أرشيف الأوسمة: فكري عمر

حكايتان عن الزمن، والأبدية في رواية روح، لمحمد على إبراهيم.

مقال نقدى بقلم:

* فكرى عمر

الكاتب المتميز محمد على إبراهيم

هل يمكن أن يحدث العكس، نقلب الساعات، لتدور إلى الوراء، فننطلق من الموت إلى الشيخوخة فالكهولة فالشباب فالطفولة فالرحم؟ المشاهدات اليومية أيضًا تقول “لا”. صحيحٌ أن مسيرتنا البشرية، بل مسيرة كل مُتحركٍ وكل حيٍّ، رهينة بين دُفتي كتاب الموت، ما قبل الوجود على الأرض وما بعد انفصال الروح عن الجسد، لكن حدوث هذا الانعكاس الزمنى مستحيلٌ حتى اللحظة سوى في القصص الفلسفية، أو الخيالية.

استمر في القراءة حكايتان عن الزمن، والأبدية في رواية روح، لمحمد على إبراهيم.

فوق الحياة .. لعبة اللغة والزمن: فكري عمر

بقلم الروائي: فكري عمر

“دون كيشوت لم يكن رجلاً معتوها ضائعًا يحارب الطواحين، ويسعى جاهدًا لفرض أحلامه وتهاويله على أرض الواقع الصلبة، وإنما كان الفارس الأخير لعصر طويل زاخر بالفروسية، والبطولة، والنبالة، كما كان زاخرًا بالاستغلال والاستعباد. وكان دون كيشوت تحية الوداع الأخيرة لمرحلة تاريخية كاملة”. هذه الفقرة من دراسة الدكتور “محمود أمين العالم” لرواية “ميجيل دى ثربانتس”، (دون كيشوت). تذكرتها وأنا أقرأ رواية “سيد الوكيل”، (فوق الحياة قليلاً)، فهذه مرثية أخرى ساخرة أحيانًا، وشجية فى كثير من الأحايين لعصر كامل، وأجيال متباينة أعطى الروائى شهادة عنها. شهادة روائية يتداخل فيها الواقعى والخيالى، مثلما تذوب فيها الفوارق بين الأزمنة..

استمر في القراءة فوق الحياة .. لعبة اللغة والزمن: فكري عمر

عينٌ من الزجاج المكسور..فكري عمر

آخر ما توقعته بعد غياب عامين عن المكان أن يكون المُصوِّر العجوز موجودًا. رأيته بعينيك وهو ينكمش كعادته في الكرسي الجلدي المنفصل عن بقية الكراسي أقصى الركن الأيسر. كان مضطرًا لذلك؛ كي لا يضايق أحدًا، فتمزقه النظرات الجارحة. جلست في المقدمة مرتبكًا. التفت إليه عله يراك فيأتي؛ ليقعد حولك متحينًا فرصة خلو أي كرسي بجوارك ليجلس هو فيه بعد أن يسلم عليك بحميمية معهودة غير آبه برئيس الندوة الأدبية الذي يحتد ضد أي واحد يلتقط منه الضوء، أو الكلام.

استمر في القراءة عينٌ من الزجاج المكسور..فكري عمر

للموت وجوه متعددة في قصص فكري عمر

    محمد صالح البحر

فكري عمر
فكري عمر

تتعدد صور الموت عند النُخب التي تمتلك المعرفة بتعدد الفلسفات التي تناولته، وحاولت تقديم صورة شاملة عنه، سواء تعلقت بماهيته، أو كيفيته، أو البحث عن المصير الذي ينتظر الجسد من بعده، كما تتعدد صور الموت عند العامة بتعدد المعتقدات والأساطير التي ورثتها الشعوب عبر امتدادها التاريخي في الزمن، ونصيب كل مجتمع منها، ولأن العامة يشكلون دائما أغلبية كل مجتمع فقد انتشرت تصوراتهم عن الموت في مرور الزمن، للدرجة التي طغتْ فيها دائما على التصورات الفلسفية أو العلمية عنه، خصوصا وأن التصورات الأخيرة لم تستطع أن تقدم مفهوما متكاملا عنه، يستطيع أن يُقنعهم، ويُشبع مخيلتهم عن أمر غيبي لا يستطيعون الامساك به، ولا الافلات من مصيره ـ الذي يشكل حتمية راسخة تصيب الجميع، بما فيهم الفلاسفة والعلماء أنفسهم ـ لذلك لم يستسغ الناس دائما أفكارا مثل العدم على سبيل المثال، لكونها تجعل من وجودهم في الحياة وجودا عبثيا بلا جدوى، ومرتبطا باليأس والقنوط، ونافيا لتحقق فكرة العدالة، حتى لو جاءت في عالم آخر يلي الحياة نفسها.

استمر في القراءة للموت وجوه متعددة في قصص فكري عمر

فكري عمر …قصص قصيرة

الطريق بين البحر والسماء( قصة الأسبوع )

تُراب النخل العال

غِنـــــاء

الجميلة وفارس الرياح

غِنـــــاء

قصة: فكرى عمر

انفلتت روحي فجأة من الجسد إثر موجة من الضحك العارم، العينان كانتا تحدقان بذهولٍ في نقطة ما، لعلها المحاولة الأخيرة؛ لاصطياد الرُوح الهاربة، ارتجافه أخيرة على الشفتين المنفرجتين، ليست ابتسامة بالتأكيد، لكنه سؤال مُعلَّق بلا إجابة. الرأس كان قد ارتج فجأة قبل الحدث، وقشعريرة رعب تفشت في الأعضاء جميعها. بدا لي أنه لم يكن هناك مناص من هذا الرحيل المُباغت.

استمر في القراءة غِنـــــاء

تُراب النخل العالى

قصة: فكرى عمر

النخلة فى حارة “الملَّاح” سقطت فى الوسعايه..

الساهرون حتى منتصف الليل سمعوا صفير الجريد العالى، ثم صوت تمزق، وانسلاخ، وعواء قاسٍ.. وأخيرًا ارتطام جسم هائل بالأرض. رُجت البيوت القريبة. رجال ونساء حارة الملَّاح سمعوا من يصرخ من بعيد: النخلة وقعت!

تلك الأيام يكون موج الهواء قويًا. يطلقون عليها (الأيام الحسوم). أما هيئة الأرصاد فتسميها (رياح الخماسين).

استمر في القراءة تُراب النخل العالى

“موتى عند الحافة…قراءة في” تراب النخل العالي

* ممدوح رزق

تدفعني قصص مجموعة (تراب النخل العالي) لـ (فكري عمر)، الصادرة عن سلسلة (إشراقات جديدة) بالهيئة العامة للكتاب إلى التفكير في تلك الذات التي تقاوم المسالمة، وتتعدد مستويات ظهورها داخل القصص .. هذا التعدد تختلف معه آليات المقاومة التي تريد البصيرة الكتابية استخدامها في التحرر من ضرورة التصالح مع العالم أو حتمية ترويضه .. في قصص المجموعة نحن نقف مع (فكري عمر) عند حافة الانتهاك دون ملامسته أو دون التقدّم نحو التورط في عنفه .. نراقب محاولات تلك الذات للانفلات من الخضوع للرغبة في تنظيم الواقع، والتي تأخذ أحياناً ـ أي المحاولات ـ طبيعة الحلم.

استمر في القراءة “موتى عند الحافة…قراءة في” تراب النخل العالي

غواية السرد وسحر المخيلة في المجموعة القصصية “أنا ظل الآخر لفكري عمر

رؤية نقدية : سمير الفيل

أحاول في هذه الدراسة البسيطة تجربة طريقة ما في التعامل مع المتن القصصي من خلال الهوامش ، أي تلك الكتل السردية التي ربما لا تصب بشكل ما في مجرى تيار السرد الرئيسي من أحداث ، ووقائع ، وتحولات ، وتبديلات في الأحوال إلا بشكل جزئي .

غير أن قراءة النصوص التي يقدمها فكري عمر تؤكد على وجود حالة تنتظم تلك البنى السردية التي تبلغ 20 نصا مختلفة الطول والمكونات والمعطيات.

استمر في القراءة غواية السرد وسحر المخيلة في المجموعة القصصية “أنا ظل الآخر لفكري عمر

الطريق بين البحر والسماء( قصة الأسبوع )

* فكرى عمر

لم ينتبه إليه فى البداية وهو ماضٍٍ فى طريقه إلى البحر. إنه صباحٌ ربيعىٌّ مبكر يخلو فيه المصيف تقريبًا من رواده. لا تزال مقاعد كراسى المقاهى نائمة فوق الطاولات، وأكثر المحلات التجارية يسبل جفونه أمام مارة يندُر وجودهم قبل أسابيع من افتتاح المصيف الرسمى فى المدينة الساحلية الصغيرة التى لا يسكنها من الناس طوال العام سوى القليل.

استمر في القراءة الطريق بين البحر والسماء( قصة الأسبوع )

الكومبارس. قصة: فكري عمر

كان يرقد هامدًا على سرير، فى لحظة تتشابك فيها كل المصائر. الوحيد الذى يعرف السر. يثرثر كثيرًا فى أمور غير لائقة فى لحظة النهاية، وبعد الإلحاح السمج من الولد الوسيم، ابنه فى الفيلم، تميل رقبته على جانب بينما العينان تخضعان لرؤية المخرج..

مرة يطلب منه المخرج أن تظل العينان مفتوحتين. يعرف العجوز أن هذا الفيلم إنما يوظف كل لقطة لإشاعة الرعب فى قلوب المشاهدين.. ومرة يطلب منه المخرج أن يموت مغلقًا عينيه وفمه. راقداً على فراش جميل يعرف أن تلك الميتة الرومانتيكية إنما تخدم عاطفية الفيلم شديدة الوضوح من ملابس الممثلين، ونوع الإضاءة. تكون الممثلة، الابنة الوحيدة التى يغادر أباها العالم، قد ارتمت باكية على يدية. يحس برائحة عطرها الباذخ، وقد يرى ذلك الغور العميق الشهى بين نهديها. تعتريه لذة هو الذى لم يتزوج أبدًا. يحبس أحاسيسه المضطربة التى شك أحيانًا أنها اختفت، حتى لا يعلو صدره وينخفض فيعاد التصوير. لا يستطيع أن يفعل مثلما يفعل الممثلون مخالفًا تعليمات المخرج.. لا يريد أحد إعادة تصوير مشهده مرتين. الدموع الحبيسة فى عين الممثلة لا يمكن جلبها مرة أحرى فى دقائق، كما أن صرخة الممثل، أخوه أو ابنه أو صديقه، لا يمكن تكرارها حتى لا تجرح صوتًا من الممكن أنه سينطق بكلام معسول ذلك النهار، وشفاه ربما تلتحم بشفاه أخرى بعد دقائق.

يخرج ظافرًا بمال لا بأس به من دور الرجل الذى يموت محتفظًا بسر ما. لا يكاد يبذل مجهودًا يذكر فى الدور مثل باقى الكومبارس الذين يتشكون من صعوبة ما يفعلون دون أن ينتبه المخرج لمواهبهم، لو كان فى الدنيا عدل لأصبحوا أبطالًا بينما هؤلاء الشباب الرقيع مجرد خدم. يسمع الرجل هذا الكلام كثيرًا من رفاقه دون أن يُعلق؛ من يعرف الموت أمام المشاهدين مرات عديدة لا يمكن أن يطمح إلا فى إنهاء هذا هذا العمر الطويل بشكل لائق.

يشاهد الأفلام مجانًا، كما أن قشعريرة الخوف لم تعد تصيبه من مشاهد الرعب.

كشر المخرج فى وجهه وعنفه لأنه ظل يضحك ويغمز لمساعد التصوير. انسحب فى هدوء إلى خارج غرفة التصوير. جلس فى حجرة من حجرات الديكور. تصنَّع الحزن فيما راقب بعين الماضى شابًا وفتاة، من الوجوه الجديدة، وهما يقتربان ويتهامسان بشغف قبل أن يدخلا (البلاتوه).

يعرف أن المخرج فى هذا الوقت كالمعتاد سيزعق فى وجه مساعد التصوير قائلًا: “شوف المرحوم فى أنهى داهية، عايزين نِخلص”. يسمع الكومبارس لقبه هذا همسًا، أيضًا، من الجميع دون أن يعطى انطباعًا بالغضب. انتظر مساعد التصوير الذى أتى إليه، ثم مال عليه ميل شجرة وارفة على شجرة هرمة فى طريقها إلى السقوط قائلًا: “قوم يا عم أحمد حقك عليا”.

قال الكومبارس محتفظًا بحقه فى الحزن ولو لدقيقة: “طب استنا لما اخلَّص السيجارة دي”.

عالمه سحب من الدخان فى الداخل والخارج. هل يذكره أحد لمجرد مشهد تداوله الجميع بنوع من السخرية؟! هل كان الثمن باهظًا للوصول إلى قمة ما يريد، وما وصل؟! كان عزاؤه، حين يفكر هكذا، أنه كلما جاءت فرصة للسطو على شىء سطا عليه.. إذا مالت عليه ممثلة أثناء الدور قبلها مقتربًا قدر إمكانه من مجال شفتيها، غير عابئ بتعبير الاشمئزاز على وجهها. إذا مال عليه البطل فى لحظة قد يحتضنه بمشاعر أبوية كما لو كان ابنًا تمنى أن ينجبه. كما أن سر الحبكة دائمًا يظل معه.. السر الذى يجعلنا نشفق على البطل، أو البطلة وهما يتورطان طوال الفيلم فى مصائر معقدة.

شعر العجوز بالضيق والقرف من هؤلاء الأولاد الذين يسخرون من أدائه المتكلس. لذلك نوى أن ينفجر فى المخرج فور أن ينتهى الدور، وأن لا يعود لتمثيل هذا الدور العبثى مرة أخرى. تذكر كلمات رفاقه من الكومبارس شبابًا وفتياتٍ وعجائز مثله، نوى أن يقول للمخرج: “لقد مللت من تكرار هذا الدور السخيف، فى أفلامكم الأكثر سخفًا”. قال المخرج بجد دون أن يذكره بما حدث منذ دقائق: “ركِّز فى الجملة اللى بتقولها يا عم أحمد وبعدين اقطع، وميل راسك بقوة”. انتفض العجوز وهو ينظر النظرة الأخيرة إلى ابنه فى السيناريو دون أن ينطق جملته، ثم مالت رأسه بقوة على جانب وهو يشهق. قال المخرج: “برافو، أول مرة تعملها بالظبط رغم إنك نسيت تتكلم.. هانثبِّت على كده”. صفق طاقم العمل للكومبارس العجوز للمرة الأولى بحماس حقيقى.. لكن الكومبارس لن يسمع تحية التقدير تلك أبدًا.

فكرى عمر

    أبجدية أخرى للماء. قصة: حسام المقدم                                   ..

                                

إهداء: إلى فكري عمر

52043185_2356085664402676_2910917400578752512_o

صُحبة الأيام والكُتب والقلق.

  يا ليل، يا عين، يا نهار، يا عالم..

  انفلتَ تليفوني من يدي. راح في النهر، بعد رَبكة لحظيّة وأنا أُخرِجه من جيبي لأَرد على الرقم المجهول.

  تجمّدتُ مُنحنيا فوق سِياج الكوبري، راشقا عينيَّ في البُقعة التي غاصَ فيها. انزلقَ في لمحة، مثل سمكة تعرف ما تفعل جيدا. لا أثر سوى فُقّاعَتين أو ثلاث، صعدت لتخبرني أن التليفون نائم في الأعماق بأمان (!) يفوق استقراره معي طوال أربع سنوات.

  استمرَّ تيار النهر في الجَريان، بنفس المِزاج غير المُبالي. شمس العصاري لا تزال حامية، ومن ورائي حركة العربات والناس فوق الكوبري القديم. في الأسفل لمعت المياه أكثر مع تواصل تدقيقي العَبثي. انفجرت خَمس أو سِت فُقاعات جديدة دُفعة واحدة. بعدها رأيتُ الموج الهادئ يتلَوَّى في دوّامة. فركتُ عينيَّ للتحقق ممّا يحدث: فقاعات كثيرة مُتلاحقة تفور نحو السطح ثم تنطفئ، لتتوالى وراءها أعداد كثيرة. هل تنفَّسَ فجأة كائن خرافي؟ لكنني رأيتُ الملابس المُلونة المنفوخة تحت الماء، وعرفتُ أصحابها الذين يُصارعون الغرق، أصحابها المُسجَّلون عندي.. كل الأسماء المُدوّنة على تليفوني، تغرق أجسادها الآن.

  يا أنا، يا أي قَشّة قريبة.. أستميتُ في الإمساك بحديد السِّياج، أُحسّ به يتخلخل ويميل بي، أرجع بجسدي للوراء قليلا خوفا من مصير “الطَّشّة” الكبرى في الماء الرائق. لماذا شفَّ لهذه الدرجة؟ رغم عينيّ الغائمتين أقدر على تمييز طين الأعماق والسمك الصغير والكبير والأعشاب والقواقع الراقدة. هذه الأجساد المُتشنّجة، العيون المُقفَلة، والشفاه المزمومة بشدة، والخُدود التي تُقاوم ضغط الماء بطردِه في دَفقات عصبيّة. الأذرع والأرجل الهائجة الضاربة في ماء ثقيل. في المقابل تُفاجئني أجساد خفيفة بقدرتها على العوم والانفلات. مشهد مثالي الرعب والعبث، يتبدَّى لي وأنا في عجزي الكامل. دماغي يلفّ بي، والكوبري نفسه بدأ يدور. أُغمض عينيَّ بشدة، وعلى الفور أفتحهما باتساع، بعد فزعة الخاطر الصاعِق: صحيح توجد أسماء وأجساد لا أتذكر ملامحهم، لكن هناك أهلي، أبي وإخوتي وأعزّ الناس. فعلا أرى أبي يُعافر تحت الماء. أبي.. لماذا استطالَ وجهُه وتَضخّم هكذا؟ هو بجلبابه دون العَباءة البُنيّة، التي انسلتت وتَكوّمتْ هناك في القاع. قُم وخُذ عباءتك يا حاج. أعرف أنك لا تستغني عنها. ضعها على كتفيك في صباحات الفجر الباردة، وفي مشاوير الزيارات والأفراح. يا حاااااااج. سكنت حركته، واستسلمَ على بطنه بفَم مفتوح يُخرِج الفُقاعات الهاربة. أبي.. كيف تموت، وأنتَ بكل سنواتك السبعين لا تُعادِل حَقَّ طفل في العاشرة؟ أيامك هي الآلاف من أوقات الشروق والغروب والزرع والقلع، شمسُكَ لم تُغادر المساحة الصغيرة في الغيط والدَّار والجامع. آخرتها تموت هذه الميتة الرخيصة، وتُغلَق صفحتك البيضاء الشاهدة على أيامك. قُم واكتب فيها، أيها الأُمِّي، أي شخبطة. اضرب بيدك العفيّة على باب الدنيا الواسعة. لماذا أنتَ ساكت، أتموت راضيا؟ يا أبي.. إنّ بعضي يأكلُ بعضي. أتصلَّبُ وأكزّ على أسناني. هيا خُذ مِني هذه الموجَة المرئية، موجة قوية من ضباب أو دُخان، مزَّقت صدري وهي في طريقها إليكَ. إنها تتسرب برفق إلى فَمك، تجعلك تنتفض في نبضات حيّة. في هذه اللحظة أبعث لك السلام والسلامة يا حاج.

  أُريحُ عينيّ المُتعَبتين. تلزمني لحظات كي أتمكن من تخليص كياني الذائب. أبتسم بِشَجن، للخلاص الذي لاحَ مع الوجه الأسمر لصاحبي الغالي. تكبُر ابتسامتي حين أشاهد جسده يسبح ويتجول باحتراف. خَدّاه سينفجران من كَتم ضحكة مُختزَنة. يُشير نحو زجاجات كثيرة متناثرة فوق الطين، وكلها مختومة لم تُمَس. يُمسِك واحدة ويرفعها في مُواجهتي. عيناه مفتوحتان تحت الماء. أنا واثق إنه نظر لي. بسطتُ يدي لأتناول الزجاجة الفخمة. تمايلتُ في سَلطَنة. أنا أعرف وهو يعرف. معًا رأيناهم منذ سنوات بعيدة، في ذلك البلد الجار، وهم يرمون في النهر كل هذا العدد من زجاجات الخمر. رئيسهُم في أُبهَة يقف، وحوله التهليل والتكبير، بعد قرار تطبيق الشّريعة. ظلّت الزجاجات المسكينة يدفعها التيار، وتزحف ببطء طوال ذلك الزمن حتى وصلت إلى هنا، مُعتّقة وباردة أيضا! أَغمضَ صديقي عينيه، وعَبّ من الخمر الحلوة. انثنَى جسده الثعباني برشاقة. ما هذا؟ إنه يفتح زجاجة وراء الأخرى، ثم يتركها تُفرِغ نفسها. أرى السائل الغامق يسري في الماء، يتوغل بلا حساب في أفواه الأجساد المُشتاقة، ترشُفه الأسماك النشوانة.

  كنتُ أشرب دون شُرب، أَسكرُ في مكاني. بقيتُ وقتا لا أُحدد شيئا. أحاول أن أفيق لأُفرِّق بين باقي الوجوه. صِحتُ: مَن؟ “حَسن م”؟ تذكرتُ أنني كتبت اسمه من سنوات، دون أن أتصل به. إنه أمامي لا يريد أن يغرق، يعفق باستِماتة في رِجْل واحد يعوم بمهارة. والله زمان يا “أبو علي”. صُدفة أفضل من ألف ميعاد من مواعيدك غير المُتاحَة، وفرصة كبرى أن أُذَكِّركَ بشريط حياتك: خمس وعشرين سنة في الخليج، وعقارات وأراضٍ وعِيال في مدارس أجنبية. زياراتك القليلة للبلد، ومِشيتك بالجلباب الأبيض الذي يشرب من عليه العصفور. صحيح، القلم المُذهَب الظاهر دائما في أعلى الجيب، وحين يُلقون عليك السلام المعروف السريع: “سَمُو عليكو” أو “سَلامو عليكو”؛ ترد بالسلام الكامل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. في مرّة وحيدة سِرتُ معك، وسمعتُ لسانك الطّلِق يرمي السلام الطويل ويرد بِمِثله دون مَلل طوال الطريق. هل تذكر أيام المدرسة؟ أنتَ أساسا لم تنسها، رغم قدرتك الفذّة على التخطّي، وطمس ذلك العدد الكبير من لسعات “الخرزانة” على كل سنتيمتر في جسمك. هل أُضيف شيئا آخر؟ أبوك (هو صاحب أبي لو تذكر) قال لي مَرّة، في ساعة صَفا، إنك بعد تلك السنوات، لم تُرسل فيزا واحدة أو عَقدا لأحد من إخوتك. تعال يا حسن، قُل معي، أقصد قُل ورائي، ورَدّد الحروف بصوت واضح: أَلِف أَغْرَق، باء بِسُرعة، تاء تِمسااااح! لا تخَف، كُلنا لها. نهايتك سهلة جدا. كل ما في الأمر أنني سأصرُخ في الرجل الذي يسحبك وراءه: اتركه، ارفُس ذلك الذي نجا بنفسه من سنوات طويلة، ويريد أن ينجو الآن.

  تَلوَّنت الدنيا بالرمادي. اصفَرَّت مرة أخرى، ثم ازرَقَّت في لون الباذنجانة. استبدَّتْ بي الهلوسَة. تركتُها ترفعُني وتُنزِلُني، إلى أن أبصرتُ بصعوبة أربعة أشباح أو خمسة، مضوا يسبحون في سِرب واحد. عرفتُ منهم “ولاء” التي تقودُهم كالسَّهم، بوجهها الجميل المُصمّم. لا، انتظري، أعرف دماغكِ الصّعب، المُمتلئ بأمرين لم أرهما يجتمعان، والأعجب يتعادلان بهذا القَدْر: أعظم حُلم وأكبر يأس! هل يُجدي صوتي المكتوم في إرجاعها؟ للأسف غطسوا جميعا في منتصف النهر. عُودوا، ارجعوا عن انتحاركم، قُولوا: أَلِف أَرنب، باء بطّة..

هل تسمعون؟

يا أنتَ، يا أنتِ، يا تليفوني الغريق..

                                         ***

                                                                      حسام المقدم 

حين يضحك الجُناة. بقلم: فكري عمر

فى بداية فيلم (الحرام) سنرى نقطة سوداء صغيرة وسط حقول زراعية تحيط بها من كل مكان. هذه النقطة الصغيرة ترصدها الكاميرا بطريقة عين الطائر الذى يهبط من السماء إلى الأرض، أى أن النقطة آخذة فى التمدد شيئًا فشيئًا حين تنزل إليها الكاميرا إلى أن نتبين فيها أخيرًا قرية من قرى الدلتا، بيوتها من الطين وأسقفها من القش، بيوت شبه متداعية تتكئ على حوائطها الواطئة بعض النساء، والعجائز. يلعب الأطفال فى شوارعها الضيقة الملتوية بشبه كساء بينما يجلس رجالها على الجسور فى انتظار زيارة الناظر “فكرى أفندى” الموسمية إلى المقاول لاستئجار أنفار لمقاومة دودة القطن؛ كى لا ينتشر بيضها فى الأوراق، فيفقس ويلتهم المحصول.

استمر في القراءة حين يضحك الجُناة. بقلم: فكري عمر