2016م

أضف تعليق